الثلاثاء، 1 يناير 2019

من حقي أن أستشهد بالأحاديث الضعيفة


في النقاشات الدينية نرى سيناريو يتكرر: طرف (غير مسلم) ينتقد موقف لمحمد، أو يطرح وجهة نظر تاريخية بشأن الإسلام، فيكون الرد (من طرف مسلم) بأن الحديث الذي ذكرته في طرحك هو حديث ضعيف وبالتالي حجتك ساقطة..
ولهذا كثيرا ما نرى النقاش يتحول من صلب الموضوع أو الواقعة نفسها، ليصبح مقتصرا على أسماء وتقييمات تبدو عجيبة للمشاهد: منها أن فلان التابعي أدرك فلان الصحابي أو لم يدركه، وأن علان ثقة في مرويات الغزوات لكنه متروك الحديث، وأن العالم ترتان لم يصحح تلك الرواية..إلخ..
وفي العادة نجد أن الغالبية من منتقدي الإسلام، سواء من المسيحيين أو اللادينيين، يسلمون ضمنيا بتلك القاعدة، فيحرصون على اختيارالأحاديث الصحيحة فقط، ويتجاهلون ما سواها..
فهل هذا سلوك منطقي وسليم؟
-------------------------------

1- لنبدأ بالجانب المؤيد: من أبجديات قواعد النقاش أن الإنسان يتم إلزامه بما ألزم هو به نفسه؛ فحين أناقش مسلما يفترض أن ألزمه بالقرآن، ولن أستشهد له بنصوص الأناجيل مثلا، والتي يراها محرفة..
وهكذا حين يقوم أحدهم بنقاش مع مسلم سني تقليدي، أو نقد لمنهجه، فالطبيعي أن يستند إلى الأحاديث المقبولة في عرف ذلك المسلم..
أي أن التزام اللاديني بالأحاديث الصحيحة فقط له شرطان: أن يكون الخطاب موجها للمسلم السني التقليدي أو السلفي، وأن تكون هناك رغبة في إلزام ذلك المسلم بالنقد المطروح..
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون.. فيخطئ من يظن أن علم الحديث هو علم حقيقي يجب أن يلتزم به الجميع، فحين لا أكون مستهدفا إلزام المسلم السني التقليدي، فمن حقي أن أستند إلى روايات لا يعدها المسلم التقليدي صحيحة، كما أن من حقي أن أرفض أحاديثه الصحيحة..
-------------------------------
2- من أولئك الذين يلزمهم ما يسمى "علم الحديث"؟
الجواب بسيط: يلزم من يؤمنون به، ولا يلزم من يشككون فيه..
فالملحد أو اللاديني غير ملزم بعلم الحديث، والمسيحي واليهودي غير ملزمين به..
بل إن كثير من المسلمين غير ملزمين به: مثلا المسلم الشيعي ليس مطالبا باحترام البخاري والألباني..
وبالطبع المسلم القرآني غير ملزم بالأحاديث وصحتها، فهو يشكك في السنة كلها..
بل إن كثير من المسلمين السنة التقليديين يشككون في بعض السنة والأحاديث، كما نجد عند بعض المفكرين المعاصرين، وحتى عند القدماء، فالبعض شكك في عدة أحاديث من كتب الصحاح، ورفضها لأسباب تتعلق إما بالمتن أو بالسند، بل إن علماء المسلمين كالبخاري ومسلم والدارقطني وابن حجر قام بعضهم بانتقاد بعض، وبعضهم رفض أحاديث اعتبرها الآخر حديثة..
-------------------------------
3- هل هو علم أصلا؟
ما يسمى "علم الرجال" أو "الجرح والتعديل" هو منهج اعتباطي يقوم على حكم البشر على البشر، والأرجح أنه مقتبس عن التراث اليهودي، حيث يعتبر اليهود أن التلمود بمثابة "توراة شفهية"، ولديهم ما يشبه سلاسل الإسناد التي تنسب الأحكام إلى موسى بزعمهم..
