الأحد، 25 سبتمبر 2016

عن الحُب





خواطر - غير رومانسية- عن الحب،

سأتحدث عن ذلك الكيان السرمدي المعروف بعدة أسماء موحية، كالهوى و العشق و الغرام.. تلك القيمة الإنسانية التي تدفئ حياتنا و تجعلها قابلة للإحتمال.. ذلك الشعور السحري الغامض الذي لا ينجو منه أحد و الذي يستحيل وصفه بكلمات..  ذلك اللغز القديم الذي حيّر معه الأدباء و الشعراء.. المعبود الدائم الذي تدور حوله اليوم الأغاني و الأفلام في كل مكان..  الوغد اللعوب الراقص برشاقة على الخط الفاصل بين الفرح و الحزن، المتعة و الألم، الحياة و الموت، الجنة و الجحيم.

الطبيعي أن تفكير المرء يتطور مع العمر و القراءة و التفاعل و الخبرات ؛ و في خلال السنوات السابقة حدث لي تحول هائل في المفاهيم، بدأ بانقلاب الإيمان من الأديان والآلهة، و انتقل بعد ذلك إلى مراجعة فلسفية شاملة في النظر لكل شيء تقريبا: من أول معنى الحياة و الوجود و العلوم و تقييم الأخلاق وصولا إلى المواقف السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية- و كان من الطبيعي أن يشمل التغيير تبدّل النظرة إلى مفهوم الحب.

حين تنبذ الغيبيات و الروحانيات فأنت غالبا تنبذ معها مفاهيم فكرية مثل الخيالي و المطلق و المثالي و الكامل، و تصير بشكل عام أكثر تركيزا على العلمي و الواقعي و النسبي و الناقص و الموضوعي و الأرضي؛ و هذا هو ما يحدث مع الكثيرين- و في هذا الإطار تعلمت عدة أمور:

1- تعلمت التفكيك؛ البعض حين يرى ظاهرة معينة يهتم بفهمها قبل أي شيء آخر؛ و لأجل الفهم فقد تعلمت أن لا أنظر إلى الأشياء الكبيرة باعتبارها كتلا أحادية ضخمة تحتاج تفسيرا أحاديا ضخما لفهمها، و إنما أنظر إلى الأشياء الكبيرة بصفتها ظاهرة معقدة أنشأتها مجموعة عوامل متعددة متنوعة متباينة، و أحيانا متناقضة، تتجمع معا لتنتج لنا ذلك الشيء الكبير.

ظاهرة "الحياة"- على سبيل المثال- ليست "شيئا سحريا واحدا كبيرا نتعامل معه دفعة واحدة"، و لو نظرنا لها على هذا النحو فيستحيل فهمها، و إنما الحياة هي ظاهرة معقدة ناتجة عن تفاعلات كيميائية و بيولوجية كثيرة تتجمع معا بشكل معين لتشكل ذلك النشاط المسمى حياة؛ و يستحيل تفسير الحياة إلا بتفسير مكوناتها، بنفس الشكل الذي يستحيل معه فهم نوعية طعام معيّن بدون فهم مكوناته: مقاديره و كيفية خلطها معا..إلخ -  بل إن ماهية "التفسير" هنا لا تعني أكثر من عملية تفكيك الظاهرة إلى عناصر مادية دنيوية و فهم كل عنصر من عناصرها على حدة، مع ربطهم ببعضهم بطبيعة الحال؛ أما الإستعانة بالكلمات السحرية الكبيرة غير الدنيوية (مثل "الروح") فهي ضمانة أكيدة أننا لن نفهم الحياة أبدا.

بالمثل، أعتقد أن الحب ليس شيئا واحدا كبيرا روحانيا غامضا، و لو نظرنا له على هذا النحو فيستحيل أن نفهمه، و إنما هو مجموعة أشياء دنيوية عديدة تتجمع معا لتصنع ذلك الشعور السحري و تلك الرابطة التي تبدو كبيرة موحدة و أحيانا خالدة تسمو فوق الزمان و المكان و المادة، مثل الروح تماما.

بل الحب عبارة عن خلطة؛ وصفة من عدة أمور مختلفة : إعجاب، انبهار، انجذاب، تعاطف، تقارب، تفاهم، ألفة، طول عشرة، ثقة، احترام، احتياج..إلخ، - هذه عوامل توجد بين الناس بشكل متفرق، و حين يتجمع منها ما يكفي يمكن اعتباره حبا.

و بالطبع الجنس هو أحد العوامل؛ من الحماقة تجاهله، و من الحماقة فصل الجنس عن الحب تماما، و لو كان الحب مسألة أفلاطونية محضة تقوم على التوافق العقلي و النفسي لرأينا كل يوم شابا يحب امرأة تكبره بسبعين عاما مثلا!، أو حتى لرأينا شابا يحب شابا مثله!- لكن ما نراه أن الإنسان عادة يحب شخصا مناسبا له في العمر و مغايرا له في الجنس (إلا لو كان ذو توجه مثلي بطبيعة الحال)؛ بل نحن نرى الحب يتأثر بالشكل الخارجي كثيرا، فوقوعك في حب فتاة جميلة رقيقة هو أكثر احتمالا من وقوعك في حب امرأة قبيحة أو خشنة..إلخ -  و كالعادة هناك استثناءات تؤكد أن الشكل الخارجي ليس هو العامل الوحيد؛ و بالتالي نعم هناك جنس بدون حب، و هناك حب بدون جنس، و لكن هذا لا ينفي أن الجنس في الأغلب الأعم هو عنصر مهم جدا من عناصر الحب.

لو صحت تلك النظرة "التفكيكية" أن الحب مكون من عوامل عديدة، فسيعني ذلك أن هناك حب أكثر اكتمالا من حب، و سيعني أن هناك نصف حب و ثلاثة أرباع حب، كما سيعني أن الحب يمكن أن يولد و يكبر تدريجيا، و يمكن أن يشيخ و يموت أيضا، و هو ما نعاينه في حياتنا بالفعل.

2- تعلمت الواقعية ؛ في عمر الطفولة و أوائل المراهقة كنت أتصور أن لكل حبيب نصفه الآخر، مختبئ في مكان ما، ننتظر أن نجده؛ و سرعان ما أدركت حماقة تلك الفكرة الساحرة!

بشكل عام: يبدو أن المطلق و الكامل و المثالي هي مفاهيم وهمية بامتياز؛ و رغم ما يمنحنا الإيمان بتلك المفاهيم من مشاعر الشغف و التسامي، إلا أنه إيمان قد لا يخلو من شر، حين يجعلنا محبوسين في فهم قاصر للواقع و بالتالي رفض دائم له انتظارا للخيال المثالي الذي لا يأتي أبدا.

على الجانب الآخر، فنبذ المطلق و الكامل و المثالي هي الوسيلة الأمثل لفهم الواقع كما هو- لا كما نتخيله أو كما نريده في أحلامنا- و هذا النبذ هو بالتالي الوسيلة الأمثل لتقبل ذلك الواقع و التعامل معه، كما هو.

كل شخص ناضج لديه تجربة يعلم أن الحب مهما كان جميلا فهو ليس شيئا ملائكيا مثاليا خالدا متساميا عن كل شيء مهما شعرنا -  في لحظات معينة- أنه كذلك، بل هو شعور بشري نسبي متغير و قابل للشرخ و الكسر، كما يحتاج إلى رعاية و جهد للحفاظ عليه و حمايته ، و لا يمكن أن يخلو من العيوب و المنغصات إلا لمن يخدع نفسه بذلك، و عادة لا تدوم الخدعة طويلا.

3- تعلمت الإنسانية ؛ و أقصد بها تقديم الأفراد على المبادئ و القيم، التي أرى أنه ينبغي أن تستمد قيمتها من إسعادها للناس، و إلا فهي مجرد شعارات فارغة لا تساوي شيئا.

الحب يتضمن مكاسب حياتية و معنوية ينبغي أن يتوقعها المحبان و هذا من حقهما؛ و لا معنى لحب يتعس أصحابه ؛ و حتى ما يتضمنه الحب من جهد و ما يبدو أنه تضحية أحيانا، فالمنطق في نظري يحتم بأن تكون النتيجة المنتظرة من تلك الجهود ستحقق سعادة للطرفين بقدر مقبول؛ فالحب ليس صنما ينبغي أن نضحي له بالقرابين، و الحب ليس أهم من المحبين و إنما هو شعور كامن في قلبيهما لا وجود له خارجهما - و لا خير في حب لا يحقق السعادة.

4- تعلمت المادية ؛ ما سبق هو محاولات عامة لفهم الحب و التعامل معه؛ و لكن لا يجب تناسي أن جميع المشاعر الإنسانية منبعها هو نشاط المخ و الهرمونات؛ و في حالتنا فأحد أهم الهرمونات المسئولة عن مشاعر الحب هو الأوكسيتوسين: تلك المادة تسبب تدفق المشاعر، و تزيد من ثقتنا بالآخرين و تمييزنا لوجوههم، كما تساعد على العطاء و الألفة و سائر المشاعر المرتبطة بالحب.

ذلك الحب له فوائد تطورية هامة: فهو يعزز روابط المجتمع و يضمن بقاء النسل (و لهذا هو حتما مرتبط بالجنس).

و ختاما لتلك النقطة و للمقال، فقد تعلمت أنه لا يجب الإنتقاص من القيم الإنسانية، مهما فككناها و فسرناها و ربطناها بالواقع و أرجعناها إلى المادة.

هناك مغالطة نقع فيها جميعا على اختلاف معتقداتنا، و لعلها نابعة من سمة غريزية ساهمت الموروثات في ترسيخها؛ تلك المغالطة تربط القيمة بانتفاء الفهم؛ فنتخيل أن أعظم الأشياء هي الأشياء الغامضة التي تستعصي على الفهم و التفسير؛ ذلك الغموض يعطيها إيحاءا مزيفا بالتسامي- و هنا يصبح تفسير الشيء أو تفكيكه بمثابة قتل له!

أذكر حوارا للفيزيائي ريتشارد فاينمان، يحكي عن صديق قال له أن العلماء أمثالكم لا يقدرون الجمال، لأنهم حين ينظرون إلى زهرة جميلة فكل ما يفكرون فيه هو مادة تلك الزهرة و تكوينها، و من ثم يفوتهم تذوق الجمال الفني و الشعري الكامن فيها ؛ و كان رد فاينمان أنه قادر تماما على رؤية كل ما يراه صديقه في جمال الزهرة و تذوقه مثل الآخرين تماما، و لكنه- كعالم- قادر على رؤية جمال إضافي لا يراه صاحبه، و ذلك حين يتأمل في تكوين الزهرة و عمل أعضائها و قدرتها على الحياة و النمو و التناسل..إلخ -  و الخلاصة أن الفهم و التفسير يضيفان إلى جمال الأشياء و لا ينقصان منها، أو هكذا ينبغي في ظني.

و هنا أختلف مع الكثيرين: كون الحب نابع من تفاعلات كيميائية لا يجعله أقل روعة؛ خاصة حين نتذكر أن الحب ليس هو تلك المواد، و إنما هو نشاط ناتج عنها، كما أن التفكير هو نشاط ناتج عن كيمياء المخ أيضا، و هذا لا ينقص من قيمته و أهميته ؛ كذلك كون الحب عبارة عن عناصر عديدة لا يقلل من قيمته، و كذلك الحال مع كونه أمرا بشريا ناقصا نسبيا مركبا- فهذا كله لا يجعله أقل روعة بل ربما يزيده بشكل من الأشكال.

أما من يرى أن الحب وهم أو خدعة فقد اختار أن يتخلى عن جزء ثمين جدا من إنسانيته؛ و من يرى أن الشيء يجب أن يكون كاملا خالدا مثاليا حتى يكون له قيمة، فهو مازال بداخله متعلقا بخرافات بالية، تجاوزها بعقله و مازال عاجزا عن تجاوزها بقلبه؛ فالنضج يحتم علينا أن نتقبل الواقع و ندرك جماله كما هو بنسبيته و محدوديته و تغيره و قصوره، و نستمتع به قبل زواله.

الحب- مثل سائر القيم الإنسانية- لا تنفصل قيمته عن البشر؛ و مهما يكن الحال يظل الحب قيمة عظيمة و غالية، لأننا نحن- البشر- من قررنا أنه كذلك.

السبت، 24 سبتمبر 2016

سخافة الحجج ضد النباتية




النباتية هي الإمتناع عن تناول اللحوم (البقر و الدجاج و الأسماك..إلخ).

و تنقسم إلى عدة أنواع فرعية أهمها Vegetarianism و هو نظام يسمح بأكل المنتجات الحيوانية دون اللحم (كالبيض و الألبان و العسل)، و veganism و هو نظام يتجنب المنتجات الحيوانية كلها و يكتفي بالمنتجات النباتية فقط.

الناس تختار النظام النباتي لأسباب عديدة، منها أسباب صحية أو أخلاقية.

ليس الهدف هنا هو الترويج للنباتية، و إنما توضيح بعض الأمور بشأنها حسب معرفتي، و الرد على بعض الحجج ضدها، و التي أرى أكثرها سخيفا جدا.
------------------------------------------

- من الناحية الصحية
هناك الكثير جدا من الدراسات حول المقارنة بين الأنظمة الغذائية المختلفة، و ما استخلصته منها أن النباتية نظام جيد من الناحية الصحية : بشكل عام النباتيون لديهم معدلات وفاة أقل من اللاحمين، و إصابتهم أقل بكثير في نسب أمراض القلب و السكري و السرطان و غيره.

علما بأن الشخص اللاحم المنظم الذي يقلل من تناول اللحوم خاصة الحمراء (اللحوم البيضاء و الأسماك أفضل) مع الإكثار من تناول الخضروات و الحبوب و البقوليات فهذا أيضا يعتبر نظاما جيدا من الناحية الصحية.

على الجانب الآخر النباتي غير المنظم ستنقصه بعض العناصر الغذائية: أهمها البروتين و الكالسيوم و فيتامين بي (خاصة بي 12 و أوميغا 3)

النباتي لديه أفضلية تتمثل في أنه حين يقلل من اللحوم سينوع طعامه أكثر ما بين الخضروات و الحبوب و البقوليات و بالتالي سيحصل على تغذية أفضل من الشخص الذي تكون وجبته هامبرغر و بيتزا فقط ، و لكن النباتي في نفس الوقت سيحتاج إلى وعي و قراءة حتى يدرك العناصر التي قد تنقصه و يتداركها، و هو أمر ممكن جدا.
------------------------------------------

- من الناحية الأخلاقية
لا يمكن فصل تعريف الخير و الشر الأخلاقيين عن تعريف النفع و الضرر أو اللذة و الألم.. و يصعب المجادلة في أن قتل كائن، يحس و يتألم، ثم التهام لحمه، هو عملية قاسية بل ربما همجية.


و يزداد الأمر وضوحا لو كان ذلك الفعل هو لمجرد التلذذ بطعم اللحم و غير حتمي لبقائنا- و وجود النباتيون أحياء بيننا لهو أبسط و أوضح دليل على أنه يمكن للإنسان البقاء بدون التهام لحم كائن آخر.
الشخص العادي – اللاحم- يعترف بذلك ضمنا حين يرفض أن يأكل لحم بعض الحيوانات    القطط و الكلاب مثلا، بل غالبا سيشعر بالشفقة عليها لو تم ذبحها   و سيتقزز من المنظر ، مما يعني أن قتل و أكل البقر و الخراف و الدجاج و الأسماك..إلخ- هو أمر نتقبله فقط لأننا اعتدنا عليه، و هذا لا يجعل الأمر مقبولا من الناحية الأخلاقية.
------------------------
-- و لكن أكل اللحم هو جزء من نظام الطبيعة: الإفتراس!، أليس كذلك؟

نعم هذا صحيح، الإفتراس موجود في الغابة و فعله أجدادنا، و كذلك القتل و السرقة و الإعتداء و الإغتصاب..إلخ.

و السؤال هو: هل وجود الشيء في الطبيعة يجعله مقبولا لنا اليوم؟

لو فرقنا- اصطلاحا- بين أفعال البشر و بين الطبيعة ، فسنجد أن كل التقدم الأخلاقي و المعرفي الذي أنجزته البشرية هو مضاد للطبيعة: العدل و المساواة هي أمور لا وجود لها في الطبيعة، و كذلك نظام الدول و الديمقراطية و حقوق الإنسان..إلخ، كلها أمور إنسانية مفتعلة لم يكن يعرفها أجدادنا- البدائيون الجهلة - فضلا عن أن يمارسوها.


و من يجد في نفسه إخلاصا مبالغا فيه للطبيعة – أمنا العزيزة الصماء القاسية- فعليه أن يترك كل تلك المدنية "غير الطبيعية" و يذهب ليحيا في مغارة أو كهف في غابة، يصطاد و يتقاتل على الطعام و الجنس مع إخوانه من الكائنات "الطبيعية" الأخرى التي تفتقد إلى العقل و إلى الإرتقاء المجتمعي الذي حققه البشر بعد طول عناء.

باختصار: الطبيعة تمثل فقط "ما جئنا فوجدناه" على هذا الكوكب، و لكنها لا تمثل ما "يجب أن يكون" و لا تأمرنا بشيء كأنها صنم معبود.. حين خرجنا من الكهف و اكتشفنا الزراعة ثم الكتابة صرنا أكثر ذكاءا و رحمة و عدلا و إنسانية من الطبيعة.. و كما تقدمنا فمنحنا أنفسنا حقوقا إنسانية (غير طبيعية) فمع مزيد من التقدم نمنح الحيوانات حقوقا حيوانية (غير طبيعية أيضا).
------------------------
-- و لكن النباتات أيضا تتألم، فعلى النباتيون إذن أن يتوقفوا عن أكلها، و إلا فهم منافقون يكيلون بمكيالين!

هنا الحجة تشبه الموقف الإفتراضي التالي : يأتيك شخص آكل للحوم البشر، تعترض على ما يقوم به فيتهمك بالنفاق: أنت يا عزيزي تلتهم الدجاج و هو يتألم أيضا مثل البشر، و بالتالي لا يحق لك الإعتراض على أكلي للبشر!

(و بالمناسبة أكل البشر للبشر هو أمر كان يمارسه أجدادنا أيضا، و بالتالي يعتبر أمرا "طبيعيا" بامتياز أي أنه يتماشى مع حجة الطبيعيين، فلعلهم يطالبون بالسماح به من هذا المنطلق!).

صاحبنا في المثال يصور المسألة و كأن أكل البشر يساوي أكل الدجاج، لمجرد أن هذا يتألم و ذاك يتألم ، و بالمثل صاحب حجة "النباتات تتألم" يصور المسألة و كأن أكل البقرة يساوي أكل التفاحة، لمجرد أنه يعتقد أن هذا يتألم و ذاك يتألم.

أين الخطأ في تلك الحجة؟ الخطأ هو مساواة غير المتساوين : الكائنات لا تتساوى فيما بينها، و إنما تتباين في عقلها و مشاعرها و تألمها الجسدي و النفسي، و بالتالي في حقوقها و أسلوب التعامل معها.

و لهذا فلا أحد يقول أن قتل البشر يساوي- أخلاقيا- قتل سمكة، و لهذا حين يطالب أحدهم باحترام حقوق الحيوانات فهو لا يطالب بحقهم في التصويت في الإنتخابات مثلا!، و إنما بالأساس في حقهم في عدم التألم أو الأيذاء- ذلك لأن الحقوق تتغير بتغير حجم شعور الكائن و امكانياته العقلية : حتى حقوق الطفل تختلف عن حقوق الراشد.

أما الدراسات إياها في الروابط التي يتم تداولها فهي لا تثبت أن النبات يتألم ، حتى و إن قيل ذلك في عنوان الخبر على سبيل الإثارة الصحافية ، و إنما هي تقول أنه يصدر ردات فعل كيميائية تجاه ما يتعرض له من عدوان خارجي، و هذا لا يثبت وجود الألم، و القول بذلك يشبه القول أن الحجر حين أكسره يصدر صوتا و هذا معناه أنه يصرخ ألما!

