الثلاثاء، 1 يناير 2019

الحقائق تكمن في البيانات



(ترجمة حوار مع عالم النفس المعرفي ستيفن بينكر)
-------------------------------
س: ما الشيء الوحيد الخاطئ بالعالم الذي تود تغييره، ولماذا؟

- هناك الكثير من القادة والمؤثرين، بما فيهم سياسيون وصحافيون ومفكرون وأكاديميون، يستسلمون للإنحياز التأكيدي القائم على تقييم العالم من خلال الحكايات والصور، بدلا من البيانات والحقائق..


رئيسنا اعتلى الحكم برؤية متشائمة عن "المذبحة الأمريكية"، في مرحلة تقترب فيها معدلات الجرائم من أدنى مستوياتها التاريخية.. سلفه الجمهوري أنشأ قسما فيدراليا جديدا ودشن حربين مدمرتين ليحمي الأمريكيين من خطر، الإرهاب، والذي يقتل كل عام عددا أقل ممن يقتلون بواسطة لسعات النحل أو ضربات الصواعق.. في العام التالي لهجمات 11\9، تعرض 1500 أمريكي ممن خافوا من الطيران إلى الموت في حوادث سيارات، غير مدركين أن رحلات خطوط بوسطن الجوية تحمل مخاطرة تساوي قيادة سيارة لمسافة 12 ميل..

س: كيف نغير تلك الأمية الإحصائية المدمرة وذلك الإزدراء للبيانات؟

- حالة وفاة واحدة من سيارات تسلا ذاتية القيادة تحتل عناوين عالمية، بينما 1.25 مليون وفاة كل عام من السيارات التي يقودها البشر لا تلقى اهتماما.. أطفال صغار يتم إرعابهم بتدريبات مدرسية عن كيفية الإختباء من حالات إطلاق النار نتيجة هياج، والتي تمثل احتمالا شديد الضآلة لقتلهم، إذا ما قورنت بحوادث السيارات أو الغرق أو حتى حالات القتل غير الناتجة عن هياج، والتي تقتل ما يماثل مرة ونصف ضحايا ساندي هوك كل يوم (حادثة إطلاق نار راح ضحيتها 27 شخص).. بضعة حالات إطلاق نار تم تسييسها بقوة وأقنعت النشطاء أن الأقليات تحت خطر قاتل بسبب رجال الشرطة العنصريين، بينما ثلاثة محللين (اثنان منهم من هارفارد) أظهروا أنه لا يوجد تحيز عرقي في حوادث إطلاق النار الشرطية..

الكثيرون مقتنعون أن البلد عنصرية، منحازة جنسيا، معادية للمثليين، عنيفة جنسيا، بشكل لا يمكن إصلاحه، بينما الحقيقة أن تلك الآفات في انحدار مستمر (وإن لم يكن بالسرعة المطلوبة).. الناس على اليمين واليسار أصبحوا لامبالين تجاه المؤسسات الدولية لأنهم يعتقدون أن العالم يصبح أكثر فقرا وأكثر تمزيقا من جراء الحروب، بينما في العقود الأخيرة تشير معدلات الفقر المدقع وقتلى المعارك إلى انخفاض حاد..

الناس مرتعبون من الطاقة النووية (أكثر وسائل الطاقة الخالية من الكاربون قابلية للتطوير) بسبب صورة لجزيرة ثري مايل (والتي لم يتنج عنها أي وفيات)، وفوكوشيما (والتي لم تقتل أحدا، فالوفيات نتجت عن الإعصار، وإخلاء مرتبك غير ضروري)، وتشيرنويل (والتي قتلت أشخاصا أقل ممن يقتلون بسبب الفحم في كل يوم).. وهم يتخيلون أن الطاقة الشمسية يمكن أن تحل محل الوقود الأحفوري، بدون أن يحسبوا كم ميلا مربعا يجب ملئه بالألواح الشمسية ليشبع حاجة العالم المتزايدة للكهرباء.. ويعتقدون أن التضحيات الإختيارية، مثل خلع مقبس اللابتوب، هو وسيلة منطقية للتعامل مع التغير المناخي..

كيف نغير تلك الأمية الإحصائية المدمرة وذلك الإزدراء للبيانات؟ نحن بحاجة إلى جعل "الإحتكام للحقائق" جزءا أصيلا من ثقافة التعليم والصحافة والنقد والسياسة.. الوعي بوجود خلل في البديهة الإنسانية ينبغي أن يكون جزءا من الحكمة التقليدية لكل شخص متعلم.. إدارة السياسات والنشاطات عن طريق الوقائع البارزة، بدون الإحتكام إلى البيانات، يجب أن يتم اعتباره سخيفا بقدر إدارة تلك الأمور عن طريق التمائم والأحلام والأبراج..

هراء السحر


https://scontent-hbe1-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/55829689_392387334948310_7360969458761859072_n.jpg?_nc_cat=104&_nc_oc=AQn7DbEHLeMqvzRtmWPPOYkfcJuDaFdsaR7n9-K0FCnyza1dRP40XQUy7qGeFftfjGA&_nc_ht=scontent-hbe1-1.xx&oh=96022bc3a56e1ab1817442d672d8f582&oe=5DAF7C95

لكي تكتشف أن عالم السحر والجن المزعوم هراء كامل،
يكفيك فقط أن تنظر إلى المكاسب المتواضعة نسبيا التي يحصل عليه أدعياء تلك المعارف الغيبية من جيوب العوام الذين يخدعونهم،
وتقارنه بما كان يمكنهم أن يحصدوه من أماكن أخرى بلا تعب لو أن تلك الأمور تعمل حقا..

انتبه: هذا الساحر لديه قوى كونية خارقة، فهو يستطيع معرفة الغيب وتسخير قوى الجن لفعل ما يريد،
لكن العبقري لا يختار أن يجلب لنفسه أطنان المال والذهب بلمح البصر، وهو لا يذهب بعلمه للبورصات أو حتى نوادي القمار فيربح الملايين، وهو لا يستكشف أسرار الدول ويبيعها إلى خصومها فيضرب سوق المخابرات والجاسوسية في مقتل،

لا، هو لا يفعل شيئا من ذلك، وإنما هو يختار أن يحاول إبهارك أنت يا مسكين ببعض القراءة الباردة للطالع أو حيل الحواة، حتى تطلب منه أن يجلب لك الحبيب أو يزيل عنك حسد جارك، ثم إنه يقنع تماما بالثمن القليل لتلك الحيل وهذا الإبهار، فياله من هزار، وإهدار للموارد جبار، فاعتبروا يا أولي الأبصار..

الغيب لا يمكن إثباته



لماذا من المستحيل إثبات وجود الآلهة، أو الروح أو الملائكة أو العفاريت؟
بساطة لأن الغيب لا يمكن أن يستدل عليه بأي شكل..

ذلك أن مفهوم الدليل ذاته يقوم على علاقة مشهودة بين معلومين، أحدهما يدل على الآخر، فإن جهلنا أحد أطراف المعادلة فلا دليل.

مثال: لما يأتي شخص برسالة يدعي أنها من ملك البلاد، فيمكن محاولة إثبات صحة كلامه عن طريق تفحص الرسالة نفسها وبالبحث عن علامات تدل أنها من الملك (ختم خاص مثلا)..

ولكن ماذا لو كنا لا نمتلك أي معلومات عن ذلك الملك ولا نعرف شكل ختمه؟ هنا مهما فعل صاحب الرسالة فلن يمكنه إثبات أن رسالته من الملك (حتى لو كان صادقا)!

مثال آخر شائع يردده المسلمون، حيث يقولون أن البعرة (مخرجات الحيوان) تدل على البعير، وهذا صحيح.. ولكنه صحيح فقط لأننا شهدنا بعيرا ونعرف أنه يخرج، أما لو كنا لم نشاهد أبدا بعيرا ولا نعرف خصائصه، فهنا لا يمكن للبعرة أن تدل على البعير.

هذا ينطبق على الله تماما: طالما لا نعرف كنه ذلك الخالق المزعوم، فلا يمكن لأي نبي أن يثبت أنه من عنده..

حتى لو جاء بمعجزة؟!

نعم، بل حتى لو شهدناه يأتي بألف معجزة فستظل الإحتمالات مفتوحة (على الأقل نظريا) لتكون تلك المعجزة من كائن آخر.. كائن فضائي أو شيطان أو جن..إلخ.

------------------------------
هذه الفكرة ليست تنظيرا فارغا، بل إن أصحاب الأديان تنبهوا لها منذ وقت طويل، ويمكن ملاحظة تلك الأمثلة من التراث الديني ذاته (والذي لا نؤمن به، ولكن نستشهد به لتوضيح الفكرة، وأنها لم تغب بالكلية عن بال مؤلفي الأديان:

1- لما موسى جعل العصا تتحول ثعبانا أمام فرعون، أمر فرعون السحرة يأن يفعلوا نفس الشيء.. نقرأ في القرآن أنه لما التهمت عصا موسى عصيهم (تفوق عليهم) هتف فرعون أن موسى هو "كبيرهم الذي علمهم السحر"، وهو استنتاج لا يخلو من منطق، فمن يمكنه إثبات العكس؟!.. والمغزى إنه لا يمكن التفرقة بين السحر والمعجزة.

2- في الأناجيل لما جاء يسوع بمعجزاته الخارقة، قال البعض أن "روحا شريرة تسكنه" (من يثبت العكس؟).. وهو نفسه حذر من أنه سيأتي بعده أنبياء كذبة يقومون بأعاجيب فلا تصدقوهم (فقط صدقوني أنا!).. والمغزى مرة أخرى أنه لا يمكن التفرقة بين السحر والمعجزة في عالم الأديان، إلا أن تقول المعجزة هي ما يأتي في ديني أنا والسحر هو ما عند الآخرين! وهو طبعا تحيز لا يقوم على منطق.

3- حين تنبأ محمد عن المسيح الدجال وصفه بأنه سيقوم بمعجزات مبهرة، وأمر أتباعه أن لا يصدقوه.. مرة أخرى نفس منطق يسوع: معجزاتي فقط هي من الله، أي معجزة أخرى هي من الشيطان.

4- قبل ذلك، لما نزل على محمد الوحي، هو نفسه ظن أن ما يأتيه شيطان.. وهنا قامت خديجة بتجربة درامية، حيث أظهرت عورتها فاختفى الكائن من أمام محمد، وهنا استنتجت أنه ملاك وليس شيطان! (هذا يطرح أسئلة: ما الذي يلزمنا بعقيدة سيدة وثنية تعتقد أن الملائكة فقط هي التي تختفي مع كشف العورات؟ وما يمنع أن الكائن لم يكن شيطان خبيث وافتعل تلك الحيلة حتى يظناه ملاكا؟..إلخ)، مرة أخرى يستحيل التفرقة.

------------------------------
الدرس المستفاد أنه حتى لو سلمنا باحتمالية وجود عالم الغيب فحينها لن يمكننا الإستدلال عليه أبدا أو الحديث بشأنه، فحين ترى فعلا تحاول نسبته إلى غيب، فحينها لن يمكنك أبدا نسبته إلى غيب (أ) أم غيب (ب) أم (ج)..إلخ، إلا بالإستناد على فرضيات غيبية بدورها.

ولهذا بينما يمكن حسم الخلافات العلمية بالرصد والتجربة، تجد أن الأديان لا يمكنها حسم خلافاتها (إلا بالإستئصال وحروب الإبادة بطبيعة الحال!).

أما منطقيا وعلميا، فالله ليس فقط يفتقر إلى الإثبات، الله -مثل أي غيب- هو قضية خاسرة، وهو مستحيل الإثبات.. حتى لو انفتحت السماء وظهر أمامنا الله فلن تكون هناك وسيلة علمية للتأكد أن هذا ليس شيطانا أو عفريتا أو كائنا فضائيا، ولن يمكننا التأكد أبدا أنه هو من خلق الكون أو أنه يقف وراء أي معجزة، ولو شهدناها بأعيننا.

----------------------------------------------------------------
----------------------------------------------------------------

المسلي في التفسيرات الغيبية أنها مرنة جدا وقابلة للتطويع، فهي لا تستلزم دليلا دقيقا مثل التفسيرات العلمية الملتزمة لحد الصرامة، وإنما الغيبيات هي كيانات مائعة تعيش في بحار الجهل الواسعة، وبالتالي يمكن تقليبها يمينا ويسارا حسب مزاج المتكلم..

فالظاهرة التي تفسرها أنت بالغيب (أ) يمكنني بكل سهولة تفسيرها بالغيب (ب) أو (ج) أو (د)، دون أن يكون لدى أي منا وسيلة لتأكيد كلامه، أو إثبات أن نظريته أقوى من الآخر، وذلك لسبب بسيط هو أن التفسير- بالتعريف- غيبي، أي غير قابل للفحص وإنما هو بالنهاية مجرد كلمة خاوية..

من خلق الكون؟ تقول الله..

ولكن كيف عرفت أنه الله؟ هل رأيته بنفسك؟ أم لعلك اعتدت هذا الجواب من تراثك الديني.. أنا أقول أن خالق الكون هو زيوس، أو وحش السباغيتي، أو هو الشيطان نفسه..

هل تعتبر جوابي الأخير غريبا؟ ولكن له شواهد منطقية حتى داخل المنظومة الإيمانية، فالعالم مادة والله روح، كما أن العالم يحتوي نقائصا وشرورا لا تليق بالله، وبالتالي ربما الشيطان خلق عالمنا فجاء ماديا ناقصا شريرا.. وبالمناسبة هذا الكلام ليس من رأسي، وإنما هو موجود راسخ بتراث الأديان منذ القدم، خاصة في ساحات الزرادشتية والغنوصية وحتى وجد طريقه إلى الفكر المسيحي..

ومثال آخر، بفرض صحة الخرافة القرآنية : ما هي القوة التي جعلت عصا موسى تتحول إلى ثعبان؟ من الواضح جدا أنها الله..

لا، ليس من الواضح ذلك، لأن السحرة فعلوا نفس الشيء بالإستعانة بقوى أخرى غير إلهية، وإن كنت تقول أن حركة موسى كانت أقوى منهم، فيمكنني تفسير ذلك بأنه "كبيرهم الذي علمهم السحر"، كما قال فرعون، هل يمكنك تكذيبه؟

واليوم لو رأينا ممارسات خوارقية لمؤمن من دينك، فقد تؤكد بحماس أنها دليل قاطع على الحضور الإلهي، ولكن ماذا لو رأينا ممارسة خارقة لمؤمن من غير دينك؟ ما أسهل أن تقول أن مصدرها هو السحر أو حتى الشيطان.. فلا يملك أحدنا أن يستحضر الله والشيطان لسؤالهما..

ولنأخذ مثالا أكثر بساطة، لقد أصبت بالمرض.. على المستوى الغيبي، من يا ترى الذي الذي أمرضني؟ هل هو الله (أراد اختباري مثلا)؟ أم هو الشيطان (ربما أراد إيذائي)؟ أم هو الجن أم السحر أم الحسد أو أي قوى غيبية أخرى؟ ثم أنني شفيت، فأيضا من الذي شفاني؟ على المستوى الغيبي كل تلك الإجابات ممكنة بشكل متساوي..

ولنختم بمثال مستقبلي : لو ظهر اليوم رجل جبار يقوم بمعجزات خارقة أمام الجميع، طالبا منهم أن يطيعوه، برأيك هل نتبعه أم لا؟ المسألة تستلزم حذرا بالحالتين، فلو أطعناه ربما يكون الدجال المنتظر، فنذهب جميعا في داهية، أو لو عصيناه فربما يكون المهدي المنتظر فأيضا نذهب في داهية.. حتى أن أي فعل يقوم به سيمكن تفسيره على الحالتين، لو فعل خيرا فربما يكون الدجال يخدعنا، ولو فعل شرا فربما يكون المهدي يختبرنا، وأن هذا الشر يخفي بداخله خيرا لا ندركه بعقولنا المحدودة.. مرة أخرى هذا موجود بالتراث الديني، فيسوع يحذر أتباعه من تصديق الأنبياء الكذبة مهما قاموا بمعجزات، ومحمد يحذر أتباعه من المسيح الدجال القادم وسيقوم بمعجزات مبهرة فلا تصدقوه..

تلك الأمثلة تنطبق على أي قضية يقدم لها تفسير غيبي، فافتراض كيانات خفية لا يساعد على فهم أي شيء..

المنهج العلمي يقوم على الفحص المباشر للظواهر، والحكم بما هو متوفر بأيدينا، والقدرة على اختبار الظاهرة وتجربة التفاعلات مرة بعد مرة.. أما المنهج الغيبي فيقوم على افتراض كيان معين (مصدره دينك) يتم إبرازه لتفسير ظواهر الطبيعة، وأحد مناحي الخلل في ذلك المنهج أنه يمكن بسهولة استبدال ذلك الكيان بكيان آخر، مما لا يجعله منهجا ملزما أو حتى مفيدا..

(في الصورة: يسوع المسيح يتواصل مع الكائنات الفضائية التي منحته قدراته الإعجازية وأقامته من الموت)..

ظهور الإسلام- العامل المناخي



(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ) القصص 71..

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ - يَغْشَى النَّاسَ ۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ - رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ - أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ - ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ - إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا ۚ إِنَّكُمْ عَائِدُونَ - يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ) سورة الدخان 10-16..

في صيف عام 536، أي قبل ولادة محمد بعقول قليلة، ظهرت سحابة سوداء غريبة غطت سماوات شمال أفريقيا، وغرب آسيا، وجنوب أوروبا، ووضعت منطقة البحر المتوسط وما حولها في برد وليل حالك، واستمر ذلك التأثير لشهور وربما سنوات..

وقد قام العديد من المؤرخين بتسجيل تلك الظاهرة الغريبة، منهم البيزنطي بروكوبيوس، حيث كتب "كانت الشمس تعطي نورها بلا ضياء، مثل القمر، طوال ذلك العام".. كما ذكر عددا من الأمراض والحروب التي نشأت عن احتجاب نور الشمس.. وتم الكتابة عن تأثير تلك الظاهرة، في مناطق من سوريا وأيرلندا، متضمنا الحديث عن إظلام الشمس واضطراب المحيط، وعن فساد الثمار وقصور في المحاصيل..

وقام العلماء بدراسة بقايا تلك الفترة، فتفحص جذوع الأشجار بين 536 و551 أظهر تقلصا في نمو الأشجار في الصين وأوروبا وأمريكا الشمالية.. حجب نور الشمس نتج عنه انخفاضا في درجات الحراراة، مع تقلبات مناخية غير تقليدية.. وفيما يخص البشر أدى ذلك إلى انخفاض في المحاصيل والأطعمة، مما تسبب في مجاعات ببعض المناطق، مصحوبة باضطرابات اجتماعية وسياسية..

وقد تزامن مع ذلك أحداث أخرى، ربما تكون مرتبطة بتلك الظاهرة، منها انتشار واحدة من أكبر موجات الأوبئة في التاريخ، وهو المعروف بإسم "طاعون جستنيان" (541- 542) والذي عبر الإمبراطورية البيزنطية وامتد من أسبانيا حتى الصين، قاضيا - بشكل مخيف ومؤلم- على نحو ثلث السكان..

وفي الصين وقعت مجاعة وجفاف، مع كتابات عن "غبار أصغر يهطل كالجليد" ؛ وكذلك في العراق تم تسجيل هبوط غير تقليدي لجليد كثيف..

أما عن سبب تلك الظاهرة، فلدينا عدة نظريات، منها أنها نتيجة لسقوط مذنب من الفضاء، أو بسبب نشاط بركاني هائل أدى لتلك السحابة..

أما عن تأثيرات تلك الظاهرة على المجتمعات والسياسة، فيقترح البعض أن لها دورا في اضطراب حياة الفايكنغ، مما دفعهم للبحث عن أراضي أكثر خصوبة في العمق الأوروبي.. وساهمت في دفع القبائل المغولية للهجرة غربا.. وربما أدت إلى سقوط الإمبراطورية الفارسية.. وساعدت في الصعود والإنتشار السريعين للإسلام..

في كتاب "تحت ظل السيف" للمؤرخ توم هولاند، يذكر تلك الظاهرة، ويربطها بتدمير مدن عديدة كانت مزدهرة في الشام وتركيا..

كما يبدو أن تلك الظاهرة كان لها تأثير ديني مهم، إذ جعلت الناس يؤمنون أن نهاية العالم باتت وشيكة..

ومما زاد ذلك الشعور الحروب الكونية ذات الطبيعة الدينية، بين الفرس والبيزنطيين، ومساهمة اليهود والمسيحيين والزاردشتيين فيها..

فقد تكون تلك الظاهرة ساعدت من الناحية الدينية في شحذ العواطف الأخروية والقيامية لدى الشعوب المختلفة، كما أنها ساعدت من الناحية السياسية على إضعاف الإمبراطوريات القوية آنذاك، مما مهد الطريق لنشوء قوى جديدة في المنطقة، ومنها الإسلام..

لماذا البعض ينتقد الإعتدال الديني؟



سؤال متكرر: يا ملحد أمرك غريب، حين ترى مسلما معتدلا ينكر الأمور المشينة في دينه، مثل العبودية والجهاد وزواج الأطفال..إلخ، ويحاول إعادة تفسير النصوص بشكل متسامح، فلماذا تناكفه وتصر عليه أن الإسلام دين إرهاب وإجرام؟!
هل تريده أن يترك الإعتدال ويصير داعشي حتى ترتاح؟
--------------------------

الجواب من وجهة نظري:

1- من يترك الدين ويتحرر منه بالكامل هو - غالبا- شخص يهمه أن يكون فكره يتسم بالحق والدقة والعلمية، بأكثر مما يهمه النتائج الواقعية على ذلك الفكر..


فلو كان يخاف الحقيقة أو يقبل النفاق والحلول الوسطية لما ترك دينه أصلا، وإنما لاجتهد في ترقيعه كما يفعل البعض..

بمعنى آخر نحن - أكرر: غالبا- لسنا مصلحين اجتماعيين، وإنما نحن باحثون نحاول التفكير ونهتم بشدة بالحقائق المجردة..


هذا يعني أنني أقول ما أعتقده بصدق، حتى لو كانت بعض نتائجه سيئة (مثل أن القارئ المسلم قد يصاب بالحزن أو تتأثر مشاعره أو حتى يتحول إلى إرهابي، هذه مشكلته هو)..
-------

2- صاحب السؤال يضع عدة افتراضات لا أراها صحيحة، فهو يفترض أن المسلم سيقتنع بكلام الملحد: أن الإسلام دين لا يتماشى مع الإنسانية، ثم يفترض أنه حين يقتنع بذلك فإنه لن يترك الإسلام وإنما سيترك إنسانيته..


وهذه كلها افتراضات غير حتمية، فكثير منا حين اكتشف تناقض الإسلام مع العقل والإنسانية اختار الأخيرين وترك دينه..
-------

و3- الملاحظة أن المسلم المعتدل الذي يعلن أن الإسلام دين سلام ليس فيه عبودية أو ضرب زوجات..إلخ.. وحين يتوجه بهذا الكلام إلى ملحد لا يؤمن بالإسلام أصلا،
فهذا يعني أنه يقولها ليس ليحارب الإرهاب، لأن من يكلمه ليس إرهابيا أصلا،
وإنما يعني أنه يقولها بغرض واحد: أن يدافع عن الإسلام، ويطلب الإعتراف بأنه دين عظيم ورائع وجميل ومناسب للعصر..

وهنا ليس من المطلوب من الملحد (أو أي شخص صادق) أن يصفق له ويوافقه،
فتلك الموافقة لا تعتبر فقط نفاقا وإخلالا بالصدق وبالنزاهة الفكرية، حيث نقر بعظمة دين نعلم جيدا أنه لا يتسم بأي عظمة،

وإنما هي كذلك تعتبر إهانة موجهة لعقل ذلك المسلم، وتعني أننا نحتقره ونعامله مثل الطفل الذي يقوم أهله بالكذب عليه حتى يقوم بالتصرف الصحيح، وذلك لأنهم لا يرونه أهلا للحقيقة..
-------

حين أقول لك رأيي بصراحة - حتى لو أزعجك - فهذا يعني أنني أحترم نفسي وأحترمك، وأحد جوانب ذلك الإحترام هو أنني لا أرى نفسي مسئولا عن أفعالك، فلتكن إرهابيا لو شئت ولتواجه مصيرك، هذه ليست مشكلتي، لأنني لست معالجك النفسي ولست مصلحا اجتماعيا..


وذلك مع ملاحظة أننا - أتحدث عن نفسي ونسبة كبيرة من اللادينيين العرب- لا نهتم بالذهاب إلى منزل أحد لإقناعه بالعدول عن دينه، وإنما نحن نكتب حصرا في منتديات خاصة للنقاش الديني، ويفترض أن من يدخل بتلك المجموعات يكون مدركا لوجود وجهات النظر المختلفة حول دينه، ومؤهلا للتعامل مع النقد دون أن يفقد سلامته العقلية أو النفسية..


وربما يختلف الحال لو أننا كنا في منصب رسمي أو كان كلامنا يؤثر بشكل واسع بالمجتمع، حينها ربما- أقول ربما- نضطر لبعض النفاق والتزلف والمراوغة، وهي السمة المميزة لأغلب أهل الإعلام والسياسة - ولكن حتى ذلك الحين نحمد الطبيعة أننا لسنا مضطرين لذلك..

حوار لاهوت من طرف ثالث



من المتع الدينية التحشيشية حين ترى المؤمنين في مناظراتهم يتجادلون في الغيب بكل حماس..


يقول المسلم: يا نصراني هل يعقل أن الله ثالث ثلاثة؟


كملحد، سأسمح لنفسي بالإنحشار بينهما (لن أزيد الأمور بينهما سوءا على كل حال)، وبإزاحة النصراني جانبا (صار لكم ألفين سنة تتكلمون) وسأجيب بدلا منه:


نعم يا مسلم يعقل.. كما يعقل أن الله واحد بنظرك، فيعقل أنه ثلاثة أو خمسة أو 534633 إله، ربما تأتي في شكل أقانيم كما يؤمن المسيحي، أو في شكل آلهة تعددية كما يؤمن أخوكم الوثني الذي قضيتم عليه قبل أن تتفرغا لحرب بعضكما..


الآن سأسمح لنفسي بإزاحة المسلم وإكمال النقاش مع نفسي، فأسأل وأجيب.. (صار لكم 1400 سنة تتكلمون)..


وأسأل: يا مسيحي (لن أستخدم الكلمة الأخرى التي تكرهها) هل من المعقول أن الله يتجسد؟

وأجيب بالنيابة عن النصرا.. عفوا، المسيحي : نعم معقول جدا، فكما تؤمن أن الله له يد ورجل ويجلس على عرش (أيا كان معنى ذلك)..


هل من المعقول أن الله يضرب ويتألم؟

نعم يعقل، كما يعقل أنه يغضب وينتقم..


هل من المعقول أن الله يموت؟

نعم، من المعقول أن يموت بل وينتحر لو شاء، كما من المعقول أنه يقتل (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم)..


ويمكن عكس الأدوار، فيتساءل المسيحي مستنكرا: يا مسلم هل يمكن لله أن يقتل؟

وسأجيب بالنيابة عن صديقي المسلم: نعم يا مسيحي، كما يمكن له أن يتجسد وينتحر على الصليب..


ونكمل: يا مسلم هل يمكن للإله أن يكره أحدا؟

نعم يمكن، كما يمكن له أن يحب.. فمن قال أن الحب أليق بالإله من الكراهية؟

وما دخل الله في المنطق على كل حال؟!


يا صاحبي السجن: الواحد والثلاثة مجرد أرقام، والقتل والموت والحب والكراهية هي مشاعر وأفعال بشرية كلها تتطلب النقص.. وبالنهاية الله غيب مجهول، ويفترض - كما تقولون- أنه خارج أحكام البشر، وهذا يعني أن أي شيء أقوله يمكن أن ينطبق عليه، طالما لا يتعارض مع تصوري الخاص، فأنا هنا (أي مؤمن) هو الخصم والحكم..


هل تعلم لماذا؟ لأنه ليس لدينا كبشر صورة مرجعية عن الله أصلا، لنقول ما ينبغي له وما لا ينبغي..


وهذا لا يعني أنني أنحاز للإله المسيحي الفصامي المصلوب، كما لا أنحاز للإله اليهودي العنصري أو الإله العربي شيخ القبيلة.. ولكن لا تكلمني عن المنطق مع الإله، تلك الصورة الذهنية البعيدة، فطالما لا توجد مرجعية موحدة يحق لكل إنسان أن يفتي بما شاء.. يمكنني أن أجعل الله جبارا شريرا، أو مطربا رومانسيا، يمكن أن أجعله يضحك أو يبكي أو يمارس الجنس أو يرقص أو يخبز الفطائر .. و لأن الله مجرد فكرة، فلن يمكنك إثبات خطأ أي شيء أقوله عنه..


ولأن اللاهوت والفلسفة الدينية هي مجرد ثرثرة كلامية سفسطائية تصلح لإثبات أي شيء، فيمكنني أن أجعل كل الصفات السابقة لا تتعارض مع الكمال والهيبة الإلهية العظيمة..


باختصار يا صاحبي السجن، إن ربكما العزيز هو شبح مرن إلى درجة المطاطية، يمكنني أنا وأنت تشكيله كما نشاء.. حسب النصوص لكن أيضا حسب الخيال والرغبة.. فإن ذلك الخالق العظيم هو بالنهاية ملكنا جميعا..


ومن صفات الأطفال اللطفاء المهذبين أنهم لا يدعون صورهم التخيلية المتناقضة تثير العداوة فيما بينهم..

حد الردة أم حد الحرب؟




تقول الأسطورة الترقيعية: أن حد الردة لا يتعارض مع حرية العقيدة، لأن المقصود فقط هو قتل ذلك الشخص الذي يترك الإسلام ثم يحاربه، وليس المسالم..

سؤال بريء إذن : إن كان كذلك فلماذا تم ربطها بفعل ترك الدين، وليس بفعل الحرب نفسه، خاصة أنهما غير متلازمان بالضرورة؟

لنأخذ أربعة حالات نظرية:
1- مسلم ومسالم للمجتمع،
2- مسلم ومحارب للمجتمع،
3- مرتد مسالم،
4- مرتد محارب..


حسب النظرية الترقيعية المذكورة فالواجب قتل رقم 2 و4 فقط، ومسالمة رقم 1 و3..

ولكن لو كان كذلك لكان الواجب أن يسمى "حد المحارب" مثلا، وهو أصلا لا يحتاج إلى حد لأن قوانين الحرب معروفة ومذكورة بآيات أخرى..

ثم لو قام المرتد بأية جريمة فمن الواجب أن يتم عقابه وفقا للأحكام الجنائية الأخرى..
فإن كان المرتد يعاقب بسبب حربه وليس ردته،
وإن كان المحارب أصلا يعامل بأحكام الحرب سواء كان مرتدا أو لا،
فما الداعي لذكر الردة هنا أصلا؟

القوي الضعيف



من فنون الترقيع أن تكون قادرا على الكيل بمكيالين، فتقول الشيء هنا وعكسه في موضع آخر..

ومن الوسائل الشهيرة في ذلك هي "حجة المضطر":
فزعيمك الذي تحبه يرتكب أمورا تتناقض بشكل صريح مع شعاراته المرفوعة..
وخصومه الأوغاد يشيرون إلى ذلك ساخرين وناقدين..
فلا تجد شيئا تدافع به عن الزعيم، سوى أن المسكين محصور بالظروف الخارجية، ولا يمكنه أن يفعل إلا هذا..

وتنسى تماما أنك قبلها كنت تتفاخر بقوة زعيمك وقدراته العظيمة على قلب الظروف..

فقول الشيء وعكسه هو أمر لا يزعج أبدا المتعصبون وأصحاب الأيديولوجيات..

يخطر بذهني 3 أمثلة طريفة:

1- حين كان محمد مرسي (الإخواني) رئيسا لمصر، قبلها كان هو وأتباعه يلعنون الأنظمة العربية التي تتخاذل أمام الصهاينة، وكانوا يرفعون الشعارات المعتادة للإسلاميين، عن ضرورة معاداة اليهود ودق طبول الحرب من أجل تحرير القدس..إلخ، ولكن بعد الرئاسة أرسل رسالة إلى "فخامة" شيمون بيريز يتمنى الخير لدولته ويصف نفسه ب"صديقكم الوفي"..

وبالطبع تم تناول تلك الرسالة في عدة وسائل إعلامية، مبرزة التسجيلات الأقدم (فقط منذ شهور قليلة)..

وكان الرد التبريري من الإسلاميين: هذه الرسالة ليست من صياغتنا ولكنها نموذج ديبلوماسي يجب إرساله كما هو..

فكأن الجماعة المختارة التي حكمت البلاد وتعلن طموحات عظيمة تعد بقلب الموازين، بداية من القضاء على الفساد الداخلي، مع منافسة الغرب وإعادة إحياء الأمة واستنفار الهمم وتوحيد الشعوب وإعلان الجهاد وهزيمة إسرائيل..إلخ، تلك الجماعة الخارقة عاجزة عن الإمتناع عن إرسال رسالة تهنئة إلى الكيان الصهيوني، أو حتى عن تغيير صياغة الرسالة الناعمة والمهنئة والمعترفة بذلك الكيان..

2- سلطان المسلمين وناصر الشريعة وكاسر أنف الغرب، كما يروج أتباعه، رجب طيب إردوغان، يحكم بلدا تمارس فيه الدعارة بشكل قانوني وتمنح فيه التراخيص للمواخير، مما يجعل صورة الخلافة ليست كما يريد المتحمسون..
فكيف يمكن الخروج من ذلك المأزق؟

ينبري المحبون والمنبهرون والمدافعون، فيقولون أنه لا يمكنه أن يوقف تلك الممارسة، لأن العلمانية الفاسدة متجذرة بتركيا، فهو مضطر لأن يجاريها..

أي أن أمير المؤمنين وقاهر اليهود ومرعب أوروبا، والذي يحكم بلده بشكل متصاعد يقترب تدريجيا من الدكتاتورية منذ نحو 15 عام، والذي يحتكر الإنتخابات ويهزم الإنقلابات ويرفع ويخفض ويعز ويذل ويحظر ويسجن، هذا الخليفة عاجز عن مقاومة صناعة العهر فقط ، بل إن عدد المومسات قد تضاعف في عهده وفي ازدياد وبركة دائمة ولله الحمد..

3- والمثال الأشهر هو العبودية التي لم يحرمها الإسلام، والرد الجاهز أن الظروف حينها لم تكن تسمح، أي أن الله كان يريد منع العبودية ولكنه لم يستطع..

نفس ذلك المرقع قد يتفاخر كيف أن محمدا قد قلب موازين المنطقة ووحد العرب وقهر الروم والفرس، بفضل دعم الله وتعاليم الإسلام الخارقة..

لكن يبدو أن القوة العظيمة تعمل وتتعطل بشكل سحري، وحسب مزاج المسلم وحالته التبريرية..

عن المادة والقيمة




حين يتحرر الإنسان من الدين، فإحدى الأفكار التي يتخلى عنها هي فكرة "الروح".. وقد يظن البعض أن اللاديني يرى نفسه ككيان مادي، وبالتالي فحياته أو مشاعره أو أفكاره هي بلا قيمة..

تلك المغالطة تقوم على فرضية مسبقة، يروج لها الفكر الديني، ومفادها أن "الروح" أكثر قيمة وأعمق معنى من "المادة".. وبالتالي فالكائن الروحاني فقط هو الذي لحياته قيمة ومعنى وعمق وكرامة، أما المادية فتنزع من الإنسان قيمته..

ونسأل أصحاب ذلك الفكر: من أين جئتم بذلك الزعم؟ وما دليله؟

ويا ترى هل لديكم وسيلة موثوقة لإثبات أن الروح أغلى من الهيدروجين، أو أن الكائن الروحاني أرفع قدرا أو أعلى قيمة أو أجدر بالحياة من الكائن المادي؟ كيف تثبتون أن الروح لها قيمة؟ وهل بإمكانكم شرح كيف تعطي الروح قيمة للأشياء؟

ولنعكس السؤال: هل بإمكانكم إثبات أن المادة لا يمكن أن يكون لها قيمة؟

بل هل يمكنكم تعريف القيمة؟ هل لديكم معيارا محددا تقيسون به قيمة الأشياء؟..

بل لنبسط الأسئلة أكثر: هل لديكم إثبات على وجود ذلك الشيء المسمى الروح؟ هل لديكم تعريف واضح لها أصلا، باستثناء ما لقنتكم إياه الأديان من أنها عفريت خفي يسكن الأحياء؟

لنعيد فهم المسألة من وجهة نظر أخرى : أجدادنا كانوا يلاحظون نوعين من الكائنات: الأحياء والجمادات.. ومع الملاحظة تصوروا أمرين: أولا أن الكائن الحي أكثر أهمية من الجماد.. وثانيا أن الكائنات الحية تتميز بوجود ذلك الكيان الغامض الذي أسموه روحا (نسبة للهواء "الرياح" الذي "تتنفسه" حصرا الكائنات الحية، فصار لها "روح" و"نفس")..

والآن لنسأل: هل يبدو لك أن العلاقة بين التصورين سببية، أي أن التصور الأول (القيمة) مستمد من التصور الثاني (الروح) ويعتمد عليه؟ بمعنى آخر: هل القدماء أعطوا البشر قيمة أساسا لأنهم ظنوا بوجود الروح داخلهم؟

حتما لا، فالبديهي أن الناس تشعر بأن لها قيمة، ليس بسبب نوع المادة التي تشكل أجسادهم، وإنما بسبب شعورهم بالوعي بذواتهم، وبكونهم يتألمون ويتفاعلون.. ثم من الطبيعي أن الكائنات تميل للتعاطف مع رفاق النوع، فنحن نشعر بقيمة البشر أساسا لأننا من البشر، فشعورنا بقيمتنا مستمد من حبنا لأنفسنا قبل كل شيء، وشعورنا بقيمة الآخرين مستمد من كونهم أقرباء لنا أو يشبهوننا، أو يشتركون معنا في الطبائع والمصالح..

بعد ذلك لا يهم إن كنا مصنوعين من كاربون وهيدروجين وأكسجين، أو كنا مصنوعين من كيان غير مرئي عفريتي اسمه الروح، النتيجة واحدة..

أما لو كنت تعتقد أن الكائن المادي أقل قيمة، لأنه يشترك مع الجمادات في نفس العناصر المادية، فعليك أن تتذكر المادة التي تقول الأديان أن الله خلق البشر منها، وهي من أحط أنواع المادة حيث نطأها بأقدامنا.. فحسب هذا المنطق لا يصبح لذلك الكائن الطيني أي قيمة تذكر..

فإن قلت بأن الروح أرقى من المادة لأنها خالدة، وبالتالي فإن وجود الروح بداخل جسده الطيني هو الذي يعطيه قيمة، فيمكن الرد بأن ذلك يعطي قيمة للروح فقط، وليس للطين.. ولو لاحظنا أن خلود الروح يعني أنها غير قابلة للموت أصلا، مما لا يجعل القتل جريمة، بل يمكن فهمه على أنه "تحرير للروح من سجنها"، فسنجد أن القتل لا مشكلة كبيرة فيه دينيا.. وهذا التصور بالمناسبة يتماشى تماما مع سياق الأديان، والتي تعلي من شأن الروح فقط، وتحتقر المادة والجسد، وتنظر للدنيا باعتبارها دار فناء لا تساوي جناح بعوضة، وأما الحياة الحقيقية فهي الحياة الروحانية القادمة في العالم الآخر إن شاء الله.. ولذلك فإن الأديان تمجد الموت بالنسبة للمؤمن، خاصة لو كان في سبيل العقيدة (تسميه شهادة)، كما أنها تستهتر تماما بحياة الكافر، إن لم تحرض على قتله، رغم أن الكافر أيضا بداخله روح، إلا أن ذلك لا يشفع له عندها..

أما من وجهة نظر عقلانية، فلا يوجد أي أساس منطقي للقول بأن المادة العفريتية الخفية أعظم قيمة من المادة الطبيعية الفيزيائية، والأهم أن القيمة لا تستمد أصلا من المادة المكونة، وإنما من طبيعة الكائن ذاته..

صحيح أننا فيزيائيا مادة، ولكننا أيضا كائنات حية.. وصحيح أننا بيولوجيا حيوانات، ولكننا أيضا بشر.. ولا تعارض بين تلك الأشياء جميعا، إلا في الأذهان التي تعتمد التقسيمات التقليدية العتيقة، التي تفصل الجماد عن الحيوان عن الإنسان، على أسس دينية لا علمية..

إنما علميا كل شيء مترابط، وهي مستويات متداخلة من الوجود في هذا الكون..

ولمن يتساءل مستنكرا: منذ متى كان للمادة قيمة؟ فالجواب: منذ صارت تعي وتحس وتتألم وتتفاعل وتفكر وتحب وتبدع..

فتلك الخصائص هي التي تجعلنا نقرر أننا مميزين وأن لنا قيمة، بغض النظر عن مصدر تلك الخصائص، سواء روحاني كما كان يؤمن أجدادنا الذين لم يكونوا يعرفون أن الأرض تدور، أو طبيعي فيزيائي كما توحي كل المؤشرات العلمية الحديثة، فكلا الحالين لا يؤثر في قيمة الإنسان..

الدين وعداوة الأهل



(
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) التغابن 14

من القصص التي تدل على مدى رحمة الإسلام:
(من تفسير الطبري للآية، أسباب النزول)

نـزلت (الآية) في عوف بن مالك الأشجعيّ، كان ذا أهل وولد،
فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورقَّقوه، فقالوا: إلى من تَدعنا ؟
فيرقّ ويقيم،
فنـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ )

عن ابن عباس: كان الرجل إذا أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة تمنعه زوجته وولده، ولم يألُوا يثبطوه عن ذلك، فقال الله: إنهم عدوّ لكم فاحذروهم واسمعوا وأطيعوا، وامضُوا لشأنكم

الشرح : كان الرجل يقرر الذهاب لقطع الطريق مع عصابة محمد،
فتأتيه زوجته وأولاده يبكون ويقولون له : ابق منا، لمن تتركنا؟

فيرق قلبه ويقعد مع أهله..

فنزل القرآن يؤكد أن زوجتك وأولادك أعداء لك فاحذر منهم..

رجل الدين



كلما رأيت رجل دين يتم توقيره، تذكرت هذه الفقرة للكاتب الراحل أحمد خالد توفيق:

"تذكر أن ساحر القبيلة لم يكن يجيد الصيد ولا القنص ولا الزراعة ولا القتال ولا يستطيع عمل وعاء من الخزف ولا يستطيع الامساك بثور أو العناية بالماشية .. هكذا يقرر أن يصير سيد الصيادين والمحاربين والمربين والخزافين .. إنه علي اتصال بالآلهه ويعرف كل الأسرار"..

هي مهزلة أن يتم عمل احترام لفئة من البشر لا يحملون علما مفيدا ولا يقدمون أي خدمة للمجتمع، إلا بالطبع لو اعتبرنا أن أحكام الحيض والرضاعة وطقوس دخول الحمام هي علوم عظيمة تحتاج إلى خبرات فنية عميقة، أو اعتبرنا أن تغييب العقول وتشجيع الطائفية ونفاق الحكام هي خدمات عظيمة تحتاج إلى مواهب عقلية نادرة..

مهزلة وإهانة لكل العلماء الحقيقيين، ولكل من يقدم خدمة حقيقية للمجتمع..

فبينما نجد أن كل فئة في المجتمع تقوم بدور ملموس حيوي، بداية من الطبيب الذي يعالج الناس وحتى عامل القمامة الذي ينظف شوارعهم، نجد أن الكاهن، رجل الدين، هو الخبير الأوحد في كل ما لا يمكن رؤيته أو التأكد منه، فهو يعلم ما طبيعة الله، وماذا يحب وماذا يكره، وكذلك طبيعة الملائكة والجن والشياطين، ويعلم أين تذهب الروح بعد الموت، ويعلم ماذا قال الله للشيطان بعد أن رفض السجود، وماذا قال لآدم بعد أن أكل من الشجرة، كما يعلم أنواع الجن وقبائلهم وأين يسكنون..

علم لا ينفع والأهم أنه غير قابل للنفي، أو التأكيد بطبيعة الحال، مما يجعلها مهنة مريحة، فضلا عن كونها مربحة مجلبة للسلطة والمال وأحيانا النساء..

وبينما نعلم أنه لو اختفى الأطباء أو المهندسون أو عاملو القمامة، فإن المجتمع سيتأثر سلبا فورا، نجد أنه لو اختفى جميع رجال الدين غدا، فلن يتأثر المجتمع سوى أنه سيصبح أقل تعصبا وطائفية وجهلا..

ورجل الدين كائن يعيش وينمو في الظلام، ويزدهر وينمو في أجواء الخرافة، ويذبل أمام العلوم، فبعد أن كان يعيش مجده العظيم وهو يفتي في نشأة الكون وأصل الحياة وطبيعة الأرض والجبال والأنهار، بدأ العلم تدريجيا يحل محله في شتى المجالات الطبيعية، مما جعل صلاحيات الكهنة تتراجع وتنحصر في مجالات أضيق، خاصة تلك المجالات التي لم يغطيها العلم بالكامل بعد..

والآن بعد أن لم يعد رجل الدين يفتي كثيرا في طبيعة الكون والمادة، وهي المجالات التي ورثتها منه - أو بالأحرى انتزعتها منه- الفيزياء والكيمياء، صار صاحبنا يفتي في مجالات أكثر مرونة ومطاطية، وهي الثرثرة عن الأخلاق والقيم والفضيلة.. وبعد أن كان يفتي في أسباب الأمراض العضوية وينسبها للشياطين والعفاريت، صار يتجنب ذلك- إلى حد ما، حتى لا يصطدم بالطب المادي - ويركز على مجال يبدو أنه أكثر غموضا وأقل حسما : الأمراض النفسية..

وهو كائن لزج حشري، يزحف بسعادة داخل ظلام الجهل والإنغلاق والدكتاتورية والتخلف، يتقوى من خصوصيات البشر وما يفعلونه في غرف نومهم، ويتغذى على الخوف والألم والطائفية ونظريات المؤامرة.. فكلما كان المجتمع أضعف، كلما نجح في إيهامهم بأن ذلك الضعف منبعه أنهم لا يلتزمون أوامره بالقدر الكافي، والمصيبة أنهم كلما التزموا أوامره كلما ازدادوا ضعفا وتراجعا، فاستغل هو ذلك ليقول بأن الأمور لم تتحسن لأنكم لا تلتزمون بها بالقدر الكافي، وهكذا لا تنتهي تلك الدورة الجهنمية..

على الجانب الآخر كلما نزع المجتمع إلى أن يصبح أكثر علما وأكثر ديمقراطية وأكثر تعايشا وأكثر تقدما، كلما تراجع دور الكهنة وحل محلهم علماء حقيقيون محايدون مختصون، يمارسون دورهم في خدمة المجتمع من دون كهنوت ودون وصاية ودون تدخل في حياة الآخرين، وذلك هو لب الفارق بين التخلف والتقدم..

خواطر عن الحشود



لعله شعور شخصي، ولعله غير مبرر بالكامل، ولكن هناك شيء ينفرني للغاية في مشهد الحشود البشرية في الشوارع والأماكن المفتوحة..

ذلك التجمع من الرؤوس الصغيرة السوداء المتلاصقين بالآلاف مثل موجات التسونامي، تراهم في صور أو على الشاشات أو حتى من نافذتك إن كنت قرب الحدث.. والأحداث متنوعة: لعله تجمعا سياسيا أو مناسبة رياضية أو مظاهرة أو ثورة عارمة أو احتفالا غنائيا أو طقس حج أو عمرة..


في كل الحالات لا يختلف الأمر، في كل الحالات لا أراه أبدا منظرا مريحا أو يبشر بالخير..

لماذا يجتمع البشر بهذا الشكل؟


غالبا يكون السبب عاطفي بحت.. غالبا لن تجد الآلاف من البشر يتجمعون في الشوارع بشكل هادئ لمناقشة فكرية أو تأمل وجودي مثلا..


غالبا السبب انفعالي، غريزي أولي، ينطلق بقوة عنيفة في هذا الإتجاه أو الآخر : غضب، احتقان، فرحة، نشوة، انبهار، خشوع..

ذلك الإنفعال يتميز بأنه جماعي، والإنفعال الجماعي يختلف تماما عن الإنفعال الفردي، إذ أنك لم تختره بنفسك حقا، أو على الأقل لم تحدد طريقته وكميته بشكل هادئ متعقل؛ لا بل فرض عليك دون حتى وإن لم تدرك أنه مفروض عليك، بتلك السلطة المخيفة المتمثلة في التأثير الجماعي للآخرين.. أنت غاضب لأن من حولك غاضبون، أو تصرخ لأنهم يصرخون، أو مبتهج لأنهم مبتهجون، أو منبهر لأنهم منبهرون، أو خاشع لأنهم خاشعون، أو تسجد لأنهم ساجدون، أو ترقص لأنهم يرقصون..

دائما هناك حركة، فورة تضطرب، هناك شيء على وشك الحدوث، شيء لا يمكن توقعه ولا يمكن التحكم به.. في تلك المناسبات يحدث التدافع والتكسير والتحرش والدهس..

وفي الحشود دائما هناك مقدسات يتم الإحتفاء بها وتمجيدها بكل حرارة : الزعيم أو الفريق الكروي أو المطرب أو الرمز الديني أو الثورة.. رايات وأبواق وهتافات تصرخ بالحياة والموت والنصر والدم..

الحشود وحش هائل الحجم، تحركه غرائزه، يتحرك يمينا ويسارا، غالبا بلا رأس، بلا عقل..

وبداخل ذلك الوحش تفقد فرديتك تماما؛ أنت بكل سماتك ومميزاتك وعيوبك وذكرياتك وأحلامك، لم تعد مميزا ولم تعد حرا حتى؛ أنت جندي في جيش، ترس في آلة، حبة رمل بالصحراء، قطرة ماء في محيط هائل لا تملك سوى التحرك مع التيار الجارف: تقفز أو تصرخ أو ترقص أو تلعب أو تصلي أو تضحك.. أنت لم تعد أنت..

ولا شك أن فقدان الذات هذا ممتع بالنسبة للبعض، ولعله يشبه نشوة السكران أو المصلي أو الراقص، ذلك الشعور بالإتحاد مع شيء أكبر، شيء لا تفهمه تماما ولا تدري إلى أين يقودك، ولكنك تائه وسطه، وهو ضياع يبدو كأنه إيجاد، ولا يخلو من لذة، لمن يجدون المتعة في المشاعر والغرائز..

لكن بالنسبة للصنف الآخر من البشر، الذي يتمسك بفرديته ويشك في البشرية ويخاف من الإنجراف ويجد الأمان في العقل والعقل وحده، فإن فقدان الذات هذا هو أمر مرعب، كئيب، مهما تنكر في شكل انتماء وطني أو ولاء كروي أو نشوة رقص أو خشوع صلاة..

لعله شعور شخصي وغير مبرر، ولكني مازلت أكره الرايات والأبواق والهتافات، أكره الحفلات ومباريات الكرة والصلوات والثورات.. وحقا لا أتذكر أنني شعرت بغربة ووحشة أكبر من تلك التي شعرت بها مرات وسط الحشود الكبيرة من البشر..

التزوير بالإقتطاع من السياق





منذ قليل شاهدت هذه الصورة منشورة بفخر من بعض المسلمين:
كاتب فرنسي مسيحي من القرن 17 مدح محمدا، مرحى وهللويا وتكبير بنفس الوقت..

لا تقربوا الصلاة..
التزوير بالإقتطاع من السياق فن..

الكتاب متاح على الإنترنت، وقد ألقيت نظرة سريعة على سياق الصفحة المذكورة.. ببساطة الرجل يتحدث عن "مدّعي النبوة محمد" (قبلها بصفحتين: 177) فيقول أننا كمسيحيين لا يجب أن نبالغ في إنكار جميع مميزات محمد كقائد ناجح، لأن هذا مخالف للمنطق ولا يخدم المسيحية، إذ أن تصوير الرجل وكأنه عاطل عن جميع المزايا قد يعني أن نجاحه كان بفضل التوفيق الإلهي، فإن كنا نريد القول أنه دجال فعلينا أن نعترف بقدراته حتى تكون هي التفسير العقلاني لنجاحه..

أترجم وأقتبس (وأرحب بأي تدقيقات للترجمة) من ص 178 و179:
علينا (أن نعترف، بخصوص محمد، أن من يستطيع نسج وتنفيذ تلك الخطط بنجاح، على المستوى السياسي والديني، لا يمكن أن يكون شخصا محتقرا لعيوبه الطبيعية.. على العكس، فإن المنطق يقودنا إلى أنه لو كان دجالا، فلابد أنه كان يمتلك مؤهلات متفوقة يقدر على فرضها على معاصريه، ليتمكن من السيطرة على مشاعرهم، ولابد أن تزويره كان له مظهر الحق، على الأقل في نظر الذين تمكن من إغوائهم.. بينما إذا قمنا بحرمانه من تلك المؤهلات التي قادت إلى نجاحه، فقط بدافع الكراهية، والتي يحق فعلا للمسيحي أن يحملها تجاه أكبر عدو لدينه.. فيجب التنبه إلى أن هذا الإنتقام يجعل منطقنا كله عبثيا.. (((إذا كان حظ هذا الشخص ليس نابعا من وسائل طبيعية فإن هذا النجاح سيكون من الله وحده))) والذي سيتهمه غير الأتقياء في تلك الحالة بأنه قاد نصف العالم إلى الضلال، ودمر بعنف وحيه الخاص).. انتهى

وضح المعنى؟

بالطبع هذا لا يهم، فما أكثر الذين مدحوا محمدا، والذين ذموه أكثر.. ولكن اللافت هنا هو حرص البعض على التزوير، وحرص آخرين على النقل بجهل، والأكثر غرابة هو درجة البؤس التي وصل لها البعض بالتهليل لكل غربي يسرد كلمة مدح لنبيهم، سواء كانت حقيقية أم مقتطعة ومحرفة من سياق يدين نبيهم ويصفه بالدجال ومدعي النبوة..

المعاملة بالمثل



إذن، أن تقول عن محمد أنه بيدوفيلي، فهذا يعرضك للعقاب في بعض البلاد المتقدمة..


هذا يعني أحد الإحتمالات التالية:


1- محمد لم يمارس الجنس مع طفلة، والمصادر الإسلامية المعتمدة كاذبة..


2- محمد مارس الجنس مع طفلة، ولكن هذا الفعل لا يعد بيدوفيلية..


3- محمد مارس الجنس مع طفلة، وهذا يعد بيدوفيلية، ولكن لا يحق للكفار ذكر تلك الحقيقة..


فأي تلك الإحتمالات هو الصحيح؟

غزوة بدر والرؤيا الكاذبة





المكان: يثرب
الزمان: بعد الهجرة
الظروف المالية والإقتصادية للمهاجرين ليست جيدة أبدا..

ويبدو أن ترتيب الأحداث جرى على شبه هذا النحو:

1- سمع المسلمون عن قافلة لقريش عائدة من الشام بقيادة أبي سفيان، غنية بالمال قليلة الحراسة.. بدأ محمد في إغراء الصحابة بالتسلح والخروج لاعتراض طريق تلك القافلة ونهبها.. فانطلقت العصابة من يثرب طامعة في تلك الغنيمة السهلة..

2- بلغ قريش الأمر، ولكن القافلة كانت قد انطلقت بالفعل، فكان الحل في إرسال نذير إلى أبي سفيان يحذره من هجوم محمد، وبنفس الوقت تم إطلاق جيش كبير (ألف رجل) ذاهبا إلى يثرب لينقذ الموقف وضرب تلك العصابة المزعجة..

3- وصل ذلك لمسامع جيش المسلمين، فالآن صار لدينا وضعا يشبه مطاردات السيارات المعقدة في أفلام هوليوود: حيث هناك مجموعتين متحركتين لقريش: قافلة أبو سفيان الغنية قليلة الحراسة (تسمى العير)، والجيش الكبير المسلح (النفير).. وكانت عصابة محمد مزعزعة بين الطمع في لقاء الأولى، والخوف من الثانية..

4- في تلك الأثناء كان أبو سفيان الماكر قد قرر تغيير مسار قافلته بعيدا عن مكان جيش محمد، وانطلق في مسار آخر.. وبنفس الوقت كان جيش قريش يقترب من موقع المسلمين.. فكانت المواجهة حتمية رغم خشية العصابة المحمدية، مع النفير المسلح..

5- حدثت المواجهة وانتهت بمفاجأة : انتصار المسلمين على الجيش الأكبر..

6- بعد المعركة عادت العصابة مع نشوة النصر مع بعض جدالات حول الغنائم وغيره..
--------------------

وهنا نزلت آيات من سورة الأنفال، تحكي القصة :
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ - يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ - وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ..

من هنا يتضح أن العصابة كانت متخوفة من قتال قريش، كما كانوا طامعين في الغنيمة.. كما يذكر أن محمدا وعد المؤمنين بأنهم سيلتقون بواحدة من الطائفتين: العير أو النفير..

ولكن الواضح أن هذا الوعد قد صدر بعد الخروج إلى القتال.. وهو ما تؤكده السيرة:
فحين نرجع إلى الروايات نجد أن المسلمين حين خرجوا أول مرة، لم يكن هناك أي نية للقتال، وهذا طبيعي لأن جيش قريش لم يكن قد خرج بعد..

فنقرأ من تفسير الطبري "عن عبد الله بن عباس, قالوا: لما سمع رَسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام, ندب إليهم المسلمين, وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم, فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفِّلكموها! فانتدب الناس, فخفّ بعضهم وثقُل بعضهم, وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا..

كما نقرأ من صحيح البخاري- كتاب المغازي- باب قصة غزوة بدر : "إنما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد عير قريش " أي ولم يرد القتال"..

والمعنى باختصار أن محمد وعد عصابته أولا بأنهم سيحصلون على القافلة الغنية قليلة الحراسة، فلما تغيرت الأوضاع وخرج الجيش الآخر واضطرهم للمواجهة غير كلامه وبرر كذبته قائلا لقد وعدكم الله بإحدى الطائفتين..

ونأتي إلى الآية الفضيحة:
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ..

في مرحلة ما، غالبا بعد الخروج للحرب، وقبل اتضاح المواجهة ، أخبر محمد رجاله بأن الله ألهمه في المنام رؤيا تفيد بأنهم سيواجهون عددا صغيرا، وكان ذلك كفيلا بتشجيعهم على القتال.. ولكن انقلاب الأحداث سبب إحراجا لمحمد، فكان التبرير لهذا هو: لقد أراه الله أن يري نبيهم العدد قليلا حتى تتشجعوا على القتال!

والمعنى أن الله يمكن أن يكذب على نبيه، حتى يخدع المؤمنين- الجبناء الطماعين- ويدفعهم إلى القتال..

نقرأ ذلك من تفسير الطبري "يقول تعالى ذكره: وإن الله، يا محمد، سميع لما يقول أصحابك, عليم بما يضمرونه, إذ يريك الله عدوك وعدوهم " في منامك قليلا "، يقول: يريكهم في نومك قليلا فتخبرهم بذلك, حتى قويت قلوبهم، واجترأوا على حرب عدوهم، ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرًا، لفشل أصحابك, فجبنوا وخاموا, ولم يقدروا على حرب القوم, ولتنازعوا في ذلك، ولكن الله سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا"..

ومن موقع د.عدنان إبراهيم نقرأ تفريغا لأحد دروسه الدينية (تحت بند "التفسير"، الحلقة 8) يقول بالنص أن الله "خدع المسلمين" ولكنها "خديعة حق"!

جاء رمضان



جاء رمضان،
والآن نداء من مسلم إلى كل الجيران الكفار حولنا : عليكم بالإمتناع عن الاكل أمامنا، لأن رؤية أحدهم يأكل او يشرب تكسر إرادتنا وتجعلنا غير قادرين على تحمل الجوع والعطش..

وعلى الجميع أن لا يرهقنا أو يثير غيظنا لأي سبب، لأن أقل استفزاز يكسر إرادتنا ويجعلنا راغبين في قتل أحدهم..

وكذلك على كل فتاة غير محجبة أن تلتزم بالزي الشرعي وياحبذا لو تغطي شعرها، لأن رؤية خصلة شعر واحدة تكسر إرادتنا وتجعلنا راغبين بنكح الأخضر واليابس..

تسألنا: وما الحكمة من فريضة الصيام التي تمارسونها من ألف واربعمائة سنة؟
الحكمة هي تقوية إرادة المسلمين طبعا كما ترى!

الدين المسكين



كلما قرأت دفاعات المسلمين عن أفعال محمد وأصحابه، كلما شعرت بالشفقة على هذا الدين المسكين المظلوم على طول الخط..

حسب تلك الدفاعات فالإسلام دين مسير لا مخير، إذ مر بسلسلة تفاعلات مؤسفة من الأحداث، هي التي دفعته إلى طريق الجريمة..

مبدئيا محمد لم يرد أن يقاتل ويرفع السلاح، ولكن أهل مكة الأشرار عاملوه بشكل سيء حتى اضطروه لأن يهاجر بحثا عن الحماية ويتواصل مع الصعاليك والجرابيع لكي يكون عصابة من قطاع الطرق..

وبالطبع هو لم يرد أن يمتهن السرقة وغصب المال، ولكن لابد أن نجد طعاما يكفي أفراد العصابة رضي الله عنهم، فكان الحل في الخروج لقطع طريق القوافل ونهب أموالهم..

وحتما لم يرد النبي أن يغتصب النساء ويشرع دينا يسمح بذلك، ولكنه اضطر لذلك، أولا لحل المشكلة الجنسية لدى عصابته، وثانيا لأنه حين حارب وانتصر وغنم اكتشف أن لديه عددا من النساء المأسورات، لم يدر المسكين ماذا يفعل بهن، هل يقتلهن مثلا؟ فلم يجد المسكين حلا لتلك المعضلة سوى أن يسمح لصحابته ببيع النساء في الأسواق أو اغتصابهن بشرع الله.

ولعل الإسلام - إن أحسنّا الظن- أراد أن يمنع العبودية بالمطلق، ولكنه عجز عن ذلك لأنها كانت سمة العصر آنذاك، فلم يكن أمامه سوى مباركة ذلك الأمر مع وضع خطة عبقرية للتخلص من العبودية؛ وقد نجحت تلك الخطة الإلهية العظيمة - ولله الحمد- فور أن مرت أوروبا بعصر التنوير ووصلت إلى الحداثة وقررت إجبار الدول الإسلامية على التخلي عن الرق.

ثم إن دين السلام هذا لم يرد أن يحارب الناس أو يغزو الأراضي، ولكنه عجز عن نشر دينه بالحسنى لأن حكومات البلاد المجاورة منعت ذلك (كما يقال) فلم يكن أمام دين السلام سوى أن يشن حربا دينية (جهاد) ضد جميع الكفار، حتى يسمحوا بنشر الدين - عفوا، أقصد حتى يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.. تلك الظروف المؤسفة جعلت المسلمين مضطرين لغزو الأراضي شرقا وغربا وشمالا وسلب الأموال والنساء، وهو بالطبع ما لم يكونوا يتمنون حدوثه من الأساس.

من هنا - وسيرا على نهج دفاعات المدافعين والردود على الشبهات- يتضح لنا أن الإسلام -ذلك الدين الإصلاحي العظيم- ليس له يد في تشريعه،فكل آية قتال وكل حديث دموي جاءت من قبيل ضغط الظروف القاهرة.. ولو كان الأمر بيد الله لجاء الدين بشكل مخالف تماما لما جاء به.. ولا حول ولا قوة حتى بالله.

من حقي أن أستشهد بالأحاديث الضعيفة


في النقاشات الدينية نرى سيناريو يتكرر: طرف (غير مسلم) ينتقد موقف لمحمد، أو يطرح وجهة نظر تاريخية بشأن الإسلام، فيكون الرد (من طرف مسلم) بأن الحديث الذي ذكرته في طرحك هو حديث ضعيف وبالتالي حجتك ساقطة..
ولهذا كثيرا ما نرى النقاش يتحول من صلب الموضوع أو الواقعة نفسها، ليصبح مقتصرا على أسماء وتقييمات تبدو عجيبة للمشاهد: منها أن فلان التابعي أدرك فلان الصحابي أو لم يدركه، وأن علان ثقة في مرويات الغزوات لكنه متروك الحديث، وأن العالم ترتان لم يصحح تلك الرواية..إلخ..
وفي العادة نجد أن الغالبية من منتقدي الإسلام، سواء من المسيحيين أو اللادينيين، يسلمون ضمنيا بتلك القاعدة، فيحرصون على اختيارالأحاديث الصحيحة فقط، ويتجاهلون ما سواها..
فهل هذا سلوك منطقي وسليم؟
-------------------------------

1- لنبدأ بالجانب المؤيد: من أبجديات قواعد النقاش أن الإنسان يتم إلزامه بما ألزم هو به نفسه؛ فحين أناقش مسلما يفترض أن ألزمه بالقرآن، ولن أستشهد له بنصوص الأناجيل مثلا، والتي يراها محرفة..
وهكذا حين يقوم أحدهم بنقاش مع مسلم سني تقليدي، أو نقد لمنهجه، فالطبيعي أن يستند إلى الأحاديث المقبولة في عرف ذلك المسلم..
أي أن التزام اللاديني بالأحاديث الصحيحة فقط له شرطان: أن يكون الخطاب موجها للمسلم السني التقليدي أو السلفي، وأن تكون هناك رغبة في إلزام ذلك المسلم بالنقد المطروح..
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون.. فيخطئ من يظن أن علم الحديث هو علم حقيقي يجب أن يلتزم به الجميع، فحين لا أكون مستهدفا إلزام المسلم السني التقليدي، فمن حقي أن أستند إلى روايات لا يعدها المسلم التقليدي صحيحة، كما أن من حقي أن أرفض أحاديثه الصحيحة..
-------------------------------
2- من أولئك الذين يلزمهم ما يسمى "علم الحديث"؟
الجواب بسيط: يلزم من يؤمنون به، ولا يلزم من يشككون فيه..
فالملحد أو اللاديني غير ملزم بعلم الحديث، والمسيحي واليهودي غير ملزمين به..
بل إن كثير من المسلمين غير ملزمين به: مثلا المسلم الشيعي ليس مطالبا باحترام البخاري والألباني..
وبالطبع المسلم القرآني غير ملزم بالأحاديث وصحتها، فهو يشكك في السنة كلها..
بل إن كثير من المسلمين السنة التقليديين يشككون في بعض السنة والأحاديث، كما نجد عند بعض المفكرين المعاصرين، وحتى عند القدماء، فالبعض شكك في عدة أحاديث من كتب الصحاح، ورفضها لأسباب تتعلق إما بالمتن أو بالسند، بل إن علماء المسلمين كالبخاري ومسلم والدارقطني وابن حجر قام بعضهم بانتقاد بعض، وبعضهم رفض أحاديث اعتبرها الآخر حديثة..
-------------------------------
3- هل هو علم أصلا؟
ما يسمى "علم الرجال" أو "الجرح والتعديل" هو منهج اعتباطي يقوم على حكم البشر على البشر، والأرجح أنه مقتبس عن التراث اليهودي، حيث يعتبر اليهود أن التلمود بمثابة "توراة شفهية"، ولديهم ما يشبه سلاسل الإسناد التي تنسب الأحكام إلى موسى بزعمهم..
وقد نعتبر علم الحديث اجتهادا محمودا لتنظيم غثاء الأحاديث التي كانت متداولة في العصور الأولى، ولكن هذا لا يعني أبدا أنه علم حقيقي ملزم للبشرية كلها بسبب منهجه المنضبط الذي لا راد لقضائه.. ولو كان منهجا علميا لما كان خاصا بطائفة المسلمين السنة فقط، ولاعترف به الجميع شرقا وغربا كما يعترفون جميعا بالعلوم الحقيقية..
وقد شكك كثير حتى من المسلمين، ليس فقط في بعض الأحاديث، وإنما في المنهج بالكامل، مؤكدين أنه منهج ناقص ومنحاز ومليء بالنواقص، والتي لا يتسع المجال للكلام فيها، ولكن على سبيل المثال فهو منهج منحاز مذهبيا، حيث يقبل الروايات بناءا على عقائد أصحابها ومدى موافقتها لأهل السنة التقليديين..
كما أن أصحاب ذلك المنهج يفترضون أن جميع الصحابة صادقين (عدول) وهو افتراض غير علمي بالمرة، بل هناك نصوص قرآن وأحاديث تؤكد أن من الصحابة من كان يتسم بالنفاق والضعف وغيره من النواقص التي قد تصل إلى الردة عن الدين..
وأيضا نجد أن أهل الحديث يقبل روايات زوجات الرسول، وأهمهم عائشة التي تملأ أحاديثها البخاري، بينما ينص دينهم أن شهادة المرأة في أمور أهون مثل الدين لا تقبل وحدها، إلا مع رجل وامرأة آخرين، كما أن شهادة المرأة عند الجمهور مرفوضة في الزواج والطلاق والنسب والحدود..إلخ..
وفي متون المنهج نجد تناقضات ونتوءات أخرى، منها مثلا أن راوي القراءة القرآنية الأشهر بالعالم الإسلامي (حفص) نجد أنه مرفوض حسب علم الحديث، ويوصف بأنه كذاب وغير ثقة.. كذلك كاتب السيرة الأول والأهم ابن إسحاق، مرفوض الحديث، ويتم محاولة تبرير ذلك بحجج مضحكة، مثل أن فلان قد يكون ثقة في القرآن، أو في المغازي، ولكن مرفوض في الحديث!
فالخلاصة أن التسميات لا تصنع حقائق، والحديث الذي يسمونه صحيحا لا يعني أبدا أن الواقعة حدثت أو أن محمدا قاله، كما أن الحديث الذي يسمونه ضعيف لا يعني أبدا أنه لم يحدث أو أن محمدا لم يقله..
والنتيجة أن أي بحث موضوعي أو تاريخي يقوم به الدارسون (من الباحثين الأكاديميين المستشرقين أو العرب)، لا تجده يعبأ أبدا بمسألة السند.. وهذه نقطة غاية الأهمية، فعلم الحديث ربما يلزم أهل الفقه والمشايخ، ولكنه لا يلزم المؤرخ والباحث..
-------------------------------
4- ما هو المعيار البديل إذن؟
ما سبق لا يعني أن نصدق جميع الروايات أو نكذبها جميعا، كما لا يعني أن يصبح الإختيار اعتباطيا بحيث أن كل شخص ينتقي ما يعجبه.. بل إن الدارسين الذين يقيمون التاريخ لديهم عدة معايير لتقييم الحدث إن كان صحيحا أم خاطئا، ليس لها علاقة بالعنعنة أو بأن ناقل الرواية كان يصلي ركعتين استخارة قبل كتابتها..إلخ.
فمما يرجح صحة الرواية التاريخية أن تكون متلائمة مع علم الآثار (مثل المكتشفات المادية، كالمباني والمنقوشات والعملات..إلخ)، وأن تكون متسقة مع السياق العام التاريخي المعروف، وأن تكون جاءت عن أكثر من طريق منفصلين، إلى جوار معايير أخرى؛ وبالطبع قد تختف التقييمات طبقا لمدارس التاريخ المختلفة، فمثلا هناك من يتساهل مع الروايات الشائعة فيميل إلى تصديقها، وهناك على الجانب الآخر من يشكك في كل الموروث ولا يقبل إلا ما تصدقه المكتشفات الآثارية الملموسة..

وبالتالي فمن حقي -كشخص يبحث- أن أنكر حديثا تسمونه أنتم صحيحا، وأن أصدق رواية أخرى تقولون عنها ضعيفة، ليس لأنني أتبع الهوى وأجعل مزاجي حكما، وإنما ربما أصدق الرواية "الضعيفة" لأنها تتماشى مع السياق التاريخي العام، أو تؤيدها شواهد من مصادر أخرى خارجية، أو من علم الآثار.. وقد أرفض الرواية "الصحيحة" لأنها لا تتماشى مع المنطق أو العقل أو السياق التاريخي..
-------------------------------
الخلاصة أن الباحث من حقه أن ينقب في الروايات التاريخية المتاحة، ويقبل ويرفض منها ما يشاء، حسب المناهج التاريخية التي يميل لها، دون اعتبار لتقييم أهل الحديث القدامى للمسألة، حيث أن تقييمهم يخصهم هم، ويلزم فقط من اختار أن يلتزم بقولهم..

--------------------------------------
--------------------------------------
حين يقرأ المسلم- السني تحديدا- مقالا أو بحثا، ثم يحتج عليه بأن الكاتب قد استخدم أحاديث ضعيفة، ويظن أن تلك الملاحظة كفيلة بهدم البحث، فهذا يعني أن صاحبنا لا يفرق بين المناظرات الدينية وبين الطروحات الفكرية والتاريخية..

في المناظرات الدينية البحتة فالمعتاد نعم هو الإستناد إلى المراجع التي يؤمن بها الطرف الآخر، فحين أناظر يهوديا فالواجب أن أنتقد فكره من خلال كتابه المقدس، وكذلك الحال مع المسيحي أو المسلم السني أو الشيعي أو القرآني..إلخ .. وفي تلك الحالة -فقط - فربما من حق المسلم السني أن يعترض على خصمه لو استند إلى أحاديث ضعيفة، ويطالبه بأن يقصر نقده على الأحاديث الصحيحة حسب منهج التيار الرسمي السني..

وأما في الأطروحات العلمانية التي تتناول الدين من جوانب فكرية أو تاريخية، فالكاتب يستند بالأساس إلى المصادر التي يراها هو جديرة بالسرد أو تفيد فكرته، بغض النظر عن توافقها مع هذه العقيدة أو تلك..

فمثلا لو أنني دخلت في مناظرة دينية مع مسيحي، فالواجب أن يقتصر كلامي فقط على النصوص التي يؤمن بها (العهد الجديد)..

وأما لو أنني أقدم طرحا عن نشأة الديانة المسيحية أو يسوع التاريخي أو موقف المسيحيين الأوائل من قضية ما، ففي تلك الحالة من حقي- بل واجبي- أن أستخدم الأناجيل الرسمية والأناجيل غير الرسمية، بالإضافة إلى المتاح من كتابات المؤرخين وغير المسيحيين..

هل هذا يعني أن جميع المصادر تتساوى؟ بالطبع لا، ولكن معيار المفاضلة في تلك الحالة لن يكون أبدا إيمان المؤمن بذلك النص، ولن يكون مسألة ما يسمى علم الرجال أو الجرح والتعديل، وهو معيار اعتباطي طائفي يخص أهل السنة فقط، وهم حتى لا يتفقون جميعا حول قواعده، كما أنه لا يلزم المسلم الشيعي ولا يلزم المسلم القرآني، وهو من باب أولى لا يلزم غير المسلم ولا يلزم الباحث..

وأما الباحثون والمؤرخون فيلجأون إلى معايير أخرى لتقييم المصادر، مثل قدم الرواية ومدى منطقيتها واتساقها مع السياق العام وتماشيها مع المصادر الأخرى ومع الآثار المنقب عنها، وهي معايير كلها تضيف إلى قوة المصادر أو ضعفها، دون أن تعني اليقين أو التأكيد..

وبنظر الباحث المحايد فإن القرآن مصدر، والبخاري مصدر، والروايات الضعيفة مصدر، والكتابات الشيعية مصدر، والكتابات غير المسلمة- مسيحية ويهودية- مصدر، ولا يوجد أي واحد منها معصوم كما لا يوجد أي منها شيطاني مذموم، بل يتم التقييم والغربلة حسب تحليل ورؤية الباحث وقدرته على ربط الأحداث ببعضها للخروج بسيناريو منطقي..

بل وبنظر أي باحث محايد فإن صحة الحديث (بمعايير أهل السنة) لا تعني أن محمدا قاله بالفعل، وكذلك فإن ضعف الحديث لا تعني أن محمدا لم يقله، أو حتى لا تنفي أن له قيمة تاريخية وفكرية ما لمن يحاول أن يبحث عن أصول الدين..