وقد نعتبر علم الحديث اجتهادا محمودا لتنظيم غثاء الأحاديث التي كانت متداولة في العصور الأولى، ولكن هذا لا يعني أبدا أنه علم حقيقي ملزم للبشرية كلها بسبب منهجه المنضبط الذي لا راد لقضائه.. ولو كان منهجا علميا لما كان خاصا بطائفة المسلمين السنة فقط، ولاعترف به الجميع شرقا وغربا كما يعترفون جميعا بالعلوم الحقيقية..
وقد شكك كثير حتى من المسلمين، ليس فقط في بعض الأحاديث، وإنما في المنهج بالكامل، مؤكدين أنه منهج ناقص ومنحاز ومليء بالنواقص، والتي لا يتسع المجال للكلام فيها، ولكن على سبيل المثال فهو منهج منحاز مذهبيا، حيث يقبل الروايات بناءا على عقائد أصحابها ومدى موافقتها لأهل السنة التقليديين..
كما أن أصحاب ذلك المنهج يفترضون أن جميع الصحابة صادقين (عدول) وهو افتراض غير علمي بالمرة، بل هناك نصوص قرآن وأحاديث تؤكد أن من الصحابة من كان يتسم بالنفاق والضعف وغيره من النواقص التي قد تصل إلى الردة عن الدين..
وأيضا نجد أن أهل الحديث يقبل روايات زوجات الرسول، وأهمهم عائشة التي تملأ أحاديثها البخاري، بينما ينص دينهم أن شهادة المرأة في أمور أهون مثل الدين لا تقبل وحدها، إلا مع رجل وامرأة آخرين، كما أن شهادة المرأة عند الجمهور مرفوضة في الزواج والطلاق والنسب والحدود..إلخ..
وفي متون المنهج نجد تناقضات ونتوءات أخرى، منها مثلا أن راوي القراءة القرآنية الأشهر بالعالم الإسلامي (حفص) نجد أنه مرفوض حسب علم الحديث، ويوصف بأنه كذاب وغير ثقة.. كذلك كاتب السيرة الأول والأهم ابن إسحاق، مرفوض الحديث، ويتم محاولة تبرير ذلك بحجج مضحكة، مثل أن فلان قد يكون ثقة في القرآن، أو في المغازي، ولكن مرفوض في الحديث!
فالخلاصة أن التسميات لا تصنع حقائق، والحديث الذي يسمونه صحيحا لا يعني أبدا أن الواقعة حدثت أو أن محمدا قاله، كما أن الحديث الذي يسمونه ضعيف لا يعني أبدا أنه لم يحدث أو أن محمدا لم يقله..
والنتيجة أن أي بحث موضوعي أو تاريخي يقوم به الدارسون (من الباحثين الأكاديميين المستشرقين أو العرب)، لا تجده يعبأ أبدا بمسألة السند.. وهذه نقطة غاية الأهمية، فعلم الحديث ربما يلزم أهل الفقه والمشايخ، ولكنه لا يلزم المؤرخ والباحث..
-------------------------------
4- ما هو المعيار البديل إذن؟
ما سبق لا يعني أن نصدق جميع الروايات أو نكذبها جميعا، كما لا يعني أن يصبح الإختيار اعتباطيا بحيث أن كل شخص ينتقي ما يعجبه.. بل إن الدارسين الذين يقيمون التاريخ لديهم عدة معايير لتقييم الحدث إن كان صحيحا أم خاطئا، ليس لها علاقة بالعنعنة أو بأن ناقل الرواية كان يصلي ركعتين استخارة قبل كتابتها..إلخ.
فمما يرجح صحة الرواية التاريخية أن تكون متلائمة مع علم الآثار (مثل المكتشفات المادية، كالمباني والمنقوشات والعملات..إلخ)، وأن تكون متسقة مع السياق العام التاريخي المعروف، وأن تكون جاءت عن أكثر من طريق منفصلين، إلى جوار معايير أخرى؛ وبالطبع قد تختف التقييمات طبقا لمدارس التاريخ المختلفة، فمثلا هناك من يتساهل مع الروايات الشائعة فيميل إلى تصديقها، وهناك على الجانب الآخر من يشكك في كل الموروث ولا يقبل إلا ما تصدقه المكتشفات الآثارية الملموسة..

