الأحد، 21 يوليو 2019

كابوس الدجالين



في الغرب، كما في الشرق، يوجد آلاف الأشخاص ممن يزعمون أن لديهم قدرات روحانية خارقة للطبيعة : يشفون المرضى, يتنبئون بالمستقبل و يعرفون الطالع ، يكلمون الموتى, يرون و يسمعون أشياءا عن بعد، يقرأون الأفكار, يحركون الجمادات و يثنون المعادن..إلخ، و العديد من هؤلاء يصبحون نجوم مجتمع بارزين في الإعلام، كما يحصلون على أموال طائلة من العوام المؤمنين بقدراتهم.

هناك شخص واحد لا يحب أصحاب الإدعاءات الخارقة مقابلته أبدا، بل و يكرهون مجرد سماع اسمه، فالرجل يمثّل لهؤلاء ما يمثّله الشرطي للمجرمين.


"أنت قابل للإنخداع!"
في واحدة من محاضرات تيد الشهيرة TED، نرى المحاضر شيخا هرما يدخل القاعة برأسه الكبيرة الصلعاء و جسده الضئيل و ملابسه البسيطة و لحيته البيضاء الكثة و الطويلة، يمشي بصعوبة متقدما أمام الجماهير حاملا سنوات عمره التي قاربت التسعين.

لكن منذ استهلال الحديث يظهر الرجل حيوية ذهنية يقظة طريفة، بل خبيثة، غير متناسبة بالمرة مع شيخوخته الظاهرة، فيفاجئ المشاهدين بعدة أمور: عويناته التي يرونها على وجهه ليست عوينات بل هي مجرد إطارات فارغة دون زجاج! أما ما حسبوه ميكروفونا يحمله في يده متكلما فيه فهو ليس ميكروفونا بل ماكينة حلاقة كهربية!


"أنتم قابلون للإنخداع، خاصة حين لا تتوقعون ذلك"-  هذا ما يريد البدء بقوله للجمهور بتلك المزحات الصغيرة.

و لا يلبث الرجل أن يخرج علبة أقراص كاملة فيبتلعها دفعة واحدة -  من ماذا؟ دواء منوّم!، من ذلك الفرع من الطب البديل المعروف بالعلاج التجانسي homeopathy ؛ و بما أن الدواء منوّم فتلك العلبة يفترض أن تخدر العجوز و تقتله، إلا أننا سنلاحظ أن إكماله لباقي المحاضرة بشكل طبيعي نشط هو أبلغ رسالة إنكار و تسفيه عمليين لذلك العلاج غير الفعال، الذي يعتمد على الإيحاء و التأثير النفسي لا أكثر.

يلي ذلك إلقاء مشوق عن أهمية التفكير العقلاني و النقدي، مع ضرورة التشكيك الحذر في كل ما نسمعه أو نراه، حتى نتجنب التعرض للخداع و النصب.

"مهما كنت ذكيا أو متعلما فإنه يمكن خداعك!" هذه مقولة يهوى جيمس راندي تردادها باستمرار.

و ذلك ما يقوم به الرجل فعليا: خداع العوام بشكل مقصود علني، بهدف توعيتهم و إيقاظ ملكاتهم النقدية و من ثم تحصينهم ضد الإنخداع على أيدي الدجالين الفعليين، الذين كرس راندي العقود الأخيرة من حياته لكشفهم و فضحهم.

الكاذب الصادق

راندال جيمس هاميلتون زوينج، أو المعروف بإسم الشهرة جيمس راندي ، ولد في 7 أغسطس 1928، في تورنتو بكندا، و منذ الصغر ترك دراسته و اشتغل بالسحر و ألعاب الخداع ، ثم عبر شبابه و كهولته عمل في عروض حواة مسرحية متنوعة متعلما العديد من الحيل، كما كتب عمود أبراج حظ في إحدى الصحف، و لاحقا عمل كمؤدي في نوادي ليلية في بريطانيا و أوروبا و الفلبين و اليابان، و منذ منتصف الأربعينات بدأ ممارسة فن التفكك من القيود و الأغلال و الهروب من الزنازين Escapology ، الأمر الذي برع فيه الساحر الأسطوري هاري هوديني من قبل،  و في الستينات و السبعينات قام راندي بتقديم عدة برامج على الراديو و التليفزيون عن السحر و حيل الحواة.


و في الستين من عمره تقاعد جيمس راندي- الذي عرف بلقب "المذهل"-  و بدأ يحقق في ماهية القوى الروحانية و فوق الطبيعية المزعومة، و قد حصل على الجنسية الأمريكية عام 1987 ، و لاحقا سيقوم بتأليف العديد من الكتب عن الخوارق و تاريخ السحر.

هكذا، على خطى هوديني، انتقل راندي من أداء ألعاب الحواة إلى نشاط آخر هو كشف مزاعم أهل الخوارق و العلوم الزائفة، مثل أدعياء الشفاء الروحاني و التخاطر الذهني و مخاطبة الموتى و التحريك عن بعد..إلخ، و قد أنشأ "مؤسسة جيمس راندي التعليمية" JREF بغرض تفحص تلك المزاعم و التحقق منها.
 
هاري هوديني

لقب طريف آخر تم إطلاقه على راندي هو"الكاذب الصادق"، إذ أنه حين يمارس ألاعيبه يؤكد دائما للمشاهدين أنه لا توجد أي سحر أو روحانيات أو خوارق في المسألة، بل فقط حيل ذكية و خفة يد و إيحاءات نفسية بارعة ؛  و الجدير بالذكر أن ذلك اللقب نفسه هو عنوان الفيلم الوثائقي الذي تم عمله حول قصة حياته An Honest Liar ، و الذي استغرق تصويره ثلاث سنوات و تم إطلاقه في 2014.

في تخصصه الأحدث - كشف أدعياء القدرات الخارقة - يطبق راندي أسلوبين ناجحين للغاية: الأول هو قيامه بتكرار أفعال أولئك المدعين بنفسه أمام الجميع، مما يثبت إذن بشكل عملي أن تلك الأفعال يمكن إجراءها ببعض البراعة و لا تستلزم أي إمكانيات فائقة للطبيعة.

هكذا نشاهد لراندي عروضا جماهيرية يبدو فيها أنه يعرف أمورا غير متاحة لحواسه ، أو يقوم بثني المعادن- المعالق و المفاتيح- عن طريق التركيز فقط، أو حتى يشرع بنفسه في إجراء "الجراحات الروحانية" Psychic surgery  ، و هي عمليات جراحية مزعومة تُجرى بالأيدي فقط، دون مخدر أو أدوات جراحة! ؛ إجراء منتشر يمارسه بعض الأدعياء خاصة في الفلبين و البرازيل، مستخدمين – إلى جوار المهارة و خفة اليد- دماء الحيوانات و قطع من أعضاء الدجاج لتمثيل أعضاء المريض التي يخرجونها بأيديهم العارية أمام الجماهير المنبهرة!


و الأسلوب الثاني الذي يستخدمه راندي لكشف الدجالين هو مطالبتهم بالقيام بما يقومون به تحت رقابة صارمة و قواعد علمية دقيقة تستبعد أي احتمال لتلاعب أو حيل خفية أو إيحاءات - و هو في طلبه هذا يكون شديد الإلحاح على المدعين، الذين يصل بهم الحال غالبا إلى الهروب، و هو هروب يحرص راندي على تسجيله و إعلانه على الملأ.

بتلك الوسائل البسيطة نجح هذا الكاذب الصادق - مرة بعد مرة-  في كشف الكثير من أدعياء السحر و أصحاب الخوارق المزعومين حول العالم، و الذين يجدون أنفسهم في مواجهة زميل سابق خبير، يعرف جميع حيلهم دون استثناء.

يوري غيلر 
هو شاب روحاني إسرائيلي كان يزعم أنه يمتلك القدرة على ثني المفاتيح و المعالق المعدنية بعقله وحده، كما يستطيع قراءة أفكار الناس و رؤية ما في الأماكن المغلقة، بل و كان يظهر على التليفزيون مؤكدا أن الجميع بإمكانهم القيام بذلك فقط ببعض التركيز و الإرادة! ، حتى حظي الرجل بشهرة عالمية و حصل على ثروات هائلة، كما صار نجما إعلاميا تتناوله الصحف و المجلات و البرامج بصفته ظاهرة محيّرة خارقة لكل قواعد العلوم المعروفة.

و لكن ذلك الإنبهار و البريق لن يستمران لفترة طويلة.

خرج جيمس راندي لينتقد ادعاءات غيلر بشكل عملي بأن قام بتكرار كل ألاعيبه السحرية، مع الفارق المعتاد أنه أكد على أن ما يقوم به هو مجرد حيل مدروسة لا أكثر: يمكن تجهيز ملعقة و ثنيها عدة مرات قبل الظهور لتضعيفها فتنثني بسهولة بمجرد الإمساك بها و التظاهر بالتركيز الروحاني عليها، و ربما يمكن صرف أنظار الناس و ثني المفتاح عن طريق دفع طرفه خفية في المنضدة أو الكرسي ثم إظهار طرفه علنا بشكل احترافي يبدو معه و كأنه ينثني بالتدريج أمامنا ، و كذلك يمكن الإستعانة بمرايا صغيرة لتخمين ما رسمه الشخص في ورقة ووضعها في ظرف مغلق، و ذلك عن طريق إدارة الوجه و تغطية العينين باليدين أثناء قيام الشخص بالرسم، مع استخدام المرآة المخفية في اليد لرؤية ما يقوم برسمه في الخلف، ثم التظاهر لاحقا بتخمينه عن طريق التركيز الروحاني التمثيلي.

التفاسير و المحاكاة التي قام بها راندي لا تعتبر بحد ذاتها دليلا حاسما على أن يوري غيلر نصاب، و لكنها – على الأقل- تقدم للناس احتمالا أكثر منطقية لما قد يكون حدث فعلا، بشكل يظل أكثر ترجيحا من مزاعم القدرات الروحانية الخارقة.

و لكن لاحقا جاءت الفرصة لخطوة أخرى أكثر قوة و حسما.

في 1973 تم استضافة غيلر في برنامج تليفزيوني آخرToday show  من تقديم المذيع جوني كارسون، و الذي تصادف أنه هو نفسه ساحر سابق و متشكك مثل راندي، فاستعان كارسون براندي لمساعدته على تحضير الأمور بحيث يتجنب أي ألاعيب خفية من قبل غيلر ، فنصحه جيمس بإعداد أدوات التجربة بنفسه و عدم السماح ليوري أو فريقه بالإقتراب منها، و بالطبع عدم السماح للساحر المزعوم بإحضار أدواته الخاصة- و التي قد يكون تلاعب بها مسبقا.

 و جرى إعداد المسرح بشكل مناسب : تم تقديم عدة ألعاب سحرية لغيلر و السماح له باختيار ما يشاء منها : معالق جاهزة ليثنيها بعقله ، علب مغلقة واحد منها فقط ممتلئ ينتظر أن يقوم بتخمينه دون لمسه ، كما قيل له أن واحدا من موظفي البرنامج قد قام بعمل رسمة محفوظة في ظرف مغلق، و سألوا يوري هل تود استخدام قدراتك لمعرفة الرسمة؟ فتحجج بأنه قد يحاول القيام بذلك في وقت لاحق.

كذلك فشل غيلر في معرفة العلبة الواحدة الممتلئة وسط العلب، كما رفض ثني أية معالق في هذا اليوم، معلنا أنه لا يشعر بأن لديه القوى الروحانية الكافية في الوقت الحالي ، و بدا على الشاب العصبية و الإرتباك الشديدين.

بعد البرنامج لفترة طويلة شرع يوري غيلر في رفع عدة دعاوي و قضايا تعويض ضد راندي الذي تسبب في إهانته و تدمير سمعته على هذا النحو.

بيتر بوبوف
نموذج آخر لدجال نجح جيمس راندي في كشفه علنا.

هو مبشر تليفزيوني مسيحي و معالج روحاني ذاع صيته في الثمانينات بسبب عروضه المبهرة، حيث كان يقف وسط الجماهير الغفيرة بالآلاف يعظ صارخا بصوته المؤثر ، و ما يلبث أن يختار شخصا عشوائيا من الحضور و يتكلم معه عارفا معلوماته الشخصية كإسمه و المرض الذي يشكو منه، ووسط الحشود المؤمنة يهتف بإسم المسيح معلنا أنه قد تم طرد الشيطان من الضحية و تم تدمير ذلك المرض اللعين إلى الأبد، هللويا - و من المؤكد أن بوبوف بدا لأتباعه رجلا مؤيدا من الله بقدرات خارقة على المعرفة و على الشفاء.

لكن لاحقا سيتبين أن الأمور ليست بتلك البساطة أو تلك الروحانية.


في عام 1986، و بالإستعانة بماسح راديو خاص، تمكن راندي من التقاط موجات راديو كشفت سر المعرفة الفائقة التي يستعرضها بوبوف و يزعم أنها من عند الله ؛ إذ اتضح أن زوجته إليزابيث تقوم في أثناء العروض بإبلاغه بيانات الأشخاص الذين يتحدث معهم ، و التي عرفتها هي من خلال جلسات "إنترفيو" تحضيرية سابقة للعرض، فكان بوبوف في أثناء العرض ينصت إلى تلقين إليزابيث له من خلال سماعات لاسلكية مخفية في أذنه، و يتظاهر بأنه يستحضر المعلومات من قوى روحانية كبرى، و يسردها أمام الجموع المشدوهة.

نجح راندي - عن طريق الماسح-  من تسجيل تلقينات زوجة بوبوف له.

ثم في مناسبة أخرى نجح في دس رجل متنكر في ثياب امرأة زعمـ(ت) أن لديهـ(ـا) سرطان رحم، فقام بوبوف بشفائهـ(ـا)!

و حين تم إذاعة تلك المقاطع علنا (3) و تم كشف ألاعيب بوبوف في برنامج تليفزيوني شهير- هو نفس برنامج كارسون ذلك الذي كشف غيلر من قبل - تفجرت الفضيحة ، و مع المزيد من الضغط الإعلامي  اضطر المبشر إلى الإعتراف بالدور الذي كانت تلعبه زوجته من وراء الكواليس، و كالمتوقع انهارت شعبية بيتر بوبوف بشدة حتى أنه أعلن إفلاسه بعد أقل من عام و نصف من تلك الحادثة ، و لم يبد أن قدراته الروحانية الخارقة قد نفعته كثيرا.

جولات أخرى لكشف المحتالين
بالإستعانة ببضعة أدوات و بمبادئ مبسطة من المنهج العلمي، نجح جيمس- المذهل- راندي في كشف عشرات الدجالين الآخرين عبر عقود.

في أحد العروض يقوم بمواجهة شخص يدعونه "الرجل المغناطيس" يزعم أن لديه خاصية خارقة تجعل المعادن تلتصق بجسده ؛ أعلن جيمس أن هذا الإلتصاق ناجم عن مادة زيتية لزجة على صدر الرجل، و لكشف الحيلة قام بتغطية جذعه ببودرة تلك و طلب منه تكرار حيلته، إلا أنه لم ينجح بل انزلقت الأجسام المعدنية من على جسده -  مما أكد ظن راندي.

ساحر آخر مشهور يدعى جيمس هيدريك، كان يقوم أمام الملأ بالتركيز بنظره مقتربا من كتاب مفتوح على منضدة، ثم يفاجئهم بتقليب صفحات الكتاب بعقله فقط ، مبهرا الجماهير ؛ واجهه راندي بأن ما يقوم به هو حيلة بسيطة تعتمد على النفخ خفية في الأوراق، و لكشف الحيلة قام برش قطع صغيرة من الفوم الخفيف جدا حول الكتاب، و طلب من الرجل أن يقوم يقلب الصفحات دون تحريك الفوم، لكن هيدريك تملّص من الإستجابة ، مما فضح كذبه أمام الجميع.

و مع شخص آخر يزعم أن لديه قدرة خاصة على رؤية "الهالات الروحانية" للأشخاص و معرفة أماكن تواجدهم السابقة، أحضر راندي خمسة متطوعين و أوقفهم وراء ساتر، ادعى الرجل أن بإمكانه رؤية هالاتهم من خلاله، ثم جعل راندي المتطوعين يظهرون من وراء الساتر، و طلب من الرجل أن يحدد المكان الذي كان كل شخص واقفا فيه حسب هالته ، و النتيجة توقعات خاطئة تماما .

و مع سيدة تدعي أن باستطاعتها معرفة إن كان الشخص حيا أو ميتا فقط من خلال النظر إلى صورته دون معرفة سابقة ، أحضر لها راندي صور خمسة أشخاص مجهولين و طلب منها تحديد إن كانوا أحياء أم أموات، و النتيجة أيضا خرجت لا تشي بأية قدرات خاصة .

سيدة أخرى أكدت أن بإمكانها مساعدة الشرطة في الكشف عن الجرائم عن طريق قدرتها الخارقة على معرفة الماضي المتعلق بأية أداة بمجرد لمسها ، فقام جيمس باختبار قدرتها عمليا من خلال تحضير بضعة أدوات متنوعة أمامها، مع الطلب منها أن تذكر تاريخ كل أداة، و النتيجة ارتباك و فشل ذريع .

اختبار آخر قام به راندي لشخص "راصد للمعادن" ، و هو ممارسة شهيرة يدعي البعض فيها قدرتهم على معرفة أماكن مواد معينة (ماء أو معادن) تحت الأرض من خلال الإمساك بعصا طويلة و رصد ذبذباتها ؛ و للتحقق من الأمر أحضر راندي سبعة علب مغلقة و طلب من الرجل استخدام عصاته لمعرفة العلبة الوحيدة التي تحتوي على الزنك الخام وسط العلب الأخرى الفارغة، و النتيجة خيبة أخرى .

مدعية أخرى تزعم دراستها للقوى الفائقة لحجر الكريستال، و تؤكد أن بعض أنواع تلك الحجارة تحسن من صحة الشخص فورا بمجرد الإمساك بها في يده حتى أن حركة ذراعه تزداد قوة عن الطبيعي! ؛  لتفحص ادعاءها قام راندي بوضع الحجر السحري المزعوم في كيس مغلق، و أحضر جواره خمسة أكياس مماثلة تحتوي على سم فئران، ثم استعان بسيدة وسيطة أخرى- صحافية- و جعلها تمسك كل كيس بيدها على حدة، و طلب من المعالجة أن تقيس قوة حركة ذراع الوسيطة في كل مرة لتتعرف بتلك الطريقة على الكيس الصحيح، الذي يفترض أنه سيترك تأثيرا ملحوظا على قوة السيدة – لكن السيدة اختارت كيسا خاطئا مما أظهر كذب ادعاءاتها .

و في مواجهة ممارس مزعوم للتخاطر العقلي Telepathy ، كان الرجل يستعرض انتقال فائق للأفكار بين وسيطين مرافقين له (رجل و سيدة)،فيقوم بتوصيل جهاز رصد خاص (شبيه بجهاز كشف الكذب) إلى أصابع الرجل، بهدف تحديد موعد نقل الأفكار من السيدة إليه، فحين يستقبل الرجل الأفكار ينشط ذهنه فيصدر الجهاز رنينا خاصا؛ هنا اقترح راندي أن التزامن قائم على مجرد اتفاق لتبادل علامات بصرية خاصة بين الرجل و السيدة، و لكشف الأمر يطلب من الرجل أن يجلس مدير ظهره إلى السيدة، بينما يقوم راندي شخصيا بإصدار إشارة إلى السيدة لنقل أفكارها إلى الرجل في توقيت محدد، يفترض أن الجهاز يواكبه معلنا وصول الأفكار إلى المستقبل – لكن ما حدث هو صدور الرنين في غير توقيت الإشارة عدة مرات، مما أوضح الأمور و أكد أن التوافق الأول كان بالفعل نتيجة اتفاق بصري بين الرجل والسيدة- التي شعرت بالحرج من كشف الأمر فغطت وجهها بيدها و غرقت في ضحك مكتوم .

استضاف راندي أيضا خبير "علم خطوط" Graphology ، ممن يؤكدون أن لديهم قدرة على تحديد شخصية المرء و العمل المناسب له من خلال خط  يده وحده، و هو علم مزعوم تم الترويج له بشكل واسع حتى أن بعض الشركات صارت تستخدم "خبراء" ذلك "العلم" لمساعدتهم على اختيار المتقدمين للوظائف لديها ؛ للتحقق من ادعاءات الرجل أحضر راندي أمامه خمسة أشخاص يشغلون خمس وظائف مختلفة، و أعطاه خمس نماذج لكتابات أولئك الأشخاص، ثم طلب منه أن يقوم بمعرفة أي الأشخاص ينتمي إلى أي المجالات العملية اعتمادا على خط يده  وحده، و النتيجة تطبيق عملي صارخ على فشل ذلك العلم المزيف .

تلك المواجهات الفضائحية المدمرة - و غيرها- جعلت كثير من أدعياء القدرات الخارقة يتجنبون الإستجابة لتحديات جيمس راندي و باتوا يهربون منه كالجحيم.

سيلفيا براون
هي كاتبة أمريكية لديها قدرات وساطة خارقة مزعومة تمكنها من التواصل مع أرواح الموتى الذين يبلغونها رسالات من العالم الآخر توصلها لأحبائهم، ليس مجانا طبعا.

ظهرت سيلفيا في العديد من البرامج التليفزيونية و الراديو، و رغم تعرضها لبعض الإنتقادات بسبب بعض التنبؤات الخاطئة إلا أنها حظيت بإقبال ساحق من المؤمنين بقدراتها، وصل إلى أنها- كما قيل- كانت تتلقى 700 دولار في مقابل استشارة لمدة 20 دقيقة، على التليفون!، كما تم تقدير دخلها السنوي من تلك القراءات الروحانية وحدها إلى ثلاثة ملايين دولار.

أشد المنتقدين لسيلفيا - كالمتوقع- كان جيمس راندي؛ و كرد على انتقاداته أعلنت السيدة في عام 2001 ، إبان ظهورها في برنامج الإعلامي الشهير لاري كينغ، أنها ستؤكد شرعيتها عن طريق قبول تحدي جيمس راندي الشهير، بمنح مليون دولار لأي شخص يتمكن من إثبات أن لديه أي نوع من القدرات الخارقة للطبيعة تحت رقابة علمية صارمة ، لكن سيلفيا سرعان ما تراجعت عن كلامها مدعية بأن مبلغ التحدي غير موضوع في الضمان، و رغم إظهار راندي لخطاب موثق بأن المبلغ موجود، و إبداءه الإستعداد لوضعه في الضمان- بالمخالفة لشروط الجائزة- إلا أن براون لم تستجب و لم تبادر بالإتصال بمؤسسة راندي، و ذلك رغم إعلانها مسبقا عدة مرات أنها مستعدة للتحدي.

".. زعمت سيلفيا أنها لم تستطع الإتصال بي لأنها لم تجد اسمي في دليل التليفون ؛ بحق السماء هذه السيدة تدعي أنها تتصل بالموتى،  لكنها لم تتمكن من الإتصال بي أنا؟!"،  أنا - على الأقل- على قيد الحياة لو لاحظتم!" – بتلك النبرة الساخرة يتحدث جيمس عن الروحانية المزعومة في محاضرته الشهيرة في تيد.

الجدير بالذكر أن سيلفيا براون- التي قامت بتأسيس كنيسة Novus Spiritus  في منتصف الثمانينات، تم لاحقا – في 93- إدانتها قضائيا بتهم تتعلق بذمتها الماليةـ و صدر ضد زوجها – الثالث- حكما بالسجن، و ضدها حكما آخر مع وقف العقوبة.

المشروع- الفضيحة-  ألفا
  Project alpha
في عام 1979 تم إعلان أن الثري و المهندس الشهير جيمس ماكدونيل دوغلاس، رئيس مجلس إدارة ماكدويل دوغلاس للطيران، قد قام بمنح نصف مليون دولار لجامعة واشنطغتون لتأسيس مختبر جديد ماكدونيل للأبحاث العقلية فوق الطبيعية.

مدير مختبر ماكدونيل – بروفيسور الفيزياء بيتر فيليبس، المهتم بالخوارق و الباراسيكولوجي لسنوات طويلة-  أعلن للصحافة أنه سيشرع في فحص ظاهرة القدرة العقلية على التأثير على الجمادات psychokinesis خاصة لدى الصغار ؛ و وسط ثلثمائة شاب متقدم تم اختيار شابين صغيرين هما مايك إدواردز  و ستيف شو، اللذان أذهلا الجميع بأفعالهما التي بدت خارقة ، و بعد سلسة من الإختبارات المتنوعة أعلن الباحثون في المختبر أن إدواردز و شو (المعروف بإسم باناكيك) يمتلكان ولا شك قدرات فائقة تمكنهما من التأثير على الجمادات بعقليهما دون لمس.

لكن في مؤتمر صحافي - سيأتي بعد نحو خمسة سنوات-  ستتفجر المفاجأة : الشابان محتالان، أرسلهما و قام بتدريبهما جيمس راندي شخصيا!

قبل بدء الفحوصات، أرسل راندي إلى مدير المختبر فيليبس رسالة متضمنة أحد عشر "محذورا" يفضل التنبه لها في اختبارات التحقق من ادعاءات الخوارق: منها مثلا نصيحته بعدم السماح للمتقدم بتغيير قواعد الإختبار في المنتصف لمصلحته، بل ينبغي أن تظل القواعد ذاتها معمول بها بدقة، و في إطار تحريك المعالق حذر راندي من وضع عدة نماذج لمعالق متنوعة أمام المدعي بل يجب الإكتفاء بنموذج واحد، كما نصح راندي بوجود ساحر\ محتال آخر في أثناء الإختبار، و عرض القيام بنفسه بهذا الدور، بالإضافة إلى بعض النصائح و الإقتراحات الأخرى.

منذ البداية لم يبد أن الباحثين في مختبر ماكدونيل اهتموا بتطبيق اقتراحات راندي، فأكد فيليبس أنه قادر بمفرده على الإشراف على التجارب بدقة و الخروج بنتائج دقيقة علميا ، و لكن يبدو أن هذا الوعد لم يتحقق؛ فقد تم السماح للمدعين بأخذ زمام المبادرة في الإختبارات، مما مكنهم من خداع العلماء بعدة طرق، كما تبين لاحقا و تم توثيقه في عدة مصادر هنا وهنا وهنا.

على سبيل المثال فالشابان قاما باستغلال وجود عدة نماذج للمعالق أمامهم ، فتمكنوا – بخفة يد- من تبديل العلامات الورقية المكتوبة من ملعقة إلى أخرى، و هكذا حين قام الباحثون بقياس المعالق مرة أخرى بعد التجارب ظنوا أن مقاساتها تغيرت عما كانت عليه قبل التجارب، الأمر الذي عزوه إلى تاثيرات الشابين العقلية!

كذلك في باقي الإختبارات الأخرى، التي خرجت تقارير علماء المختبر مؤكدة أن إدواردز و باناكيك نجحا فيها مثبتين قدراتهما، تبين لاحقا أن الشابين نجحا في خداع العلماء بألاعيب ماكرة و خفة يد شبيهة بحيل الحواة.

و في منتصف عام 81 ، في مؤتمر للسحرة، قام راندي بالتلميح أنه هو من أرسل الشابين إلى المختبر و قام بتدريبهما لخداع الباحثين ، لكن تم التعامل مع كلامه على أنه مجرد مزحة.

قبل هذا مباشرة، كان فيليبس قد راسل راندي طالبا منه المساعدة، فأرسل الأخير له عدة فيديوهات و تسجيلات عن أساليب الخداع في عالم السحر، و منها فيديو متعلق بألاعيب يوري غيلر، مما دفع الباحثون في المختبر إلى تغيير أساليبهما و استبدالها بخطوات و قواعد أكثر دقة و صرامة، فقاموا بوضع علامات مصغرة على المعالق بدلا من العلامات الورقية ، و منعوا الشابين من التلاعب المباشر مع أدوات الإختبارات، بالإضافة إلى قواعد أخرى استخدمها راندي مسبقا في كشفه لمحتالين سابقين.

هنا بدا أن القوى الخارقة للشابين قد تبددت فجأة، لكن الحقيقة أنهما باتا عاجزين عن خداع الباحثين، و خرجت التقارير التالية للمختبر تخفف من نغمة الحماس السابقة، مشيرة إلى أن القدرات الخارقة للشابين "ليست بالوضوح المتوقع".

و أخيرا في 83، أعلن جيمس راندي في مؤتمر صحافي أنه قد قام بخداع مختبر ماكدونيل التابع لجامعة واشنطغتون، و أمام الجميع استدعى الشابين للقيام بحيلة ثني الملعقة، ثم سألهما"هل تتفضلان بإخبارنا كيف تفعلانها؟"، فأجابه أحدهما ببساطة "نغش!" مما استدعى تأوهات الحضور المصدومين.


إدواردز و باناكيك مع جيمس راندي

و هكذا انتهت المسرحية، التي تضمنت نجاح شابين صغيرين مدربين - باستخدام ألاعيب حواة - في خداع علماء مختصين على مدار أعوام، و عبر 160 ساعة من الإختبارات و الفحوصات المختلفة.

و كالمتوقع كان للقضية توابع ضخمة، نجم عنها انهيار المستقبل الوظيفي للعديد من الباحثين المشتركين في المشروع، كما تم إغلاق مختبر ماكدونيل نهائيا.

بالطبع لم تكن الفضيحة أو الإحراج أو تشويه السمعة هي الهدف مما قام به "المحتالون" الثلاثة، و لكن الغاية كانت البرهنة على ما يؤكده المتشككون أمثال راندي منذ زمن: أن الكل يمكن خداعه، حتى العلماء.

القضية ببساطة أن المؤمنين بالروحانيات كانوا دوما يشتكون من أن مشكلتهم الرئيسية هي عدم توفر التمويل اللازم لإجراء الأبحاث التي ستثبت صدق معتقداتهم، و لكن على الجانب الآخر المشككون يرون أن المسألة أكبر من هذا: و تتعلق بالإنحياز المسبق للمعتقدات التي يود الروحانيون إثباتها بأي شكل.

الباحثون في مختبر ماكدونيل لم يكونوا أغبياء، و لكن كان لديهم ميل إلى تصديق وجود القدرات الخارقة، و لهذا تم خداعهم، لأن انحيازهم المسبق جعلهم يمنحون الشابين الفرصة لخداعهم.

و لعل أكثر ما يؤكد هذا هو ما أشار له راندي لاحقا، من أنه قد اتفق مع إدواردز و باناكيك منذ البداية أن لو تم سؤالهما في أي وقت "هل أنتما مخادعان؟ هل تقومان بتزوير نتائج الفحوصات؟" أن يجيبا بنعم(!) – ولكن المدهش أن هذا السؤال البسيط، الذي كان كفيلا بإنهاء المسألة فورا، لم يتم طرحه على الشابين بشكل مباشر أبدا طوال فترة الإختبارات!

مسرحية خوزيه ألفاريز
لم يكن مشروع ألفا هو المقلب الوحيد الذي أجراه جيمس  راندي لإثبات قابلية الناس للإنخداع ، ففي عام 1987 قام باختراع كيان وهمي سماه "كارلوس" قال أن عمره ألفين سنة، و ادعى أن هذا الكائن يتجسد في عدة أجسام عبر العصور، آخرهم فنان أمريكي شاب يدعى خوزيه ألفاريز.

ألفاريز في الحقيقة هو ممثل أدائي، و هو رفيق راندي و تلميذه و مساعده، حيث أشرف الأخير على تدريب الشاب على العديد من الحيل و الألاعيب، فعلمه- مثلا- أن يضغط كرة بينغ بونغ تحت إبطه لإبطاء نبضات قلبه في أثناء التظاهر بنوبات التلبس الروحاني، ثم اتجه الإثنان إلى أستراليا في 88 ، بعد أن راسل راندي العديد من شبكات التليفزيون و الجرائد الأسترالية حاكيا لهم عن استعراضات عجائبية لكارلوس في الولايات المتحدة.

و في أستراليا، تم استضافة ألفاريز- كارلوس- في عدة برامج تليفزيونية كبرى، و عبر سماعة أذن لاسلكية كان راندي يلقنه الأجوبة المناسبة على أسئلة اللقاءات؛ و تجلت ذروة نجاح الجولة في عرض أوبرا سيدني، حيث عرض أمام الجماهير عدة قطع كريستال خاصة تدعى "دمعات كارلوس" بسعر 500 دولار للواحدة، كما عرضت "كريستالة أطلانتيس" بـ14000 دولار، و حظيت المعروضات بحالة إقبال شرائية مدهشة (رغم أن فريق راندي رفض تلقي الأموال لنفسه) .

بعد كشف الخدعة انفجرت حالة من الغضب العارم في الإعلام الأسترالي، الأمر الذي استجاب له راندي بالتصريح بأنه لا يوجد صحافي واحد أتعب نفسه في محاولة التقصي حول المعلومات العجائبية التي تم الترويج لها عن كارلوس.

و الطريف أن نجومية كارلوس لم تخفت، فقد ظل الناس يقابلون خوزيه في الشارع مصرين على الإقتناع بقدراته الروحانية الخارقة.

تحدي المليون دولار
لعل أشهر ما يتصل بجيمس راندي و مؤسسته هو ذلك التحدي الشهير بمنح مليون دولار جائزة لأي شخص ينجح في إثبات أن لديه قدرة روحانية أو خارقة أو فوق طبيعية من أي نوع، بشرط أن يتم ذلك تحت رقابة علمية مناسبة .

بدأت المسألة في عام 1964حين كان راندي في أحد البرامج التليفزيونية و تحداه أحد الباراسيكولوجيين بأن يراهن بماله إن كان واقفا مما يدعيه، فاستجاب جيمس بأن عرض ألف دولار من ماله الخاص لأي شخص ينجح في إثبات وجود قوى فوق طبيعية لديه تحت اختبارات مدققة - و منذ ذلك الحين تزايد المبلغ حتى وصل إلى مليون دولار.

أما الشروط فليست معقدة لكنها دقيقة مصممة لفضح الحيل و الألاعيب: إن كنت تزعم ثني المعالق بعقلك فلن يسمح لك أن تحضر معالقك الخاصة، إن كنت تزعم رؤية الهالات حول الأشخاص فعليك القيام بذلك تحت اختبارات صارمة ، إن كنت تزعم الرؤية عن بعد فلن يسمح لك بالإقتراب مما ينتظر منك رؤيته ، إن كنت سترصد الماء أو المعادن بعصاك فعليك أن تكون مستعدا لفعل ذلك تحت ظروف موضوعية متحكم بها، إن كنت ستقوم بعملية جراحية روحانية فستقوم بها و الكاميرات تراقب كل حركة من حركاتك.

و الجدير بالذكر أن مئات تقدموا إلى التحدي حتى اليوم، أما عدد الذين نجحو في اجتياز الإختبارات الأولية فهو: صفر!

خاتمة: درس العقلانية

في 28-1-2015،  في السادسة و الثمانين من عمره، كتب راندي معلنا استقالته من منصبه في مؤسسته، معلنا في نفس الوقت أنه لن يتوقف عن معاركه، بالمحاضرات و الكتابة ، ضد الشعوذة و الدجل و ادعاءات الخوارق .

لعقود طويلة قام راندي بالترويج لمفاهيم العقلانية و العلمية و الدقة و لأهمية التفكير النقدي الواعي التشكيكي، و  قد تم نشر عدة مقالات عن الرجل في  Scientific American  و غيرها.

في يوليو 1995 بعنوان
A skeptically inquiring mind
و في 9 مارس 2015 بعنوان
A Plea for a Scientific Worldview from An Honest Liar, on Debunker James Randi

نسمعه في أحد اللقاءات يصرح بأنه شخصيا يريد الحفاظ على عقله دقيقا و صاحيا قدر الإمكان، فهو لا يدخن أي شيء و لا يشرب الخمر أبدا ، لأنه ممن يرفضون تشويش عقولهم و تركيزهم أو تقليل قدراتهم المنطقية بأي شكل، و من أقواله أن هناك فارقا هائلا بين أن يكون لديك عقلا منفتحا، و أن يكون لديك ثقبا في رأسك يتسرب منه مخك!-  بمعنى آخر ليس من الحكمة الإنفتاح العقلي على كل شيء أو الإستعداد لتصديق كل شيء دون تدقيق.


و فيما يقوم به هو لا يفضل لقب "هادم" الخوارق، و إنما يعتبر نفسه "محققا علميا" فيها، و في أحد اللقاءات له مع ريتشارد دوكنز سأله الأخير: ماذا لو كانت تلك القوى الخارقة موجودة و نجح أحد المختبرين في تحقيق تحديك؟"، فأجاب راندي أن هذا سيسعده تماما، و أنه سيكون راضيا بدفع المليون دولار في مقابل تقديم حقيقة معرفية جديدة للناس.

و هو لا يتفق مع من يقولون أن الدجالين- حتى لو كانوا كذابين فهم على الأقل يريحون الناس نفسيا و يقدمون لهم التعزية ..إلخ ، بل على العكس هو يؤكد على الجانب السيء و الشرير لما يقومون به، ليس فقط من ناحية خداع المريض و ضياع وقته و ضياع فرصته في الحصول على حلول حقيقية لمشاكله، بالإضافة طبعا إلى ابتزاز أمواله ، لكن راندي أيضا يشير إلى التأثير النفسي السيء للخزعبلات ، فالمتحدثون مع الموتى على سبيل المثال يربطون الشخص عاطفيا بقريبه أو صديقه المتوفى لفترة أطول من المعتاد، فيزداد حزنه بدلا من أن يقل، و يشبه راندي أولئك المشعوذين بالعقبان، طيور جارحة تجلس على الأشجار و تنتظر مجيء المعاناة و الحزن إليها ؛ الأشخاص الحزينون يكونون أكثر ضعفا و احتياجا للمساعدة و بالتالي هم أكثر قابلية للإنخداع- الدجالون ينقضون على اولئك الضحايا لاستنفاد أموالهم دون شفقة.

بالطبع ليس جيمس راندي هو المتشكك الوحيد الذي يجتهد في فضح ادعاءات الدجالين، و هو حتما ليس أولهم و ليس آخرهم، و لكن لعله أشهر من يقوم بذلك اليوم و أكثرهم جاذبية و كاريزما و دهاءا ، و المهم أن تلك العدوى الحسنة (الإستعانة بالعلوم لكشف الدجل) هي عدوى تنتشر بشكل كبير حتى صار هناك أجيالا جديدة من العقلانيين الذين يتبنون الترويج لنفس قيم الدقة و الفحص العلمي، ليس فقط في الغرب و لكن في أماكن أخرى حول العالم يتواجد فيها أولئك المشعوذين- كالهند على سبيل المثال التي صار فيها عقلانيون يتكبدون صعوبات عديدة لمواجهة الدجل المستشري هناك و فضحه بأساليب علمية.

 وما أحوج عالمنا العربي إلى من يقوم بمثل هذا الدور.

تطور لا نسبية




لا؛ العلم ليس متغيرا، والأخلاق ليست نسبية ؛ إنهما فقط يتطوران، مثل كل شيء..

الفارق كبير: فكلمات مثل التغير والنسبية هي كلمات خادعة توحي بالتخبط والعشوائية والتبدل صعودا ونزولا ودورانا بلا نمط أو غاية واضحة..

وهذا بعيد عن الواقع، فليست المسألة وكأن العلماء لديهم كل يوم رأيا جديدا ليس له علاقة بما قبله، أو أنهم يبنون نظرياتهم على خبط عشواء متقلب..

ولو كان الحال كذلك فما قيمة العلم أصلا؟ ولماذا نجهد أنفسنا في تحصيله وتوثيقه؟ وما معنى أن ندرس لأطفالنا معلومات يمكن أن تنقلب رأسا على عقب حين يكبرون؟

وكذلك، ليست المسألة وكأن الناس يصحون ذات يوم ليقرروا أن القتل والسرقة خطأ، ثم يصحون في اليوم التالي ليقرروا أنها صواب..

ولو كان الحال كذلك فلماذا نتمسك بمبادئنا؟ ولماذا نهتم بتحسين أخلاقنا إذن؟ بل لماذا نكترث بمناقشة الصواب والخطأ أصلا، طالما أن ما سنستقر عليه اليوم سيتغير إلى نقيضه غدا أو بعد غد؟


إنما يمكن فهم المسألة ببساطة عن طريق الرجوع إلى التعريفات:

فالعلم هو محاولة منهجية لفهم الواقع وتوصيفه والتعامل معه؛ ولو اتفقنا أن الواقع يتميز ببعض التماسك والثبات، مما يمكننا من استنباط ما نسميه قوانين طبيعية، ففي تلك الحالة يكون العلم هو طريق متصاعد نحو مزيد من النجاح في فهم تلك القوانين وتوصيفها بمزيد من الدقة والشمول..

هذا الصعود لا يشترط أن يكون في شكل خط مستقيم، وإنما قد يحتوي تعرجات أو حتى يشمل سقطات وتراجعات وانتكاسات، ولكن هذا لا يمنع أن المسعى واضح والهدف محدد، وأن التطور - أو التخلف- يمكن قياسه..

القول بأن الأرض كروية هو - قطعا- أكثر تقدما من القول بأنها مسطحة، يمكن قياس ذلك بما تم رصده وبالقدرة التفسيرية لهذا القول، ولا مانع بعدها من أن نحاول فهم أبعاد الشكل الكروي - أو شبه الكروي- بدقة أكبر..

كذلك الأخلاق هي قواعد وسلوكيات تضمن بقاء النوع وتحسن أحواله وسعادته؛ هذا الهدف محدد وثابت، وأما ما يتغير فهو وسائل تحقيقه، والتي تختلف على حسب ظروف المجتمع، ففي حالة الخطر مثلا نحتاج إلى الشجاعة والشدة بشكل خاص، بينما في حالات المن والرفاهة نحتاج إلى اللطف وتعايش بشكل أكبر..

وهكذا فالتطور أيضا صاعد، نحو مزيد من الأمن والرفاهة للبشر، وكلما تحسنت ظروف المجتمع كلما كنا أقدر على الإرتقاء بأخلاقنا بعيدا عن سلوك حيوانات الغابة، ونحو مزيد من الحرية والفردية والسلمية..

فالأخلاق السائدة في العالم المتقدم اليوم هي - قطعا- أفضل من أخلاق المغول أو الفايكنغ، يمكن قياس ذلك بأمان البشر وسعادتهم، ولا مانع بعدها من أن نحاول صقل أخلاق اليوم لتتحسن أكثر فأكثر..

هنا نلاحظ أن كلا من العلم والأخلاق له معايير قائمة في الطبيعة والظروف، لم يخترعها البشر بقدر ما هم يحاولون فهمها وتطويعها، وفي هذا الإطار لا يجب الحديث عن أنواع من العلوم وأنواع من الأخلاق، فهي ليست مسألة أمزجة وأهواء، بقدر ما هي مسألة قدرة ومراحل تطورية..

ولا شك أن العاملين مرتبطان يغذي أحدهما الآخر ، فكلما ازدادت علومنا كلما كنا أكثر قدرة على إدارة حياتنا، وبالتالي صرنا أكثر قدرة على توسيع دائرة ممارستنا للمحبة والسلام والحرية، فتتطور أخلاقنا..

هذا مسعى حقيقي وملموس ومتصاعد، وليس دورانا عبثيا في دائرة مفرغة من العشوائية، كما توحي كلمات مثل "النسبية" و"التغير"..

بل ولعله المسعى الأرقى والأجدر باهتمامنا، وهو ما يجعلنا بشرا..

السبت، 20 يوليو 2019

طبقات الدين



منذ أكثر من ألف سنة قبل الميلاد، كان هناك معبد للإله الآرامي حدد في دمشق بسوريا..

وحين غزا الرومان المدينة أعادوا تصميم المبنى ليصبح معبدا للإله جوبيتر..

وفي أواخر القرن الرابع تم تحويل المعبد إلى كاتدرائية مسيحية كبيرة..

وبعد الغزو العربي تم تهديم الكاتدرائية لتصبح المسجد الأموي الشهير بدمشق..

---------------------
أوزير - يس (أوزير)، هو إله مصري مات وقام من الموت..

لازار - وس (لعازر)، هو الرجل الذي أقامه يسوع من الموت بالأناجيل..

عزرا - ئيل، هو ملاك الموت في التراث اليهودي والإسلامي..

---------------------
في مصر القديمة كان يتم الإحتفال سنويا بأول الربيع، شمو، بداية موسم الحصاد الذي يمثل عودة الأرض إلى الحياة..

وفي إيران منذ آلاف السنين كان يتم الإحتفال بعيد النيروز، بداية العام في يوم الإنقلاب الربيعي، حيث يتساوى الليل والنهار..

وفي إسرائيل تم الإحتفال بنفس الأيام الربيعية، عيد الفصح، بعد أن تم ربطها بخروج الشعب من مصر..

ويحتفل المسيحيون بنفس التاريخ، لأنه يحدد موعد قيامة يسوع من الموت وعودته إلى الحياة..

---------------------
لاماسو أو شدو أو غريفن، هو كائن أسطوري بأجنحة وجسد ثور أو أسد، وأحيانا وجه إنسان، في الحضارات الأشورية والحثية واليونانية، أحيانا كان يتم وضع تماثيله على مداخل المعابد لحراستها..

القروب في اليهودية، هي كائنات ملائكية لها أجنحة وأجساد حيوانات ووجه إنسان، وتقوم على حراسة الجنة أو حمل العرش الإلهي..

البراق في الإسلام، هو شبه حمار حمل محمد في رحلة المعراج، ويصور ببعض الرسومات بأجنحة ووجه إنسان..

---------------------
الأديان مثل الكائنات: تولد وتكبر وتتصارع وأحيانا تموت، وهي لا تنشأ فجأة ولا تهبط من السماء وحيا، وإنما هي جزء من حلقات التراث الإنساني المتصلة، فهي تخرج من الأرض ببطء وتدرج وتتفاعل وأحيانا يأكل بعضها بعضها، ولكن المهزوم - مثل جسد الكائن- لا يفنى، وإنما يتم هضمه حتى يصير جزءا من جسد الآكل..

هكذا  فالمؤمن الإبراهيمي الموحد، حين يتلو لفظة آمون بالصلاة، أو يتضرع للإله الجالس على عرشه، المحاط بأعوان مجنحين هم في الأصل آلهة سابقة، أو يحذر العصاة من الهلاك في وادي هنوم الواقع بالقدس، فإنه لا يفعل سوى ترديد الجزء الصغير جدا من التراث الديني الذي وصله، والذي هو قمة جبل الجليد الوثني الكامن تحت أنقاض أديان تسمى نفسها سماوية..

المقامة الرجولية



يُحكى في أحد بلاد العربان، الزاخرة بالمجد والعنفوان، أن المواطنين الشرفاء الغيورين، قد أمسكوا يوما بصبي وفتاة من الشياطين، بالجرم متلبسين، إذ كانا في الشارع واقفين، وبكل شوق وحنين، لبعضهما محتضنين!

وكانت فضيحة مدوية، حيث انقضت عليهما الجماهير الأبية، الرافضة للعري والإباحية، وقيدوهما بثبات، وانهالوا عليهما بالضرب والصفعات، وألقوا عليهما الوعيد والتهديدات، والشتائم واللعنات، لأفراد الأسرة الأحياء منهم والأموات، جزاءا وفاقا لجميع العشاق الملاعين، الذين يتصورون أننا شعب من الديوثين، الخالين من المروءة والدين.. مالهم كيف يحكمون؟ أفبعذابنا يستعجلون؟

واختلفت الآراء، فيما يجب اتخاذه من إجراء: بين صقور يرون وجوب قتل الفاسقين، أعداء الحق والدين، انتقاما للفضيلة، وحفاظا على شرف القبيلة، وبين وسطي يريد جلد مرتكبي القبيحة، تخلصا من عار الفضيحة، فالجلد هو عقوبة الجناة، كما نجده في شرع الله، وأما عن فريق الحمائم، فقد رأى الإكتفاء بإبلاغ ولاة الأمر أصحاب اللحى والعمائم، ليقوموا هم بالتصرف الملائم..

ولكن مع استمرار التحقيقات الميدانية الشديدة، ظهرت بالقضية حقائق جديدة، حيث بدأ الشاب الكلام بروية، مفجرا مفاجأة مدوية، فقد حرك بالحديث شفتاه، معترفا بأنه لا يعرف الفتاة، ولا تربطهما أي علاقة، سواء حب أو حتى صداقة!، وإنما القصة وما بها، أنه كان يتحرش بها، وذلك بدون سابق معرفة، وهو نادم على تلك الفعلة المقرفة..

وهنا هدأت الأجواء، وتنفس المواطنون الصعداء، حيث لم تعد المسألة جريمة زنا نكراء، تستحق إسالة الدماء، وإنما هي مجرد اعتداء، من ذكر على إحدى النساء، ومن منا لا يرتكب الأخطاء؟

وكانت نهاية المأساة، بأن تم تأنيب الفتاة، على ارتدائها ملابس ذات طابع جريء، كفيلة بأن تفتن شبابنا البريء، وتم تذكيرها بضرورة الحجاب، تجنبا للعذاب، في يوم الحساب، وبعدها تم إطلاق سراح الشاب، مع الإعتذار على ما سببوه له من اضطراب..

ورجع المواطنون إلى حياتهم العادية، وهم يفتلون شواربهم الرجولية، مرتاحين الضمير، حامدين ربهم على أن بلادهم الشريفة ما تزال بخير..

الإله دمية محمد



لا تملك إلا أن تعجب بأسلوب تعاطي محمد بين الوحي والبشرية، وكيف يتبدل كالزئبق بين حالة المتكلم بإسم الإله، وحالة البشر المسكين المغلوب على أمره.. وكأنه الرجل الأخضر (هلك) أو دكتور جيكل ومستر هايد..

حين يزعجوه تجده يتوعدهم بإسم الإله الجبار : سأدمركم بصاعقة وأسقط السماء عليكم كسفا أيها الكفار الملاعين..

حين يتحدوه  - إن كنت رجلا فافعلها - يتحول إلى بشر مغمغا: سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا؟

حين يحاول إثبات رسالته يتفاخر - بلسان الإله - بأنه خلق الكون في ستة أيام وكان عرشه على الماء وهو يرزقكم ويحاسبكم يا حشرات..

حين يطالبوه بآية يتحول - بسرعة البرق- إلى بشر مسكين، يقول إنما الآيات عند الله يا شباب وما أنا إلا نذير متواضع الحال..

حين يشرع في إغراء الجنود يعدهم - في صوت إلهي مطمئن -  أن من ينصر الله ينصره، وأن الله يدافع عن الذين آمنوا..

