الأربعاء، 1 مايو 2019

خمر الخلود



ربما أول ديانة تؤمن بالحساب الأخروي بعد الموت هي الديانة المصرية..

لعلهم شاهدوا دورة الموت والحياة في أشياء مختلفة بالطبيعة، مثل غروب الشمس (موتها) ثم بعثها حية في اليوم التالي، وهو ما سيتمثل في أساطير الإله الشمسي رع الذي ينزل بسفينته لزيارة عالم الموتى تحت الأرض..

وكذلك شاهدوا تعاقب مواسم الجفاف والحصاد، أي موت الأرض ثم انبعاثها من جديد، وهو ما تمثل في إله الخصب أوزير الذي تحكي أسطورته تقطيع جسده ثم جمعه مرة أخرى ليرجع حيا..

ولعلهم شاهدوا الخلود في النجوم التي ظنوها دائمة، وهو ما تمثل في أول صور خلود البشر، خاصة الحكام العظماء حصريا، حيث ظهر اعتقاد أنهم بعد موتهم ستصعد أرواحهم للسكن بين النجوم الخالدات..

ولاحقا، وبسبب شعبية أوزير تحديدا، انتشرت تلك العقيدة لتشمل إمكانية خلود أفراد الشعب أيضا، الذين بعد موتهم يقفون أمام أوزير قاضي العالم الآخر للمحاكمة..

في المراحل الأولى اقترن تحقيق الخلود بضخامة القبر، متمثلا في الأهرامات العملاقة، لكن لاحقا تراجع بناء الأهرامات واقتصرت المسألة على التعاويذ المكتوبة التي توضع في القبور، تحمي الميت وترشده إلى تحقيق الخلود بشكل طيب، وتحتوي اعترافات أخلاقية تؤكد أنه طاهر من كل سلوك شرير، وأنه بالتالي مستحق لأن ينال الخلاص ويتحد نهائيا مع الموتى السابقين: الآلهة..

تلك الأفكار ستصبح عاملا مؤثرا في الديانة اليونانية، حيث منذ القدم كانت الصلات التجارية البحرية قائمة بين مصر واليونان، عن طريق جزيرة كريت تحديدا والتي وجدت فيها آثارا مصرية (كما وجدت آثارا كريتية في مصر)، بالإضافة إلى بعض التشابه في الفنون والعقائد الكريتية مع مثيلاتها في مصر القديمة..

------------------------------------------------------------
حسب برتراند راسل (كتاب "تاريخ الفلسفة الغربية)، فبينما اشتهرت ديانة اليونان بآلهة الأوليمب، أولئك الأبطال المتفاخرين المتهورين الشهوانيين الذين تحدث عنهم هومر مثلا في ملاحمه، كانت هناك تحت السطح عناصر دينية أخرى أكثر غموضا وأكثر شعبية، وربما أكثر قدرة على الإستمرار..

الإله ديونيسوس، أو باخوس،
Dionysus - Bacchus
كان يظن أن أصوله ترجع إلى منطقة تراقيا، شمال شرق اليونان، حيث يعتبر التراقيين "برابرة" بالمقارنة مع اليونانيين، ولكن يحتمل أن الإسم له أصول محلية يونانية نابعة عن ديانات أقدم، في كريت أو غيرها..

كان باخوس إلها للخصوبة، على شكل إنسان أو ثور، وحين اكتشف السكان صناعة الجعة والنبيذ ازداد تقديرهم لهذا الإله، وارتبطت نشوة الخمر عندهم بالمقدس الديني..

في مراحل مبكرة انتقلت عبادة باخوس وطقوسه إلى اليونان، وانتشرت هناك رغم ما لاقته من رفض من قبل المحافظين، ربما بسبب ما احتوته من عناصر همجية، حيث كان الرجال والنساء يحتفلون رقصا ويسكرون ويقومون بتقطيع أشلاء حيوان إربا والتهامه نيئا، في نشوة عجيبة تمزج ما بين نشوة الخمر والنشوة الدينية..

ولكن التأثير الفلسفي المهم اللاحق لتلك الديانة لم يأت عن طريق تلك الصورة الهمجية، وإنما عن طريق صورة أخرى أكثر روحانية وعمقا، تنسب في العادة إلى أورفيوس..
------------------------------------------------------------
أورفيوس
Orpheus
شخصية غامضة، فيلسوف\نبي\ كاهن\إله أو شخصية أسطورية، جاء إما من تراقيا (موطن باخوس) أو من كريت (والتي هي بوابة التأثر المصري على اليونان)، ويقال أنه قام بتطوير ديانة باخوس وأعاد صياغتها، مما لم يعجب أصحاب الفكر التقليدي الغاضبين حتى انتهى الأمر بمقتله وتمزيقه إربا..

إلا أن أفكاره عاشت، فيما يعرف بـ"الأورفية" - وفيها نلمح تأثيرات مصرية وربما هندية أيضا..

يؤمن بالأورفيون بتناسخ الأرواح، أي رجوعها مرة أخرى في جسد مختلف، كما يؤمنون أن النفس يمكن أن تحظى بنعيم أو معاناة أبدية، وفقا لسلوكها في الحياة الأرضية..

وكانوا يسعون لتحقيق "النقاء" عن طريق طقوس وشعائر معينة، وعن طريق تجنب كل ما من شأنه أن يسبب لهم النجاسة الروحية، حتى أن بعضهم كان يمتنع عن أكل لحوم الحيوانات، باستثناء المراسم الشعائرية حيث يتم تناولها ضمن الطقوس الدينية..

في نظرهم فالإنسان له مصدر أرضي ومصدر سماوي، وحين يعيش حياة مستقيمة طاهرة فإن الجزء السماوي يتعاظم ويتراجع الأرضي، وفي النهاية يصبح الإنسان واحدا مع باخوس، ويسمى هو نفسه "باخوس"..

وفي اللاهوت الأورفي فقد تم ولادة باخوس مرتين، واحدة من أمه والثانية من فخذ والده الإله زيوس..

وتحكي أحد أساطير ديونيسوس (العديدة) أنه ابن زيوس وبيرسيفون، وحين كان صبيا قام التيتان بتقطيعه إربا والتهام لحمه، فيما عد القلب، والذي تم استخدامه لإعادة ولادة باخوس..

وشعيرة قيام الأتباع بتقطيع حيوان والتهامه هي بمثابة إعادة تمثيل ما حدث لباخوس، والحيوان في تلك الحالة يعتبر تجسيدا - تناسخ روحي- للإله، وعن طريق أكله يصبح الإنسان أكثر سماوية وقداسة..

وكان الأورفيون طائفة رهبان، فالخمر بالنسبة لهم هي رمز، والسكرة التي تجلبها مقترنة بنشوة الإتحاد مع الإله..

وكانت الطقوس تدور الدورات الموسمية للموت والبعث، فيما يشبه طقوس عبادة أوزير، فالنشوة الروحية المرتبطة بالخمر كانت تمثل التحرر من كل القيود المجتمعية والدنيوية..

وربما لذلك لم يكن مستغربا أن كثير من أتباع الأورفية كانوا على هامش المجتمع آنذاك : العبيد والأجانب والخارجين على القانون والنساء اللاتي كان لهن مكانة متميزة في الكهنوت الديونيسي..

وقد وجدت بعض الألواح الأورفية في المقابر تحتوي تعليمات إلى الميت ليجد طريقه في عالم الموتى (هيدز)، وتخبره ماذا يقول ليثبت أنه جدير بالخلاص، وبعض تلك النصوص تخبر الميت أنه قد تألم وعانى وبالتالي سيصبح إلها بعد أن كان بشرا، وسينال الخلود..

------------------------------------------------------------

ومع القرب من الإله، تأتي المعرفة الخاصة التي لا يمكن للأتباع الوصول إليها، وهو عنصر مهم سيتم تطويره عن طريق فيثاغورث، وهو مصلح للأورفية كما كان أورفيوس مصلحا للباخوسية..

تلك الطقوس تجد متشابهات لها فيما يعرف بـ"ديانات الأسرار" التي انتشرت في الشرق القديم ووصلت أوروبا، كما أن تلك الأفكار الفلسفية\الروحية ستجد طريقها إلى جوانب عديدة من الفلسفة اليونانية، وستساهم لاحقا في بناء الأفلاطونية والغنوصية، بالإضافة إلى الديانة المسيحية..

الأوجه المتعددة للحقيقة



تتباين وجهات النظر بين البشر حول كل شيء تقريبا؛ وفي كثير من الأحيان تكون الرؤى متباعدة للغاية، بأقصى الشرق وأقصى الغرب، ولا يفلح النقاش في تقريبها..

فإن كانت الحقيقة واحدة (مطلقة) فلماذا نعجز عن الإتفاق حولها؟ وإن كانت الحقيقة متعددة (نسبية) فما جدوى النقاش أصلا؟

أتصور أن الناس تتبنى أكثر من تعريف، أو منهج، للحقيقة؛ وأتصور أن إدراك تلك التعددية هو ضروري قبل الدخول بأي نقاش..

منذ القدم والبشر يستخدمون عدة أدوات منهجية لإدراك الحقائق :

منها الحواس: فما نراه أو نسمعه أو نلمسه أو نشمه فهو الحق..
ومنها الشعور الباطني: ما أحس بداخلي أنه صحيح فهو كذلك..
ومنها الشائع: ما تربيت عليه ويردده الآخرون باستمرار فهو الحق..
ومنها السلطة: ما يقوله الكبار والعارفون هو الصواب..
ومنها العقل: ما نستنتج وجوده منطقيا يكون صحيحا..

ولا شك أن تلك الأدوات متداخلة ومتصلة لا تنفصل، وربما كلنا نعتمد على كل منها بدرجات مختلفة، وأعتقد أيضا أنه في كل بيئة يتم تغليب بعض تلك الأدوات على البعض الآخر:

فالإنسان في حالته البدائية مثلا يميل للإعتماد على الحواس أكثر من غيرها، ثم الذيوع، وقليل من الإستنتاجات العقلية..

ولاحقا في فترات قوة الدولة ومركزيتها يكون لجوء الناس إلى السلطة، فما يقرره الشيخ أو الملك هو الحق، فهو الأدرى والأقوى والعالم ببواطن الأمور، وهو الذي يعاقب من يخالفه؛ ويصل الأمر إلى ذروته مع الثيوقراطية حيث الحاكم أو الكاهن هو ممثل الإله الأعلى، كما في مصر القديمة أو في أوروبا العصور الوسطى..

وفي بعض المراحل- مثل اليونان القديمة وأوروبا عصر التنوير- يبرز استخدام الإستدلال العقلي (الفلسفة)؛ وربما يتزايد هذا في الأجواء الإقطاعية، حيث ينقسم البشر إلى فلاحين ونبلاء، فتحظى الجماعة الأخيرة بالراحة ووقت الفراغ وبعض العزلة، فيتجاوزون سلطة الدين والحكام، ويترفعون عن المنتشر والشائع، ويميلون إلى الإعلاء من شأن التفكير المنطقي المجرد فوق الحواس والتجربة التي تليق بالعامة..

وفي مراحل أخرى ربما أكثر فوضوية واضطرابا تتراجع الثقة في الدولة وفي العقل نفسه، فينتشر الإيمان بالشعور الباطني، للعوام أو للخواص، وتكون تربة خصبة لأهل الصوفية والخوارق..

ونجد أن معظم المنظومات العقائدية تجمع ما بين تلك الأدوات السابقة، فالأديان مثلا تبدأ بالشعور الباطني للنبي (الرؤيا)، والذي يتحول لاحقا - أو أتباعه- إلى سلطة كهنوتية تأمر فتطاع، وهي سلطة عميقة تستمد قوتها من الإله ذاته، ثم بمجرد ما ينتشر الإيمان يصبح أسهل تصديقه من خلال تأثير التكرار والذيوع عبر الأجيال، وهنا يتحول الدين من فكرة فردية كانت غريبة إلى شعور باطني مستقر لدى جميع المؤمنين، وفي مراحل مختلفة يبدأ المؤمنون في محاولة عقلنة هذا الإيمان بأن يصنعوا له أساسا فلسفيا مناسبا..

وفي العصور الحديثة ظهر المنهج العلمي التجريبي، والذي يجمع بشكل تفاعلي انتقائي بين الحس والعقل، فهو يشبه الفلسفة من حيث انتظامه المنطقي وتجاوزه للسلطة والدين والشائع، ولكنه يختلف عنها في أنه يجرب منتجات العقل حسيا فيغلب الواقعي على المنطقي؛ وقد أثبت هذا المنهج نجاحه الواسع بشكل غير مسبوق في كل ميادين الحياة تقريبا..

وهنا يجب على من يتعامل مع الفكر وساحات الرأي أن ينتبه إلى تلك الأدوات ومدى تأثيرها على البشر، فأولا هذه الأدوات تجعل للحقيقة معاني مختلفة: فعند الحسي الحقيقة لها معنى بسيط واضح، وعند صاحب الشعور الحقيقة هي إلهام وراحة نفسية عميقة، وعند العامي الحقيقة ترتبط بالتصالح مع المحيط، عن طريق تصديق ما يردده الناس أو السلطة، وعند العقلاني الحقيقة هي استنتاج أشبه بمعادلة رياضية..

وثانيا فالمشاهدة تخبرنا أن أكثر الناس يتمسكون بالحس والمشاعر أكثر من العقل الفلسفي، وهم يصدقون الشيء لو تكرر على مسامعهم وصار شائعا، وهم يفضلون الخضوع لسلطة فكرية يقينية عن أن يمارسوا التفكير الفردي المستقل بأنفسهم..

وفي منظومة الدين مثلا لاحظنا كم أن تلك الأدوات مترابطة بشدة، فمثلا السلطة قد تشيع الفكرة داخل المجتمع فتصبح شعورا داخليا لدى الناس يتمسكون بها وكأنها حقيقتهم الخاصة..

هذا يحدث مع فكرة الهوية، والتي هي شعور باطني قوي متجذر، ولكنه شعور قابل للتشكيل حسب ما تريده السلطة وما يشيع بالمجتمع، فالإنسان يبحث عنها غريزيا، ويصدقها بشكل غير عقلاني بفعل التكرار من اليمين واليسار، أو الإملاء من أعلى، ثم إنه يتمسك بها بشكل عاطفي ليس له أي علاقة بالعقل..

هذا قد يفسر لماذا الأصولي يبدو أن لديه حصانة ضد المنطق، فهو لم يعتنق دينه لأسباب منطقية حتى يتركه لأسباب منطقية، وإنما اعتنقه بالوراثة والإملاء والتكرار، وربطه بغريزة داخلية قوية هي الهوية، والتي هي شعور عميق مرتبط بغريزة البقاء لدى الكائنات، فلا تعجب حين ترى مؤمنا راغبا في التضحية بحياته- أو حياتك- في سبيل دينه الذي هو هويته، وهو سلوك ليس له علاقة بأية استنتاجات منطقية..

وهنا الجدل بين العلمي والديني يبدو متعسرا على كل المستويات؛ ذلك أن الخلاف جذري أساسي لا فرعي ثانوي : فأحدهما يعرف الحقيقة موضوعيا بأنها ما يطابق الواقع حسب الإستدلال المنطقي المدعم بالحس التجريبي، بينما الثاني يعرف الحقيقة ذاتيا بأنها ما قاله كتابي المقدس وما لقنوني إياه في الصغر، وما يشعرني بالهوية والكرامة وبالراحة النفسية، وما يعزيني وقت الألم، وما يجعل مجتمعي أكثر تماسكا واستقرارا وأخلاق، بالمعنى الديني ذاته..

ما سبق قد يفسر لنا أيضا ظاهرة فكرية أخرى، وهي التي صارت تغلب الشعور الداخلي المريح المسالم على الحس الواقعي وعلى العقل معا، كما نرى في الفلسفات المتصوفة أو حتى في رؤى حديثة تنظر إلى الحقيقة وكأنها نسبية، ومن ثم تغلب التعايش والسعادة وراحة البال على العلم والمنطق، وكأنه لا يهم أي فكر أو دين هو الصواب وإنما المهم أن نتعايش معا؛ وهي رؤية قد تصيب العقلاني بالإنزعاج الشديد، لأن الأخير لديه مفهوم محدد للحقيقة، مرتبط باستبعاد الباطل والخرافي، بينما صاحب المشاعر لديه قلب واسع قابل كل صورة بمرونه - فهو سينظر للعقلاني باعتباره متعصب ضيق الأفق، بينما العقلاني سينظر له باعتباره مائع مداهن، وربما الأدق أن نقول أن كلا منهما لديه مفهوم مختلف للحقيقة..

كيف نشأت المسيحية



نعرف أن المسيحية خرجت من رحم اليهودية، فهي فرع عنها، وأن يسوع وتلاميذه كانوا بالأساس يهودا وأبناء يهود، يعيشون في أرض إسرائيل ويؤمنون بيهوه ويطبقون الشريعة ويدرسون التاناخ (الكتاب المقدس العبري، والذي سيسمى لاحقا "العهد القديم")..

ولكنهم كانوا يهودا يعيشون في عالم مختلف تماما عن عالم موسى وداود، تحت حكم الإمبراطورية الرومانية الوثنية، حيث لا حدود فاصلة بين الآلهة والبشر، وإنما يمكن للآلهة أن تتجسد على الأرض كما يمكن للبشر أن يتم تأليههم، وحيث كانت تعبد تلك الآلهة في شكل ثالوثات (بالعادة أب وأم وابن، مثل أوزيريس وإيزيس وحورس)..

أحد أهم البشر المؤلهين كان الحاكم القوي يوليوس قيصر، والذي تم رفعه إلى مرتبة الإله بعد موته، حيث تلاه في الحكم ابنه - بالتبني- أوكتافيوس المعروف بإسم أغسطس، وفي أنحاء الإمبراطورية كان يتم تداول عملات مكتوب عليها أن أغسطس هو "ابن الله"، وهي أول مرة يستعمل ذلك اللقب لدى الرومان، حيث كان منح قبل ثلاثة قرون إلى الأسكندر الكبير حين جاء إلى مصر وتم تأليهه باعتباره ابنا للإله المصري آمون رع..
وفي عهد أغسطس هذا، والذي تميز بأمان عام فرضته قوة الحاكم (جعلته يستحق لقب أمير السلام)، ولد وعاش يسوع الناصري..
-----------------------------------------------

كان اليهود يعيشون في مقاطعة يهودية بفلسطين تابعة للرومان، يحكمها بالوكالة الملك هيرود، وكانوا من قبل ذلك ينتظرون مسيحا، أي ملكا قوميا يخلصهم من هيمنة الوثنيين، وينتصر على جميع أعداءهم، ويعيد لهم مجدهم المفقود منذ زمن سليمان، كما بشرتهم كتبهم المقدسة بذلك في آيات كثيرة.. 

كلمة "مسيح" تعني "ممسوح بالزيت"، وهو طقس مرتبط بتتويج الملوك، أو الأنبياء.. 

كثيرون حاولوا لعب هذا الدور، حيث يحكي المؤرخ اليهودي يوسيفوس (القرن الأول) عن ظهور عدة زعماء محليين شكلوا حركات متطرفة وأعلنوا الثورة المسلحة على الرومان، ولقبهم أتباعهم بـ"المسحاء"، إلا أن أكثر تلك الدعوات انتهت بالفشل..

وإلى جوار الثورات المسلحة، كان هناك فريق آخر من اليهود يشعر باليأس من استخدام القوة أمام اليونانيين أو الرومان، فكان البديل هو انتظار خلاص من نوع آخر، لا يتضمن الحرب الدنيوية، وإنما يشمل تدخلا مباشرا من الله نفسه، ليحسم الأمور لصالح شعبه المختار..

نلمح ذلك الحل البديل في آخر سفر مكتوب من التاناخ، وهو سفر دانيال، الذي يتحدث عن حروب عالمية كبيرة حول اليهود، وينتهي السفر بتدخل من نوع آخر، حيث يأتي ملاك الرب ليعلن نهاية العالم ويبشر بالحضور الإلهي النهائي ليخلص اليهود وينصرهم..

ومن الأناجيل نجد أن يسوع كان على علم بالتاناخ، وكان مهتما بشكل خاص بذلك السفر..
-----------------------------------------------

في ذلك السياق بدأ يسوع دعوته، حيث نقرأ من سيرته بالأناجيل أنه كان قريبا من يوحنا المعمدان، ابن خالته الذي قام بتعميده، ويبدو أن الإثنين كانا من جماعة اليهود الأسينيين، والذين نجد تشابها كبيرا بين تعاليمهم وتعاليم يسوع، مثل الزهد والتقشف والعزوف عن الزواج، بالإضافة إلى التركيز على قرب نهاية العالم وقدوم مملكة السماء..

وكما أن كثير من تعاليم يسوع هي انعكاسات لأفكار موجودة بزمنه، فكذلك نجد أن خلافاته "الفقهية" مع خصومه حول أمور مثل الطلاق أو لمس الجثث أو حب الجار أو تعظيم السبت، هي أمور كانت متداولة من قبله بين اليهود، كما نجد في المدارس الدينية لهيليل وشاماي، وهما أشبه بالمدارس الفقهية الإسلامية.. 

وعلى سبيل المثال، فقد استخدم الفيلسوف اليهودي فيلمون السكندري تعبير أن اللوغوس (الكلمة عند الفلاسفة) هي بمثابة ابن للإله، وذلك قبل المسيحية..

ويبدو أن يسوع حاول لعب دور المسيح المنتظر، وكان له تعاليم وربما نسبت له معجزات، إلا أنه لم يكتب أي شيء وإنما كان يعتمد بالأساس على التاناخ ويعيد تفسير نصوصه، وذلك حتى تم القبض عليه ومحاكمته وإعدامه على يد الرومان، غالبا بتأييد فريق من خصومه من اليهود، وذلك بعد هروب جميع التلاميذ من حوله كما تخبرنا الأناجيل..
-----------------------------------------------

وهنا كادت الدعوة تنتهي وتدفن مع سابقاتها، لولا أن بدأت شائعات غريبة تنتشر بأن الرجل قام مرة أخرى من الموت، حيث قيل أن الجثة اختفت من القبر، واقترن ذلك - على ما يبدو- بادعاءات لأشخاص قالوا أنه ظهر لهم، مما أحيا ذكر يسوع من جديد..
ما سر تلك الظهورات ومن وراء إعادة الإحياء هذه؟ لا نملك سوى التخمين، وتوجد عدة نظريات، الأشهر منها عند المؤمنين بالطبع أنها قيامة حقيقية إلهية، بينما يرى آخرون (منهم بعض المسلمين وأهل الطائفة الأحمدية) أنه لم يمت من الصلب وإنما ظل حيا وعاد إلى تلاميذه..


بينما اقترح بعض الباحثين أن المروج الحقيقي لتلك الظهورات هن بعض النساء وعلى رأسهم مريم المجدلية التي كانت قريبة من يسوع، حيث تخبرنا الأناجيل أن أول من ادعى رؤيته كان عددا من النسوة منهن مريم، وبعد ذلك ظهر للتلاميذ..
ويمكن طرح نظرية أخرى: حيث تخبرنا الأناجيل أن يسوع كان له بعض الإخوة (وإن كان المسيحيون التقليديون يقومون بتأويل الكلمة، لأنه من غير المقبول أن يكون هناك أبناء آخرين للـ"عذراء")، ومن مصدر آخر نعرف أن يسوع كان له تحديدا أخ توأم، يسمى "توما" (أي التوأم)، وينسب لتوما هذا إنجيل خاص لم تعترف به الكنيسة، فهل تم استخدام ذلك الأخ للعب دور يسوع العائد من الموت، بعد أن قام التلاميذ بسرقة الجثة من القبر؟ هو مجرد تخمين يستحيل التيقن منه، ولكنه - بنظر البعض- يظل أكثر منطقية من افتراض أن رجلا قام من الموت بعد دفنه..
-----------------------------------------------

المهم أن الدعوة بدأت تنتشر من جديد، ولكن تلك المرة ليس بين اليهود -الذين رفضوها- وإنما بين الشعوب الأخرى (الأغيار أو الأمم)..

وكان المسئول الأول عن ذلك الإنتشار هو شخص غامض يدعى شاول أو بولس، تنسب له نصف أسفار الكتاب المقدس رغم أنه لم ير يسوع بحياته، وتحكي قصته - في سفر أعمال الرسل، وفي رسائله) أنه كان يهوديا دارسا كما كان مواطنا رومانيا، وأنه بدأ بمعاداة المسيحيين واضطهادهم في أول الأمر، ثم ما لبث أن شاهد رؤيا خارقة ليسوع جعلته يؤمن بالمسيحية وينقلب حاله مائة وثمانين درجة، حيث انضم إلى التلاميذ وسرعان ما صار أهم قائد للدعوة الجديدة..

وكانت أداة الدعوة هنا هي رسائله، وهي أول ما كتب من العهد الجديد - قبل الأناجيل- وصاغ فيها كثير من أعمدة العقيدة المسيحية كما هي معروفة اليوم، مع ملاحظة أنه لم يتكلم عن حياة يسوع ولم يكد ينقل شيئا من أقواله أو تعاليمه، وإنما كان أكثر تركيزه على مسألة القيامة والصلب والفداء، وتقديم الإيمان على الشريعة..
 
وتقول العقيدة الجديدة باختصار: أن يسوع ليس إنسانا عاديا وإنما هو إله متجسد، مات وقام، وأن موته وقيامته لم تكن اعتباطية، وإنما هي جزء من خطة إلهية تقتضي غفران خطايا البشر، الموروثة عن الخطيئة الأصلية التي قام بها آدم حين أكل من الشجرة (كما جاء بالتاناخ، سفر التكوين)، فمنذ ذلك التاريخ واليهود يقومون بذبح الحيوانات في المعبد طلبا للمغفرة، ولكن هذا لم يعد يكفي، ولا شيء يمكنه أن يغفر الخطيئة الأصلية، إلا أن يتم ذبح الرب نفسه قربانا للرب(!)..

والآن تم غفران الخطايا، ولم يعد مطلوبا من الناس الإلتزام بالشريعة اليهودية، وإنما المطلوب منهم فقط أن يؤمنوا بيسوع- صلبه وقيامته- لينالوا الخلاص، والذي لم يعد حكرا لليهود وإنما للجميع، وذلك هو العهد الجديد، الذي حل محل العهد القديم (الختان)..
وفي ظل تلك العقيدة - الجديدة- كتبت الأناجيل.. 

هذا يعني أن بولس هو الصانع الأهم للمسيحية، متقدما في ذلك على يسوع نفسه..
-----------------------------------------------

ولكن ما هو الدافع الذي كان يحرك بولس فيما فعله؟

مرة أخرى لا نملك سوى وضع الإحتمالات، فالمؤمن أيضا سيعتبرها معجزة هداية، ولكن يمكن طرح نظريات أخرى، منها التفسير النفسي (الرجل شعر بتأنيب الضمير من اضطهاد تلك الفئة الدينية، فمر بتجربة هلوسة قلبت حياته العقائدية رأسا على عقب)..

وهناك أيضا التفسير السياسي (نظرية المؤامرة)، حيث اقترح البعض أن بولس هنا كان يلعب دورا أشبه بـ"عميل مزدوج" حيث أنه ممثل لجهات سياسية رومانية، قام باختراق متعمد لصفوف اليهود أتباع يسوع، ليعيد صياغة عقيدتهم بشكل جديد..

والهدف هنا مزدوج أيضا: فمن ناحية أرادت روما أن تمزق صفوف اليهود من الداخل وتوجه ضربة إلى الجناح المتطرف الذي مايزال ينتظر قدوم المسيح العسكري المخلص، وذلك بتشجيع النزعة السلمية الروحانية، وكأن الرسالة المطلوب إيصالها هي: إن مسيحكم قد جاء ومات وانتهينا، فلا داعي لانتظاره بعد الآن، وهو لم يكن زعيما سياسيا وإنما دينيا، ولم يحرض على الثورة وإنما دعا للمحبة والسلام إلى درجة الخضوع للسلطات، وقد أعلن أن مملكته ليست من هذا العالم، ووصاكم بعدم مقاومة الشر بالشر وإدارة الخد للضاربين وإعطاء ما لقيصر لقيصر، ثم أنه لم يركز على الطقوس والذبائح بالمعبد بقدر ما ركز على الأمور الروحانية المعنوية.. ومن الناحية الأخرى ربما أراد المسيحيون الأوائل تجنب بطش روما، وبالتالي لم يمانعوا في ذلك التحول..

لو صحت تلك الفرضية، فهذا قد يعني أن يسوع "الأصلي" ربما لم يكن بذلك التسامح والوداعة التي تنقلها عنه الأناجيل، وإنما هي أمور زيدت على النصوص لخدمة غرض معين.. وهذا الإحتمال قد تدعمه عدة أمور أخرى: منها أن صورة المسيح المنتظر بالعهد القديم أصلا لا تتحدث عن داعية متسامح وإنما عن ملك مقاتل، ومنها بعض الأحداث الواردة في سيرة يسوع نفسه، مثل أنه توعد بجلب النار والدمار إلى الأرض، وأنه أمر أتباعه بشراء سيوف، وأنه اقتحم المعبد المقدس وقلب موائد التجار وطردهم ومنع الناس من الدخول - وإن كانت تلك الأفعال كلها تم تبريرها في الكتاب بشكل رمزي ديني، لا سياسي أو عسكري..
-----------------------------------------------

المهم أنه مع ظهور بولس تغير الوضع جذريا : تم التخلص من الشريعة اليهودية، والتي كانت تعوق انتشار اليهودية قديما، حيث أن اليونانيين بالذات يكرهون الختان كرها شديدا ويعتبرونه تشويها للجسد، وهو ما حرص بولس على تأكيد أن الختان - والذي كان علامة العهد اليهودي مع الله- لم يعد ضروريا، وبالتالي صار انتشار العقيدة أكثر سهولة بين الأغيار.. 

وبعد أن كانت دعوة يسوع يهودية خالصة، وبعد أن كان أمر تلاميذه (اليهود) بأن لا يبشروا إلا بين اليهود خاصة، ولدت رواية تقول أنه حين ظهر لهم بعد موته وقيامه وأمرهم بالتبشير إلى كل الأمم..

ونلاحظ في ثنايا رسائل بولس، وكذلك بقية الرسائل المنسوبة لبطرس ويوحنا ويعقوب، وجود خلافات جذرية وعميقة بين المسيحيين الأوائل، حيث هناك تحذيرات متبادلة من "الأنبياء الكذبة" الذين يظهرون بيننا ويعلنون تعاليم مخالفة للعقيدة الصحيحة، وسوف تستمر تلك الخلافات حتى تسويها المجامع الدينية تباعا عبر القرون ويتم توحيد المسيحية، على الأقل في جانب كبير من العقيدة والكتاب.. 

وبخصوص الكتاب فقد كتبت أيضا عشرات الأناجيل المختلفة، كلا منها يحتوي جزءا من سيرة يسوع أو تعاليمه، حتى انتهى الأمر بالكنيسة (أي جماعة المؤمنين وقادتهم) إلى اختيار الأناجيل الأربعة الشهيرة، وسفر أعمال الرسل الذي يفترض أن كاتبه هو لوقا، بالإضافة إلى عدد من الرسائل لبعض التلاميذ..

ومع انتشار المسيحية بين الوثنيين، بدأت تبتعد تدريجيا عن أصلها اليهودي، حيث تحول يسوع من كاهن يهودي يبشر بقرب مملكة السماء إلى إله متجسد ضمن أقانيم ثلاثية معقدة ضحى بنفسه لفداء البشر، وبعد أن كان أتباعه يهودا تقليديين يعظمون السبت ويمارسون الختان ويصلون بالمعابد اليهودية ويحتفلون بالأعياد اليهودية، صاروا يعظمون يوم الأحد (يوم الشمس المقدسة لدى الرومان)، وتحول عيد الفصح اليهودي إلى عيد صلب يسوع، وبدأت تلك الجماعة تؤمن بعقائد وتمارس طقوسا أقرب إلى الديانات الوثنية اليونانية والرومانية، وهكذا ولدت المسيحية..

لغز النصارى



يسوع المسيح يلقب بـ"يسوع الناصري"، و القرآن يطلق على المسيحيين اسم "النصارى" ؛ و يبدو أن هذا التعبير كان له عدة استعمالات متعددة مختلفة و متداخلة، كما أن له جذور لا تخلو من غموض.
النزاريون\النصاريون في الأصل هو اسم لجماعة يهودية من القرن الأول قبل ميلاد المسيح، ورد ذكرها في الكتاب المقدس المسيحي (العهد الجديد).
بعد ذلك اُستخدم لقب "النصارى" (نوتزريم) للإشارة إلى أتباع يسوع المسيح ، بصفته "الناصري"، أي المولود في مدينة "الناصرة" شمال إسرائيل؛ و ظل الإسم مستخدما عند اليهود (ثم المسلمين) لوصف المسيح و المسيحيين.
أما في القرون الأربعة الأولى بعد الميلاد، فكان هذا التعبير يصف طائفة معينة من أتباع يسوع، و الذين كانوا أقرب إلى اليهودية منهم إلى المسيحية، و قيل أنهم الإبيونيين، كما تم الربط بينهم و بين المندائيين.
الكلمة يتم كتابتها بعدة طرق، في محاولة للتفرقة بين مصطلحات "مختلفة" ؛ و لكن حين نتذكر تقارب تلك المصطلحات في معانيها، و حين نتذكر طبيعة الثقافة الشفهية و غير المدققة للقدماء، فيمكن القول أن أكثر تلك التفرقات اللفظية مستحدثة زمنا، و ربما بعضها لم يكن موجودا في الماضي - و بالتالي فوجود اختلاف يسير بين اسمين مكتوبين، أو حتى انتمائهما إلى جذور لغوية مختلفة، لا ينفي أنهما كانا واحد في الأصل و إن تمايزا لاحقا.
------------------------------------------------------

1- النزارية اليهودية
الجذر اللغوي للكلمة مختلف فيه؛ في العبرية هناك عدة ألفاظ متشابهة جدا لها – نزر- نتسر- نذر- و كلها وردت في العهد القديم في سياقات مختلفة ؛ مما جعل هناك عدة احتمالات مطروحة لمعاني النزارية : من ذلك معنى "الغصن" و منه "المراقبة و القيام على الشيء"، و منه "المنذور أي المكرس لله".
و من المعنى الأخير فيبدو أن الكلمة كمصطلح كانت تطلق على الشخص الذي يكون "منذورا لله" فيأخذ عهدا بتكريس حياته لله، و من ثم يمتنع عن حلاقة شعره و شرب الخمور و لمس الجثث.  

و في الكتاب المقدس العبري يقال عن شمشون أنه كان نذيرا (منذورا) لله منذ ولادته (سفر القضاة 13:5).

أما أقدم ذكر تاريخي للنزاريين أو النصاريين كجماعة من اليهود فقد ورد في العهد الجديد، أعمال الرسل 24:5، حيث اُتهم بولس من خصومه بأنه زعيم لجماعة الناصريين، فنقرأ قولهم عنه (فإننا إذ وجدنا هذا الرجل مفسدا ومهيج فتنة بين جميع اليهود الذين في المسكونة، ومقدام شيعة الناصريين).
 
------------------------------------------------------
2- النزارية المسيحية
هذا التداخل بين النزارية\النصارية كطائفة يهودية من ناحية، و كإسم لأتباع المسيح من ناحية أخرى، سيستمر عبر التاريخ و كتابات المؤرخين و الباحثين.

و لكن مع انتشار المسيحية بين غير اليهود بعد زمن يسوع، و مع تشعب عقائدها و أفكارها ، ثم تبلور عقيدة و نصوص المسيحية الرسمية في المجامع المسكونية (العالمية) بإشراف من السلطة الرومانية، فسنرى انفصالا للنزاريين\النصارى و الذين سيعتبرون واحدة من الطوائف المسيحية.

منذ القرن الرابع للميلاد كتب العديد من المؤرخين من آباء و أساقفة المسيحية عن طائفة النزاريين، مثل جيروم و إبيفانيوس السلاميسي و أوغسطينوس، و من مجمل كلامهم نجد أن تلك الجماعة هم يهود اتبعوا المسيح و لكن ظلوا على يهوديتهم.
النزاري على ما يبدو آمنوا بيسوع كمسيح و كإبن لله مولود من العذراء مريم، و لكنهم لم يسقطوا الناموس و إنما استمروا في الإلتزام بأحكام التوراة كالختان و تقديس السبت وتطبيق الشريعة، كما كانوا يؤمنون بإنجيل عبراني خاص بهم (يحتمل أنه النسخة العبرانية من إنجيل متّى).

تقول الكتابات أيضا أن النزاريين هم رسل المسيح من ذوي الأصل اليهودي، و أنهم فروا من القدس هربا من حصار الرومان لها (70 ب.م).

البعض دمج ما بين أولئك النزارى و بين طائفة الإبيونية- اليهودية المسيحية- من ناحية فقال بأنهما نفس الجماعة ، بينما البعض دمج ما بين النزاريين و المندائيين من ناحية أخرى.

في كل الأحوال بشكل ما يمكن اعتبار النزارى أنهم البذرة الأولى المبكرة للمسيحية، أو هم المعبرون عن أصلها اليهودي، ثم لما صارت المسيحية يونانية تم اعتبارهم طائفة شاذة.
------------------------------------------------------

3- كتسمية للمسيحيين عموما
رغم التداخل في الأصول ، إلا أن أكثر المؤرخين بعد ذلك ميزوا بين النزارية كجماعة يهود آمنوا بيسوع و صاروا طائفة مسيحية ، و بين النزارية (أو لنقل النصرانية) كتسمية للمسيحيين عموما.

الأكيد أن لقب النزاري\النصارى كان يستخدم لتسمية المسيحيين عموما كما ورد في كتابات ترتليوس و إيزيبيوس و جيروم و غيرهم ؛ بينما نجد البعض الآخر من المؤرخين و الكتاب المسيحيين فضل استخدام لقب "المسيحيين" (و الوارد في العهد الجديد (أعمال الرسل 26:28) و أصله من أنطاكيا (أعمال الرسل 11:26)).

الخلاصة إذن أن اللقبين كانا مستخدمان معا لوصف المسيحيين ، و يبدو أن لقب "المسيحيين\خريستيانوس" كان مستخدما في أنطاكية، بينما "النصارى" تم اعتماده في القدس؛ و مع الوقت انتشر الأول في الغرب و الثاني في الشرق و بين اليهود حتى تبناه المسلمون لاحقا.

و التفسير الشائع أن "النصارى" هو نسبة ليسوع الناصري، و لكن هناك احتمال أخر لا يجب تجاهله، وهو أن جذرها الأول نبع من أن المسيحيين الأوائل كانوا من جماعة النزارية اليهودية.
------------------------------------------------------

4- يسوع.. الناصري
في مواضع عديدة من الأناجيل يرد وصف يسوع بأنه "الناصري"، و التفسير الشائع هو نسبة ذلك إلى أن أصله من مدينة الناصرة ؛ كما يؤمن المسيحيون أن قدوم يسوع من الناصرة هو تحقيق لنبوءة من الكتاب المقدس اليهودي (العهد القديم).

في إنجيل متى 2:23 نقرأ أن يوسف ارتحل إلى مدينة تدعى الناصرة، و ذلك لكي يتم تحقيق النبوءة الكتابية عن ولادة يسوع (... و أتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة لكي يتم ما قيل بالانبياء: "إنه سيدعى ناصريا").

و لكن المدهش أنه لا يوجد أي نص في العهد القديم يتحدث عن المسيح القادم بأنه سيدعى ناصريا!، فمن أين جاء متّى بتلك العبارة؟

يعتقد بعض المسيحيين أن متّى كتب إنجيله بالعبرية ثم تمت ترجمته إلى اليونانية، و لكن هذا على الأرجح غير صحيح؛ فالرأي السائد اليوم هو أن متّى كان يكتب إنجيله باليونانية مباشرة؛ و نعرف أن الرجل كثيرا ما كان يسيء ترجمة بعض نصوص العهد القديم (خطئا أو عمدا) لكي يجعلها تتحدث عن مقدم يسوع ؛ أو يمكن القول أنه كان يخترع أمورا في سيرة يسوع لكي تتوافق مع ما يظنه هو نبوءات كتابية – و يبدو أن هذا ما جرى هنا.

أغلب الظن أن النص الذي كان يقصده متّى هو من العهد القديم، إشعياء 11:1 (ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله) - يسى هو ابن داود، و كلمة "غصن" هنا بالعبرية هي نتسر أو نزر.

فعلى ما يبدو أن تقارب الألفاظ جعل كاتب الإنجيل متّى يدعي (جهلا أو تزويرا) أن الآية هي نبوءة بظهور شخص "نازري"، أي شخص مولود في مدينة تدعى "النازرة\الناصرة"!، و هو تفسير خاطئ تماما للنص.

الإحتمال الآخر أن متّى كان يقصد النص سابق الذكر من سفر القضاة، و لكن هذا لن يحل المشكلة حيث أن ذلك النص كان يتحدث عن شمشون.
------------------------------------------------------

5- عن الناصرة
هذا الخلط كله، و إحالة متّى إلى نبوءة مزورة، جعل البعض يرى أن المسيح ليس من مدينة الناصرة، بل و تمادى البعض فقال أن مدينة الناصرة هي مدينة مخترعة لم يكن لها وجود قبل زمن يسوع، بل أنها تم بناؤها خصيصا و تسميتها بذلك الإسم تحقيقا للنبوءة الكتابية المزعومة!

أصحاب ذلك الرأي يستشهدون بحقيقة أن هذا الإسم "الناصرة" لم يرد في أي مرجع سابق على زمن المسيح، فهي لم تذكر في العهد القديم (رغم امتلائه بذكر تفاصيل مناطق السكن لليهود في فلسطين) و لا هي مذكورة في التلمود (و الذي يذكر 63 مدينة في منطقة الجليل ليس من بينها الناصرة) و لا في كتابات المؤرخ اليهودي يوسيفوس (و الذي كتب مجلدات عن فلسطين و ذكر 45 مدينة و قرية في منطقة الجليل) كما لم يذكر بولس اسم الناصرة في رسائله رغم أنه تحدث عن يسوع مئات المرات- و أيضا فهي غير مذكورة في كتابات أي مؤرخ قبل كتابة الأناجيل، بل و بعدها، فأول دليل تاريخي على وجود مدينة الناصرة لا يأتي قبل القرن الثالث و الرابع للميلاد!

أما من ناحية التنقيب و علم الآثار، فالمكتشفات القديمة في الناصرة قليلة جدا و محل جدل و تشكيك، حتى أن من يرى أن المدينة كانت موجودة في زمن يسوع (بارت إيرمان مثلا) يقول أنها، قياسا على التنقيبات، لم تكن تحتوي سوى على خمسين بيتا فقط ـ أي نحو 300 – 400 نسمة- على مساحة أربعة فدادين؛ و لذلك تجاهلها المؤرخون.
------------------------------------------------------

6- يشوع النزاري
فإن افترضنا أن المسيح لم يكن من الناصرة، أو أنه لم يتسمى نسبة لها ، فيكون الإحتمال الآخر أنه أخذ لقبه من انتمائه إلى الطائفة اليهودية : النزاريين، فهو يسوع النازري أو النزاري.

في التلمود و الكتابات اليهودية عموما يرد اسم يسوع بهذا الشكل: يشوع هانوتزري ؛ و هناك واحدة من الكتب اليهودية من القرون الوسطى ("طوليدوت يشوع" أي "حياة يسوع") تتحدث عن حياة متمرد اسمه يشوع كان زعيما للنوتزريم\النازريين – الذين (حسب النص) كانوا نشطين في زمن سلالة اليهود الحشمونيين، مما يجعل يشوع النزاري يعيش في العام مائة قبل الميلاد!
------------------------------------------------------

7- النصارى في القرآن
يرى البعض أن القرآن - في حديثه عن النصارى- إنما يقصد تلك الطائفة اليهودية المسيحية التي ذكرناها، و التي كانت معروفة في إطار القرن الرابع للميلاد، و هذا غير صحيح ؛ بل من الواضح أن القرآن ببساطة يطلق على المسيحيين عموما لقب "نصارى" و هذا نابع من خلفيته الشرقية و اليهودية.
ذكر النصارى جاء في القرآن عدة مرات، يبدو أن كلها في الآيات المدنية المتأخرة؛ أما موقف القرآن من أولئك النصارى فهو مضطرب متضارب، فهو أحيانا يمدح إيمانهم و سلوكهم، و أحيانا يدينهم و يكفرهم لأنهم قالوا أن المسيح ابن الله..إلخ ؛ و الملفت أنه لا يكاد يذكر النصارى إلا و يقابلهم باليهود، و أحيانا مع الصابئة و المجوس (مما يؤكد أننا نتحدث عن أديان منفصلة و ليس طوائف و مذاهب).
أما عن أصل الكلمة، فالقرآن لا يبدو مهتما بالتراث اللغوي و التاريخي للمسألة، إذ يلمح إلى ربط كلمة "نصارى" بأن حواريي المسيح (تلاميذه) قد "نصروه" و من هنا صاروا "أنصاره"!- و كما هو و اضح فالكلمتان يبدوان من نفس الجذر العربي (ن-ص-ر) رغم أن واحدة منهما ذات أصل عبري.
نقرأ هذا الربط في حوار بين عيسى\يسوع و بين قومه (.. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) آل عمران 52.
و في موضع آخر يطالب المؤمنين بأن يكونوا أنصار الله مثل ما كان الحواريين ليسوع (الصف 14).
و من الملفت أن بعض المفسرين فسر كلمة "حواريين" بأن معناها "الأنصار" أي الذين ساندوا المسيح و دعموه، كما قام أنصار يثرب بدعم محمد و نصرته.
------------------------------------------------------
المراجع، للمزيد:
عن النازرية كتسمية
- 2

عن النازرية كطائفة 2- 3

عن أحد الجذور اللغوية المحتملة للكلمة


عن وجود مدينة الناصرة - 2

لا تخونوا جهل الأجداد





في كل مرة يدخل الديني بنقاش فلسفي أو علمي مع الإلحاد، فهو يرتكب خيانة غير مباشرة لتراث أجداده..

انظر لنفسك يا أخي وأنت تطرح الأدلة الكوزمولوجية والأنطولوجية على وجود الإله، وتتحدث عن الضبط الدقيق والتعقيد غير القابل للإختزال..إلخ، ولاحظ كم تخالف سنن دينك وترتكب هرطقة لو سمعها أنبياؤك لأصيبوا بالدهشة وربما الغضب تجاهك..

تذكر كيف كانت رموزك المقدسة تنشر دينها: لم يدخلوا بمناظرات فلسفية ولم يستشهدوا بأحدث المكتشفات العلمية، وإنما مارسوا أمرين: ألاعيب الحواة وغزو البلدان - الأولى في حالة الضعف والثانية في حالة القوة..

ولنأخذ أشهر اثنين: الأول كانت حجته المنطقية الوحيدة هي المشي على الماء أو تحويله إلى نبيذ، وتوقع أن عدم ممارسة أمه للجنس تكفي لجعلنا نصدق أن كل ما يقوله صحيح، بينما الثاني لم يقرأ كما أخبره الملاك وإنما قتل ونكح، ودخل بحياته مائة غزوة وسرية عسكرية، في مقابل مناظرة واحدة يتيمة تم قطعها بالمنتصف واستبدال بها المباهلة: اللعن المتبادل..

فبعد هذا تترك تراث الأنبياء المبارك- من السحر وقطع طرق القوافل- وتأتي تقيم الحجة على ربك الجالس على عرشه، عن طريق الثرثرة حول السببية والغائية والإنفجار الكبير والحمض النووي والتموجات الكمية وغيرها من وضعيات المناطقة الوثنيين ومن مكتشفات العلم المادي؟

أراهن أن رموزك المقدسة - من البدو الذين لم يكونوا يعرفون الكتابة أو يدركون كروية الأرض- حين يسمعوك فإنهم يتبرأون منك واحدا واحدا في قبورهم المقدسة العفنة برائحة الجهل والدم..

دين الأكشن



لمن يسأل: يا ملاحدة لماذا تركزون نقدكم على الإسلام دون غيره من الديانات؟

لا، ليس السبب أنه دين الحق، وليست القصة في المؤامرة الكونية، وليس (فقط) لأننا من خلفية إسلامية أو لأنه أسوأ الأديان (وإن كان هذا صحيحا)..

ولكن السبب الأهم هو أنه دين أكشن مليء بالإثارة والقصص، مما يصنع أرضية خصبة للملاحدة أعداء الدين أمثال كاتب المنشور..

مثلا حاول أن تنتقد البوذية، ماذا ستقول؟ بوذا كان إنسان سلبي وعاطل، وهو - إن صحت تماثيله - بدين كالفيل وربما لديه عقدة نفسية ضد الجنس، فهو في شخصيته يشبه يسوع بدون ريجيم؟

ربما.. وماذا بعد؟ لن تجد الكثير لتقوله.. فبوذا والمسيح - ومثلهم زرادشت مثلا- تبدو شخصيات دينية تقليدية، تفعل المتوقع منها، إلى درجة الملل.. وبصراحة فإن الملحد الذي يريد انتقاد تلك الأديان لن يجد الكثير ليقوله.. لا أحد منهم قاد غزوة أو نكح سبية واحدة، تصور؟.. حتى المسيح، فبعد أن تفرغ من النميمة حول مولده العجيب وألاعيبه السحرية وطبيعته المزدوجة، فلن تجد الكثير لتضيفه..

موسى النبي، إن كان شخصية حقيقية، فهو- والحق يقال- يمتلك قليلا من الإثارة، فلدينا قصة الوحي، المتمثلة في شربه لسيجارة الحشيش الذي ينبت في صحراء سيناء، ثم رجع إلى قومه بعدها يزعم أنه قابل خالق الكون (وكلنا الآن عرفنا طبيعة تلك الشجرة المحترقة التي جعلته يتكلم مع الله بذاته).. وهناك أيضا قصة صراعه ذو الطابع الديني\السياسي مع فرعون وسحرته، ثم المجازر التي تلتها، مما يجعل القصة تبدو جزءا من سلسلة "سيد الخواتم" لو كان هناك نسخة نازية من الفيلم..

لكن انسى كل ذلك، وانظر إلى سيرة أشرف الخلق، الضحوك القتال، وستجد نفسك أمام فيلم أكشن من الطراز الأول، يحتوي من الجنس والعنف ما يجعل هولييود تحمر خجلا..

وهناك جميع عوامل الإثارة والترويج الإعلامي قائمة: عندك الغموض في شخصيات ورقة، شخصية المعلم الأكبر المميزة لجميع أفلام القتال البروسلية وأمثالها، أتصوره دائما جالسا القرفصاء مرتفعا بقوه الروحانية نصف متر عن الأرض.. وعندك الزوجة المخلصة والداعمة خديجة، رمز مهم للمرأة القوية المستقلة.. ناهيك عن وجود العري المهم في لحظة اكتشافها للوحي، وهو بالطبع ليس مشهد العري الوحيد في السيرة: فهناك - مثلا- تعري زينب بنت جحش حين زارها محمد في بيتها في غياب زوجها.. ويقترن ذلك بعشرات مشاهد الجنس والخيانة: أذكر منها خيانة حفصة على سريرها مع مارية.. وهناك الجنس اليومي الشهير لمحمد مع تسع زوجات.. ناهيك عن قصص الجواري وزنا زوجات الصحابة واللعان..إلخ، بشكل يجعل بلاي بوي إلى جوارها تبدو كمجلة أطفال.. ناهيك عن التابوهات في علاقة شيخ في العقد السادس بطفلة في التاسعة..

ولا ننسى السادية والدماء، في مشاهد لا حصر لها، نذكر منها قتل كعب ابن الأشرف بحيلة خيانة دنيئة، وتمزيق أم قرفة بين جملين، وتعذيب زوج صفية بالنار حتى يدلهم على مكان أموالهم، قبل أن يغتصبها محمد.. ناهيك عن مشاهد مذبحة بني قريظة، بالإضافة إلى المعارك والحروب الكثيرة (نحو مائة غزوة وسرية) والمليئة بالفوضى والوحشية، بشكل يجعل فيلم القلب الشجاع يبدو إلى جوارها كأنه مؤتمرا عن السلام العالمي..

ولا ننكر أن هناك مشاهد تراجيديا قوية، منها تعذيب بلال (مع إيحاء عنصري قد يبدو مشوقا عند تحويل العمل إلى فيلم، الرسالة نموذجا)، ومنها وفاة أبو طالب، ومقتل السوبر مجاهد حمزة، وغيره..

ولا ننسى الخوارق المنتشرة بدرجة تفوق مارفل ودي سي، بداية بهبوط الوحي على يد عملاق له ستمائة جناح يرى في جميع الأفق، وصولا إلى حادثة المعراج حيث الوصول إلى الملأ السماوي عند سدرة المنتهى والحديث مع الله مباشرة..

وأما عن الكوميديا فهناك أطنان من المشاهد التي يمكن توظيفها بشكل ساخر، وهي غالبا كوميديا سوداء، أخص منها مشهد قفش حفصة لمحمد وهو يخونها، والذي تم تصويره في "الفيلم المسيء" الشهير على أنها أمسكت بخفها وظلت تطارده في الغرفة تحاول ضربه وهو يجري (إن لم تضحك عند تخيل ذلك المشهد فاعلم أن أبو حفصة الفاروق منعك).. وهناك مثلا المفاوضات المكوكية التي خاضها محمد مع الله، بإيعاز من موسى، وصعود النبي وهبوطه بشكل متكرر لابد أنه جعل جبريل يلعن اليوم الذي ولد - أو خلق - فيه.. ولا ننسى الداجن الذي أكل الآيات من تحت سرير عائشة (ولا أدري لماذا لم تكن شهيته مفتوحة أكثر قليلا فيأكل آيات الجهاد؟).. وتستمر الكوميديا مع الفقه الإسلامي الرائع وفتاوى مثل بول البعير، ورضاع الكبير، وتحديد مدة الحمل بأربعة سنوات، وإباحة زواج الرجل من ابنته من الزنا..إلخ.

ويصعب أن تفكر في نوع من المشاكل، ثم لا تجده في الإسلام: من الوحي والكتاب والفقه وزيجات محمد والقتال والتشريع والمواريث والعبودية..إلخ، حتى تبتسم وأنت تقرأ مقالا إسلاميا عن "رد الشبهة رقم خمسة مليون وستمائة وسبعة وثمانين ألف وثلثمائة وتسعة وعشرين".. حتى أعتقد أن هناك شبهة واحدة نسي المشايخ أن يردوا عليها، وهي شبهة: لماذا جعل الله دينه يمتلئ بكل هذا العدد من الشبهات؟!

الخلاصة أن تركيزنا على الإسلام ونبيه هو شهادة لصالحه، فهو - والحق يقال - أكثر الأديان تشويقا وأقلها مملا.. فربما لا نتفق على أنه دين الرحمة أو دين العدل، ولكن يصعب على أحد إنكار أنه - بحق - دين الأكشن..

الإعجاز المبين في كلام المشركين



1- أول ما أعلن محمد دعوته، قال له عمه غاضبا: "تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟"..
والسؤال: نرى أنه كيف عرف أبو لهب أن محمد سيظل متمسكا بدعوته طوال ذلك اليوم، وبالتالي يستحق اللعن؟ لو كان محمد اعتذر عن شتم الأصنام وقال لهم أنا لست نبيا، لكان وضع أبو لهب في موقف محرج جدا، لكنه لم يفعل، فسبحان أبي لهب..

2- خصوم محمد قالوا عنه مجنون..
والسؤال: أثبت الطب الحديث أن أعراض صرع الفص الصدغي تتشابه كثيرا مع ما كان يمر به محمد، من رؤية هلاوس سمعية وبصرية، والحماسة الدينية،وفرط الكتابة أو الإملاء، مع الإطناب والتكرار، إضافة إلى السلوك الجنسي الغريب، وغيرها.. فكيف عرف أهل مكة أعراض ذلك المرض، قبل ظهور الطب النفسي الحديث؟

3- قالوا عنه أنه يتعلم أساطير الأولين..
وقد أثبتت الدراسات الدينية الحديثة أن القرآن منقول عن التراث اليهودي والمسيحي، وهو ترث أسطوري بامتياز.. فكيف علم أهل مكة تلك الحقيقة قبل ثبوتها بقرون طويلة؟

4- عبد الله ابن سلول قال عن المهاجرين: سمن كلبك يأكلك..
والسؤال: كيف عرف ابن سلول أنه بعد وفاة محمد سيؤول الحكم إلى المهاجرين، ولن ينال الأنصار شيئا؟ هل كان يتنبأ بالمستقبل؟

الإعجاز بكلام أبي العلاء



يقول الشاعر العباسي المتوفي في القرن الحادي عشر:

(والّـذي حـارَتِ الـبَرِيّةُ فِـيهِ - حَـيَوَانٌ مُـسْتَحْدَثٌ مِـن جَمادِ)

والمقصود هو الإنسان، وفي البيت إعجاز علمي رائع، حيث أثبت العلم اليوم أن الإنسان أصله حيواني، ويتشابه في التشريح مع سائر الثدييات، ويتشارك معها بنسب عالية في الحمض النووي، وحسب نظرية التطور (التي وضعت في القرن التاسع عشر، أي بعد أبو العلاء بثمانية قرون) فإن الإنسان قد نشأ من سلف حيواني..

وأما حسب نظريات نشأة الحياة، الأبيوجينيسس، فإن جميع أنواع الكائنات نشأت من سلف مشترك أحادي الخلية، والذي بدوره نشأ عن مركبات كيماوية عضوية - جماد..

وبذلك يكون المعري قد سبق داروين، ووصف أصل الإنسان بشكل علمي يتوافق تماما مع النظريات الحديثة، وبشكل مختصر معجز بلاغيا..

لكن الإعجاز لا يقف هنا، وإنما نلاحظ أنه صاغ بيته الشعري بحيث لا يبدو متعارضا مع النصوص الدينية السائدة في زمنه، فالحيوان لغة هو كل شيء حي، وبذلك يكون المعنى الظاهر أمام العوام أن الإنسان كائن حي، وهو شيء معروف، وأنه مخلوق من جماد وهو الطين، كما ذكرت الكتب الدينية..

فهل يعقل أن هذا من كلام البشر؟

نعم هو من كلام البشر، ومن الحماقة أن نتجاهل المعارف الإنسانية لدى الشعوب القديمة، ونقتطع نصا من سياقه لنلبس عليه معاني علمية من سياق مختلف..

عن خرافة الإعجاز العلمي



يزعمون أنه وصف مراحل الجنين بدقة، وذكر أن الماء أصل الحياة، كما قال بكروية الأرض وأدرك أن الجبال تثبتها، بالإضافة إلى حديثة عن الثقوب السوداء وعدد كواكب المجموعة الشمسية وإنزال الحديد من الفضاء، وغير ذلك من الإعجازات المبهرة، ثم يتساءلون مستنكرين: هل يعقل أن هذا كلام بشر؟..

يدعي البعض أن القرآن يحتوي ما يسمى ما يسمى بالإعجاز العلمي، وتقوم الدعوى المعتادة على تقديم آية قرآنية يزعمون أنها تذكر حقيقة علمية لم يعرفها البشر إلا حديثا، ومن ثم يكون السؤال: كيف يمكن لمحمد أن يعرف تلك الحقيقة منذ ألف وأربعمائة عام؟ ويجيبون: لابد أن مصدر تلك المعلومة هو خالق الكون نفسه، إن هو إلا وحي يوحى..

فهل هذا حقيقي، أم أننا أمام منظومة دجل ونصب كبيرة؟
---------------------------------------
القرآن ينفي وجود معجزة..

في مناسبات عديدة طلب خصوم محمد منه أن يأتيهم بآية أي معجزة تثبت صدق نبوته، إلا أنه رفض وتملص مرارا، كما نقرأ بالقرآن نفسه:
(وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) الأنعام 35.. (وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) الأنعام 37.. (وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ؟) الأنعام 109.. (وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ) يونس 20..(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) الرعد 7..(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) الرعد 27.. (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) الرعد 38.. (وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) العنكبوت 50.. (وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى؟) طه 133.. (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ) الإسراء 59..
---------------------------------------
الخطاب القرآني يؤكد أنه لا يأتي بجديد..

في موضع آخر اتهمه خصومه (محمد) بأنه يتعلم القرآن من بشر، فكان رد القرآن الوحيد عليهم أن هذا البشر الذي تشيرون إليه أعجمي اللسان، بينما القرآن عربي (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ- النحل 103)، وهذا الرد المتهافت يؤكد خلو القرآن من أي علم معجز إضافي لم يكن معروفا بزمنه، وإلا لكانت الإشارة إلى ذلك العلم أولى لإثبات تميز كلام محمد فضلا عن ألوهيته، وأما تركيزه فقط على اختلاف اللغة فهو اعتراف ضمني متواضع أن كل المعارف التي ذكرها كانت متاحة آنذاك، فقط بغير اللغة العربية..

وكذلك نلاحظ أن كثير من الآيات تستشهد على الكفار بظواهر معينة لحثهم على الإيمان، وهذا الإستشهاد بحد ذاته دليل دامغ على أنهم كانوا يعرفون تلك الظواهر ومألوفة لديهم، إذ لا يعقل أن يستدل أحدهم عليك بشيء لا تعرفه..

فمثلا حين يحدثهم القرآن عن الأمم السابقة وكيف أهلكها الله، ويستخدم ذلك للتخويف والعبرة، فهذا يعني ضمنا أنهم يعلمون بشأن تلك الأقوام، وهو ما يتضح من سياق الآيات (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ؟) الأنعام 6.. (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) طه 128..(وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) إبراهيم 45..

كذلك حين يحدثهم عن ظواهر طبيعية (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ؟ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ- وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) الأنبياء 30، فالصياغة تؤكد أن السامعين يعرفون مسألة الرتق والفتق، ويؤمنون بأن الماء أصل الحياة، ويعتقدون أن الجبال تثبت الأرض، ويرون السماء كسقف محفوظ، وإلا فكيف يستنكر عدم إيمانهم، مستشهدا بتلك الأمور ويعتبرها آيات يعاتبهم لإعراضهم عنها، إن كانوا يجهلونها أصلا؟

وحين يخاطبهم قائلا (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ- بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لّا يَبْغِيَانِ- فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ؟) الرحمن 19-21، فهذا يعني أنهم كانوا يعرفون مسألة التقاء البحرين العذب والمالح، ولهذا يعتبرها نعما ظاهرة ينبغي عليهم التصديق بها.. وهذا ما تؤكده آية أخرى أوضح في أنهم كانوا يعرفون مسألة البحرين ويتعاملون معها بشكل مباشر، حيث يقول (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۖ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فاطر 12، لاحظ قوله تأكلون، تستخرجون، ترى، أي أنها ظاهرة ليست غريبة عنهم بحال..

ونفس الشيء يمكن أن ينطبق على كثير من الأمثلة، فحين يقسم لهم بالطارق، النجم الثاقب (الطارق 1-3) أو الخنس، الجوار الكنس (التكوير 15-16)، فهذا يعني قطعا أنهم كانوا يعرفون ما يتحدث عنه، بغض النظر عن معناه، فلا يعقل أنه يقسم لهم بشيء لم يسمعوا اسمه من قبل، وهكذا..

ولو كانت هناك حقائق علمية جديدة بالقرآن، لتوقعنا أن نقرأ- في التفاسير- أن أهل مكة مثلا استنكروا تلك الآية لأنها تخالف تصوراتهم وتتصادم مع معارفهم العلمية المتاحة، ولكننا لا نجد شيئا من ذلك، وإنما نجد فقط دهشتهم من ادعاءات القرآن الدينية (مثل التوحيد أو البعث) وقد سجل القرآن استغرابهم من تلك العقائد الجديدة عليهم، وأما من ناحية ادعاءات القرآن العلمية أو المعرفية فيما يخص شكل الكون أو طبيعة الحياة فلا نجد القرآن يسجل أي دهشة أو استنكار للمستمعين، مما يؤكد مرة أخرى أنه لم يبادرهم بأي معارف جديدة أو صادمة من تلك الناحية..

البعض هنا يقول: كان يستحيل على النبي أن يصادم قومه بمعارف جديدة حتى لا ينفروا من دعوته، وهذا القول يتضمن اعترافا ضمنيا بخلو القرآن من أي معجزة، ولكنه يظل مردودا عليه من عدة نواحي: فمحمد بكل الأحوال صدم قومه بعقائد جديدة، بل إنه زعم أنه طار إلى السماء، كما كلمهم عن الجن والعفاريت والبحار المنشقة والنمل المتكلم، ثم إن المكيين بالفعل اتهموه بالضلال والجنون والإفك ولم يؤمنوا به أصلا إلا تحت السيف بعد الفتح، فبتلك الحالة ما كان يضيره لو قدم لهم معرفة علمية حقيقية تجعلنا- على الأقل- نحن اليوم متيقنين من نبوته..
---------------------------------------
شروط الإعجاز..

المعجزة- بالتعريف- هي أمر خارق للعادة أو المألوف، ويكون واضحا بحيث لا يحتمل الخلط أو التأويل..
ولكي تتحقق من صدق دعوى الإعجاز العلمي فعليك بثلاثة أسئلة منطقية بديهية:

هل تلك الحقيقة العلمية المذكورة صحيحة ومثبتة؟ فلو كانت خاطئة أو مشكوك فيها فلا إعجاز..
هل تلك المعلومة كانت غائبة عن معارف القدماء قبل محمد؟ فلو كانت المعلومة معروفة سابقا فلا إعجاز..
هل النص القرآني المذكور واضح معناه لا لبس فيه ولا يحتمل إلا المعنى المرتبط بالإعجاز؟ فإن كان النص مبهم مطاطي يحتمل أكثر من تأويل فلا إعجاز..

تلك الأسئلة البسيطة تحتوي مفتاح الخداع الذي يمارسه أدعياء الإعجاز، وهي: مغالطة الكذب، ومغالطة تجاهل القدماء، ومغالطة التحريف اللغوي..
---------------------------------------
مغالطة الكذب..

حيث يبرزون معلومات علمية خاطئة على أنها حقيقة..

على سبيل المثال فالحقيقة أن عظام الجنين لا تسبق اللحم، وليس كل شيء مكون من زوجين، والجبال لا تثبت قشرة الأرض، والنمل ليس مصنوعا من زجاج، وناسا لم تعلن انشقاق القمر، وعدد كواكب المجموعة الشمسية ليس أحد عشر، والثقوب السوداء لا تجري تكنس الفضاء..

وهنا يجدر ملاحظة أن للنظرية العلمية خصائص معينة، منها تكامل ربط ونظم الأفكار، وكذلك الدقة اللفظية والوضوح، وهي سمات مختلفة تماما عن صياغة الكتب الدينية التي تتميز بالأسلوب الأدبي الذي يحتوي غموضا ومجازات ويخلط القصص مع الوعظ مع الغيبيات مع التهديد بشكل ليس له علاقة بما نعرفه عن العلوم، فالخلط بينهما عبث..

ونلاحظ أيضا أنه لم يحدث أبدا أن اكتشف أحدهم شيئا من القرآن، وإنما ما يحدث دائما هو العكس: يظهر كشف علمي من عند الغرب الكافر، ثم يسارع المسلمون لإبراز آية يزعمون أنها تعبر عن ذلك الكشف، مهللين ومكبرين، حيث أن العلم الذي كان محدودا ونسبيا في مواضع، يصبح دليلا قاطعا على صدق رسالة نبيهم في مواضع أخرى، في ممارسة المؤمن المعتادة للكيل بمكيالين..

وهم هنا مثلهم مثل الطالب الفاشل الذي يسمع سؤال المدرس ويظل صامتا حتى يسمع إجابة الطالب النابه، ومن ثم يهتف: كنت سأقول نفس الشيء! والسؤال: لماذا تسكت إذن؟ وكذلك السؤال الذي لا يجيب عنه دعاة الإعجاز هنا هو: طالما المعلومة موجودة بكتابكم فلماذا لم تكتشفوها قبل الآخرين؟

وبالمناسبة هذا لا ينطبق على العصر الحديث فقط، وإنما حتى في عصر ازدهار المسلمين كان النابغون منهم يستلهمون من التراث الأقدم اليوناني مثلا، أو يمارسون التجارب بأنفسهم، ولا نعلم عن عالم واحد اكتشف جديدا فقط وحصريا من خلال تأمل الآيات القرآنية..

والمجال مايزال مفتوحا اليوم أمام أهل الإعجاز لنفي التهمة: دعنا من الماضي، بل ها هو القرآن أمامكم، تزعمون أنه يحتوي معارف المستقبل، فافحصوه كما تشاؤون واستخرجوا لنا معارف علمية جديدة نسبق بها الكفار، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاعترفوا أن الإعجاز هو مسألة تلفيق تعكس شعور البعض بالضآلة الحضارية لا اكثر..
---------------------------------------
مغالطة تجاهل القدماء..

حيث يتغافلون عن أن كثير من المعلومات المذكورة كانت بالفعل معروفة لدى القدماء قبل محمد..

على سبيل المثال فكلمة الطارق لم يخترعها القرآن وإنما ذكرت في مصادر قديمة، منها ما روته السيرة الإسلامية على لسان الكافرة هند بنت عتبة حين قالت "نحن بنات طارق".. وكذلك الحقيقة أن اليونانيين واليهود وغيرهم ذكروا مراحل تكوين الجنين بشكل مشابه جدا لما ذكره القرآن، وبنفس الأخطاء أيضا..

ثم إن كثير من القدماء كانوا يطلقون على الحديد المعدن السماوي، وذلك لسبب وجيه هو أن الحديد قديما كان يتم استخراجه من النيازك الهابطة، فارتبط بذهن القدماء أن الحديد مصدره الفضاء..

حتى كروية الأرض (والتي لا يذكرها القرآن) كانت معروفة عند البعض قديما، فقال بها أرسطو مثلا، بل إن فلكيا من ليبيا هو إراتوستينيس (القرن الثالث قبل الميلاد، أي قبل محمد بنحو تسعمائة سنة) نجح بوسائل بسيطة عبقرية في قياس قطر كرة الأرض بشكل دقيق إلى حد كبير، ثم إن الرجل لم يدع الوحي أو المعجزة..

وأما الخطوط العريضة للمعارف القرآنية، فكلها منقولة عن التوراة، والمنقولة بدورها من أساطير الشرق الأوسط القديم، بالإضافة إلى المصادر اللاحقة كالتلمود والأسفار المخفية، من ذلك مثلا أن السماء والأرض كانتا ملتصقتين ففصلهما الله، فقد ورد ذلك في أساطير مصر والعراق كما ورد بالتوراة، وكذلك الحديث عن سبعة سماوات هو عقيدة تلمودية مستمدة بدورها من معتقدات العالم القديم المبنية على وجود خمس كواكب ظاهرة بالإضافة إلى الشمس والقمر..

أحيانا يتساءل البعض: وكيف وصلت معارف القدماء إلى محمد، وهو ساكن الصحراء الذي يتكلم العربية ولم يكن يقرأ ولا يكتب؟

هنا السؤال يتضمن افتراضا خاطئا أن العرب كانوا منعزلين عن العالم، بينما التاريخ المتاح يخبرنا بالعكس: أن العرب قبل الإسلام كانوا يسكنون العراق والشام وغيرها، ويحتكون بالشعوب المجاورة، وتتعامل قوافلهم بالسفر والتجارة مع الروم والفرس واليمنيين والأحباش وغيرهم، بل إن محمدا نفسه كان قد بلغ الأربعين ويحتمل أنه سافر إلى الشام وحتما تعامل مع يهود ومسيحيين وصابئة وغير ذلك، وهذا ينطبق على صحابته أيضا..

وقد ذكر القرآن شيئا عن وجود أشخاص يعلمون محمد، كما يظهر من اتهامات خصومه له (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ... وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) الفرقان 4-5.. وكذلك الآية المذكورة عن قيام بشر أعاجم بتعليمه (النحل 103)، مما يوحي بوجود عملية تلقين وترجمة وتدوين تحصل، وتذكر لنا السيرة أسماء عديدة لأهل كتاب كانوا يجلسون إلى محمد يتعلم منهم، مثل المدعو جبر ويسار وعداس وسلمان الفارسي وغيرهم، كما نقرأ لاحقا روايات عن تلقي محمد لرسائل تأتيه بلغة اليهود (السريانية أو العبرانية) طلب من زيد أن يترجمها له..

وكمثال تنقل لنا السيرة شخصا يدعى الحارث ابن كلدة، وهو طبيب عربي تعلم في فارس واليمن، ثم ذهب إلى المدينة وعمل طبيبا لمحمد وأصحابه..

إذن، ألا يحتمل أن بعض أصحاب محمد كانوا يعلموه وينقلون إليه معارف القدماء - وهي خليط من الصواب والخطأ - التي دونها في قرآنه؟ وأليس هذا الإحتمال أكثر وجاهة منطقية من القول بأن ملاكا مجنحا هو الذي أوحى له بتلك الأمور؟
---------------------------------------
مغالطة التحريف اللغوي: حيث يتلاعبون بمعاني الكلمات، ويتجاهلون التفسيرات الرسمية التي كتبها علماء الإسلام الكلاسيكيين، مستغلين جهل العوام باللغة والتفسير..

على سبيل المثال فكلمة دحية لا تعني بيضة وإنما الدحو هو البسط والتسوية، وكلمة أدنى لا تعني أخفض وإنما أقرب، وكلمة يحطمنكم لا تختص بالزجاج وإنما أي شيء يابس، والطارق لا تعني النابض وإنما تعني الذي يظهر ليلا، والثاقب تعني اللامع، والكنس تعني المختبئة ولا تعني المكانس الكهربائية..

وهنا تجدر ملاحظة أن اللغة مطاطة بطبعها، بحيث أنه يسهل كثيرا أن يقوم المغرض باقتطاع جملة من سياقها وإسباغ معاني عليها لم يقصدها الكاتب، فيما يمكن أن نسميه "باريدوليا لغوية" نسبة لتلك الظاهرة التي تجعل الناظر يتخيل أشكالا منظمة في أنماط عشوائية، مثل السحب أو أوراق الشجر، لا وجود لها إلا في مخيلته..

وهنا نقتبس محاكاة ساخرة قام بها البعض حيث استخرجوا إعجازات علمية من نصوص الشعر الجاهلي، ليبرهنوا بشكل عملي على مطاطية اللغة:

مثلا: تنقل كتب التراث قصة زوجة أبو حمزة الضبي الذي هجر زوجته لأنها لا تنجب الذكور، فأنشدت هي قائلة: مالي أبي حمزة لا يأتينا- يظل في البيت الذي يلينا- غضبان أن لا نلد البنينا- والله ما ذلك بأيدينا- وإنما نحن لزراعينا كالأرض- نحصد ما قد زرعوه فينا.. وتلك الأبيات يمكن اعتبارها إشارة إلى ما اكتشفه العلم حديثا أن مني الرجل- لا البويضة- هو المسئول عن تحديد جنس الجنين..

وفي معلقة امرؤ القيس يقول عن الخيل : مكر مفر مقبل مدبر معاً- كجلمود صخر حطه السيل من عل.. البعض استنتج من ذلك عدة إعجازات علمية خاصة بحركة أرجل الحصان إلى الأمام والخلف معا، وبنفس الوقت تحرك جسده كتلة واحدة، وفي لحظة معينة تكون أرجله كلها مرتفعة عن الأرض، وكل ذلك تصوره الأبيات بدقة رغم أنه لم يصبح معروفا إلا حين ظهرت كاميرات التصوير السريعة الحديثة..

امرؤ القيس أيضا يقول: وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم- يقولون لا تهلك أسى وتجمّلِ.. وهو هنا يشير لإمكانية الموت بالأسى والحزن، فسبق العلم في اكتشاف تأثير الإكتئاب على الوظائف الحيوية للجسم..

وهناك بيت لعنترة ابن شداد يقول فيه: وخلا الذباب بها فليس ببارح- غرداً كفعل الشارب المترنم.. وقد أثبت العلم أن الذباب يصدر أصواتا شبه موسيقية لا تسمعها أذن الإنسان، فكيف علم عنترة ذلك؟

بينما أشار البعض لأبيات أبو نواس الشهيرة: دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ- ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ.. فقال بأنه سبق علماء النفس في إدراك أن الممنوع مرغوب، كما سبق علماء الطب في اكتشاف البنسلين والمضادات الحيوية واللقاح..

وهذا لاينطبق على الشعر العربي فقط، ففي مقال مطول، ذكر أحدهم بيتا واحدا للشاعر الروماني الوثني من القرن الأول ق.م فيرجيل، يقول ما يمكن ترجمته إلى: ما الذي يجعل حقول الذرة تبتسم، تحت أي نجم تدير الأرض؟.. فاستخرج منها إعجازات مبهرة فلكية وبيولوجية تدل أن الآلهة الوثنية هي الحق، من ذلك أن الأرض تدور حول نفسها، وأنها تدور حول الشمس مما ينتج الفصول، وأن الشمس هي أحد النجوم، وأن التقويم الشمسي هو الأنسب للزراعة، بالإضافة إلى اكتشاف التمثيل الضوئي..

فالمقصود أن النصوص الأدبية قد تكون حمالة أوجه، يمكن للإنسان- ببعض الألاعيب اللغوية- أن يشكلها كيفما شاء، ولذلك تجد أن المناهج الحديثة لتفسير النصوص لا يمكن أن تفصل النص عن بيئته وسياقه الزمني، وهو يشبه ما يسميه المسلمون "أسباب النزول"..
ولذلك تجد أدعياء الإعجاز يتجاهلون التفاسير الكلاسيكية للقرآن، حيث أن الطبري وابن كثير والقرطبي والرازي والزمخشري والسيوطي والبيضاوي والبغوي وغيرهم من أعلام الإسلام، قد رجعوا في تفاسيرهم إلى قواعد اللغة الأصلية، بالإضافة إلى الأحاديث النبوية وأسباب النزول وأقوال الصحابة والتابعين، وكل هذا لا يتضمن أي علم، ولكن على الجانب الآخر ما يفعله الإعجازيون أنهم يتغافلون عن كل ذلك وينتقون كلمة أو كلمتين، منزوعتين عن أي سياق تاريخي أو لغوي، ويلصقونها بحقيقة -أو حتى أكذوبة- علمية..

من أمثلة تجاهل السياق هو إبراز آية إنزال الحديد على أنها معجزة، وتجاهل أن هناك آيات أخرى تتحدث عن إنزال اللباس والريش وإنزال الأنعام، وهي أمور لا يعقل أنها هبطت من الفضاء..

وأيضا إبراز آيات تتحدث عن تسيير الجبال ومحاولة ربطها بأن القرآن ذكر دوران الأرض، متجاهلين أن سياق الآيات تتحدث عن يوم القيامة لا الدنيا، كما ورد بجميع الآيات التي تتحدث عن سير الجبال..

وكذلك القول بأن القرآن وصف القمر بأنه نور والمقصود- بقولهم- أنه يعكس الضوء، فهذا كذب لا أثر له في معاجم اللغة، ثم إنهم يتجاهلون أن نفس القرآن يصف الله نفسه بأنه نور، فهل الله يعكس الضوء عن مصدر آخر؟!

ولو كانت الآيات تحمل إعجازا علميا لتوقعنا أن يقوم مفسر واحد فقط بإدراكه وتسجيله، أو على الأقل لتوقعنا أن يصدم المفسرون من الآية ويسكتوا عن تفسيرها، ولكن ما نجده هو العكس: كل تلك الآيات لها تفاسير واضحة ذكرها المفسرون القدامى، وهي تفسيرات بدائية لا تحتوي أي علوم، ولا يغفل عن ذلك سوى جاهل باللغة والتفاسير..
---------------------------------------
وهكذا لكي تدرك كذب مزاعم الإعجاز فلا تحتاج سوى أن تلاحظ تلك المغالطات الثلاثة، وعلاجها باختصار هو أن تقرأ مصدرا علميا للحقيقة المزعومة، وتقرأ معجما، وتقرأ أي كتاب تفسير، وقبل ذلك : لا تصدق كل ما تسمعه..

الإسلام عورة





لا تسيئوا الظن بنا؛ نحن لا نريد هدم الإسلام، وإنما كل ما نريده هو أن نكرمه.. بنفس الشكل الذي - تقولون- كرم به المرأة، لا أكثر ولا أقل..

نريد للإسلام ما يريده للمرأة: أن يتم عزله في برج عاجي بعيدا عن المجتمع، فلا يتدخل في السياسة أو القانون أو الإقتصاد..

نريده أن يحبس فلا يقرب الشارع ولا يزاحم الغرباء ولا يختلط بهم، حفاظا عليه من الأذى..

نريده أن يقر داخل مساجده، ولا يتبرج تبرج الخلافة الأولى، ولا يبدي من زينته إلا ما ظهر منها..

نريده أن يكون حكرا على رجاله فقط، هم لباس له وهو لباس لهم، ولا نريد لأي عين غريبة أن تطلع عليه..

وإذا خرج من بيته فنريده أن يخرج فقط للضرورة القصوى، فيكون مستورا، متغطيا من رأسه حتى قدميه، غاض البصر، صامتا ومهذبا حتى يرجع..

نريد أن يكون صوته أيضا عورة، فلا نسمع آذانه خاصة في ظلام الليل..

لا تسيئوا الظن بنا نحن العلمانيون، فلا نريد لدينكم إلا التكريم الذي تريدونه للنساء..

أقوال خالدة عن الإسلام



"تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟" - أبو لهب، أول ما أعلن محمد دعوته..

"والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك" - عبد الله ابن أبي ابن سلول، متحدثا عن المهاجرين في المدينة..

"يا بنى عبد مناف تلقفوها تلقف الكره، فما هناك جنه ولا نار" - أبو سفيان، حين مات محمد، أو حين تمت بيعة عثمان..

"لعبت هاشم بالملك فلا - خبر جاء ولا وحي نزل" - يزيد ابن معاوية عندما قتل الحسين..

ويسألونك فلا تجيب



نبينا العظيم في نقاشاته مع قريش يذكرنا بالنكتة القديمة عن الإبن الذي يسأل أباه كثيرا:

الكفار: يا محمد كم عدد أهل الكهف؟
محمد: سيقولون ثلاثة أو خمسة أو سبعة والله أعلم..


الكفار: يا محمد ما الروح؟
محمد: هي من أمر ربي..
الكفار: يا محمد متى الساعة؟
محمد: علمها عند ربي..
أبو بكر: يا كفار يا ملاعين، لا تزعجوا النبي بكثرة الأسئلة!
محمد: اتركهم يا أبو بكر يسألوا كي يتعلموا!
------------

بعد قليل:
- يا محمد ماذا عن الأنفال؟

محمد: قل الأنفال لله والرسول!
هذه المرة جاء الجواب بكل ثقة وسرعة!

مربع الخرافة



أدلة الإيمان الديني يمكن إجمالها بالآتي:
  • هناك أشياء لا نعرفها ولا نفهمها إذن إلهي موجود..
  • هناك أشياء نعجز عن القيام بها إذن إلهي موجود..
  • هناك أشياء نخاف منها إذن إلهي موجود..
  • هناك أشياء نتمناها إذن إلهي موجود..
ولا تكاد تكون هناك حجة دينية واحدة تخرج عن ذلك المربع النكد بأركانه القائمة على الجهل والعجز والخوف والأماني..

الإنتهازية المقدسة



القرآن يؤكد أن زوجات محمد هن أمهات للمؤمنين،
وبنفس الوقت يؤكد - في قصة زينب بنت جحش - أن محمدا ليس أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله..

والهدف الواضح من ذلك الكيل بمكيالين: هو أن ينكح محمد نساء المؤمنين، ولا ينكحون هم نساءه..
وبنفس المنهجية: يؤكد المسلم أن العلمانية تصلح في الغرب، ولا تصلح في بلاد المسلمين..


والهدف الواضح من ذلك الكيل بمكيالين: أن الغرب من واجبه احترام حقوق الأقليات المسلمة، وأما المسلمون فغير ملزمون باحترام حقوق الأقليات في بلادهم..


لا يوجد ما هو أحقر من الإنتهازية، إلا انتهازية ترتدي ثوب الدين وتتمسح في المقدس..

بين العلم والفلسفة



"الفلسفة" تبدو كلمة عامة جدا، تشمل الصالح والطالح، إلى درجة تشعر معها أحيانا أن الكلمة يجب أن تنقرض أو تتفكك لعدة كلمات أكثر تحديدا، فيقال أن العلم فلسفة، وربما الدين فلسفة، وكل تفكير هو فلسفة، وتساؤلي عن الفلسفة الآن هو فلسفة..

هذا يجعل المقارنة بين الفلسفة والعلم مسألة مشوشة، حيث يقول البعض أن الفلسفة أم العلوم، ويرد عليهم آخرون بأن الإبنة كبرت ولم تعد بحاجة إلى أمها العجوز..

أحاول تجاوز الجدال والمصطلحات وتبسيطها لنفسي بهذا الشكل: الكون ليس مطالبا بأن يتماشى مع منطق عقولنا، ولكن عقولنا هي المطالبة بصياغة منطقها ليلائم الكون.. كما أن التجربة علمتنا أن التفكير وحده لا يقود إلى شيء، إن لم يحتكم إلى الواقع..

وقواعد التفكير العقلاني الأرسطي المجرد (الشيء لا يكون نقيضه - الكل أكبر من الجزء..إلخ) تبدو قواعد بديهية واضحة بحيث لا تحمل أهمية مبهرة ولا تساعدنا على فهم جديد..

وكذلك هوس أصحاب العقلية الفلسفية بالجدل حول المطلق والنسبي والشك واليقين والكامل والناقص والمحدود واللامحدود يبدو لي رياضة لغوية لا تطبيق واقعي لها..

لنأخذ مثال "الممكن عقلا"، ففي كثير من النقاشات، خاصة الدينية عن الآلهة، يهتم أحد الأطراف بتأكيد أن تلك الغيبيات "غير مستحيلة" أو أن هذا الكائن لا يمكن نفي وجوده، ولا أدري ما قيمة ذلك؟ الحقيقة أن كل الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية وقصص الأطفال ممكنة عقلا لا يمكن نفي وجودها، أي أنها لا تتضمن تناقضات منطقية مثل الزوج العازب مثلا، يا لفرحتي.. ولكن هل هذا يعني أن نأخذها بجدية؟

لنقل أنني وجدت صندوقا مغلقا أريد معرفة ما بداخله، فالحل المتاح هو فتحه والنظر فيه مباشرة، أو محاولة رصده بالأشعة السينية مثلا، أو حتى هزه لسماع الصوت بداخله، أي الحل في الرصد المباشر أو غير المباشر، وأما الإحتكام (فقط) إلى العقل فنقول مثلا أن ما بداخل الصندوق يمكن أن يكون مفتاحا أو قلما أو حبة عنب..إلخ، ولكنه لايمكن أن يكون فيلا أو ديناصورا أو حوتا أزرقا..إلخ، لأن تلك الكائنات أكبر من حجم الصندوق فيستحيل عقلا أن تدخله، فهذا منهج عبثي لا يفيد..

نفس هذا الإبهام الغامض ينطبق على الظواهر الطبيعية، فالقول أن الصواعق يسببها ملاك من السماء، يمكن أن يقابله قول آخر أن الصواعق يسببها زيوس، وكلاهما من الكائنات الخرافية التي لم يرصدها أحد ولا دليل على وجودها، ويمكن أن أضع معهما آلاف الكائنات الأخرى المحتملة - ولا أدري ما قيمة ذلك في مسار البحث عن الحقيقة؟

وكذلك خلق الكون، فيمكن أن نرشح الله أو آمون رع أو براهما أو أي كائنات أخرى متخيلة لا يمكن تعريفها، فضلا عن رصدها، فضلا عن إثبات مسئوليتها عن الخلق..

أما العلم فيعمل بشكل عكسي تماما: هو يتقيد بالظاهرة وما حولها مما يمكن رصده والتعامل معه، ويتجاهل ما عدا ذلك من خيالات لغوية، فيقيد نفسه بقواعد مثل موس أوكام وشروط مثل قابلية التخطئة، ويلزم نفسه بالتعامل بما هو طبيعي ومشهود ومؤثر وواقعي..

ولهذا لو وقعت جريمة اليوم فلا أحد يعلن أن عفريتا هو من قتل الضحية، ولو ادعى أحدهم ذلك فسيوضع في مستشفى المجانين - هل لأن وجود العفريت وقيامه بالقتل مستحيل عقلا؟ لا، فهو ممكن عقلا مثل أي هراء آخر، وإنما نرفضه لأن التجربة علمتنا أن فحص الأمور بما هو معروف ومرصود أجدى وأكثر عقلانية.. وذلك هو العلم..

فحين نحاول تفسير ظاهرة ما، فلا معنى لأن نضع كل الإحتمالات الممكنة عقلا ونحاول فحصها بجدية، لأن عدد تلك الإحتمالات سيقترب من اللانهاية.. ولعلك فقط تنتبه إلى الإحتمالات القريبة من ثقافتك، فتهتم بفحص وجود الله ولكن يفوتك فحص وجود زيوس مثلا، لأنك ولدت في ثقافة إبراهيمية، ولو ولدت باليونان القديمة لاختلف الحال.. وإنما التصرف الطبيعي هو محاولة تفسير الظاهرة بما هو معروف وقابل للرصد، وهذا المنهج البسيط هو الذي أدى لجميع المعارف الإنسانية حتى اليوم..

بصيغة أخرى: المعرفة الإنسانية لم تتطور عن طريق إطلاق التخيل وتوسيع الآفاق، فهذا كان متوفرا بكثرة لدى القدماء، وإنما تقدمت بالعكس تماما: عن طريق تضييق الأفق بشكل منهجي ذكي.. بالإستبعاد والغربلة وتجاهل ما لا يمكن التعامل معه بالرصد..

ما سبق يفسر لك لماذا كانت الفلسفة موجودة منذ آلاف السنين ولم تتحقق تلك الطفرة التكنولوجية إلا بعدما بدأ تطبيق المنهج العلمي التجريبي.. وهذا الحال المشهود وحده أبلغ من أي كلام يمكن قوله..

وفي أحيان كثيرة ثبت أن الحقيقة العلمية مخالفة لمألوف العقل الإنساني، كما في حالة النظرية النسبية مثلا والتي مزقت مفاهيم الزمان والمكان الجامدين تماما، وكذلك ميكانيكا الكم التي زعزعت قاعدة السببية (العلية) إلى غير رجعة.. وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن الكون غير مطالب بالخضوع إلى منطقنا، وإنما العكس هو الصحيح..

ذلك كله بالطبع لا ينفي بالمطلق فائدة المناهج الفلسفية في البحث، من ذلك أن كثير من خصائص العلم- مثل الربط المنطقي واختبار الفرضيات- هي خصائص بالأساس ذات طبيعة فلسفية.. هذا أمر مفهوم لو تذكرنا أن الفلسفة قديما شملت كل مناهج التفكير، الحمقاء والحكيمة معا، فلا غرابة أن تصادف منهجا صحيحا وسط ركام من الضلالات، ولكن يظل الإنجاز الإنساني الأهم هو استبعاد هذا والإحتفاظ بذلك..

ثم إن التفكير الفلسفي مفيد خاصة في الأمور التي لم يتوصل لها العلم بعد، فهو - كما وصفه راسل- أشبه بعملية استشراف عقلاني لما نتوقع أن يجده العلم.. هذا مقبول ولكن بشرط أن يستند التفكير إلى الواقع، أي تتقيد الفلسفة بالعلوم التجريبية الحسية..

من فوائد الفلسفة أيضا أنها تعلمنا الشك وتؤكد على نسبية الحقائق، ولكن هذا أيضا سلاح ذو حدين، فهو من ناحية يجعلنا أكثر تشككا وبالتالي أكثر تواضعا وأكثر مرونة فيما يخص المكتشفات التي قد تتطور يوما بعد يوم، ولكن على الجانب الآخر فالإستغراق في الشك والنسبية يهدد بالتقليل من قيمة العلم حيث يجعله مساويا للجهل، فإن كانت الحقيقة نسبية فما جدوى البحث ووجع الرأس بالتفكير والتحليل؟

ولكن التجربة تؤكد لنا أن العلم لا يساوي الجهل، وأن المعرفة متطورة لا نسبية - فشتان بين الكلمتين: الأولى تعني التراكم والتحسن، بينما الثانية توحي بأننا ندور في حلقة مفرغة لا طائل منها..

فلا شك أن كل معرفة أو تفكير هي عمليات عقلية تحمل ملامح من الفلسفة بمعناها الواسع، ولكن معيار الكفاءة هنا هو ربط التفكير بما هو واقعي، مع محاولة تجاوز أفخاخ الإنحيازات العاطفية والثقافية واللغوية..

(بالرسم: يقول الفلسفة غير مفيدة،
فتلكمه قائلة: هذه عبارة فلسفية!)

مناهج الحقيقة



تتباين وجهات النظر بين البشر حول كل شيء تقريبا؛ وفي كثير من الأحيان تكون الرؤى متباعدة للغاية، بأقصى الشرق وأقصى الغرب، ولا يفلح النقاش في تقريبها..

فإن كانت الحقيقة واحدة (مطلقة) فلماذا نعجز عن الإتفاق حولها؟ وإن كانت الحقيقة متعددة (نسبية) فما جدوى النقاش أصلا؟
أتصور أن الناس تتبنى أكثر من تعريف، أو منهج، للحقيقة؛ وأتصور أن إدراك تلك التعددية هو ضروري قبل الدخول بأي نقاش.

منذ القدم والبشر يستخدمون عدة أدوات منهجية لإدراك الحقائق
:
منها الحواس: فما نراه أو نسمعه أو نلمسه أو نشمه فهو الحق..

ومنها الشعور الباطني: ما أحس بداخلي أنه صحيح فهو كذلك..  

ومنها الشائع: ما تربيت عليه ويردده الآخرون باستمرار فهو الحق..

ومنها السلطة: ما يقوله الكبار والعارفون هو الصواب..

ومنها العقل: ما نستنتج وجوده منطقيا يكون صحيحا..

ولا شك أن تلك الأدوات متداخلة ومتصلة لا تنفصل، وربما كلنا نعتمد على كل منها بدرجات مختلفة، وأعتقد أيضا أنه في كل بيئة يتم تغليب بعض تلك الأدوات على البعض الآخر:

فالإنسان في حالته البدائية مثلا يميل للإعتماد على الحواس أكثر من غيرها، ثم الذيوع، وقليل من الإستنتاجات العقلية..

ولاحقا في فترات قوة الدولة ومركزيتها يكون لجوء الناس إلى السلطة، فما يقرره الشيخ أو الملك هو الحق، فهو الأدرى والأقوى والعالم ببواطن الأمور، وهو الذي يعاقب من يخالفه؛ ويصل الأمر إلى ذروته مع الثيوقراطية حيث الحاكم أو الكاهن هو ممثل الإله الأعلى، كما في مصر القديمة أو في أوروبا العصور الوسطى..  

وفي بعض المراحل- مثل اليونان القديمة وأوروبا عصر التنوير- يبرز استخدام الإستدلال العقلي (الفلسفة)؛ وربما يتزايد هذا في الأجواء الإقطاعية، حيث ينقسم البشر إلى فلاحين ونبلاء، فتحظى الجماعة الأخيرة بالراحة ووقت الفراغ وبعض العزلة، فيتجاوزون سلطة الدين والحكام، ويترفعون عن المنتشر والشائع، ويميلون إلى الإعلاء من شأن التفكير المنطقي المجرد فوق الحواس والتجربة التي تليق بالعامة..

وفي مراحل أخرى ربما أكثر فوضوية واضطرابا تتراجع الثقة في الدولة وفي العقل نفسه، فينتشر الإيمان بالشعور الباطني، للعوام أو للخواص، وتكون تربة خصبة لأهل الصوفية والخوارق..

ونجد أن معظم المنظومات العقائدية تجمع ما بين تلك الأدوات السابقة، فالأديان مثلا تبدأ بالشعور الباطني للنبي (الرؤيا)، والذي يتحول لاحقا - أو أتباعه- إلى سلطة كهنوتية تأمر فتطاع، وهي سلطة عميقة تستمد قوتها من الإله ذاته، ثم بمجرد ما ينتشر الإيمان يصبح أسهل تصديقه من خلال تأثير التكرار والذيوع عبر الأجيال، وهنا يتحول الدين من فكرة فردية كانت غريبة إلى شعور باطني مستقر لدى جميع المؤمنين، وفي مراحل مختلفة يبدأ المؤمنون في محاولة عقلنة هذا الإيمان بأن يصنعوا له أساسا فلسفيا مناسبا..

وفي العصور الحديثة ظهر المنهج العلمي التجريبي، والذي يجمع بشكل تفاعلي انتقائي بين الحس والعقل، فهو يشبه الفلسفة  من حيث انتظامه المنطقي وتجاوزه للسلطة والدين والشائع، ولكنه يختلف عنها في أنه يجرب منتجات العقل حسيا فيغلب الواقعي على المنطقي؛ وقد أثبت هذا المنهج نجاحه الواسع بشكل غير مسبوق في كل ميادين الحياة تقريبا..

وهنا يجب على من يتعامل مع الفكر وساحات الرأي أن ينتبه إلى تلك الأدوات ومدى تأثيرها على البشر، فأولا هذه الأدوات تجعل للحقيقة معاني مختلفة: فعند الحسي الحقيقة لها معنى بسيط واضح، وعند صاحب الشعور الحقيقة هي إلهام وراحة نفسية عميقة، وعند العامي الحقيقة ترتبط بالتصالح مع المحيط، عن طريق تصديق ما يردده الناس أو السلطة، وعند العقلاني الحقيقة هي فكرة برأسه.. 

 وثانيا فالمشاهدة تخبرنا أن أكثر الناس يتمسكون بالحس والمشاعر أكثر من العقل الفلسفي، وهم يصدقون الشيء لو تكرر على مسامعهم وصار شائعا، وهم يفضلون الخضوع لسلطة فكرية يقينية عن أن يمارسوا التفكير الفردي المستقل بأنفسهم..

 وفي منظومة الدين مثلا لاحظنا كم أن تلك الأدوات مترابطة بشدة، فمثلا السلطة قد تشيع الفكرة داخل المجتمع فتصبح شعورا داخليا لدى الناس يتمسكون بها وكأنها حقيقتهم الخاصة.. 

هذا يحدث مع فكرة الهوية، والتي هي شعور باطني قوي متجذر، ولكنه شعور قابل للتشكيل حسب ما تريده السلطة وما يشيع بالمجتمع، فالإنسان يبحث عنها غريزيا، ويصدقها بشكل غير عقلاني بفعل التكرار من اليمين واليسار، أو الإملاء من أعلى، ثم إنه يتمسك بها بشكل عاطفي ليس له أي علاقة بالعقل..

هذا قد يفسر لماذا المؤمن يبدو أن لديه حصانة ضد المنطق، فهو لم يعتنق دينه لأسباب منطقية حتى يتركه لأسباب منطقية، وإنما اعتنقه بالوراثة والإملاء والتكرار، وربطه بغريزة داخلية قوية هي الهوية، والتي هي شعور عميق مرتبط بغريزة البقاء لدى الكائنات، فلا تعجب حين ترى مؤمنا راغبا في التضحية بحياته- أو حياتك- في سبيل دينه الذي هو هويته، وهو سلوك ليس له علاقة بأية استنتاجات منطقية..

وهنا الجدل بين العلمي والديني يبدو متعسرا على كل المستويات؛ ذلك أن الخلاف جذري أساسي لا فرعي ثانوي : فأحدهما يعرف الحقيقة موضوعيا بأنها ما يطابق الواقع حسب الإستدلال المنطقي المدعم بالحس التجريبي، بينما الثاني يعرف الحقيقة ذاتيا بأنها ما قاله كتابي المقدس وما لقنوني إياه في الصغر، وما يشعرني بالهوية والكرامة وبالراحة النفسية، وما يعزيني وقت الألم، وما يجعل مجتمعي أكثر تماسكا واستقرارا وأخلاقا..

ما سبق قد يفسر لنا أيضا ظاهرة فكرية أخرى، وهي التي تغلب الشعور الداخلي المريح المسالم على الحس الواقعي وعلى العقل معا، كما نرى في الفلسفات المتصوفة أو حتى في رؤى حديثة تنظر إلى الحقيقة وكأنها نسبية، ومن ثم تغلب التعايش والسعادة وراحة البال على العلم والمنطق، وكأنه لا يهم أي فكر أو دين هو الصواب وإنما المهم أن نتعايش معا؛ وهي رؤية قد تصيب العقلاني بالإنزعاج الشديد، لأن الأخير لديه مفهوم محدد للحقيقة، مرتبط باستبعاد الباطل والخرافي، بينما صاحب المشاعر لديه قلب واسع قابل كل صورة بمرونه - فهو سينظر للعقلاني باعتباره متعصب ضيق الأفق، بينما العقلاني سينظر له باعتباره مائع مداهن، وربما الأدق أن نقول أن كلا منهما لديه مفهوم مختلف للحقيقة..

لماذا صرت ملحدا


من الإيمان إلى الإلحاد في 36 خطوة..


هذه محاولة مني للإجابة عن السؤال، بطرح مختصر للنقاط التي جعلتني أعيد النظر وأغير موقفي من الأديان..
مع ملاحظة أن العرض بالطبع سيكون أكثر تنظيما - وربما مللا- من الرحلة الواقعية، التي تتضمن تقلبات وصراعات نفسية وتجارب شخصية تأخذ وقتها حتى اللحظة المناسبة..

1- الأسئلة
تبدأ بطرح الأسئلة الوجودية الكبرى : كيف نشأ الكون؟ وكيف جئنا إلى الحياة؟ وماذا بعد الموت؟ وكيف ينبغي أن نعيش؟ وكيف نتيقن من أي حقيقة؟

2- الإجابة الدينية
أول إجابات - عادة - نتلقاها من الدين الذي ولدنا عليه: فالله هو من خلق الكون، كما خلق البشر لكي يعبدوه، أو لأنه يحبهم.. وأما مصيرنا بعد الموت فيتوقف على مدى إيماننا بالإله وطاعتنا لتعاليمه في الحياة، والتي تجسد الحق والعدل والخير، ممثلة في النصوص المقدسة التي جاء بها الأنبياء - وهكذا تم إجابة جميع الألغاز دفعة واحدة بتلك القصة اللطيفة.. 

3- الشكوك
لكنك قد تبدأ بطرح المزيد من التساؤلات حول ذلك السيناريو الديني ذاته : ما الله؟ ولماذا يحتاج الكامل إلى الخلق؟ وما سبب وجود الشرور والآلام؟ ولماذا الله يعاقب البعض بعذاب أبدي فقط لأنهم لم يؤمنوا به؟ وكيف أعرف أن ديني هو الصحيح؟ وما الدليل على صحة القصص الديني أصلا؟ بالإضافة إلى وجود مشاكل عديدة في النصوص المقدسة على المستوى المنطقي والأخلاقي والعلمي - وهي مشاكل يسعى أتباع الأديان للرد عليها، سواء بالحجة أو بالتلاعب العاطفي على مشاعر الخوف والجهل والعجز الإنسانيين..


4- البدء من جديد
إن لم تقنعك إجابات أهل الدين فهنا قد تحاول- مخلصا- إزاحة الموروث والبدء من الصفر، ولكن هل نبدأ من الأسئلة الوجودية أم من الإجابات الدينية؟ لو بدأنا من الجانب الوجودي الغامض فقد نظل أسرى الإجابات الوحيدة المتاحة أمامنا، وهي الأديان، فيضطرنا العجز والجهل للإستسلام لهذا السيناريو المحفوظ والموروث.. فربما إذن يكون البديل الثاني أفضل: محاولة تقييم الإجابات الدينية أولا، فلو كانت صحيحة فليكن، ولو كانت غير ذلك نكون قد تخلصنا من الإجابات الخاطئة، وبعد ذلك نحاول إعادة التفكير في المسائل الوجودية بحرية..

5- أديان لا دين
يوجد على كوكبنا الآلاف من الأديان والمذاهب، تختلف حول كل شيء تقريبا، ويدعي كل منها امتلاك الحق حصرا وأن الأخرى زائفة أو محرفة، وبسبب تناقضها لا يمكن أن تكون كلها على حق.. وهكذا نجد المؤمن بدين معين يعترف بأن البشر قاموا بصياغة آلاف الأديان (الأخرى) وكتبوا العديد من الكتب المقدسة (الأخرى) مما يستدعي سؤالا: أليس هناك احتمال أن دينك وكتابك أيضا بشريين مثل هؤلاء، وأنك - مثلهم- اقتنعت به فقط بدافع الوراثة والشحن العاطفي وغسيل الدماغ؟


6- الأصل
لعل جميع الديانات لها أصل مشترك نابع من طبيعة البشر: أحلامهم ومخاوفهم وأحوالهم الإجتماعية والسياسية، فمنذ القدم يبدو أن الإنسان قدس كل ما يؤثر فيه، مثل مظاهر الطبيعة التي حسبها شخصيات ترضى وتغضب (الإحيائية)، ومثل الأجداد الذين حسب أن وجودهم يستمر بشكل روحاني بعد الموت، في الذكرى والأحلام (تقديس الأسلاف).. وهكذا صار لكل قبيلة رموز مقدسة (طوطم) هم أجداد عظماء تجسدوا في عنصر طبيعي أو حيوان، وهي الصورة الأولى للآلهة، كما ولدت الطقوس البدائية والسحرية - مثل الصلوات والقرابين التي يشرف عليها ساحر القبيلة- كمحاولة لاسترضاء تلك الأرواح..


7- الوثنية
من تلك العناصر البدائية (الإحيائية وعبادة الأسلاف والطواطم والسحر) جاءت المرحلة التالية وهي الوثنية، حيث نجد مئات الآلهة في مصر والعراق والهند واليونان وغيرها، في شكل أنصاف بشر وحيوانات وعناصر طبيعية، والأرجح أنها ترجع لأسماء حكام ملكوا البلاد قديما، وكان لتلك لآلهة زوجات وأبناء، وكانوا يولدون ويكبرون ويتصارعون ويموتون أحيانا.. وهكذا صار لكل مدينة آلهتها وكهنتها ومعابدها وطقوسها، وحين اتحدت تلك المدن صار إله العاصمة هو الإله الأهم، بينما صارت الآلهة الأخرى بمثابة مساعدين - أو أعداء- له، وتكفل الكهنة (وهم خلفاء سحرة القبائل) بتأليف الأساطير، وهي حكايات مشوقة تخدم تلك التراتبية وتبرر الطقوس..


8- التوحيد
في منطقة الشرق الأوسط توسعت الدول لتصبح إمبراطوريات مركزية، وكانت النتيجة أن مكانة الآلهة الثانوية للمدن استمرت في التراجع لصالح إله العاصمة الأكبر، حتى صارت مجرد تجليات له، وهكذا ظهرت نزعات توحيدية في ظل إمبراطوريات مصر والعراق وفارس، حتى سيظهر التوحيد الصارم في مشروع إمبراطوري صغير لبعض القبائل الكنعانية: اليهود.. وأما في أماكن أخرى فقد ظهرت أفكار مختلفة، مثل وحدة الوجود الهندوسية (الكون هو الله) أو حتى أفكار تتجاهل الله تماما (مثلما في البوذية والجاينية الهنديين، وفي الكونفوشية والطاوية الصينيين) أو القول بوجود إلهين، واحد للخير\النور والثاني للشر\الظلام (مثل الديانات الثانوية في فارس)..


9- اليهودية
في كنعان وجدت العديد من القبائل والممالك والأديان والآلهة الوثنية، بعضها أصوله من مصر أو العراق، وفي مرحلة ما - بالقرن السابع ق.م، ولأسباب سياسية - ظهر تحالف قبلي طموح حول مدينة القدس، مما استلزم صياغة عقيدة موحدة تدعم ذلك الحلف، فقام الكهنة بانتقاء عقائد وطقوس وشرائع ورموز مقدسة وقصص محلية متنوعة تنتمي لتلك القبائل، وجمعوها معا في كتاب مقدس (التوراة) مع التركيز على إلهين محليين - إيل ويهوه- والذين تم دمجهما معا ليصيرا إلها واحدا، وهكذا ولدت الديانة اليهودية، والتي تحمل عناصر مصرية (مثل التوحيد والختان وتحريم الخنزير) وعناصر عراقية (مثل قصص الخلق والطوفان والعطلة الأسبوعية)، ولاحقا سوف تستمد عناصر أخرى من الفارسية (مثل الملائكة والشياطين والمخلص المنتظر وقيامة الموتى)، وتم صياغة تاريخ أسطوري يخدم تلك العقيدة وذلك الحلف..


10- المسيحية
بعد سقوط مملكة إسرائيل ظل اليهود يحلمون بقدوم ملك قومي (ممسوح بالزيت- مسيح) يعيد إليهم أمجادهم، وهو الدور الذي حاول الكثيرون لعبه، وكان منهم داعية يهودي عاش بالقرن الأول يدعى يسوع، وتبعه عدد من اليهود حتى تم صلبه، مما جعل الأكثرية يعتبرونه مجرد مسيح زائف فاشل آخر، ولكن بعد ذلك ادعى أتباعه أنه قام من الموت مرة أخرى، وسعوا في نشر تلك الدعوة بين غير اليهود من خلفيات يونانية ورومانية، وهكذا ولدت المسيحية حيث انفصلت عن اليهودية الأم واختلطت بالوثنيات، وقام الداخلون إليها بإسقاط الشريعة والختان وتقديس السبت (الذي تم استبداله بالأحد، يوم الشمس) كما تمركز الإيمان بها حول رمز هجين يهودي وثني، فهو بشر ابن داود، لكنه ابن الله، وهو واحد لكنه ضمن ثالوث على النمط الوثني، وقد كتبت عدة سير لحياته (أناجيل) باليونانية تم انتقاء بعضها لتصبح كتابا مقدسا للدين الجديد، إلى جوار الكتاب اليهود الذي صار اسمه "العهد القديم" - ثم مع اعتناق بعض الأباطرة الرومان لتلك الديانة انتشرت بشكل عالمي ولاقت حظا أكبر من أمها المحلية، وقامت بالقضاء على الديانات الوثنية المحلية بشكل عنيف وممنهج..


11- الإسلام
لكن ظلت بعض الفرق الكتابية واقفة في المنتصف بين الأصل اليهودي والفرع المسيحي، فهم يؤمنون بمسيحانية يسوع، وبنفس الوقت يتمسكون بالشريعة اليهودية والختان ويحلمون بالعودة إلى القدس حاكمين، وتعرضت تلك الفرق النصرانية والإبيونية للإضطهاد الروماني فهاجروا إلى الجزيرة العربية حيث احتكوا بالوثنيين العرب وعلموهم التوحيد والنسب الإبراهيمي وتحالفوا معهم، وكان من تلاميذ النصارى تاجر يدعى محمد، سرعان ما التقط الخيط وادعى أنه النبي المنتظر الذي جاء يبشر بعودة المسيح، وسعى لنشر دعوته بين قبائل العرب مما منحه قوة عسكرية متنامية، وبعد أن رفضه اليهود بدأ يتحول إلى تقديس كعبة العرب الصحراوية والمنسوبة لإبراهيم، ثم مع تبدل موازين القوى تراجعت الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، وبرز نجم العرب بدينهم الجديد، وفي العصر العباسي سيتم صياغة التراث الحديثي والفقهي والتفسيري، وهكذا ولد الإسلام..



12- شجرة الديانات
والخلاصة أن المسيحية والإسلام هما في الأصل مذهبان يهوديان انفصلا عن الدين الأم، واحد بصياغة رومانية والثاني بصياغة عربية.. وفي الحالات الثلاثة يمكننا ملاحظة قوة العلاقة بين الدين والسياسة، ومدى قدرة التوحيد الديني على دعم المشاريع الإمبراطورية بضمان جمع القوة الروحية في قبضة كهنوتية واحدة، فلا عجب أن الشعوب الغازية قامت بفرض إلهها الواحد على الشعوب المغزوة.. مع ملاحظة أن الديانات المذكورة هي التي سادت واشتهرت، ولكن بجانبها كانت هناك عقائد أخرى انتشرت قديما ثم ذوت، مثل الميثرائية والمانوية والمزدكية والصابئة، وحتى عصور حديثة ظلت الديانات والنبوات الجديدة تظهر، مثل البهائية والقاديانية في فارس والهند، ومثل المورمونية في أمريكا، وغيرها، وذلك ناهيك عن تعدد المذاهب داخل كل دين، مما يجعلنا أمام آلاف وربما مئات الآلاف من الطوائف على الكوكب..