شعور الألم- كالذي نشعر به- هو مسألة معقدة مرتبطة بالجهاز العصبي و قشرة المخ، و الذي لا يمتلكه النبات، حتى أن هناك جدل علمي حول ما إذا كان السمك يتألم أم لا، بسبب أن قشرة المخ عنده بدائية (الأرجح أنه يتألم بشكل ما، و لكن أقول أن وجود الخلاف نفسه يبعد شعور الألم عما هو أدنى من الأسماك بيولوجيا، كالنباتات).

بالتالي حتى لو افترضنا أن للنبات نوعا ما من الشعور (و هذا وارد) فلا يوجد أي سبب لنقارنه بالمشاعر التي نعرفها أو يعرفها كل من لديه جهاز عصبي و مخ متطور.

و بعيدا عن التعقيد العلمي: هل لديك القدرة على أن تمسك سكينا و تقطع ساق قطة مثلا، كما أن لديك القدرة على قطع فرع شجرة أو قضم حبة طمامم؟ هل لديك القدرة على أن تقول أن الوضعين متساويان؟ لا أظن.

الحقيقة أن تلك الحجة أسوأ من حجة آكل لحوم البشر المذكورة في الأعلى، و ذلك لكون المسافة البيولوجية بين الدجاج و البشر هي أقل من المسافة بين النبات و الحيوانات التي نأكلها، و بالتالي فالمقارنة الثانية أبعد.

ثم لنقفز و نسأل سؤالا آخر: حتى لو افترضنا جدلا أن النبات يتألم كالحيوان، فيصبح السؤال: من الذي يتسبب في قتل نباتات أكثر: النباتي أم اللاحم؟

الجواب هو الثاني!، لأن الحيوانات التي يتم استيلادها و تربيتها خصيصا لتصنيع اللحوم تلتهم كميات هائلة من النباتات، و بالتالي حين تلتهم أنت ستيك بقري فإن ذلك اللحم سيتضمن 1- قتل حيوانا واحدا، و 2- قتل كميات من النباتات أكثر مما يأكله الشخص النباتي.

و هذا يمثل ردا على حجة أخرى ضد النباتية: و هي حجة أن عدم أكل الحيوانات سيخل بالتوازن البيئي.. فقائل هذا الكلام فاته أن الحيوانات التي نأكلها يتم تربيتها خصيصا لتوريد اللحوم - فهي كثيرة لأننا نأكلها، و لسنا نأكلها لأنها كثيرة!

و بالمناسبة، النباتات بالفعل كائنات لها نوع من الحياة و ربما نوع من الشعور الغامض بالنسبة لنا، و بالتالي يجب احترامها و تجنب أذاها قدر الإمكان (بالإضافة لفوائدها البيئية)، و لكن إن لم نتمكن كبشر من الإستغناء عن الطعام النباتي لحياتنا، فيمكننا على الأقل التخلي عن الطعام الحيواني- و هذا يعتبر تقدما جزئيا مهما لصالح الحيوان و لصالح النباتات أيضا.

و حين يأتي اليوم الذي يتمكن البشر من إيجاد بديل عن التهام أي كائن حي ، كما توجد اليوم بدائل عن أكل اللحوم، فحينها ربما يصبح أكل النباتات أمرا خاطئا.
------------------------

في الماضي كانت نسبة كبيرة من البشر يمتلكون العبيد، و لا يمكن افتراض أن جميع أولئك "الأسياد" كانوا بالضرورة أشرار منعدمو القلوب لأنهم قبلوا بذلك النظام- الذي نعتبره اليوم ظالما و همجيا- بل على الأرجح أنهم لم يستنكروه لأنه كان سائدا\عاديا\طبيعيا و لم يروا له بديلا واضح، و كذلك أكثر الناس تحكم على الشيء حسب العادة و الموروث    .

و اعتقادي أن أحفادنا لن يأكلوا اللحم بل ستكون البدائل الأخرى أكثر انتشارا، و اعتقادي أنهم سينظرون إلينا كما ننظر نحن اليوم إلى ملاك و تجار العبيد في الماضي، فالأكيد أنه كلما تقدمت البشرية أخلاقيا كلما اتسعت مظلة الرحمة و الحقوق، لتشمل البشر الآخرين ثم الكائنات الأخرى.