وحين تخرب الخطط يعود إلى لعب دور البشر البائس، ويقول لهم لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الغيب وما مسني السوء..

حين يريد النكاح يختفي محمد ويظهر خالق الكون، يترك المجرات وينزل من على عرشه، ويذهب ليخطب فلانة وعلانة إلى رسوله..

وحين يظلم زوجاته يختفي العدل الإلهي ويظهر محمد البشر يدعو ربه - وبراءة الأطفال في عينيه- أن لا تحاسبني فيما لا أملك..

حين يريد الخلاص من أصحابه اللحوحين الذين يقتحمون بيته أو ينادونه من النافذة وهو ينكح زوجاته، يكلمهم بإسم الإله، الذي ينظم الشئون المنزلية لرسوله..


البعض يمتدح تواضع محمد ويسأل بكل سذاجة: ألا يكفيه أنه اعترف ببشريته، ولم يدعي الألوهية مثلا؟

على أساس أن أحدا كان سيصدق أنه إله؟ وعلى أساس أن بشريته كانت موضع شك ، وهو يخطئ ويصاب في المعارك وينكح ويشتهي وتتآمر عليه زوجاته ليل نهار؟

لقد ربح بنبوته ما لم يكن يربحه عن طريق الألوهية، ولهذا فقد احتفظ بالإله كورقة تخرج في الوقت المناسب، وتختفي في الوقت المناسب..

لا تملك إلا أن تعجب به وهو يحول خالق الكون إلى مأذون وقواد ومديرة منزل وحارس شخصي..

النبوءات المزدوجة




كيف تتنبأ بالمستقبل، وتأتي تنبؤاتك صحيحة رغم أنك أجهل من دابة؟

بسيطة: قل الشيء وعكسه..

هكذا فعل محمد (أو بالأحرى مؤلفو الأحاديث من بعده)..
وضعوا نبوءات عامة مضيئة بانتصار الإسلام وسيادته،

- سئل رسول الله أي المدينتين تفتح أولا قسطنطينية أو رومية؟ فقال النبي لا بل مدينة هرقل أولا..

- ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيل والنَّهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر..

- لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود ، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر . فيقول الحجر والشجر : يا مسلم ! يا عبد الله ! هذا
يهودي خلفي فتعال فاقتله..

كما وضعوا نبوءات عامة مظلمة بهزيمته واندحاره..

- بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ..

- يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهيةالموت..

وهكذا تعمل ماكينة النبوءات في الحالتين.. فيأتي الأخ المسلم المتحمس في أي زمان، يرى انتصارا للإسلام فيصيح فرحا: الله أكبر!، هذا ما وعدنا الله ورسوله..

ثم يرى هزيمة مدوية للإسلام، فيصيح تأثرا: واإسلاماه! هذا ما وعدنا الله ورسوله..

وختاما: رغم تعارض تلك النبوءات، هل لاحظت الشيء المشترك بينها؟

أنها نبوءات قتالية.. فهي تتوقع صداما بين المسلمين وغيرهم طوال الوقت، سواء انتهت المواجهة بالنصر أو الهزيمة..

وهي علامة أخرى من علامات عدائية هذا الدين، الذي نشأ وسط حرب أهلية، أو لنقل أنه نشأ ليبدأ تلك الحرب، واستمر يتشكل في أثنائها، وانتهى بتوسيع الحرب لتشمل اليهود والمسيحيين والهندوس والزرادشتيين، منذ حينها وإلى اليوم لم ينتهي الشعور العدائي من المسلم تجاه البشرية كلها..

الديني لا يأخذ الغيب بجدية


نعرف أن البلاد الإسلامية يسودها الإيمان بعالم الغيب، والذي هو جزء من الدين الرسمي لتلك البلاد؛ فحكامنا ونخبنا وشعوبنا يؤمنون بوجود السحر والحسد والجن والعفاريت والشياطين والملائكة والمعجزات والكرامات والرؤى..إلخ، ويؤمنون بتأثير تلك الظواهر على حياة البشر..

ولكن يا ترى : لماذا لا يتم قبول ذلك بشكل حقيقي وشامل، في الحياة وفي المحاكم؟

مثال: فتاة صغيرة أخبرت والديها أنها حامل، ولكن ليس من بشر وإنما من كائن خفي (سواء عفريت شهواني، أو ملاك من الله).. هل سيصدقها أحد؟ غالبا لا، وذلك على الرغم من أن أهلها مؤمنون بقصة مريم وولادة يسوع، كما يقرأون قول القرآن "لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان" أي أن الله يجعل الفتيات تحملن، كما أن الجان يمارس الجنس مع البشر، فلماذا لا يقبلون قصة ابنتهم؟

مثال آخر: دخلت الشرطة إلى منزل رجل فوجدت زوجته مقتولة ذبحا، ووجدوا بيده سكينا تلطخه الدماء.. فقال لهم أنه بريء، وأن من قتل الزوجة هو شيطان من الجن، ظهر فقتلها، ثم وضع السكين بيده، حتى يبدو كأنه الفاعل.. السؤال: هل ستصدق الشرطة هذا الرجل؟ لا أظن.. رغم إيمانهم بالجن والشياطين وقدرتها على التداخل في حياة الإنسان..

مثال ثالث: شخص قام بجريمة ما (قتل أو سرقة أو اغتصاب).. وعند محاكمته أخبر القاضي أنه لم يكن في وعيه، لأنه مسحور ويتلبسه جن، وبالتالي فهو غير مسئول عن أفعاله.. هل سيصدقه القاضي، على الرغم من أن السحر والجان مذكور في القرآن الذي يؤمن به ذلك القاضي؟

مثال رابع: نجح فريق كرة قدم في الحصول على كأس بطولة الأندية.. فتقدم رئيس النادي المنافس بشكوى إلى اتحاد كرة البلد، مفادها أن النادي الفائز لم يكسب بجهوده وإنما بالسحر، حيث يستعين بسحرة يسهلون له الفوز.. السؤال: هل سيحقق اتحاد الكرة (المسلمون) في تلك الشكوى، أم سيسخر منها ويتجاهلها؟

ويمكن الإستمرار في سرد مئات الأمثلة على تلك الشاكلة..

 لماذا المؤمنون بالغيب لا يأخذون إيمانهم بالجدية الكافية؟

التحرر من الإنتماء



الإنتماء شيء لطيف لما ينتج عنه علاقة ترابط ومحبة للقريبين منك: أسرتك، أهل بلدك، او الأشخاص الذين يشتركون معك باللغة أو الدين أو التاريخ أو العادات، لا بأس بكل ذلك..

ولكن حين يتحول الإنتماء إلى تقديس أعمى لأرضك ورموزك وتاريخك ودينك، واعتبار أن جماعتك هي أعظم جماعة بالدنيا فقط لأنك ولدت فيها، وحين تتحول إلى تزييف للحقائق وتبني نظرة خيالية للعالم، وحين تتحول إلى عداء للآخرين وتقسيم للناس إلى أبيض وأسود، جماعة الخير وجماعة الشر، أهل الحق وأهل الباطل، نحن والآخرون، فهنا ليذهب الإنتماء إلى الجحيم وما يأتي معه من تعصب وجهل وكراهية ونرجسية وبارانويا ونظريات مؤامرة بلهاء: العالم كله يحقد علينا ويتآمر ضدنا، لأننا الأفضل أو الأعظم أو الأعرق، أو لأننا نعبد الإله الواحد الصحيح ..

ونعم، العقلانية تعني التحرر من الموروث الضيق وإسقاط هالات القداسة، مع الإنفتاح على العلوم والتراث العالميين، ومرحبا بالإنتماء اللطيف الذي لا يعوق تلك الحرية وذلك الإنفتاح، وألف لعنة على الإنتماء المتعصب الذي يمنعنا عن التعايش مع إخواننا من الشعوب الأخرى، وعن الإستفادة من إنجازاتهم الحضارية العلمية والفكرية والفنية..

والدول التي تقدمت لم تتقدم إلا لأنها أسقطت قداسة الماضي ومارست الإنتقائية الصارمة ضد التراث، مع إلقاء الكثير منه بالقمامة لو لزم الأمر - فلو استمرينا على تعظيم أجدادنا الذين كانوا يعتقدون أن الأرض مسطحة، فلن نتمكن أبدا من ترسيخ حقيقة أنها كروية، فالإعتراف بأن القدماء كان لديهم جهالة هو بداية طريق اكتساب المعرفة، والإعتراف بأن القدماء كانت تنقصهم عناصر إنسانية كثيرة هو بداية التقدم في طريق الإنسانية.. 

تبقى الحقيقة أنه لا شيء يربطني بهذه الأرض وتلك الجماعة إلا أنني ولدت فيها، وبهذا المنطق لو ولدنا في جماعة أخرى لكنا ندافع عنها بكل حماس، فتلك هي غريزة القطيع التي تسعى البشرية للتخلص منها، والإنتقال إلى التعايش السلمي بين المختلفين تحت مظلة إنسانية واحدة..

دفاع في غير محله


حين يتعرض "شيء ما" لهجوم، وتختار أنت أن تدافع عنه بحجة معينة، فعليك أن تنتبه إلى  الرسالة الضمنية والصامتة التي يحملها دفاعك، وهي أنه "لو لم تكن تلك الحجة حقيقية، فالشيء إذن يستحق الهجوم الذي يتعرض له"- بالتالي فالتوضيح واجب.

مثلا: حين يطالب أحدهم بقتل فلان لأنه مرتد، فتنجرف أنت في الدفاع عن فلان قائلا أنه في الحقيقة لم يرتد بل هو مايزال على دينه، فالرسالة الضمنية التي قد يحملها دفاعك هي: لو كان قد ألحد فهو يستحق القتل- بالتالي فالتوضيح واجب.

أقول ذلك لمن يريد الدفاع عن المثلية الجنسية فيجهد نفسه في إثبات أنها ليست اختيارا شخصيا بل هي مسألة جينية، أو أنها سلوك طبيعي تمارسه الحيوانات، أو أنه لا أضرار صحية لها.

ربما هذه الدفاعات حقيقية إلى حد كبير، ولكن لا يجب الإكتفاء بقولها، كما لا يجب الإكتفاء بالقول أن فلانا لم يرتد، بل للتوضيح يجب إضافة: حتى لو ارتد فهذا من حقه ويدخل في باب حرية العقيدة.

كذلك الحال مع المثلية، فحتى لو كانت اختيارا للشخص، وحتى لو كانت سلوكا مخالفا للطبيعة، وحتى لوكانت ضارة صحية، فكل ذلك لا يمنح أحد الحق في التدخل في الحياة الجنسية لإنسان قرر أن يخالف الطبيعة أو يضر بنفسه.

نعم المثلية ليست اختيارا، فالميول الجنسية معقدة وهي جزء من هوية الإنسان، لم يخترها؛ ولكن حتى لو كانت المثلية اختيارا حرا أو هواية أو مزاجا، فما شأن المجتمع؟ هي تظل سلوك شخصي يمارس في منزل الشخص ولا يحق لأحد منعه طالما لا يوجد اعتداء على أحد.

ونعم المثلية موجودة في الطبيعة تمارسها الحيوانات؛ ولكن حتى لو لم تكن أمرا طبيعيا فلا أدري أين المشكلة! هل صارت الطبيعة إلها بديلا يحلل ويحرم؟ ومن قال أن الموجود في الطبيعة هو الأفضل؟ في تلك الحالة علينا جميعا أن نمارس القتل والسرقة والغش والقسوة، فهي أمور موجودة بوفرة في الطبيعة، وفعلها أجدادنا، بل وأفادتهم في البقاء والتناسل، ولكن ما حصل أننا تجاوزنا ذلك فصرنا نعرف ونمارس ما هو أفضل، مثل العدالة وحقوق الإنسان وهي - بالمناسبة- أمور ليست طبيعية أبدا.

اتركونا مغيبين


 
لعلها زفرة يائس، أكثر منها رأي مدروس:

لا يثير جنوني إلا ذلك الشخص الذي يلعن الحكومات والإعلام غاضبا منها لأنها "تغيب الناس" و"تلهيهم" عن قضايا الأمة..

وأتمنى أن أسأله عن تلك الأشياء العظيمة التي تفعلها شعوبنا حين لا تكون مغيبة، وحين تمتلئ صدور الشباب بالحماسة لأجل الأمة؟

سأجيبك أنا : العربي المسلم الذي يتحمس لقضايا الأمة، تجده إما ينضم إلى حزب متطرف، أو يتحول إلى مجاهد مسلح في خلية إرهابية، أو ثائر يطالب بهدم الكوكب ليعيد بناؤه بشكل يناسب أحلامه، ولا يكتفي بالمطالبة بل ينشط بإلقاء زجاجات المولوتوف على أي مبنى زجاجي على سبيل الكفاح الثوري..

يا أخي اتركنا مغيبين..
ألم تر أن الصاحي منا لا يحلم بحرية ومساواة وديمقراطية وتعايش وسلام، بقدر ما يحلم بحروب وثورات وجهاد وغزوات وخلافة وقهر وتشفي لأعداء الداخل، وإن بقي وقت فأعداء الخارج أيضا؟ 

نعم هناك بيننا نشطاء ومثقفون في غاية العقلانية والإخلاص، يطالبون بالتغير وهو مؤمنون بالحرية والإنسانية، ومستعدون لدفع ثمن مطالبتهم.. ولكن تأثيرهم قليل جدا في بلادنا، بالمقارنة مع الإرهاب والغوغائية - هكذا أرى وأتمنى أن أكون مخطئا..

بعد أن جرى ما جرى، لم أعد أحلم بتغيير جذري تقوم به جموع شعوبنا، كما لم أعد أؤمن بأن التوعية المختلة التي تحيط بنا هي أقل خطرا من الجهل والتغييب.. 

أرجوكم اتركوا شعوبنا نائمة ضائعة مغيبة، اتركوها تنعم بالمخدر والجنس وكرة القدم والأفلام التافهة وحتى بالدين المدروش الإستهلاكي الرأسمالي  السطحي، ذلك النوع من الدين الذي نلعنه ليلا ونهارا، ربما مفضلين عليه الدين الحقيقي الثائر ضد الظلمة، على طريقة الشهيد سيد قطب وبن لادن والظواهري..

فإن كانت تلك أحلامك فلا تؤاخذني إذن لو فضلت الدين المدروش المخدر..

اتركوا شعوبنا مغيبة، لأن الصحوات الشائعة تلك الأيام أسوأ كثيرا من غيبة الحشاش الذي لا يذبح ولا يفجر..

الله والقتل


من خواطر الله..

خلقت آدم فعصاني، فكان جزاءه الموت.. وبعد فترة انتشر الفساد في الأرض كلها، فكان الحل هو قتل الكوكب كله غرقا بالطوفان..

وحين أردت اختبار إبراهيم أمرته بقتل ابنه..

وبعدها لم يعجبني السلوك الجنسي لقوم لوط فقتلتهم بالنار..

 وأما عاد فعصوا رسولي فقتلتهم جميعا.. ثم إن ثمود قتلوا ناقتي فقررت قتلهم أيضا..

وحين أردت تخليص شعبي المفضل من فرعون قمت بقتل كل طفل بكر مولود بمصر، ثم ختمت القصة بأن قتلت جيش فرعون كله غرقا..

وحين أنزلت أولى رسالاتي حرمت فيها القتل، ولكني جعلت القتل جزاءا للهرطقة وللزنا وللمثلية ولعصيان الآباء وللعمل يوم السبت.. وحين قام بعض اليهود بعبادة العجل عالجت المسألة بطريقتي المعتادة: قتلهم..

وفي حروب الإسرائيليين أمرتهم بقتل كل من يعترض طريقهم: المديانيين والعماليق والكنعانيين وغيرهم..

وبالطبع ظل بعض البشر يرتكبون المعاصي، وكان الحل عندي غالبا هو القتل: لمن يلمس التابوت أو يقوم بالطقوس الخاطئة.. وأما الأخطاء البسيطة فيمكن غفرانها عن طريق قتل بعض الحيوانات التي لا ذنب لها..

وحين راجعت نفسي وقررت فتح صفحة جديدة مع البشر، لم أجد وسيلة لذلك سوى أن أنزل إليهم بنفسي وأجعلهم يقتلونني..

وحين أنزلت ديني الأخير للناس أمرت بقتال الكفار، وقتل القاتل، وقتل المرتد، وقتل الزاني، وقتل من يعترض على محمد، وقتل من يقف في طريق نشر الدعوة، وقتل من يرفض دفع الجزية، بالإضافة إلى قتل الكلاب والوزغ، مع الإستمرار في قتل الحيوانات للأكل في الطقوس والأعياد..
وحين علمت أن البشر مؤخرا بدأوا يفقدون الإيمان بي، ويتخلون عن تطبيق شرائعي، شعرت بالدهشة والحزن من أجلهم، إذ من أين سيستمدون قيمة الحياة والإنسان؟ ومن أين سيحصلون على معاييرهم الأخلاقية؟! وكيف سيمكنهم الإستغناء عن وسائلي العملية والمبدعة في حل جميع أنواع المشاكل؟!!

ما يقوله وما يقصده



الديني بالعادة ...

حين يطالبك بالتواضع فهو يريدك أن تخضع لغرور عقيدته،

وحين يحدثك عن محدودية المعرفة فهو يحاول جذبك إلى جهل لامحدود،

وحين يتكلم عن نسبية العقل البشري فهو يسعى لإقناعك بجنون مطلق،

وحين يقول لك "افتح قلبك" فما يعنيه حقا هو "أغلق عقلك"..

وحين يتكلم الديني عن أهمية "الدين" وأخلاقية "الدين" وضرورة احترام "الدين"، فما يقصده هو دينه ومذهبه فقط، فهو لا يرى أهمية للأديان الأخرى، ولا يراها أخلاقية، ولا يحترمها..

لست مركز الكون



تقول الأبيات المنسوبة لعلي ابن أبي طالب، مخاطبة الإنسان:
(وتحسب انك جـِرمٌ صغير  - وفيك انطوى العالم الاكبر)

ويختلف معه تماما الشاعر المصري صلاح جاهين:
(إنسان أيا إنسان ما أجهلك
 ما أتفهك في الكون و ما أضألك
شمس وقمر و سدوم و ملايين نجوم
وفاكرها يا موهوم مخلوقه لك؟!)

والفارق بين النظرتين هو الفارق بين الكلاسيكية والحداثة، فلا نبالغ لو قلنا أن تاريخ المعرفة هو تاريخ اكتشاف ضآلة الإنسان وسط ضخامة الكون، كما قال جاهين..

بعد أن كنا منقادين بعواطفنا ونرجسيتنا التطورية العزيزة لنظن أن العالم مخلوق حصرا من أجل نوعنا، صار العلم يصفع غرورنا مرة بعد مرة، لنكتشف أننا لا نزيد عن ذرات متناثرة في كون لا يمكن لعقولنا تصور ضخامته..

وأكبر صفعتين هما صفعتا غاليليو وداروين، وكلاهما له إرهاصات سبقته : الأول أخبرنا أن أرضنا ليست مركز الكون كما كنا نظن ، وإنما هي كوكب آخر يدور حول الشمس، ولاحقا اكتشفنا أن المجموعة الشمسية نفسها ليست سوى جزء صغير جدا بالكون، وهي أيضا تتحرك، ضمن مئات المليارات من النجوم والكواكب..

وأما الثاني فأخبرنا أن نوعنا البيولوجي غير متميز إلى تلك الدرجة، وأننا لم نهبط من السماء وأنما نشأنا عن الأرض، متطورين عن أسلاف حيوانية، مما يجعلنا أحد أبناء الطبيعة لا أسيادها..

وإن أردت معيارا قويا تقارن به بين المنهج العلمي والمنهج الديني، لترى أيهما يقدم لك نظرة أكثر واقعية للعالم ، فانظر أيهما يخاطب أطماعك ويغذي أمنياتك ويدغدغ أحلامك ويلائم نرجسيتك، وأيهما يصدمك بالواقع المتواضع وأحيانا المرير : أنك لست مميزا بالشكل الذي كنت تظنه، وأنك لست مركز الوجود، وأن الكون مكان واسع لا يعبأ بك كثيرا، فهو كان موجودا من قبلك، وغالبا سيستمر من بعدك..

السحاب الثقال


القرآن يتحدث عن "السحاب الثقال".. فيشير أهل الإعجاز إلى أن العلم الحديث اكتشف أن السحب تزن آلاف الأطنان، فكيف لمحمد أن يعرف تلك المعلومة..إلخ..

ولكن بمراجعة بسيطة لأصل كلمة "ثقل" في معاجم اللغة، ومعانيها بالقرآن، فسنجد أن الثقل يعني المتاع\الشيء العظيم\الحمل، سواء المادي أو المعنوي..

ففي الحديث يقول محمد تركت فيكم "الثقلين" كتاب الله وعترتي، والواضح أنه يعني "العظيمين المحملين بالأشياء"..

وفي القرآن أن الأرض ستخرج أثقالها، أي ما تخزنه في جوفها من أحمال، كنوزها وموتاها..

وفيه أن الله سيلقي على محمد "قولا ثقيلا" أي عظيما محمل بالمعاني والتكاليف..

وثقل الطعام على المعدة أي صار حملا صعبا عسير الهضم..

وثقلت المرأة أي ظهر حملها..

فصحيح أن الكلمة قد تحمل معنى الثقل الدارج، أي زيادة الوزن، ولكن المعنى الأصلي هو العظمة والتخزين والحمل داخل الجوف، ولا شك أن المعنيين مرتبطان، لكن المعنى الدارج (الوزن) تابع للمعنى الأصلي (الحمل)..

بالطبع كان يمكن لكاتب القرآن استنتاج أن السحاب - منطقيا- ثقيل، كونه محمل بماء المطر، ولكن يظل الأرجح من النص أنه يقصد أن السحاب ضخم ومحمل بالماء، كما تحمل المرأة طفلها في بطنها، وكما يحمل القرآن معاني وتكاليف..

ومن تفسير الطبري للآية نقرأ (السَّحَاب الثِّقَال بِالْمَطَرِ).. فلم يقل الثقال فقط حتى نفهم أنه يقصد الوزن، وإنما قال "ثقال بالمطر" أي أنه يقصد "محمل بالمطر"، مؤكدا المعنى المذكور..

ويتأكد هذا فيما ينقله الطبري بعدها (عَنْ مُجَاهِد : { وَيُنْشِئ السَّحَاب الثِّقَال } قَالَ : الَّذِي فِيهِ الْمَاء)..

وفي التفاسير الأخرى يتكرر هذا المعنى، في الجلالين مثلا يقول (يَخْلُق "السَّحَاب الثِّقَال" بِالْمَطَرِ).. والواضح أن المقصود هو "المحمل بالمطر" بغض النظر عن ثقل الوزن..

إنجيل برنابا



هو إنجيل مزور كتب على الأرجح بالقرن الخامس عشر..

وكذلك رأي المسيحيين الأرثوذوكس.. كما يرى الأنبا بيشوي، بل إن للبابا شنودة كتاب كامل بعنوان "خرافة إنجيل برنابا"..

وفي الرابط يذكرون أن كثير من الكتاب المسلمين كذبوا هذا الإنجيل، منهم عباس محمود العقاد الذي قال عنه "فيه أخطاء لا يجهلها اليهودي المطلع على كتب قومه، ولا يرددها المسيحي المؤمن بالأناجيل، ولا يتورط فيها المسلم الذي يفهم ما في إنجيل برنابا من التناقض بينه وبين القرآن". (جريدة الأخبار 26/10/1959)

بل إنه يحتوي تناقضات مع القرآن، كما يقر بذلك بعض المسلمين..

وكذلك رأي الكاثوليك أنه تزوير تم بالقرون الوسطى..

الغراب والدفن



منذ قليل شاهدت فيديو وضعه أحدهم، مطالبا بتفسير ما لما يحدث: كلب يحمل قطة ميتة بفمه، ويقوم بحفر التراب ثم يضعها بالداخل ويهيل على الجثة التراب..

خطر التفسير الواضح في ذهني، ولحسن الحظ وجدت البعض كتبه: فما بدا أنه عملية دفن روحية مهيبة، كان في الحقيقة سلوكا أكثر منطقية وعملية: حيوان غير جائع وجد وليمة فقام بتخبئتها بعناية، ليرجع إليها لاحقا..

كثير من الحيوانات تفعل ذلك، تخبئ طعامها لتعود إليه في الوقت المناسب، قريبا أو آجلا، مثل الفهود والسناجب والنمل والغربان..

هل قلت الغربان؟

نعم، هناك مشكلة معتادة في مسألة التخبئة هذه، أن الحيوان قد ينسى المكان الذي خبأ فيه الطعام.. ولكن الغراب هو كائن شديد الذكاء، فحين يقوم بدفن طعامه يقوم بوضع علامة، مثل ورقة شجر أو فرع صغير ليعلم به المكان، ثم يقوم بالنظر يمينا ويسارا ليخلق صورة ذهنية عن المكان، ليسهل عليه الرجوع له لاحقا..

فقط تخيل إنسانا بدائيا، عاش منذ آلاف السنين، يغلفه الشعور بغموض الكون، ويقدس الكائنات المختلفة، كما كان حال أجدادنا.. فما أسهل أن ينظر صاحبنا إلى الغراب فيفسر سلوكه بشكل روحاني أو سحري، فيقتبس منه طقوس دفن الموتى ووضع علامة شاهد على مكان القبر..

وفي القرآن نقرأ أن الغراب هو من علم البشر الدفن، بعد أول عملية قتل بالتاريخ الديني، حيث يحكي عن قايين\قابيل (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ - فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)..


شرف الجاهلية



-- أعزائي المشاهدين، مرحبا بكم في "مسابقة الرجولة والفحولة والشرف"..


المتسابق الأول (شاب عربي يرتدي بدلة أنيقة مع لحية خفيفة وابتسامة داعية جديد)

- مساء الخير، أنا أجبر زوجتي على الحجاب المودرن ولا أمنعها عن العمل..

المتسابق الثاني (أزهري بعمامة وجلباب ولحية مهذبة بطول قبضته بدون ابتسامة)

- السلام عليكم، (ثم مخاطبا المتسابق الأول) يالك من فتى أرعن (ثم مخاطبا المشاهدين) أنا بطل الرجولة لأنني أجبر زوجتي على الحجاب، ولا أتركها تسمع الموسيقى أو تشاهد التلفاز..

المتسابق الثالث (شيخ وهابي بلحية تغطي كرشه، مع تكشيرة مخيفة مثل عادل إمام بفيلم الإرهابي)

- السلام على من اتبع الهدى، (ثم مخاطبا الأزهري) يالك من شيخ ديوث رويبضة مخروم المروءة (ثم مخاطبا المشاهدين) أنا بطل الرجولة لأنني أجبر أمي وأختي وزوجاتي الأربعة وبناتي منذ الطفولة على النقاب، وعدم الخروج للدراسة أو العمل، بل عدم مغادرة المنزل إلا للقبر..

-- أعزائي المشاهدين، المنافسة محتدمة، ولكن يبقى لدينا متسابق واحد لم يعبر عن موقفه:

المتسابق الرابع (شيخ بلحية حمراء وجلباب ملون ويضع ريشة على عمامته، ويحمل صنما صغيرا بيده)

- عمتم مساءا يا ديوثين جميعا، أنا كلما تلد زوجتي بنتا أدفنها في الرمال فورا..

-- أعزائي المشاهدين، يبدو أن لدينا فائزا لمسابقة الرجولة!، هذا الرجل العظيم ضمن أن ابنته لن تكبر ليراها مخلوق، ولن تتعطر وتخرج من المنزل، ولن يكون لها بوي فريند، من يستطيع منافسة ذلك؟!.. كل التهنئة للفائز.. 

الجاهلية: 1
الإسلام: صفر

ما الذي رآه محمد؟


في الإسلام وجد ذلك الجدل بشكل غامض ومبهم: كيف نعرف أن ما رآه محمدا هو جبريل وليس شيطان؟

1- لدينا موقف خديجة، وكشفها لجزء من جسدها، فلما اختفى الكائن من أمام محمد، أخبرته بأنه ملاك (منهج تجريبي)..

2- لدينا ذهابه إلى ورقة، والذي قال له أن ما رأيته هو الوحي الذي أنزل على موسى (شهادة خبير)..

3- لدينا القرآن  الذي حاول أن ينفي التهمة (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ - وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ - إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)

الكهنة قديما كانوا يدعون أنهم يتواصلون مع الجن، الذين يتلصصون على السماء فيعرفون أخبار البشر، و يخبرون بها الكهنة، ولهذا الكهنة يعرفون الغيب..

القرآن خشى أن يتم اتهام محمد بتلك التهمة، فقال بأن تلك المهزلة توقفت بسبب أن الله جعل الشهب والنيازك في الجو لحماية السماء من جواسيس الجن..

فيقول على لسان الجن (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا - وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا)

4- لدينا مأزق في الآيات الشيطانية، حيث قام محمد بمدح آلهة العرب (اللات والعزى ومناة).. فنزل القرآن يبرر ذلك بأن هذا كان وحي الشيطان وهي مسألة تحدث لكل الأنبياء:
)وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

ساعدني حتى أمارس طقوسي



ما أعجب أن ترى ترى طقوسا دينية، لا يستطيع صاحبها أن يقوم بها بمفرده في صمت، وإنما لكي ينفذها فهو محتاج إلى مساعدة من المجتمع كله، حتى غير المؤمنين بها، فهو لا يستطيع ممارسة دينه إلا بتضامن الجميع معه عمليا..

الإسلام - يقولون- دين عظيم جدا يعلم الإنسان التحكم في نفسه بإرادة حديدية، يسموه "تهذيب النفس" أعتقد؟ .. لكن الغريب إنك ترى المسلم - حسب كلامه عن نفسه- هو الكائن الوحيد الذي لو رأى شعرة من امرأة سيفقد عقله ويذهب للزنا.. ولو كان صائما وشاهد شخصا يشرب كوبا من الماء فسيفقد سيطرته على معدته ويجري للإفطار.. ولو سمع كلمة من مرتد فسيفقد إيمانه ويجري نحو الإلحاد فورا..! وبالطبع لا يمكن أن نسمح بحدوث ذلك، حتى لو اعتقلناك وقتلناك..

صحيح أن المسلم يؤمن أنه سوف يحاسب على أعماله وحده، ولكنه يصر- بكل سماجة وإلحاح- على أن تشاركه في عباداته، حتى لو لم تكن تؤمن بدينه..وإلا فإنه لن يستطيع القيام بتلك العبادات..

من يطالب بـ"احترام طقوسه" بهذا الشكل، لا يدرك كم يجعله ذلك يبدو طفلا بائسا عديم الإرادة .. لكي يحقق عفته المتوهمة فيجب على الكل الإلتزام بتلك العفة.. ولكي يحافظ على صومه فيجب على الجميع الصيام.. ولكي يحافظ على دينه فيجب أن لا يسمح للرأي الآخر بالتعبير.. وأي خلل في التزامك أنت بدينه سيؤدي إلى خلل مماثل عنده هو، يجعله يقع في المعاصي فورا..

وربما هنا ينبغي توجيه الشكر للمسلم حين يصلي، فهي تبدو العبادة الوحيدة التي يقوم بها المسلم بمفرده، دون أن يطالب اليهود والنصارى والملاحدة بأن يركعوا ويسجدوا معه من باب التشجيع والدعم النفسي..

الخروج من الجنة


في سفر التكوين نجد أن آدم وحواء كانا يعيشان في الجنة، حيث الهناء ووفرة الموارد، ولكن بعد أن أكلا من الشجرة اكتشفا أنهما عريانان، وانتهى الأمر بطردهما من الجنة إلى حياة التعب والشقاء في الأرض..

ويرى البعض أن القصة - المحتشدة بالرموز- تعكس خبرات قديمة جدا عن انتقال الإنسان من حالته الأولى المتمثلة في حياة الصيد وجمع الثمار، إلى الإستقرار في المدن وممارسة الزراعة، حيث تخبرنا الدراسات أن سكان المدن الأولى كانت تغذيتهم أفقر وصحتهم أسوأ وقامتهم أقصر من سابقيهم أهل الترحال والجمع والصيد..

ولكن ما الذي جعل الإنسان ينتقل من الجنة إلى شقاء العيش؟

الجواب على الأرجح هو نفاد الموارد، فكثرة السكان أدت إلى استهلاك الثمار الطبيعية، ولأن الحاجة أم الإختراع، فقد لجأ أجدادنا إلى البديل وهو الزراعة..

وكثرة السكان هنا تساوي: الإنجاب، أي الجنس..

أيكون ذلك هو مغزى الأسطورة التوراتية؟ الشجرة المحرمة التي كشفت العري هي رمز لشهوة الجنس، والتي تنتج الولادات بكثرة، مما نتج عنه نفاد الموارد، أي لعنة الخروج من الجنة والإنتقال إلى الكفاح مع الأرض..

لو صح ذلك، فقد يكون هذا هو أحد أسباب تنظيم الحياة الجنسية للبشر، فقد اقترنت الحياة الأولى (في الجنة) بالعلاقات - وبالتالي الولادات- العشوائية المنفلتة، ولكن مع الإستقرار في المدن تم تحديد ملكيات الموارد، وصار الحذر واجب لتحديد النسل الذي سيستفيد من تلك الموارد، ومن هنا كان الزواج حلا تنظيميا مناسبا، ومن هنا تم تحريم العلاقات العشوائية التي أخرجتنا سابقا من جنة الصيد وجمع الثمار..

الإرهاب نبت أصيل




الإرهاب ليس طفرة شاذة في مجتمعاتنا، وليس عرضا طارئا يمكن حصر أسبابه في متغيرات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية..

الإرهاب نبت أصيل وقديم ومتجذر، تم خلق بذوره في سفاح قذر حدث في غفلة من التاريخ، بين عقيدة شعب مختار مهووس دينيا، وشريعة قطاع طرق تقودهم أطماعهم وشهواتهم، ثم نبت وتفرع عبرألف وأربعمائة سنة وأنتج ثمارا دامية تلوث الأرض حيثما حل الإسلام.. ويحكى أن تلك الشجرة النتنة كادت تذوي منذ قرن مضى، حتى تم ريّها وتسميدها بالبترودولار الذي استخرجته شركات غربية كافرة من تحت رمال صحراوية مدنسة بالدين ومروية بالدم..

واليوم، الإرهاب ليس منحصرا عند داعش كما تتوهمون، وإنما هو منتشر في كل زاوية وخلف كل حجر من بلدانكم، يلوث أرضكم وسماءكم وعقول أهلكم ونخبتكم وحكامكم وشرطكم وجيوشكم، الإرهاب في جارك وقريبك وزميل عملك وسائق التاكسي الذي أوصلك والصحافي الذي تقرأ له يوميا، منتشر كوباء معدي أعراضه قد لا تظهر على الوجوه، وإنما قد تبرز في الوقت المناسب: في موقف عابر أو جدل سياسي، أو ثورة أو انتخابات برلمانية..

والإرهاب لا يقتل ويفجر فقط، وإنما هو يؤيد القتل ويدعمه ويتعاطف مع القتلة ويبرر لهم، وهو يقهر الأقليات ويضطهد النساء ويسيء معاملة الأطفال، ثم أنه يزور الحقائق ويزيف التاريخ ويغسل العقول..
   
وإلى كل صاحب كلمة في تلك الأوطان التعيسة: هذه المعركة حقيقية، بل هي الأهم في هذه المرحلة.. وسيلعن التاريخ كل من يغض الطرف أو يقف محايدا أو يدفن رأسه في الرمال.. 

ما الذي يميز المجدد؟


عزيزي صاحب التفسيرات الإسلامية المعاصرة، هادم التراث ومجدد الدين:

لكي ترفض تراثك وتعيد تفسر دينك بشكل جديد، زاعما بأنك قد أقدر على فهم الدين من جميع الصحابة والتابعين والمفسرين والفقهاء، فالواجب عليك أن تشرح لنا مصدر ذلك الفهم الذي وصل لك ولم يصل إليهم..

بمعنى أوضح: عليك أن تحدد لنا بالضبط ما هو الشيء الذي خصك الله به، من الناحية الدينية أو العقلية، ولم يخص به القدامى الأقرب إلى لغة النص وإلى بيئة النص: مثل ابن عباس ومجاهد وأبو هريرة وأبو حنيفة ومالك ابن أنس والشافعي وابن حنبل والليث ابن سعد والطبري والقرطبي وابن كثير والبخاري ومسلم وابن حجر والأوزاعي والأشعري والغزالي والرازي والسيوطي وابن تيمية وغيرهم..

ما هي الملكة العقلية أو الدينية الفريدة جدا التي توفرت لك ولم تتوفر لهؤلاء جميعا، عبر تلك العصور؟

هل هي التمكن اللغوي؟ الذكاء؟ فهم روح الإسلام؟؟

من يتهمك بالترقيع، يزعم أنك متأثر بمتغيرات العصر، والتي تجعل المسلم الخجول من دينه، يحاول تحريف نصوص ذلك الدين، لتلائم الحداثة القادمة من الغرب الكافر والعياذ بالله..

أما أنت، فتدعي أن تفسيراتك الجديدة ليس لها علاقة بتأثير العلمنة، وإنما هي نابعة من إعادة فهم النصوص نفسه..

ولكي تثبت ذلك، عليك أن تحدد لنا هي السمة التي غابت عن القدامى جميعا، فجعلتهم يفهمون النصوص بشكل خاطئ، ثم أن تلك السمة ظهرت فيك، فجعلتك وحدك تفهم النص بشكل صحيح؟

الجمعة، 19 يوليو 2019

الإلحاد والأديان الأرضية



حين تؤمن أن دينا معينا هو "الدين المختار" من دون الأديان، فأنت ذو فكر متعصب ضيق الأفق..

ولا يختلف الحال لو كنت تؤمن أن قومية معينة هي الأفضل، أو عرقا معينا، أو طبقة معينة..

في بعض ساحات المجموعات اللادينية يتم انتقاد الأديان بعنف (غالبا تستحقه)، مما يجعل البعض (دينيين ولادينيين) يظن أن الملحد يكره الأديان بشكل شخصي إلى درجة أنه مستعد لقبول - أو التغاضي عن- أنواع أخرى من التعصب..

وهذا الإعتقاد بنظري خاطئ، وإن صح فهو كارثي، فهو يعني أن الملحد تحرر من خرافة متعصبة ليقع في خرافة أخرى متعصبة..

نعم نرى بين الحين والآخر ذلك الشخص، الذي يلعن الدين والعروبة، وهو يفتخر بقومية أجداده الذين يعتقد أنهم خلقوا الكون واخترعوا الحضارة، وأنهم خير أمة أخرجت للناس..

أونرى من يدين جمود أهل الأديان وتمسكهم بكتبهم، ويدين عنصرية اليهود واستعلائهم، ويسخر من انتظار المسيحيين لعودة يسوعهم، ويستنكر جهاد المسلمين ضد خصومهم، ثم إذا به يعلي من شأن مبادئ المادية الديالكتيكية ويرفض التشكيك فيها، ويقدس كتب ماركس ولينين وستالين، ويهتف بأن البروليتاريا هم طبقة الطبيعة المختارة، وينتظر عهدا تختفي فيه الدول والطبقات، وينادي بضرورة القتال وتدمير الخصوم استعجالا لقدوم ذلك اليوم المنتظر..

أو نرى أخرى تعترض - بحق- على ذكورية الأديان وتحيزها للرجال، ثم إذا بها تنادي بأن المرأة هي الأصل وأن الرجال كائنات دونية ناقصو عقل وأخلاق..

ويتناسى الرفاق أن هناك فارق هائل بين أن تؤمن بأفكارك- وكلنا يؤمن بأفكاره- وبين أن تتعصب لتلك الأفكار بحيث تعتبرها الحق المطلق الذي لا يناقش، وأن تعادي مخالفيها وتصفهم بالخيانة أو الشر..

كما أن هناك فارق هائل بين أن تنحاز لحقوق جماعة ما لأنها منقوصة الحقوق: الأمازيع، الأكراد، النساء، العمال والكادحين..إلخ - والإنحياز لحقوق المستضعفين هو انحياز إيجابي مطلوب - وبين أن تنحاز لتلك الجماعة نفسها إلى درجة معاداة الآخرين والمطالبة بقمعهم أو إبادتهم..

وهنا يتوجب على كل إنساني أن يرفض كل ألوان الجمود والتعصب، سواء ادعت أنها جاءت من السماء أو من الأرض..

نعم نعلم أن التفسير المعجمي للإلحاد هو "عدم الإيمان بالآلهة - وبالتالي الأديان خاصة التأليهية"، ولكن سيكون جميلا لو نتبنى تفسيرا أوسع للأديان، وهي جميع المقدسات والتعصبات، وبالتالي نلحد بها كما نلحد بالأديان "السماوية"..

هنا حين نسمع مؤمنا- مسلما أو مسيحيا- ينتقد الإلحاد مستدعيا نماذج ملحدين سفاحين مثل ستالين وماو، فقد يخطر ببالنا عددا من الردود المنطقية، ولكن بنظري الرد الأفضل على ذلك المؤمن هو: أنت محق تماما..

نعم هناك ملحدون سفاحون مجرمون، وأكثر الملحدين يدينون أولئك كما ندين إجرام الأديان تماما (وربما هذا هو الفارق الأهم بيننا وبين المؤمن الذي يبرر جرائم دينه)، ولكن مربط الفرس هنا هو أن أولئك المجرمين لم يكونوا مجرمين لأنهم "ألحدوا أكثر من اللازم"، وإنما لأنهم تركوا الأديان المسماة سماوية ليصنعوا أنظمة شبه دينية شبيهة، ولكن بطابع أرضي.. كما يقول سام هاريس: مشكلة الفاشية والنازية والشيوعية ليست في أنها ابتعدت عن الأديان أكثر من اللازم، وإنما مشكلتها أنها تشبه الأديان أكثر من اللازم..

حتى أن كثيرا من الباحثين أشار لعقيدة "عبادة القائد" في الدول الشيوعية أو شبه الشيوعية، كما حصل في الإتحاد السوفييتي والصين وكوريا الشمالية وكوبا وغيرها، حيث تم تقديس الزعماء بشكل لا يختلف عن تقديس الأديان لأنبياءها في وجه من الوجوه..

وبالنسبة للملحد بالذات فهو أول من ينبغي أن يدرك أن الفارق بين "دين سماوي" و"دين أرضي" هو فارق وهمي، حيث أن الملحد يعرف أنه لا يوجد دين سماوي أصلا، فالكل جاء من الأرض، وإن ادعى القداسة.. وفي تلك الحالة لا يوجد فارق أخلاقي بين من يستمد القداسة من السماء أو من الأرض.. كلاهما ينتج تعصبا وخرافات وطغيانا..

وسيكون رائعا لو أننا ألحدنا بكل الأديان والآلهة، بمعناها الواسع، دون الإنخداع بالتقسيمات الشكلية..

عن الإختلاف والتشابه



لو تحررنا قليلا من السيرة الموروثة، ولاحظنا سياق دعوة محمد وعلاقته بخصومه، لربما استطعنا فهم بعض الآيات القرآنية بشكل مختلف، أقرب إلى واقع نشأة هذا الدين..

من القرآن - وبعض نصوص السيرة - نلاحظ أن أول احتكاك لمحمد كان مع أهل الكتاب، رهبان النصارى، وربما بعض اليهود، وأنه حين أعلن دعوته اتهمه خصومه بأنه "يعلمه بشر"، يقول القرآن أنه ذو "لسان أعجمي".. وترد أسماء عديدة مرشحين لتعليم محمد، كما ترد نصوص تربطه بالسريانية، لغة اليهود آنذاك..

كما نلاحظ أن هدف محمد الأول كان إثبات شرعيته بالإستناد إلى أهل الكتاب، فيقول أن كتابه جاء "مصدقا لما معهم"، وأن محمد هو النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ.. وحين آمن به بعض اليهود ابتهج بهم وتحدى العرب قائلا: أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟

ومن هنا يمكن أن نعيد فهم تلك الآية:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا


فربما يكون المقصود بالإختلاف ليس "التناقض" كما يفهمها أكثرنا، وإنما قد يقصد "الإختلاف عن الرسالات السابقة".. فهنا يقول لهم: دليل صحة كتابي أنه متطابق مع ما جاء بالتوراة والأناجيل، اللتين جاءتنا من مصدر إلهي، ولو كان كتابي من عند غير الله لما جاء متشابها معهما بهذا الشكل..

ومسألة "التشابه" (مع الكتب السابقة) يمكن أن تفسر لنا آية أخرى غريبة:
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ

فلعل المقصود أن بعض آيات القرآن جاءت متطابقة مع نصوص سابقة يعرفونها، وكأنها ترجمة مباشرة، بينما جاءت نصوص أخرى غير متطابقة، فأثارت شكوك البعض، ولكن - يؤكد القرآن - أنه لا داعي للشك، لأن تلك الآيات، وإن لم تكن محكمة التطابق مع التوراة والأناجيل، إلا أنها متشابهة في المعنى، فلا ضير..

وأتصور أن هذا المعنى قريب مما اقترح لكسنبرغ في قراءة سريانية أرامية للقرآن، فهو يرى أن كثير من آيات القرآن ليست سوى "ترجمة" عربية لنصوص كتابية..

العلم والأيديولوجيا



 
 
العلم بيّن والدين بيّن، وبينهما أمور متشابهات فاجتنبوها..

حين تعتنق فكرة ما فتحبها بشدة وتملأ عليك كل كيانك، وتعشق رموزها إلى درجة التعصب، وتغضب بحرارة إذا انتقدها أحدهم، وتتمنى من قلبك أن تسود العالم، وتدافع عنها ملء حنجرتك ، مستعدا للموت - أو ربما القتل - من أجلها، فالأرجح أنك تتحدث عن دين، سواء يزعم أن مصدره سماوي (يهودية، مسيحية، إسلام) أو أرضي (أيديولوجية قومية أو سياسية) هو بالنهاية دين .. ولا يهم بعد ذلك لو ظللت تؤكد أنه "علم"، فالأسماء لا تغني عن المحتوى شيئا..

لم نسمع عن خطيب قام يصرخ في المواطنين المتحمسة دفاعا عن فكرة علمية، مطالبا إياهم بالتضحية بأرواحهم من أجل نصرتها، ولم نسمع عن ثورة قامت أو حرب تم شنها دفاعا عن فكرة علمية.. ذلك لأن العلوم بطبيعتها - أولا - قادرة على الدفاع عن نفسها بالبراهين بلا حاجة إلى اعتداء على الآخرين، ولأن العلوم ثانيا هي حقائق مجردة محايدة ليس فيها ما يثير أحلام الغوغاء، وليس فيها ما يغري القادة بتحقيق مصالح خاصة.. هذه بالأحرى من سمات الأديان..

العلم يكمن جماله في أنه موضوعي، بارد إن شئت، أو لنقل أن فيه عاطفة هادئة تشبه متعة القراءة، ولكنه أبعد ما يكون عن حماسة الصراع ونشوة النصرالمميزة للإنحيازات القومية والسياسية والطائفية..

الملحد الغربي والإسلام



البعض يقوم بمدح الملحد الغربي، من باب شتم الملحد العربي؟

الملحد الغربي مفكر راقي - الملحد الغربي متعمق في جميع فروع العلوم- الملحد الغربي لا يتكلم في التفاهات - الملحد الغربي موفر للوقود لديه ناقل حركة أوتوماتيك بسبعة سرعات ومزود بوسائد هوائية..إلخ، ثم داهية الدواهي: الملحد الغربي يحترم الأديان!
تتكلم جد يا شيخ؟

طيب خذ عينات بسيطة من موقف بعض الملحدين أوالعلمانيين الغربيين من الإسلام، علما بأني لم أختر الأسوأ :

سام هاريس - بيل ماهر، وهنا - ريتشارد دوكنز - بات كونديل- كريستوفر هيتشنز

وهنا قائمة بأقوال مفكرين وشخصيات شهيرة (منهم ملحدين) عن الإسلام

ملحد يحرق القرآن
 
ونختم بأغنية جميلة

بين عالمين



في عالم الأفكار فالبطل الأول هو الحقيقة، والتي لا يجب التهاون فيها، وفي سبيل تحريها فلا مفر من الغربلة والتنقيح بكل صرامة واستبعاد الخاطئ باستمرار..

أما في عالم البشر فالبطل الأول هو التعايش، والذي يقوم على قبول التعدد واحتواء الخلاف بكل مرونة في سبيل الوصول إلى مجتمع سليم سعيد..

وهنا الخلط بين العالمين يكون له تبعات ضارة بل خطيرة،

فمن يسعى لتطبيق قواعد الفكر على عالم البشر فإنه ينخرط في تقسيم البشر وغربلتهم واستبعاد المخالف، مما ينتج لنا التطرف والتعصب والدوغمائية والأدلجة..

أما من يسعى لتطبيق قواعد البشر على الفكر فإنه يرفع لافتة النسبية ويدعو إلى تقبل جميع الأفكار حتى المتناقض منها، مما ينتج لنا الميوعة والتشويش والخرافة..

أما الفصل الضروري بين العالمين، فهو يعني أن نتشدد مع الأفكار ونتسامح مع البشر، فقد ندين العقائد ولا يعني ذلك أننا نكره أتباعها، وقد ندعو إلى تقبل البشر دون أن يعني ذلك أن نعترف بصحة أفكارهم..

قوائم مطلوبة




أتذكر قولا ساخرا بأن كلمة "إلخ" يتم كتابتها بنهاية الجملة حين لا تجد عنصرا آخر تضيفه..

حين تدعي الكثرة لشيء فالأفضل أن تمتلك أدلة رقمية أو إحصائية، فلا يصح أن تسمع عن مثال أو اثنين فتعتبر أننا نتحدث عن ظاهرة واسعة أو لها دلالة..

بالتالي فيحق لنا أن نطالب المسلمين بإصدار قوائم موثقة بالمراجع بعدة أمور، نتوقع أن يكونوا بالآلاف أو المئات في أدنى الحدود..

1- نريد قائمة بعدد المسلمين الذين تم قتلهم على أيدي المشركين في مكة، جراء الإضطهاد المزعوم الذي استمر 13 عام.

2- نريد قائمة بالمشركين الذين آمنوا فقط لأنهم سمعوا القرآن وانبهروا  بإعجازه وبلاغته.

3- قائمة بأسماء علماء اللغة العربية الكبار الذين أقروا بأن القرآن معجزة بلاغية لا يمكن لبشر أن يأتي بمثلها.

4- قائمة بعلماء الغرب الذين أسلموا بسبب وجود إعجاز علمي في القرآن.

5- قائمة بعدد الذين اعتنقوا الإسلام على يد الدعاة أمثال ديدات ونايك.