وبالتالي فمن حقي -كشخص يبحث- أن أنكر حديثا تسمونه أنتم صحيحا، وأن أصدق رواية أخرى تقولون عنها ضعيفة، ليس لأنني أتبع الهوى وأجعل مزاجي حكما، وإنما ربما أصدق الرواية "الضعيفة" لأنها تتماشى مع السياق التاريخي العام، أو تؤيدها شواهد من مصادر أخرى خارجية، أو من علم الآثار.. وقد أرفض الرواية "الصحيحة" لأنها لا تتماشى مع المنطق أو العقل أو السياق التاريخي..
-------------------------------
الخلاصة أن الباحث من حقه أن ينقب في الروايات التاريخية المتاحة، ويقبل ويرفض منها ما يشاء، حسب المناهج التاريخية التي يميل لها، دون اعتبار لتقييم أهل الحديث القدامى للمسألة، حيث أن تقييمهم يخصهم هم، ويلزم فقط من اختار أن يلتزم بقولهم..

--------------------------------------
--------------------------------------
حين يقرأ المسلم- السني تحديدا- مقالا أو بحثا، ثم يحتج عليه بأن الكاتب قد استخدم أحاديث ضعيفة، ويظن أن تلك الملاحظة كفيلة بهدم البحث، فهذا يعني أن صاحبنا لا يفرق بين المناظرات الدينية وبين الطروحات الفكرية والتاريخية..

في المناظرات الدينية البحتة فالمعتاد نعم هو الإستناد إلى المراجع التي يؤمن بها الطرف الآخر، فحين أناظر يهوديا فالواجب أن أنتقد فكره من خلال كتابه المقدس، وكذلك الحال مع المسيحي أو المسلم السني أو الشيعي أو القرآني..إلخ .. وفي تلك الحالة -فقط - فربما من حق المسلم السني أن يعترض على خصمه لو استند إلى أحاديث ضعيفة، ويطالبه بأن يقصر نقده على الأحاديث الصحيحة حسب منهج التيار الرسمي السني..

وأما في الأطروحات العلمانية التي تتناول الدين من جوانب فكرية أو تاريخية، فالكاتب يستند بالأساس إلى المصادر التي يراها هو جديرة بالسرد أو تفيد فكرته، بغض النظر عن توافقها مع هذه العقيدة أو تلك..

فمثلا لو أنني دخلت في مناظرة دينية مع مسيحي، فالواجب أن يقتصر كلامي فقط على النصوص التي يؤمن بها (العهد الجديد)..

وأما لو أنني أقدم طرحا عن نشأة الديانة المسيحية أو يسوع التاريخي أو موقف المسيحيين الأوائل من قضية ما، ففي تلك الحالة من حقي- بل واجبي- أن أستخدم الأناجيل الرسمية والأناجيل غير الرسمية، بالإضافة إلى المتاح من كتابات المؤرخين وغير المسيحيين..

هل هذا يعني أن جميع المصادر تتساوى؟ بالطبع لا، ولكن معيار المفاضلة في تلك الحالة لن يكون أبدا إيمان المؤمن بذلك النص، ولن يكون مسألة ما يسمى علم الرجال أو الجرح والتعديل، وهو معيار اعتباطي طائفي يخص أهل السنة فقط، وهم حتى لا يتفقون جميعا حول قواعده، كما أنه لا يلزم المسلم الشيعي ولا يلزم المسلم القرآني، وهو من باب أولى لا يلزم غير المسلم ولا يلزم الباحث..

وأما الباحثون والمؤرخون فيلجأون إلى معايير أخرى لتقييم المصادر، مثل قدم الرواية ومدى منطقيتها واتساقها مع السياق العام وتماشيها مع المصادر الأخرى ومع الآثار المنقب عنها، وهي معايير كلها تضيف إلى قوة المصادر أو ضعفها، دون أن تعني اليقين أو التأكيد..

وبنظر الباحث المحايد فإن القرآن مصدر، والبخاري مصدر، والروايات الضعيفة مصدر، والكتابات الشيعية مصدر، والكتابات غير المسلمة- مسيحية ويهودية- مصدر، ولا يوجد أي واحد منها معصوم كما لا يوجد أي منها شيطاني مذموم، بل يتم التقييم والغربلة حسب تحليل ورؤية الباحث وقدرته على ربط الأحداث ببعضها للخروج بسيناريو منطقي..

بل وبنظر أي باحث محايد فإن صحة الحديث (بمعايير أهل السنة) لا تعني أن محمدا قاله بالفعل، وكذلك فإن ضعف الحديث لا تعني أن محمدا لم يقله، أو حتى لا تنفي أن له قيمة تاريخية وفكرية ما لمن يحاول أن يبحث عن أصول الدين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق