الخميس، 1 يناير 2015

المسيح: رسول من الجحيم (1)




الوجه الآخر ليسوع



هل المسيحية ديانة محبة و سلام كما تدعي، أم أن تعاليم يسوع في حقيقتها هي نموذج صارخ للجهل و التعصب و الكراهية و الإرهاب؟





أولا: مقدمة


دين مثالي و إله مثالي
- ((مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟))- يسوع متحدثا عن نفسه، يوحنا 8-46.


المسيحيون المؤمنون يؤكدون بكل يقين أن ديانتهم هي رسالة سلام و خير و محبة للبشرية ؛ الإيمان النقي العميق- حب الله و طاعته و الإلتزام بتعاليمه- حُسن معاملة الجميع-  عدم مواجهة الشر بالشر- محبة القريب كالنفس بل و محبة حتى الأعداء- الزهد و التواضع و الكرم و الإعتدال و العفة و الإيثار..إلخ، هذه بعض الفضائل الراقية التي نجدها في أقوال و سلوكيات يسوع و تلاميذه و في كلمات الكتاب المقدس، خاصة بعهده الجديد (الأناجيل)؛ حتى أننا كثيرا ما نسمع غير المسيحيين يمدحون القيم و المبادئ المسيحية بكل حماس و يعترفون بالمسيح كنموذج أخلاقي فريد و سامي، و حتى صار مصطلح "الأخلاق المسيحية" يستخدم أحيانا كوصف عام شامل لكل ما هو مستحب و إيجابي عموما.



و يقول الكتاب المقدس عن المسيح أنه (..بِلاَ خَطِيَّةٍ) العبرانيين 4-15، و يؤكد بولس أنه (..الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً) كورنثوس الثانية 5-21.



و في نظر المؤمن المسيحي، يُعَد يسوع المسيح ،الملقب بالناصري، هو محور الحق و الخير و الجمال و القيم الرفيعة في الوجود، و النموذج المثالي لكل ما هو سامي و نقي و مُمجّد ؛ فهو الحمل الوديع- الراعي الصالح- أمير النور و السلام- ضمن قائمة من الألقاب التعظيمية الكثيرة ؛ و بالإضافة لتعاليمه الإنسانية الراقية، فيكفي أن ذلك الشخص- الرب المُتجسّد- - قد ضحى بحياته نفسها من أجلنا نحن، فسمح بأن يتم ضربه و إهانته و تعذيبه ثم صلبه بهدف غفران خطايانا و تخليصنا من اللعنات و الذنوب ؛ بعد ذلك يحق التساؤل: أي وغد جحود عديم المشاعر سيجرؤ على رفض الإيمان بهذا الشخص\الإله، أو التردد في الإعجاب بصنيعه و الإعتراف بجميله و اتباعه دون نقاش؟!



فهل تلك الصورة حقيقية و دقيقة، أم أنها بحاجة إلى مراجعة جذرية؟



الأخلاق المسيحية

لن ننكر بالطبع أن المسيحية – بنصوصها و أفكارها و نموذجها يسوع و تلاميذه- تتضمن تعاليما أخلاقية جيدة عديدة؛ و لكن كذلك الحال مع اليهودية، و الإسلام و جميع الأديان و المذاهب الأخرى ؛ و لا شك أن هناك مسيحيون مؤمنون أخلاقيون و رائعون، و لكن كذلك الحال مع كثير من اليهود و المسلمين و الهندوس و الملحدين و غيرهم.



على الجانب الآخر، ما سنحاول إثباته هنا أن نظرة شاملة متفحّصة إلى الكتاب المقدس، بما فيه العهد الجديد، و في المركز بطله الرئيسي: يسوع المسيح، مع رسله و تلاميذه ، ترينا أنه كتاب- على عكس ما يُشاع- يزخر بالكثير من الكوارث على المستوى الإنساني و الأخلاقي، و يمتلئ بأفكار و نصوص تحض على التعصب و التشدد و العنصرية و الكراهية و العنف و القسوة و الهمجية و الجهل و اللامنطق و الخرافة و معاداة الحرية و الفكر و العلم  و الديمقراطية و التعايش السلمي بين البشر ؛ بحيث أن العهد الجديد يبدو في مجمله ككوب من السم، يحتوي بداخله على القليل من العسل – بل حتى ذلك الذي يبدو عسلا، سيتضح لنا أن كثير منه في حقيقته سم قاتل أيضا، لا يختلف في خطورته عن باقي السم في الكوب.



ما سنسعى لكشفه أيضا أن يسوع المسيح لا يبدو رسول سلام إلا فقط حين نسمع عنه كلمات و مواقف منتقاة بعناية من أفواه الكهنة و المؤمنين ، أو ربما حين يتم مقارنته مع أنبياء يبدو أنهم "أكثر شرا" و عنفا، كمحمد أو موسى ؛ أما لو نظرنا بشكل موضوعي إلى شخصية يسوع، كما تقدمها لنا الأناجيل، و حاولنا تقييمه حسب مقاييسنا الفكرية و الإجتماعية المعاصرة، دونما تأويلات لاهوتية مفتعلة تخص أصحابها وحدهم، فستبدو لنا الصورة مختلفة بالكلية و مناقضة لما يتم الترويج له – و سنكتشف حينها أن تكرار الشيء ألف مرة كل يوم لا يجعله حقيقة.


هل جاء يسوع بجديد أم أن أفكاره و تعاليمه هي إعادة صياغة لأمور كانت سائدة في بيئته و عصره؟ كيف تعامل مع الكتاب المقدس العبري بما احتواه من نصوص عنصرية عنيفة و خرافات؟ كيف كانت نظرته إلى اليهود و إلى باقي البشر؟ هل تعاليمه كانت أكثر مرونة و سماحة حقا؟ و إن كان داعية محبة و سلام فما سر شتمه و لعنه و تهديداته المروعة، بالهلاك و الجحيم، لكل من يفكر في مخالفته؟ و هل نهيه في بعض النصوص عن العنف المادي جاء من باب التسامح أم السياسة أم عوامل أخرى؟ و هل حقا يسوع لم يمارس العنف مطلقا؟ أسئلة كتلك، و غيرها، سنحاول نقاشها هنا.



السياق

قبل البدء نشير إلى دفاع متكرر نسمعه كثيرا من المؤمنين، حين يتم الإشارة إلى "الأمور السيئة" في دينهم ، حيث يؤكدون بكل حماس على أهمية فهم النص أو المقولة أو الموقف "في سياقه العام"، و ضرورة عدم اقتطاعه من ذلك السياق - و في هذه سنتفق معهم تماما.



لكن ما لن ننساق له هو الإقرار أن السياق هنا هو السياق الديني المعتاد الذي يلمحون له: و هو التسليم مبدئيا أننا نتحدث عن نصوص و شخوص مقدسة لا يمكن أن تخطئ أبدا، و بالتالي فواجبنا- المقدس أيضا- هو التلاعب الدائم المتعسف بالمعاني و المبادئ و القيم ، بل و تحوير قواعد المنطق ذاتها، بهدف التماشي مع تلك الفرضية، التي سلّمنا بها مسبقا!


هذا التفسير الديني الخاص لن نعبأ به، بل سنتعامل مع النصوص كما نراها بأعيننا غير المسيحية، مفترضين أن الفكر (أو الدين) هو أمر إنساني عام مطروح لجميع البشر و بالتالي من حقهم فهمه و مناقشته ، و لا يخص فئة كهنوتية معينة تحتكر الحديث بإسمه و كأنه يوحىَ إليهم من دون الناس ، و مفترضين كذلك قاعدة بسيطة و هي أن الخير لا يحتاج إلى توضيح أو تفسير من الكاهن، و أن الرسالة الأخلاقية المحبة السمحة ينبغي أن تبدو كذلك لكل من ينظر إليها، و ليس فقط للمؤمنين بها ؛ أي أننا سنسعى هنا إلى تقييم يسوع أخلاقيا بالمقياس الإنساني العام، و ليس بالمقياس المسيحي الذي وضعه هو و أتباعه.


أما السياق الذي سنعني به، و الذي يهمنا هنا، فهو السياق التاريخي، بما فيه البيئة (فلسطين القرن الأول بعد الميلاد)، و الخلفية الثقافية (يهودية هيلينية)، التي عاش فيها المسيح و تلاميذه ؛ و التي تأثروا بها و أنتجت لنا عقائدهم و أفكارهم.



السياق اليهودي

سياسيا لدينا عالم يعيش مرحلة من "العولمة" على المستوى الديني و الفكري، كما على المستوى السياسي و الإقتصادي؛ حيث نجحت إمبراطورية الفاتح الكبير، الأسكندر المقدوني (القرن الرابع ق.م) في فتح المجال أمام امتزاج الحضارات المختلفة، تحت شعار "الهيلينية" اليونانية.



بعد موت الأسكندر انقسمت إمبراطوريته إلى أربع ممالك، ووقعت منطقة يهوذا جغرافيا (جنوب فلسطين، و هي موطن اليهود آنذاك) بين مملكتين متنافستين منهما، هما المملكة السلوقية (التي كانت تحكم سوريا و العراق) و المملكة البطلمية (التي كانت تحكم مصر)؛ و تأرجح مصير بهوذا السياسي بين الوقوع تحت حكم هذه، و تحت حكم تلك، و الإستقلال، حتى بروز الرومان على الساحة و غزوهم للمنطقة بالكامل قبل الميلاد بنصف قرن.

لكن المهم هنا أن مشروع العولمة الهيلينية لم يتوقف بموت الأسكندر بل سيستمر من بعده، و سيكون له تأثير كبير على الفكر اليهودي، و سيؤدي في النهاية إلى ولادة المسيحية – التي هي في الأصل خليط بين التراث اليهودي و التراث الوثني، خاصة اليوناني الروماني.



منذ القرن الرابع قبل الميلاد أصبحت اللغة اليونانية، و كذلك الأرامية (التي سيتكلم بها يسوع) هي السائدة شفهيا في أنحاء كثيرة من العالم القديم، و كذلك بين اليهود، في مقابل تراجع استعمال اللغة العبرية ؛ و في القرن الثالث ق.م، و تحت حكم البطالمة، تم ترجمة الكتاب المقدس اليهودي (التاناخ\العهد القديم) من اللغة العبرية إلى اليونانية؛ و لاحقا ستظهر طوائف يهودية عديدة، تتدرج ما بين التمسك بالفكر التقليدي اليهودي، و بين تقبل الجديد من الفكر اليوناني المعاصر؛ كاليهود "الصدوقيين" على سبيل المثال، الذين يؤمنون بقدسية التوراة وحدها بأسفارها الخمسة، و ينكرون الأسفار الأخرى، و لا يؤمنون بالملائكة أو الأرواح، و ينكرون كذلك قيامة الموتى و الحياة الأخروية و الحساب ؛ و في مقابلهم نجد طائفة "الفريسيين"، الذين يقرون بالأسفار كلها، و يؤمنون بحياة ما بعد الموت، بما تتضمنه من الثواب و العقاب على أعمالنا في الدنيا ؛ و ذلك بالإضافة إلى طوائف أخرى أقل شعبية كالأسينيين و النصارى و غيرهما – و التي نجد ذكر كثير منها في الكتاب المقدس المسيحي (العهد الجديد).



في فلسطين سنجد أيضا عدة "مدارس تفسيرية" للتوراة، بشكل شبيه بالمذاهب الفقهية الإسلامية ؛ فمن أشهرها "بيت هيلليل" و "بيت شاماي"، حيث الأول عرف عنه الرفق و المرونة، و نفوذه الأكبر  في يهوذا و القدس ، بينما الثاني اشتهر بالتشدد و التضييق و سادت آراؤه خاصة في منطقة الجليل، حيث ولد يسوع ؛ و كان لكل مدرسة أتباع و مريدون، يختلفون و يتجادلون في مسائل الشريعة و الفلسفة اليهودية و يختلفون حول المئات من القضايا، أشهرها أحكام الطلاق و السبت المقدس و غسل اليدين و لمس جسد الميت، و أسلوب التعامل مع الأغيار، و من هو "الجار" الذي توجب محبته حسب وصية الكتاب..إلخ-  ذلك و من يقرأ الأناجيل يرى بوضوح كيفية تأثير تلك القضايا على فكر يسوع و تشكيلها لانحيازاته، كما يظهر في مشاهد و مواقف عديدة سنمر بها.



السياق الوثني

أما خارج الإطار اليهودي في فلسطين، فكان الفضل للعولمة الهيلينية أيضا في ازدهار و اختلاط الطوائف الدينية المتنوعة في المنطقة، مختلطة بفلسفات و نظم أخلاقية متعددة، و متحركة مع حركة التجار و المهاجرين بين مصر و الشام و العراق و فارس و الهند و اليونان- و بعض تلك الطوائف يحمل عدة ملامح دينية و فلسفية لا يمكن تجاهل أثرها اللاحق على المسيحية.



هذه الديانات ستتضمن –مثلا- المزج القديم بين البشر و الآلهة، و ستحوي طقوس عبادة الملوك بصفتهم "أبناء الآلهة"؛ و هو تقليد عريق أيضا مارسه الأسكندر و غيره حيث تلقب في مصر بـ"ابن آمون" ، و سيقوم بإحيائه الإمبراطور الروماني أغسطس حيث سمّى نفسه "ابن الله" (ديفي فيليوس)، مدشنا عادة تأليه الملوك و عبادتهم التي استمرت بعده مع أباطرة لاحقين – و قد ولد يسوع المسيح في عهد أغسطس ذاك.

 و أيضا سادت عبادة واحدة من أقدم الآلهة و هي الشمس، و التي كانت أهم الآلهة لدى الرومان أيضا – و لاحقا سيقرر المسيحيون بأن يوم ولادة يسوع هو 25 ديسمبر، و هو – بالمصادفة؟- يوم الإنقلاب الشتوي للشمس المقدسة (ولادتها الرمزية)، و كذلك سيتم جعل يوم الأحد هو اليوم المقدس للمسيحيين بدلا من السبت اليهودي، و يوم الأحد هو يوم الشمس\دايس سوليس\ سن داي.


و ضمن الآلهة الشمسية كان الإله أبوللو الذي كان يتم تصويره كـ"الراعي الصالح"؛ و من أهمهم أيضا ميثرا، الإله الفارسي ذو الأصول الهندية، و الذي شاعت عبادته بشكل خاص بين الجنود الرومان آنذاك؛ و قد ولد ميثرا دون جنس بين والديه ، حيث خرج من صخرة.

و أيضا في صف طويل من الآلهة و الأنبياء و الأبطال المصريين و اليونانيين و الهنود و الفرس الذين ولدوا من نساء عذراوات يكمن زرادشت الفارسي ، حيث ولدته أمه دون جنس من خلال عمود من النور؛ و قد كان يُنتظر ولادة عدة زرادشتات تباعا، يأتي آخرهم كمملك مخلّص (سوشيانت) في نهاية الزمان ليخوض معركته الأخيرة بين الخير و الشر، و التي ستنتهي بانتصار الحق، يليه قيامة الموتى و دينونة العالم.



و سادت أيضا في العالم القديم طوائف تابعة لأوزوريس و إيزيس و حورس، حيث كان يتم عبادتهم في ثلاثي مقدس حسب التقليد المصري العريق (الأب و الأم و الإبن) ؛ و كان يتم الإحتفال بوفاة أوزوريس و انبعاثه إلى الحياة مرة أخرى، ضمن سلسلة أخرى طويلة من الآلهة الميتة\الحية في مصر و سوريا و اليونان و روما ، كبعل و أتيس و تموز و ديونيسيس، و التي كانت تعكس نظرة الإنسان القديم إلى تقلبات الطبيعة عموما؛ فدورات الليل و النهار و الفيضان و الجفاف بدت للإنسان القديم شبيهة بدورات الموت و الحياةـ فتم تجسيدها رمزيا في آلهة الشمس و آلهة الخصوبة و الزراعة- و كان لكثير من تلك الآلهة أتباع مخلصون يحتفلون بها و قد يحيون ذكراها شعائريا عن طريق كهنة و معابد و غناء مقدس و وجبات\مناولة مقدسة.



و قد سعى الإمبراطور بطليموس الأول (القرن الثالث ق.م) في توحيد الطوائف تحت حكمه عن طريق اختراع إله هجين جديد هو "سيرابيس"، و الذي حل محل أوزوريس في المملكة، و ظل يُعبد كإله مع إيزيس و حورس، حتى حل محله الثلاثي المسيحي الروماني لاحقا.



و أيضا، انتشرت عبادة العديد من الإلهات المؤنثة، منهن أمهات مقدسات ، كسيبيل و إيزيس، و منهن إلهات عذراوات، كديانا.



حتى البوذية كان لها وجود في المنطقة، حيث أن الإمبراطور الهندي أشوكا (القرن الثالث ق.م) كان قد سعى في إرسال مبشرين بوذيين إلى الأسكندرية في زمن البطالمة؛ يحملون معهم قيم الزهد و الإنعزالية و الرهبنة و العزوف عن الجنس، المميزة للعقيدة البوذية؛ و التي تحوي أيضا معتقدات عن ولادة بوذا الإعجازية، و نبوءات و مظاهر خارقة تدور حول تلك الولادة، و تعتبر أن من يعيش وفقا لتعاليم الخير سيخلص و يذهب إلى ملكوت ما، ثم أنها ننتظر عودة مستقبلية لبوذا آخر في تناسخ جديد.


يمكن القول أن الخلط و الدمج و المزج بين العقائد المختلفة و عناصرها المتنوعة، كان من أهم السمات المميزة هذه الفترة.


و بشكل عام استمرت روما في نفس سياسة العولمة اليونانية و العلمانية الوثنية التي تقوم على احترام العقائد المحلية المختلفة و السماح بتعايشها بحرية جنبا إلى جنب؛ و لم يكونوا يتدخلون لقمع أي طائفة إلا في حالات محدودة، و لو وجدوا أنها تمثل خطرا سياسيا محتملا.


و إلى جوار الأديان، تواجدت في ذلك العالم مدارس فلسفية، في اليونان و الأسكندرية و غيرهما منذ القرن الثالث ق.م، و ازدهرت تيارات فلسفية، مختلطة بالفكر الديني، مثل الغنوصية التي تعلن عن معتقداتها بغموض و رمزية مبهمة، و تدور أفكارها حول التنوير و المعرفة السرية للخاصة مع العزوف عن الجنس و المال و الماديات و تؤمن بالخلاص عن طريق "التوحد مع الله" ، و"الأفلاطونية" التي تتبني العديد من الفلسفات الأخلاقية و تؤكد- كالزرادشتية و الغنوصية - على التفرقة الثنائية بين العالم المادي و الروحاني، و "الرواقية" التي تنادي باعتناق الحكمة و الأخلاق الطبيعية، و بالمساواة و المحبة و نبذ الحسد و الحقد، و "الكلبية" التي تروج للتقشف و الرهبنة و الإبتعاد عن مظاهر الترف و الحضارة، و تحتقر النظافة الشخصية، و كان لها مدرسة قريبة من منطقة الجليل مسقط رأس يسوع.

و سيقوم بعض الفلاسفة باقتباس المصطلح اليوناني القديم "لوغوس"، و الذي كان في الأصل يعني "الرأي" أو "الكلمة" بالمفهوم العقلاني الفلسفي، و سيعيدون صياغته ليتحول معناه إلى "الكلمة" بمعنى ديني و بصفته القوة الكبرى المقدسة التي تنشأ عنها الحياة – حتى أن فيلو السكندري مثلا سيشير إلى أن اللوغوس\الكلمة هو "أول مولود لله".



المسيح المنتظر و نهاية العالم

قديما، في بدايات القرن السادس قبل الميلاد، غزا نبوخذ نصر البابلي جنوب فلسطين، مقتحما القدس و مدمرا المعبد اليهودي و منهيا استقلال مملكة يهوذا، و ناقلا كثير من اليهود إلى بابل في العراق ؛ بعد ذلك بخمسين عاما، في أواخر نفس القرن، جاء الإمبراطور الفارسي قورش الكبير ، ليعيد اليهود مرة أخرى إلى فلسطين و يسمح لهم ببناء هيكلهم من جديد.



منذ ذلك الحين و الإسرائيليون يعيشون تحت حكم محلي تابع للفرس، ثم لليونانيين و لاحقا للرومان ؛ و منذ ذلك الحين و هم يحلمون بإعادة مملكتهم المفقودة مرة آخرى؛ ذلك الحلم الذي كان يخفت أحيانا، ثم ليعود ليطفو في كل مناسبة، خاصة في أوقات الضيق و المعاناة.


و مع استقرار اليهود تحت النفوذ الفارسي لعدة قرون، حدث امتزاج بين العقيدتين، نرى ملامحه في عناصر عديدة من العقيدة و التراث الإسرائيلي؛ من ذلك أن فكرة الملك اليهودي العائد (المسيح)، يبدو أنها تأثرت كثيرا بالفكرة الزرادشتية المتعلقة بعودة سوشيانت الذي سيقيم حرب نهاية الزمان بين الخير و الشر، مما يمهد لدمار العالم و قيامة الموتى و الدينونة.



و لأنه لا فصل بالمرة بين الدين و السياسة في تلك الثقافة ، فمن ناحية نجد في أسفار التوراة، خاصة إشعياء و إرميا و غيرهما، نصوصا متناثرة تحمل ملامح من نبوءات مستقبلية مبهمة تتحدث عن تحقيق حلم الإستقلال اليهودي و عودة الملك المنتظر من سلالة داود ؛ و من ناحية أخرى حين نقرأ سفر دانيال، و هو آخر سفر كُتب في العهد القديم (164 ق.م)، نرى سردا رمزيا لتاريخ حروب المنطقة و تقلب الممالك الكبرى منذ بابل، مرورا بفارس و اليونان ثم موت الأسكندر و انقسام مملكته ، ثم يحكي عن الصراعات بين السلوقيين و البطالمة ؛ و ينتهي السفر بقدوم ملاك الرب لإنقاذ الموقف و نصرة شعب الرب (اليهود) بمساندة إلهية تحسم الأمور ، تليها قيامة الموتى من قبورهم و محاسبة الناس على أعمالهم– بشكل لا شك أنه سيمهد لتبلور أفكار "الآخرة و القيامة" بشكلها المتكامل في المسيحية، و لاحقا الإسلام.





أما بعد الأسكندر، فقد تأرجت معيشة اليهود تحت حكامهم البطالمة و السلوقيين و الرومان بين أحوال جيدة حينا، و بين ما يبدو و كأنه مظاهر قمع و تضييق على اليهود و منعهم من ممارسة شريعتهم من ناحية أخرى، كتحريم الخنزير و الإحتفال بالسبت و الختان (الذي كان يعتبره اليونانيون تشويها بشعا للجسد)؛ و سيساهم بعض كهنة اليهود أنفسهم، تحت التأثير اليوناني، في نبذ عناصر من الأحكام الموسوية – حتى أنه في القرن الأول كان كثير من اليهود قد تخلوا عن شريعتهم بالفعل، إما طوعا أو كرها.



و كرد فعل قومي\ديني، تفجرت عدة ثورات و حركات تحررية يهودية في المنطقة، كان أبرزها و أكثرها نجاحا في زمن السلوقيين هي ثورة المكابيين ، حيث نجحت فعلا في تأسيس مملكة يهودية مستقلة ، حكمت تحت السلالة الحشمونية لمائة سنة تقريبا، قبل نحو قرن من ولادة المسيح، حتى غزاها الرومان و فككوها ، ثم قاموا بتعيين هيرود ملكا على القدس- و بعده سيأتي بيلاطس الذي سيرتبط بمحاكمة المسيح و إعدامه.



و ستستمر المزيد من محاولات الثورات اليهودية على الرومان، حتى بعد قرن تقريبا وفاة يسوع.



ما هو "المسيح"؟

هو لقب إسرائيلي معناه الأصلي "الممسوح بالزيت"؛ و ذلك المسح هو طقس مقترن في العهد القديم بالكهانة و الملكية السياسية، و علامة على البركة و الحماية الإلهية؛ حيث كان يتم مسح الكاهن الأكبر و الأنبياء بالزيت، و لاحقا الملوك، فهو علامة على التتويج الملكي؛ و بعد ذلك تحول المعنى ليشمل كل ملك أو قائد عظيم "يخلص" اليهود من الظلم و الإضطهاد و يعدل معهم ؛ حتى لو لم يكن يهوديا، فأُطلق اللقب على قورش مثلا، و كذلك الأسكندر.

 

و قبل قرون من ولادة يسوع، كان اليهود- بمختلف طوائفهم- يطلقون لقب "المسيح" على مخلّصهم المنتظر؛ ملك بشري و ليس إلها.

و لم يكن يسوع هو أول المسحاء أو آخرهم، بل كثير من الثوار و قادة الحركات التمردية القومية اليهودية ، ضد الرومان خاصة، أطلقوا على أنفسهم، أو أطلق عليهم أتباعهم، لقب مسحاء؛ مثل سيمون من بيرية، و أثرونغس، و باركوخبا، و غيرهم.



خلاص من نوع آخر؟

- ((هؤلاء (الأنبياء) يزعمون بين الحين و الآخر أنهم أكثر من مجرد أنبياء، و يقولون أشياء من قبيل "أنا الله"، أو "أنا ابن الله"، أو حتى "أنا الروح القدس"، و يقولون "لقد جئت لمنح الحياة للعالم الذي هو على وشك الزوال، و الأشرار سوف يهلكون في النار بسبب خطاياهم؛ أنا سوف أنقذكم؛ أنتم سوف تروني لأنني سوف أعود مرة أخرى مسلحا بقوى سماوية، و بالتالي فبورك من عبدني الآن؛ أما من يرفض - مدن و أمم كاملة- فسوف يتم إلقاؤهم في الحفرة النارية؛ و من يسمعني و يؤمن بي سيتم إنقاذه".. هذا النوع من الكلام كان يُسمع كثيرا في جميع أنحاء جنوب فلسطين يتفوه به أكثر الأنبياء تفاهة)) – الفيلسوف اليوناني الوثني سيلسوس، واحد من أهم منتقدي المسيحية في العصور الأولى (القرن 2ب.م).


تحدثنا عن انقسام اليهود دينيا إلى ما يشبه معسكر "المحافظين" و معسكر "الإصلاحيين"؛ و لم يكن غريبا أن ينعكس هذا الإستقطاب في عالم السياسة أيضا ؛ و هكذا فإلى جوار الخلاص الثوري العسكري المتطرف ، بدأت فكرة أخرى في الإنتشار في المجتمعات الإسرائيلية، و هي الإستغناء عن الخلاص السياسي الدنيوي و استبدال به خلاصا إلهيا روحانيا مرتبط بـ"عالم جديد" قادم.



من ناحية ظهر للبعض أن الإنتصار على اليونانيين و الرومان مستحيل التحقيق بالمقاييس العسكرية على أرض الواقع ؛ و من ناحية مقابلة بدا أن الطموح و الإستعلاء القومي اليهودي التوراتي ، الذي نجد ملامحه في بعض نصوص العهد القديم، كالمزمور الثاني مثلا، لم يعد يكتفي بتحقيق السيادة على فلسطين وحدها، بل شعب الرب لابد له من ملك متسع يليق بعظمة رب العالم و صاحب الأرض كلها.

 الطموح الإسرائيلي إذن لم يعد فلسطين فقط ، و لا حتى بين النيل و الفرات فقط ، بل حكم العالم بأسره - و لكن كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟

وجد اليهود أن الهوة بين قدراتهم و طموحهم في اتساع مستمر – فكان الحل الأوحد هو الهروب إلى الخيال الديني: قدره الله الخارقة هي السبيل الوحيد لتحقيق الحلم الجديد، بسيادة العالم.


و هذه التصورات هي تحديدا ما نلمسه في تناول ختام سفر دانيال للمسألة ، و تحويله للحرب من معركة دنيوية مباشرة، إلى حرب كونية خارج نطاق البشر، حيث تهبط الملائكة و تتدخل يد الله بشكل مباشر لتنصر شعب الله ؛ و بالفعل فقد بدا للكثيرين أن ذلك وحده هو الذي من شأنه وزن الكفة المختلة و التغلب على مقاييس القوة المادية لليونانيين و الرومان – فالدرس المستفاد هنا أن المواجهة السياسية و العسكرية ليست هي الحل.


هذا المعتقد أفرز العديد من اليهود المؤمنين بنهاية العالم القريبة المرتبطة بنصرهم على أعدائهم ؛ فيحكي لنا المؤرخ اليهودي يوسيفوس مثلا عن عدد من الأنبياء اليهود (المسحاء) المتحمسين آنذاك يقومون بجمع الناس و مطالبتهم باتباعهم إلى القدس، فيقفون على جبل الزيتون، متوقعين انهيار حوائط المدينة المقدسة في أية لحظة.


ولادة المسيحية

هكذا وسط بيئة يهودية محلية ، و بين احتقانات سياسية و انقسامات مذهبية و صراعات الكهنة الفاسدين، ستنشأ الديانة المسيحية في القرن الأول و الثاني ب.م، زمن حياة يسوع و جولات بولس و كتابة الأناجيل، و ستنتشر و تتبلور أكثر في القرون اللاحقة.



أما الشكل الذي ظهرت عليه، فيبدو خليطا بين عنصرين غير متجانسين ؛ الأول هو اليهودية التقليدية بحالها في القرن الأول، باقتصارها على الرب اليهودي و الشعب اليهودي، بنزعة محلية قومية عنصرية، و بانتظارها للملك المسيح المنتظر، و خضوعها للشريعة الموسوية و تقاليدها كالختان و تحريم الخنزير (فلا يجب نسيان أن المسيحيين الأوائل لم يكونوا إلا يهودا) ؛ و العنصر الثاني هو عنصر وافد جديد ، يتميز بملامح من إله عالمي محب لكل البشر، و بتحرره من الشريعة اليهودية، و بتمركزه حول رب متجسد تم صلبه فداءا للبشر، و يُنتظر عودته السماوية لإقامة الموتى و دينونة العالم.



و ستظل الهوة تتسع بين الفكر اليهودي التقليدي من ناحية و بين ذلك الفكر الجديد من ناحية أخرى ، حتى يحدث الإنفصال النهائي – و تتحول المسيحية إلى دين مستقل جديد.



و حين يتبناها الرومان بعد أربعة قرون فسيكون ذلك لحسابهم الشخصي؛ فمن ناحية سيكون يسوع هنا بمثابة استكمال لمشروع البطالمة السابق، لتوحيد الطوائف المتنوعة تحت إله واحد و دين واحد رسمي؛ و على الجانب الآخر ستكون المسيحية البولسية استكمالا لمشروع اليونانيين لتنحية الشريعة اليهودية – المكروهة- عن التطبيق ؛ فالمسيحية ستساعد الرومان على تحقيق ما فشل السابقون في تحقيقه.



و لكن متى و كيف حدث ذلك التحول من اليهودية إلى المسيحية؟ هل تم ذلك في حياة يسوع نفسه، أم بعد موته في الزمن الفعلي لكتابة الأناجيل؟ هذا مبحث لن يهمنا هنا بالدرجة الأولى؛ خاصة أن هذا الأمر مرتبط بمبحث آخر هو الجدال حول تاريخية المسيحية و نصوصها، و التي تصل من البعض إلى التشكيك في الوجود التاريخي لمؤسسها يسوع؛ و هو ما لن نتناوله هنا بطبيعة الحال.

ما سيهمنا هنا هو أمرين : أولا، فهم عام للمصادر المختلفة التي جاءت منها أفكار المسيحية و صاغت ملامحها و أنتجت نصوصها و قيمها الأخلاقية ؛ تلك القيم التي كثيرا ما تبدو- كما سنرى-  غير منسجمة بل متناقضة ، تتذبذب في ثنائيات متضاربة بين المحلية و العالمية، التشدد و المرونة، المحبة و الكراهية ، طاعة الشريعة و التمرد عليها، التعصب لليهود و التعصب ضدهم..إلخ؛ و لن نقف كثيرا أمام محاولة فهم تلك التضاربات، بل سنتعامل معها كما هي، طالما اكتفينا بالإشارة إلى سببها الرئيسي (تنوع المصادر).

 و ما يهمنا ثانيا هو تقييم تلك الأخلاقيات، الظاهرة من أقوال و أفعال يسوع المسيح كما وصلت لنا من خلال النصوص ، بغض النظر عن حقيقتها التاريخية؛ ذلك لأن ما يعنينا هنا ليس التاريخ ، بقدر ما هو كيفية تشكيل تلك النصوص للمسيحية الحالية، و كيفية تأثيرها في الملايين من البشر على مر التاريخ و إلى اليوم  و في المستقبل المنظور أيضا.



فبين رب اليهود المنتقم  ضيق الأفق الغضوب دوما و المتلهف للعقاب ، مع تراث اليهود المشحون بالعنصرية و التعصب و العنف والعداء للأجانب و احتقار المرأة، و المليء بالخرافات و مظاهر التشدد الغبية، و بين عالمية الإله و الرسالة، و العداء لغير المؤمنين، و كراهية الحياة ذاتها، مع هيستريا اقتراب النهاية المدمرة للعالم، سنكتشف أن الجديد الذي جاءت به المسيحية، لم يكن بأفضل حالا من القديم السيء الذي انطلقت منه.



فمعا نتعرف على سيرة الإله المتجسّد يسوع المسيح، من جانب آخر.



ثانيا: يسوع اليهودي


مولود تحت الناموس

- ((و من هم اليهود؟ عبيد هارب,ن من مصر؛ لم يصنعوا شيئا ذا أهمية أبدا؛ لم يكن لديهم أي وزن أو مكانة ، و لا نجد ذكرا لهم في التأريخ اليوناني)) – سيلسوس، الفيلسوف اليوناني الوثني و من أشهر نقاد المسيحية.


في متى 1-1،17 ، و لوقا 3-23،38، نجد نسختين من سلسلة نسب المسيح، اليهودية، أبا عن جد ؛ و بشكل عام نجد حرص الأناجيل في مواضع كثيرة على التأكيد على انتساب يسوع إلى سبط يهوذا الإسرائيلي، و تحديدا إلى الملك داود، و الذي تنص المعتقدات اليهودية- على أن ملوك اليهود ينبغي أن يأتوا من نسله.



و نعرف أيضا أن يوسف و مريم كانا يعيشان بكل تقوى وفقا للشريعة اليهودية، و يفعلان (كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ نَامُوسِ الرَّبِّ) لوقا 2- 39؛ و كذلك الحال مع خالته و زوجها الذين كانا (سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ) لوقا 1-6- مما يؤكد أننا نتحدث عن عائلة يهودية تقليدية متدينة و متبعة لكل ما في الشريعة الموسوية - و لاحقا سيقوم بولس بوصف يسوع بأنه (مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ) رسالة غلاطية 4-4.


و قد تم تطهير مريم بعد ولادة يسوع (لوقا 2-22) حسب شريعة موسى (لاويين 12-2) ، و قاموا بختان يسوع بعد ثمانية أيام من ولادته (لوقا 2-21) ، وفقا للشريعة اليهودية أيضا (تكوين 17-12 و لاويين 12-3) ، و قدما ذبيحة للرب (لوقا 2-24) حسب ما تنص الشريعة أيضا (لاويين 12-6،8)؛ و حين بلغ يسوع اثنتى عشرة سنة أخذه والداه و (صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ) لوقا 2-42، كما اعتادوا كل سنة (لوقا 2-41)، و تركاه هناك لفترة (نسياه!)، ثم لما رجعا (بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ جَالِساً فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ)  لوقا 2-46.


و قد ظل الرجل مداوما على حضور المجمعات اليهودية بانتظام يوم السبت (لوقا 4-16)، و  لاحقا كان يقوم بالتدريس في الهيكل في أورشليم (لوقا 21-37)؛ ذلك الهيكل الذي كان مجرد دخوله ممنوعا على غير اليهود (أعمال الرسل 21-28)؛ و في مواضع مختلفة نجده محافظا على تتبع جميع الأعياد و الطقوس اليهودية، كما سنجده مؤمنا بجميع القصص و التعاليم التي وردت في العهد القديم.

و حين كبر يسوع، و على مر سنوات دعوته حتى النهاية ، ظل وفيا لكتاب اليهود و لشريعة اليهود، فلم ينبس بكلمة صريحة تدين أيا من ممارساتها بعمق؛ بل على العكس، أعلن في مناسبات مختلفة تصديقه بها و تأييده لها و تمسكه بها.

ففي موعظة الجبل خاطب الناس قائلا
(لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ) متى 5-17؛ و أكد أنها لن تزول أبدا (فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ) متى 5-18.

بل و قرن يسوع الخلاص الأخروي بالإلتزام بتلك الشريعة، و قام بتهديد من خالفها (فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هَكَذَا يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ فَهَذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ) متى 5-19.


و حتى حين سيقوم بمخالفة الشريعة في عدة مواضع، كما سنرى، فإنه كان غالبا سيستخدم حيلا "تأويلية" تسمح له بـالقيام بتعديلات في تلك النصوص، أو "نسخها" أي إحلال محلها أحكاما جديدة، بدون الطعن في مصداقيتها و أصلها الإلهي و صوابها الأخلاقي.



دعوته مُوجهة إلى اليهود فقط؟

تخبرنا الأناجيل أن يسوع أمر تلاميذه الإثنى عشر بالإقتصار في الدعوة على اليهود فقط و حصريا من دون الناس، و منعهم تماما من دخول مدن الشعوب الأخرى، ناهيك عن مخاطبة تلك الشعوب (هَؤُلاَءِ الاِثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: “إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ) متى 10-5،6.


و ذلك على الرغم من أنه في موضع آخر يخبرنا إنجيل مرقس (و هو أقدم الأناجيل المكتوبة) أن يسوع حين قام من الموت- بعد صلبه- فقد ظهر للتلاميذ مرة أخرى و  أعلن لهم الأوامر الجديدة قائلا ("اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا") مرقس 16-15؛ مما يؤكد أن هناك تغيرا في التوجه حدث لاحقا بعد موت يسوع!

(مع ملاحظة أن الجزء الأخير من إنجيل مرقس، و الذي يتضمن النص السابق، هو جزء مشكوك فيه من قبل الكثير من الباحثين، خاصة و أنه لا وجود له في أكثر المخطوطات القديمة، مما يوحي بأنه إضافة متأخرة على الإنجيل).


في كل الأحوال فالواضح أن دعوة يسوع طوال حياته كانت مركزة على اليهود بشكل شبه حصري ؛ و حتى أتباعه حين انتشروا من بعده يبشرون في المدن قاموا بذلك (وَهُمْ لاَ يُكَلِّمُونَ أَحَداً بِالْكَلِمَةِ إِلاَّ الْيَهُودَ فَقَطْ) أعمال الرسل 11-19 ؛ ثم حين رفض اليهود الدعوة بدأ التلاميذ لاحقا في التبشير لغيرهم، كما يخبرنا يوحنا في إنجيله أن يسوع )إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ( يوحنا 1-11.

و على ما يبدو أن يهوديا آخر روماني الجنسية، بولس، هو من سيكسر هذا الحاجز لاحقا، و ينشط في التبشير بدعوة يسوع إلى الأمم (غير اليهود).


الخلاص من اليهود

و لكن حتى بولس في رسائله، نجده يحرص على تأكيد أن التبشير و الخلاص محفوظان لليهودي أولا قبل الآخرين (..قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ) رومية 1-16.


و هذا التفضيل لليهود يتناغم تماما مع حوار كان أجراه يسوع  مع امرأة من منطقة السامرة (و هم خصوم اليهود) ، حيث نراه يخبرها صراحة بأن (..الْخلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ) يوحنا 4-22.


و حتى مجرد تواجد يسوع في تلك المنطقة غير اليهودية ، بدا لكاتب الإنجيل أنه يحتاج إلى توضيح، حيث أن السامرة وقعت في طريق يسوع مما أجبره على اجتيازها-  (تَرَكَ الْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضاً إِلَى الْجَلِيلِ. وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ) يوحنا 4-3،4 ؛ و هذا التبرير يتوافق مع أمر يسوع لتلامذته أن لايدخلوا إلى مدن السامريين- فالأصل هو التواجد مع اليهود فقط.


و نفس المعنى- و أكثر و أخطر- نجده في حواره الآخر مع  المرأة الكنعانية.


عن الكلاب و أسيادهم

في إحدى المناسبات جاءته امرأة "أممية" (غير إسرائيلية) ، تخبره أن ابنتها مريضة و ترجوه أن يشفيها بقدراته )وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ: "ارْحَمْنِي يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ. ابْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدّاً"..)



يالها من فرصة ممتازة ليسوع لإظهار اهتمام رب المجد بالبشر عموما، حتى لو كانوا غير يهود، أليس كذلك؟



لكن للأسف، يخبرنا الكاتب أن يسوع (..لَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ..) ، بمعنى آخر تجاهلها تماما.



مع ذلك فالمرأة لم تنصرف، بل ظلت تسير وراءه و تلح عليه؛ و يبدو أن صياحها أزعج آذان تلاميذ يسوع اليهود مرهفي الحس (..فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: "اصْرِفْهَا لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!"..).



فماذا سيفعل يسوع الرحيم؟ هل سيعتذر لها لأنه تجاهلها في البداية؟ هل سيستجيب لها فورا و يشفي ابنتها المريضة في المنزل؟



للأسف لا؛ و إنما (..أَجَابَ: “لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ"..).



بمعنى آخر: تخصصي هو اليهود فقط – الآخرون لا يهمونني في شيء.

و لنفهم طبيعة ذلك التصرف- بمقاييس عصرنا – فهو يبدو كطبيب نابغة مسلم مثلا يكتب على باب مشفاه لافتة تقول : العلاج للمرضى المسلمين فقط - و حين يأتيه مرضى في حالات الطوارئ يتفحص بطاقاتهم الشخصية أولا ، فإذا وجدهم غير مسلمين تجاهل علاجهم و طردهم فورا!



نعود إلى المرأة المسكينة التي تمادت في الإلحاح، فسجدت ليسوع – وضعت وجهها أمامه في تراب الأرض، مستمرة في التوسل (..فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: "يَا سَيِّدُ أَعِنِّي!"..).

ماذا الآن؟! هل سيرق قلب رب المجد؟



ليس بعد؛ بل سيهتم أولا بتوضيح حقيقة مهمة للغاية للمرأة  (..فَأَجَابَ: "لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ"..).

و في حالة لو كنت تتساءل فالمعنى واضح تماما : البنون هنا هم اليهود، و الكلاب- نعم- هم الآخرون، جميع غير اليهود، باقي البشر، أنا و أنت و أهلي و أهلك؛ و بالطبع كما هو معلوم ليس من الجيد أن تؤخذ بركة الأبناء و تمنح للكلاب.



ربما في ظروف أخرى كانت السيدة لتنتفض غضبا على الرجل جراء تلك الإهانة، و تقوم بلعنه و لعن أسلافه و قومه واحدا واحدا – لكن يبدو أن صورة ابنتها المريضة في ذهنها لم تترك أمامها إلا سبيل واحد: المزيد و المزيد من التذلل لهذا الذي يشتمها، ظنا منها أنه يستطيع إنقاذ ابنتها.



(..فَقَالَتْ: "نَعَمْ يَا سَيِّدُ. وَالْكِلاَبُ أَيْضاً تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا"..).



إذن، في النهاية لا مانع من أن تنعم الكلاب غير اليهودية القابعة تحت الموائد ، ببعض من الفتات الساقط من أفواه البنين اليهود، أسيادها و أربابها.


و بالفعل، يبدو أن تلك الكلمات الأخيرة قد راقت ليسوع.



(..حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لَهَا: "يَا امْرَأَةُ عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ" . فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ).



يزعم البعض أن يسوع كان يختبر إيمان المرأة(!)؛ و هذا يصح فقط لو كان المقصود بالإيمان هو مدى تقبل الإنسان للشتم و للذل، و الحق يقال فقد أثبتت في ذلك نجاحا كبيرا.



و هذا يجعلنا نتصور الوضع العكسي: لو أنها رفضت الإهانة و أكدت أن البشر سواسية؛ حينها كانت المسكينة ستفشل في الإختبار اليسوعي و تثبت أن إيمانها ضعيف- فياله من منطق!



و ربما هذا هو المغزى من القصة الرائعة: حقا، هل هناك إيمان أعظم من أن يضطرك قلبك المكلوم، بسبب ابنتك المريضة، إلى التذلل و تعفير وجهك في التراب و إهانة نفسك و أهلك و قومك أمام جمع من اليهود طلبا لشفاءها؟!



و لنقرأ النص مرة أخرى، كما هو مكتملا  (وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ: "ارْحَمْنِي يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ. ابْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدّاً". لَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: "اصْرِفْهَا لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!"  أَجَابَ: “لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ". فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: "يَا سَيِّدُ أَعِنِّي!" فَأَجَابَ: "لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ". فَقَالَتْ: "نَعَمْ يَا سَيِّدُ. وَالْكِلاَبُ أَيْضاً تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا". حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لَهَا: "يَا امْرَأَةُ عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ" . فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ( متى 15-22،27



و في مرقس نجد صياغة مختلفة قليلا لنفس القصة:

(لأَنَّ امْرَأَةً كَانَ بِابْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ سَمِعَتْ بِهِ فَأَتَتْ وَخَرَّتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ. وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ أُمَمِيَّةً وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً - فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُخْرِجَ الشَّيْطَانَ مِنِ ابْنَتِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهَا: "دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ". فَأَجَابَتْ: "نَعَمْ يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضاً تَحْتَ الْمَائِدَةِ تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ الْبَنِينَ" . فَقَالَ لَهَا: "لأَجْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ اذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنِ ابْنَتِكِ") مرقس 7-25،29.



فما الذي يحدث هنا بالتحديد؟



يسوع العنصري

تؤكد التوراة بصراحة أن اليهود هم شعب الرب المُختار )لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِتَكُونَ لهُ شَعْباً خَاصّاً فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ  ( تثنية 14-2 و أيضا تثنية 7-6.


و قد أقام ذلك الرب عهدا مع جدهم إبراهيم، و لصالح ذريته من بعده (وَاقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي اجْيَالِهِمْ عَهْدا ابَدِيّا لاكُونَ الَها لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِك)
تكوين 17-7 ؛ و سيتلو ذلك ما يؤكد أن عهد التفضيل إنما هو مع نسل يعقوب\إسرائيل تحديدا و ليس غيره ؛ بحيث أن الإسرائليين في تلك الحالة هم شعب خاص مقدس، مختار لله من دون جميع شعوب الأرض (فَالانَ انْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَانَّ لِي كُلَّ الارْضِ. وَانْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَامَّةً مُقَدَّسَةً.) خروج 19-5.



و يتم توكيد ذلك الإصطفاء، و تلك النظرة الإلهية العنصرية الممجدة لليهود فوق سائر الأمم- المحتقرة دوما و الخارجة فيما يبدو عن دائرة اهتمام الخالق- مرة بعد مرة، عبر جميع نصوص العهد القديم؛ لأن الله على ما يبدو لم يرد التعامل مع أي شعب آخر (إِيَّاكُمْ فَقَطْ عَرَفْتُ مِنْ جَمِيعِ قَبَائِلِ الأَرْضِ) عاموس 3-2.


و بما أن يسوع – كما رأينا- كان في الأصل يهوديا تقليديا, من خلفية يهودية أبا عن جد، تلقى تعليما يهوديا، و كان ملتزما بالعقيدة و الشريعة اليهودية ، فلم يكن متوقعا أن يخالف الإسرائيليين في عنصريتهم، و لم يكن مستغربا أن يكون تعصبه لشعب الله المختار هي إحدى مظاهر يهوديته الأصيلة-  حيث لا يهتم بالدعوة وسط غير اليهود، بل يأمر أتباعه بتجنب مناطق غير اليهودية ، و حيث لا يجد ثمة مشكلة في وصف اليهود بالبنين و سائر الأمم بالكلاب التي تأكل من خبز البنين الذي منحه لهم الرب حصريا.



هكذا في التراث العبراني نجد أن الرب لا يعبأ كثيرا بالمصريين أو البابليين أو الفينيقيين أو الفرس أو اليونانيين أو غيرهم ممن شيّد الحضارات العظيمة و من صاغ الفنون و الآداب و العلوم و الشرائع و القوانين الأديان و الأخلاق ؛ الكل كلاب و خارج دائرة اهتمام الرب، فيما عدا قبيلة رعاة بدو صحراويين من العصر البرونزي – هذه كانت نظرة اليهود، و من الواضح أنها كانت أيضا نظرة الداعية اليهودي يسوع المسيح.



أما القصة السابقة فهي لا تعارض العنصرية كما يدعي البعض، و إنما لو تأملناها فهي تؤكد تلك العنصرية و ترسخها.



و بإمكاننا التخيل: لو كان الرجل صاحب دعوة إنسانية حقا، ألم تكن تلك فرصة رائعة له كي يؤكد لتلك السيدة المسكينة، على الملأ و بوضوح أمام تلاميذه و أتباعه، أن البشر سواسية أمام الإله، و أن الأمم غير اليهودية ليست كلابا محتقرة كما كان يعتقد اليهود آنذاك؟

لكنه لم يفعل أيا من ذلك، بل تصرف كأي إسرائيلي عنصري مُستعلي ؛ و لم يستجب للمرأة إلا حين أقرت تشبيهه المسيء و العنصري و البغيض، عديم الأدب و اللياقة.



(إحدى المفارقات اليسوعية اللافتة نشاهدها في موقف آخر (متى 8- 5،13)  حين يأتيه ضابط روماني صاحب نفوذ يطلب منه أن يشفي ابنه؛ فسنجد أن رب المجد المعتز بقوميته سيستجيب فورا فيعرض أن يذهب إلى منزل الرجل بنفسه ليقوم بالمهمة (أَنَا آتِي وَأَشْفِيهِ)، من دون أن ينبس بكلمة واحدة ضده أو ضد الرومان ؛ و في مرقس نص قد يوضح لنا سبب إضافي لاهتمامه بمساعدة ذلك الرجل، حيث قال له أصحابه عنه (إِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْعَلَ لَهُ هَذَا.لأَنَّهُ يُحِبُّ أُمَّتَنَا وَهُوَ بَنَى لَنَا الْمَجْمَعَ) مرقس 7-4،5؛ فالرجل يستحق المساعدة بالأساس ربما لأنه يحب اليهود و ينفعهم، و ربما لأنه صاحب نفوذ، و ربما لأنه مدح يسوع بكلمتين).



و المفارقة الأكبر أنه لاحقا حين تفشل دعوة يسوع وسط شعبه، و مع تبلور الديانة الجديدة في ثوبها الروماني، سيتم عكس تلك العنصرية لتتحول إلى عنصرية مضادة لليهود!؛ و سيتم تبرير ذلك عن طريق اتهام اليهود بقتل الرب، و بمعاداة تلاميذه و رسله خاصة بولس ؛ و سوف يتم الإستشهاد بنصوص إنجيلية معادية لليهود مثل النص الذي يعترفون فيه جميعهم بقتل يسوع و يجعلون دمه عليهم و على أبنائهم (متى 27-25)، و ستُستخدم تلك النصوص لقمع و اضطهاد جميع اليهود في أوروبا عبر القرون الوسطى تحت الحكم الروماني المسيحي.



يسوع يأمر بالتمسك يبشاعات العهد القديم

و يمتنع عن ممارسة النظافة الشخصية أيضا.

- ((مليء بالتشويق؛ يحتوي على شعر نبيل، و بعض الخرافات الذكية، و بعض التاريخ المنغمس في الدم، و بعض الأخلاق الجيدة، و ثروة من الفُحش، و أكثر من ألف كذبة)) – الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين، متحدثا عن الكتاب المقدس.


من الإنصاف الإشارة مرة أخرى إلى أن الكتاب المقدس العبري ليس كله شر؛ بل هو يحتوي بين دفتيه على العديد من النصوص الأخلاقية الطيبة هنا و هناك، و التي تحض على العدل و الرحمة و التكافل و مساعدة الغريب و الرفق بالضعفاء و العبيد و حتى بالحيوان ؛ و لكنه على الجانب الآخر بالفعل يحتوي على الكثير من القسوة و الهمجية و اللامنطق، حتى بمقاييس عصره، و بالمقارنة مع التراث الإنساني الآخر في تلك الأزمان.



ما نود تأكيده هنا هو أن يسوع، الذي أقر بعض أمور في العهد القديم و رفض أمورا أخرى، لم يقم بذلك على أساس أخلاقي فأقر الخير و استبعد الشر –لا،  بل في أحيان كثيرة فعل العكس تماما فرفض الخير في العهد القديم، و تمسك بالشر.



مثال، طريف نوعا نجده في إحدى جدالاته الحادة مع بعض الجماعات اليهودية، حيث نراهم يتهمونه هو و تلاميذه بمخالفة التقاليد ، لأنهم لا يقومون بغسل أيديهم قبل الأكل (حِينَئِذٍ جَاءَ إِلَى يَسُوعَ كَتَبَةٌ وَفَرِّيسِيُّونَ الَّذِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: "لِمَاذَا يَتَعَدَّى تَلاَمِيذُكَ تَقْلِيدَ الشُّيُوخِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ حِينَمَا يَأْكُلُونَ خُبْزاً؟"..) متى 15-1،2.



التلبّس بالقذارة؛ ياله من موقف محرج!
فهل نتوقع أن يعتذر يسوع و يجري مع تلاميذه إلى أقرب مصدر مياه نظيفة ليغسلوا أيديهم؟



مطلقا؛ فمن رابع المستحيلات أن يقوم المسيح بالإعتذار عن شيء فعله أو يعترف بأي خطأ قد يسيء إلى مظهره أمام أتباعه ؛ بل سيجادل اليهود الفريسيين بكل عناد و يقلب الطاولة عليهم حالا.

(..
فَأَجَابَ: "وَأَنْتُمْ أَيْضاً لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ؟" فَإِنَّ اللَّهَ أَوْصَى قَائِلاً: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ وَمَنْ يَشْتِمْ أَباً أَوْ أُمّاً فَلْيَمُتْ مَوْتاً. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: مَنْ قَالَ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي. فَلاَ يُكْرِمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ. فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ!) متى 15-3،6.


و المعنى باختصار : أنتم أيضا تخالفون وصايا الله؛  كيف؟

لأنكم لا تقتلون الأبناء العاصين، كما تنص التوراة!


و في إنجيل مرقس ترد الواقعة بتفصيل أكثر (وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ وَقَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ قَادِمِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا رَأَوْا بَعْضاً مِنْ تَلاَمِيذِهِ يَأْكُلُونَ خُبْزاً بِأَيْدٍ دَنِسَةٍ أَيْ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ لاَمُوا -لأَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ وَكُلَّ الْيَهُودِ إِنْ لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِاعْتِنَاءٍ لاَ يَأْكُلُونَ مُتَمَسِّكِينَ بِتَقْلِيدِ الشُّيُوخِ. وَمِنَ السُّوقِ إِنْ لَمْ يَغْتَسِلُوا لاَ يَأْكُلُونَ. وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَسَلَّمُوهَا لِلتَّمَسُّكِ بِهَا مِنْ غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ وَآنِيَةِ نُحَاسٍ وَأَسِرَّةٍ. ثُمَّ سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ: "لِمَاذَا لاَ يَسْلُكُ تَلاَمِيذُكَ حَسَبَ تَقْلِيدِ الشُّيُوخِ بَلْ يَأْكُلُونَ خُبْزاً بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ؟"فَأَجَابَ: "حَسَناً تَنَبَّأَ إِشَعْيَاءُ عَنْكُمْ أَنْتُمُ الْمُرَائِينَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هَذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ. لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ: غَسْلَ الأَبَارِيقِ وَالْكُؤُوسِ وَأُمُوراً أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هَذِهِ تَفْعَلُونَ". ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: "حَسَناً! رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ. لأَنَّ مُوسَى قَالَ: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ وَمَنْ يَشْتِمُ أَباً أَوْ أُمّاً فَلْيَمُتْ مَوْتاً. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: إِنْ قَالَ إِنْسَانٌ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ أَيْ هَدِيَّةٌ هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي فَلاَ تَدَعُونَهُ فِي مَا بَعْدُ يَفْعَلُ شَيْئاً لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ. مُبْطِلِينَ كَلاَمَ اللَّهِ بِتَقْلِيدِكُمُ الَّذِي سَلَّمْتُمُوهُ. وَأُمُوراً كَثِيرَةً مِثْلَ هَذِهِ تَفْعَلُونَ".) مرقس 7-1،13.



هنا نجد عدة مغالطات- بل و كوارث- منطقية و أخلاقية- في موقف يسوع:


المغالطة الأولى المنطقية هي الهروب من الموضوع الرئيسي إلى موضوع آخر فرعي بدلا من إعطاء الجواب المباشر ، فقط ليرد التهمة إلى من يتهمه – و هو أسلوب جدال مراهق يهتم بكسب النقاط ضد الخصم بدلا من توضيح الأمور، على طريقة "خير وسيلة للدفاع الهجوم".


المصيبة الثانية أخلاقية و هي إقرار قتل الأبناء العصاة، حسب التمسك الصارم بما جاء في التوراة مهما كان تعسفيا أو قاسيا  - بل و معاتبة من يقرر التغاضي عن تلك العادة الهمجية و يفضل الرحمة، و شن الإتهامات ضدهم!



و لنراجع النصوص التوراتية التي تأمر، ليس بضرب أو تأديب، و إنما بقتل، ليس فقط من ضرب أباه و أمه أو شتمهما، بل كل من لا يطيعهما (وَمَنْ ضَرَبَ ابَاهُ اوْ امَّهُ يُقْتَلُ قَتْلا) خروج 21-15 ، (كُلُّ انْسَانٍ سَبَّ ابَاهُ اوْ امَّهُ فَانَّهُ يُقْتَلُ. قَدْ سَبَّ ابَاهُ اوْ امَّهُ. دَمُهُ عَلَيْهِ) لاويين 20-9 ، (إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ابْنٌ مُعَانِدٌ وَمَارِدٌ لا يَسْمَعُ لِقَوْلِ أَبِيهِ وَلا لِقَوْلِ أُمِّهِ وَيُؤَدِّبَانِهِ فَلا يَسْمَعُ لهُمَا. يُمْسِكُهُ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَيَأْتِيَانِ بِهِ إِلى شُيُوخِ مَدِينَتِهِ وَإِلى بَابِ مَكَانِهِ وَيَقُولانِ لِشُيُوخِ مَدِينَتِهِ: ابْنُنَا هَذَا مُعَانِدٌ وَمَارِدٌ لا يَسْمَعُ لِقَوْلِنَا وَهُوَ مُسْرِفٌ وَسِكِّيرٌ. فَيَرْجُمُهُ جَمِيعُ رِجَالِ مَدِينَتِهِ بِحِجَارَةٍ حَتَّى يَمُوتَ. فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ بَيْنِكُمْ وَيَسْمَعُ كُلُّ إِسْرَائِيل وَيَخَافُونَ) تثنية 21-18،21.


تلك هي وصايا رب اليهودية، و من الواضح أن رب المسيحية يرفض بشدة أي تساهل في هذه الوصايا العظيمة ، و يصف من يماطل في تطبيقها بالمرائي و باطل الإيمان.


المصيبة الثالثة سلوكية، و هي ترسيخ القذارة و عدم غسل اليدين، و ربما عدم غسل الأطباق أيضا – فكاتب الإنجيل يتحدث عن غسل الأواني قبل الأكل بشيء من التعجب، و كأنها كانت عادة خاصة باليهود الفريسيين وحدهم!

و إن كان غسل اليدين قبل الأكل و الأواني هو عادة مبتدعة، فهي تظل عادة نظيفة بل ضرورية جدا ، فات إله التوراة أن يشير إليها حين كان يخاطب موسى في صحراء سيناء منذ أكثر من ألف سنة.

و من بقية النقاش نرى الحجة التي استخدمها يسوع للدفاع عن ذلك السلوك 
(..ثُمَّ دَعَا الْجَمْعَ وَقَالَ لَهُمُ: "اسْمَعُوا وَافْهَمُوا. لَيْسَ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ بَلْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ هَذَا يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ"). متى 15-10،11.



بمعنى آخر: المهم هو ما نتكلم به، لا ما نأكله.



أما الشطر الأول فصحيح تماما: الكلمة السليمة "النظيفة" أمر مهم للغاية ؛ و لكن يا ترى لماذا تربطها بالشطر الثاني فتظهر المسألة و كأن الطعام القذر ليس فيه أي مشكلة؟!

و هذه هي المغالطة- المنطقية- الرابعة: وضع العسل في السم ؛
المسيح هنا يشبه شخصا يريد إخبار من حوله أن "الجوهر الداخلي أهم من المظهر الخارجي"، فإذا به يسير في الشارع عاريا! ، أو يريد إخبارهم أن "نظافة القلب أهم من نظافة الجسد" فإذ به يمتنع عن الإستحمام! - إن كانت هذه وسيلة للإقناع أو التعليم فهي وسيلة كاريكاتورية متطرفة و ساذجة للغاية.



"اغسل يدك من القذارة المادية، و نظف فمك أيضا من القذارة المعنوية"؛ ألم يكن بإمكانك أن تقولها لهم بهذا الشكل البسيط ، بدلا من أن تجازف بتعريض، ليس تلاميذك فقط للعديد من الأمراض ، و إنما أيضا أتباعك المحتملين في أزمنة لاحقة لن تكون موجودا فيها بقدراتك الخارقة لتشفيهم؟!



و حين سيخبره التلاميذ أن الفريسيين تقززوا و اشمأزوا من كلامه (و معهم ألف حق)، سيلجأ -كعادته- إلى الهجوم المضاد و شتم من يخالفه (..حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَقَالُوا لَهُ: "أَتَعْلَمُ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمَّا سَمِعُوا الْقَوْلَ نَفَرُوا؟" فَأَجَابَ: "كُلُّ غَرْسٍ لَمْ يَغْرِسْهُ أَبِي السَّمَاوِيُّ يُقْلَعُ. اُتْرُكُوهُمْ. هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ") متى 15- 12،14.



صدقت يا رب المجد ، ألف لعنة على أولئك العميان الذين يصرون على غسل أيديهم قبل الأكل، متوهمين أن الطعام القذر قد يضر بالإنسان!



و العبارة الأخيرة قد تفسر لنا جزئيا موقف المسيح، فهو – كم سنرى في مواقف أخرى- مهتم كثيرا بمعاندة الكهنة و إسقاط هيبتهم أمام الناس بأي شكل، بهدف تلميع نفسه وسطهم كنجم جديد منافس.



ثم إن هذا الموقف اليسوعي – الإمتناع عن غسل اليدين ثم التحجج بأن المهم الأخلاق لا النظافة – سنجده يتكرر في موقف آخر له مع أحد الفريسيين (..وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ سَأَلَهُ فَرِّيسِيٌّ أَنْ يَتَغَدَّى عِنْدَهُ فَدَخَلَ وَاتَّكَأَ. وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تَعَجَّبَ أَنَّهُ لَمْ يَغْتَسِلْ أَوَّلاً قَبْلَ الْغَدَاءِ. فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: "أَنْتُمُ الآنَ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالْقَصْعَةِ وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ اخْتِطَافاً وَخُبْثاً. يَا أَغْبِيَاءُ أَلَيْسَ الَّذِي صَنَعَ الْخَارِجَ صَنَعَ الدَّاخِلَ أَيْضاً؟ بَلْ أَعْطُوا مَا عِنْدَكُمْ صَدَقَةً فَهُوَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيّاً لَكُمْ") لوقا 11-37،41.



ثم يستمر المسيح بكل غلظة، حتى آخر السفر، في كيل الإهانات لمن استضافه في بيته، و شتم قومه و ثقافته و عاداته، فقط لأنه أبدى تعجبه من تمسك يسوع بالقذارة.



هنا تتكرر المغالطة الأولى في الموقف السابق (الرد على الإتهام باتهامات أخرى)؛ و كذلك للمغالطة الرابعة (خلط الصواب بالخطأ)، و التي تلبس هنا ثوب مغالطة طبية و معرفية: الإدعاء بأن البر الأخلاقي يعفينا من التطهر المادي: لو قلت كلاما طيبا و تصدقت فلن يضرك الطعام المليء بالأتربة و القاذورات – فيبدو أن رب المجد المتجسّد لم يسمع في حياته عن الباكتيريا أو الجراثيم!



و الأسوأ أن تكرار الموقف بهذا الشكل يثير الشك في أن الأكل بأيدي قذرة ، في الواقعة الأولى، لم يكن محض سلوك مفتعل من يسوع لمرة واحدة على سبيل تعليم اليهود درسا فحسب كما قد يظن الشخص سليم النية، و إنما هو على ما يبدو عادة متأصلة عنده و عند أتباعه الأوائل.



فيا ترى هل يستطيع أي مسيحي اليوم أن يتبع هذا السلوك اليسوعي، فيأكل بأيدي قذرة، ثم ينطق بالخير و يتصدق بالمال، و يثق أن هذا كفيل بتنقية كل ما يدخل إلى معدته؟ أشك بقوة.



المؤكد أنه لو كان ذلك الداعية اليهودي قد تلقى أدنى قدر من التعليم، أو أنه يملك حسا أخلاقيا بسيطا، لأدرك بسهولة أن غسل اليدين ضروري، و أن قتل الأبناء المتمردين قسوة و سخافة، و أنه ببساطة ليس كل الآباء و الأمهات يستحقون التكريم و الطاعة، فقط لمجرد كونهم آباء و أمهات؛ و لأدرك بالتالي أن تقاليد اليهود المعاصرين له -في تلك الحالة على الأقل- أفضل نسبيا من وصايا إله اليهودية، و الذي يبدو إله المسيحية هنا مماثلا له تماما في السذاجة التبسيطية و قلة المعرفة و الإفتقار إلى المنطق.

الجزء الثاني
الجزء الثالث
الجزء الرابع

الجزء الخامس

هناك تعليقان (2):

  1. تحياتي لهذاذ المجهود الرائع هو نفسرايي تماما بكل الأدلة التي تؤكده

    ردحذف
  2. جزاك الله خير
    الحمدلله علي نعمة الاسلام وكفي بها نعمة

    ردحذف