13 - الأديان ثقافات بشرية
وهكذا يمكن القول أن كل الديانات تقتبس عن بعضها، وأن جميع العناصر الموجودة في اليهودية والمسيحية والإسلام وغيرها (مثل الله الواحد والملائكة والشياطين والجنة والنار وقصص الخلق والطوفان والأنبياء، وكذلك جميع الطقوس والشرائع والأعياد..إلخ) هي منقولة عن أصول وثنية في مصر والعراق وسوريا وفارس.. وبينما يدعي بعض المؤمنين أن جميع الأديان أصلها واحد (الوحي الإلهي) وأن ذلك هو سبب التشابهات فيما بينها، إلا أننا نلاحظ أن الديانات تتشكل حسب البيئة والزمان، فديانات البدو تختلف عن ديانات الفلاحين وهكذا، كما نلاحظ أن الأديان تتشابه كلما تقاربت جغرافيا وزمنيا، فمثلا اليهودية تشبه ديانات مصر والعراق وفارس، أي المناطق التي نشأ اليهود وسطها، ولا تشبه ديانات استراليا مثلا، كما أن المسيحية تشبه اليهودية والديانات اليونانية\الرومانية التي تبلورت جوارها، ولا تشبه ديانات الهنود الحمر البعيدة، كما أن الإسلام يشبه المسيحية واليهودية والوثنية العربية القريبة منه، ولا يشبه ديانات الصين البعيدة، وهكذا فنمط تشابه الديانات يجعلنا نقول أنها ثقافات تنشأ وتتطور وتقتبس عن بعضها، وذلك يفسر الأمر بأفضل مما يفسره افتراض وحدة مصدر مزعومة.. 


14- تاريخية الدين
من الناحية العلمية والتاريخية لا يوجد أدنى دليل على وجود شخصيات وأحداث التراث العبراني مثل آدم ونوح وطوفانه وسام وحام وأيوب ويونس وإبراهيم ولوط ويعقوب وإسحاق ويوسف وإخوته وموسى وهارون وخروجهما وسليمان ومملكته..إلخ، وقد اجتهد الآثاريون والباحثون المؤمنون في إيجاد حجر واحد يؤكد تلك الأحداث دون نجاح، بل واكتشفوا مع يعارض تلك الأحداث ويكذبها، فهي ساقطة تاريخيا كما هي ساقطة منطقيا.. بالإضافة إلى أن كثير من قصص أولئك الأنبياء يتشابه بشكل كبير مع أساطير أقدم بالمنطقة، مما يوحي أننا أمام خرافات مقتبسة عن بعضها، وربما بعضها يعكس شذرات من تاريخ حقيقي تم تشويهه والمبالغة فيه وإضافة الخرافات إليه، بغرض خدمة أغراض قومية ودينية محلية..


15- تصور الأديان للكون
من أبرز علامات بشرية النصوص الإبراهيمية المقدسة هي صورة الكون التي تقدمها لنا، والتي تبدو متشابهة تماما لتصور الوثنيين القدامى للكون، فالأرض - في آيات التوراة والأناجيل والقرآن- هي قرص مسطح له أطراف، وأما السماء فأشبه بسقف صلب أو بناء مرفوع كالخيمة فوقنا، ترصعه مصابيح ملتصقة به هي الشمس والقمر والنجوم، والتي تدور حول الأرض فتشرق وتغرب تحتها (في عين حمئة مثلا)، ثم نجد فوق السماء ربما تكمن سماوات أخرى، بأعلاها يوجد الله نفسه جالسا على عرشه محاطا بالملائكة، وهو المكان الذي زاره أكثر من نبي صعودا في رحلات معراجية يمر فيها عبر أبواب تفتح في السقف السماوي الصلب، ونجد أنه يوم القيامة سيتم تمزيق تلك الخيمة السماوية وتدمر الشمس والقمر وتسقط النجوم على الأرض، ويظهر الله نفسه ليشرق بنوره على الخلق، محمولا على عرشه الطائر تحمله الملائكة المجنحة، ليقيم الموتى ويحاسب البشر..


16- خرافات الأديان
وكما أن النصوص الدينية تمتلئ بالأخطاء التاريخية والمغالطات المنطقية وبالتناقضات الداخلية، فهي كذلك تتناقض بشدة مع المكتشفات العلمية التي توصلنا إليها، مثل زعمها بأن البشر مخلوقين من طين، أو أن الإنسان يخلق من نطفة دون ذكر لدور بويضة المرأة، أو أن تشكل العظام يسبق تشكل اللحم، أو أن الأرض- بل النباتات- خلقت قبل الشمس، أو أن كل شيء مخلوق من زوجين، أو أن الجبال أوتاد تثبت قشرة الأرض، أو أن هناك حشرات تمتلك أربعة أرجل، أو أن الأرنب يجتر، أو أن الحمير والنمل تتكلم، أو أن الحيتان يمكنها ابتلاع البشر أحياء، أو أن القلب هو مركز التفكير والتعقل، أو أن السماء تحتوي جبالا من الثلج، أو أنه لا عدوى، إلى غير ذلك من الأخطاء العلمية الواضحة، ناهيك عن مزاعم الخوارق والمعجزات التي لم يكن المؤمن ليصدقها لولا أنها وردت في كتابه المقدس، ولعله لا يدري أن أكثرها منقول عن خرافات القدماء.. وفوق ذلك فالدين يضرب المنهج العقلاني نفسه في مقتل، حين يتصور أن عالمنا نشأ ويدار بواسطة قوى سحرية غيبية هي فوق المادة وفوق المنطق..


17- لا إعجاز علمي بالأديان
وأما محاولات البعض لاستخراج آيات علمية من الكتب المقدسة، فهو دجل يقوم على الكذب أو التلاعب باللغة لمنح الكلمات معاني جديدة لم ترد عند القدماء، ولو كان هناك إعجاز حقا لتمكن أهل الدين من الوصول إلى النظريات العلمية قبل الكفار، وهذا ما لم يحدث ولو مرة واحدة، وإنما ما يحصل هو أن المؤمنين ينتظرون بكل كسل ظهور النظرية العلمية، ثم يسارعون بتلفيق لها أي نصوص تبدو ملاءمة من كتبهم - مع ملاحظة أن تلك المحاولات نفسها هي اعتراف ضمني بإفلاس الدين وتفوق العلوم الطبيعية، بدليل أن المؤمن صار يبحث عن دعم لمقدساته الإلهية في أروقة المكتشفات العلمية البشرية..


18- الأخلاق الدينية
يزعم البعض أن الأديان تحض على الأخلاق وتؤدي لتماسك المجتمع، ولكن بتأمل بسيط يمكن ملاحظة أن الأخلاق الدينية ليست سوى عادات القدماء، فقد لاحظ البشر منذ زمن أن القتل والسرقة والتخريب والفوضى الجنسية هي أمور تضر بالمجتمعات، فقاموا بتجريمها أو تنظيمها، ثم وجد ذلك المنع طريقه إلى تعاليم الأنبياء، فالأديان عكست الأخلاق الموجودة ولم تخترعها.. وعلى الجانب الآخر نجد أن الأخلاق الدينية فاسدة تتسم بعدة سمات سلبية، فهي أخلاق متضاربة (كل دين له منظومته الأخلاقية التي تعارض أختها) كما أنها أخلاق انتهازية (فالمؤمن يفعل الخير خوفا من عقاب الله وطمعا في مكافأته، حسب سياسة العصا والجزرة الجديرة بحيوانات السيرك وليس ببشر أحرار عقلاء)، وهي كذلك أخلاق محلية ذاتية (فقد تجد دينا يحرم القتل والسرقة والإغتصاب داخل مجتمعه، ولكنه يبيح تلك الأمور في الحروب الجهادية حين توجه للأعداء، ويسميها بغير أسماءها) - وفي ثنايا النصوص الدينية نجد أوامر بالقتل والتخريب والغزو، كما نجد عقوبات قاسية همجية، أحيانا على مخالفات بسيطة تافهة، كما أننا لا نجد أن هناك دين واحد قام بتحريم العبودية واسترقاق البشر، وفوق ذلك نجد احتقارا كبيرا للمرأة التي توصف بالنقص والتبعية والنجاسة والفتنة..إلخ، وهذا ينطبق على الديانات الشرقية (كالبوذية) كما ينطبق بالطبع على اليهودية والمسيحية والإسلام، والخلاصة أن أكثر الأخلاقيات الدينية لا تصلح لعصرنا، هذا إن سلمنا بأنها كانت تصلح لعصرها..


19- عبثية الإختبار و"العدالة" الدينية
ومن أبرز السمات التي تدل على عبثية منظومة العدل في الأديان، خاصة الإبراهيمية، هي أنها ترهن الرضا الإلهي بالإيمان قبل كل شيء، مما لا يحقق عدلا ولا يبني مجتمعا سليما، فإن كنت من جماعتنا فذنوبك مغفورة مهما فعلت، وإن كنت من الجماعة الأخرى فمصيرك العذاب الأبدي ولو كنت أفضل الناس إحسانا، وهو عذاب سادي مخيف يمتلئ بأوصاف نارية مرعبة لا تخرج من مخيلة رحيمة بل سوية.. وإن رأى البعض أن الحياة هي "اختبار" فلا أدري ما جدوى ذلك الإختبار العبثي الذي يطلب من البشر التصديق بلا دليل والإتباع الأعمى للكهنة، ويغضب ممن يتشكك أو يستخدم عقله بشكل متحرر، كما يتوقع من البشر أن يجدوا ضالتهم وسط آلاف المذاهب والطوائف المختلفة..


20- الإله الديني
أما صورة الخالق الذي تقدمه تلك الأديان، فهي صورة طاغية جبار متعصب ضيق الأفق يجلس على عرش سماوي، يحب ويكره ويفرح ويغضب ويندم ويتحسر، ثم أنه خلق ذلك الكون الواسع فقط لكي يتسلى باستعباد واحد من أشباه القرود، فيلعب معهم لعبة الغميضة، ويختبرهم بشيء هو يعرف نتائجه مسبقا، ويرضي غروره بسماع صلواتهم وثناءهم عليه وتوسلاتهم له، كما أن صاحبنا يغضب بشدة ممن يتجاهله أو يشكك في وجوده، وهي صورة بائسة لا تليق بإنسان عقلاني حكيم، ناهيك عن خالق المجرات المزعوم، وإنما هي صورة مستمدة من الحكام والملوك القدامى في المنطقة، والذين كانوا يجلسون على العروش ويطلبون الطاعة والتمجيد ويعاقبون الخونة ويحيطون أنفسهم بالخدم والكتبة ويبعثون الرسل إلى المدن برسائل تحذيرية تأمر أهلها بالخضوع والولاء للملك المركزي الواحد، لا شريك له..


21- الترقيع الديني
هي مرحلة يمر بها كل مؤمن يفكر، ويلاحظ القصور المنطقي والعلمي والأخلاقي للأديان، لكنه بنفس الوقت لا يجد في نفسه الجرأة على رفضها تماما، وذلك بسبب ارتباطه نفسيا بالموروث وكذلك عجزه عن إجابة الأسئلة الوجودية، والنتيجة أنه يجتهد في إعادة تأويل الدين ولي عنق نصوصه ليتناسب مع عقله وضميره، فتجد البعض يقول أن قصة الخلق الديني هي قصة رمزية لا يجب أخذها حرفيا، وكذلك الحال مع النصوص ذات الطابع العلمي التي تتكلم عن الكون والطبيعة، بينما يصر آخرون أن آيات القتل والقتال هي حالات خاصة يجب أخذها في سياقها وعدم تعميمها، وتصل المسألة بالبعض إلى إنكار عذاب الجحيم - والنتيجة أننا أمام إعادة صياغة كاريكاتورية للدين بحيث يتم تفريغه من مضمونه بشكل لم يقل به أصحاب الدين ومؤسسيه الأصليين، وهي كذلك اعترافات ضمنية بأن الدين - في حالته الأصلية- لا يصلح للعصر، ولا يتلاءم مع العقل والضمير..


22- الأديان تأثيرها سلبي
الأديان - بتعريفها الشامل- هي منظومات تفكير وحياة القدماء، ولا يمكن القول بأن كلها شر، بل ولا يمكن إنكار دور الأديان في الحفاظ على تماسك بعض المجتمعات وفي منح الناس الراحة والطمأنينة للناس في أوقات الصعاب، ولكن هذا لا يمنع أن تلك المنظومات -خاصة الإبراهيمية- روجت للخرافات داخل المجتمع، وقامت بتعطيل العقل الحر والبحث العلمي، وعادت الحريات ورسخت للدكتاتورية بأن جعلت الشعوب لعبة في أيدي الكهنة والحكام، وأوقعت الناس في خلافات تافهة نتيجة الإيمان الغيبي وتقديس النصوص، خاصة مع غموض تلك النصوص وإبهامها، كما أنها وقفت بشدة في طريق التعايش والتعددية المجتمعية والمساواة بين البشر ومنح العبيد والنساء والأقليات حقوقها، كما أن كثير من الحروب والفتن الطائفية قامت - أو تضخمت أو طالت- بسبب وجود العنصر الديني فيها، ولا شك أن الحكومات الدينية جسدت أسوأ الأنظمة التي عرفها البشر، كما لا شك أن التحرر من سلطة الأديان يساهم في تقدم المجتمعات سياسيا واقتصاديا..


23- الأديان تستحق السخرية
هذه ليست حجة منطقية بقدر ما هي خطوة نفسية مهمة، فتلك الأديان التي تعطل العقل والأخلاق وتعادي قيم العلمية والتسامح والتعايش وحتى السعادة، هي لم تنتشر إلا بدعم السلطات السياسية، ثم استمرت في العيش ليس لأنها الأكثر وجاهة ومنطقا، وإنما لأنها تتلاعب بمواطن العجز البشري، ولا تسمح لأفكار غيرها بالتواجد على الساحة، ولأنها تحيط نفسها بهالة من الرهبة والقداسة غير المبررة، فأكثر عناصر الأديان كانت بالحقيقة لتثير الضحك أو الإشمئزاز (أو كليهما) لولا أنها ارتبطت بموروث الآباء المقدس وتم إحاطتها بكهنة لا يملكون علما ولا يقدمون أي خدمة للمجتمع، ويستمدون الإحترام فقط من ارتدائهم لقبعات مرتفعة، وبالتالي فتناول الأديان وآلهتها بالسخرية هو خطوة ضرورية، ليس بغرض الإساءة أو جرح مشاعر المؤمنين، ولكن بغرض إزالة هالة القداسة المهيبة الزائفة التي أحاطت الأديان نفسها بها عبر القرون، وبالتالي تعريتها لرؤيتها في حجمها الحقيقي..


24- ماذا عن الله؟
إذا اتفقنا على بشرية الأديان فسننتقل إلى القضية الوجودية ونسأل: ولكن ماذا عن الكون والحياة، هل جاءا هكذا بالصدفة بلا خالق أو رب؟ ولكن لنطرح سؤالا مختلفا: إذا سلمنا بضرورة وجود "جهة ما" خلقت الكون والحياة، فما الذي يجعلنا نصف تلك الجهة بأنها رب أو إله؟ ولماذا الربوبي أحيانا يصف تلك الجهة بالكمال أو الخير أو الحكمة أو المحبة أو العدل، ولماذا يتحدث عنها صفة المفرد والمذكر؟ لماذا لا تكون تلك الجهة هي- مثلا- مجموعة كائنات شريرة اتفقت فيما بينها على خلق الكون؟ الجواب الوحيد أن الربوبي مايزال متأثرا بصورة الإله الديني المذكورة خاصة في الديانات الإبراهيمية، والتي هي - كما ذكرنا- مستمدة من صورة الحاكم العظيم قديما، وهذا يعني أن فكرة الإله هي فرع عن الدين، وليس العكس، وهذه نقطة غاية في الأهمية تجعلنا نكتشف أن الله لا يختلف عن آمون رع أو زيوس أو كريشنا، تلك آلهة المصريين أو اليونانيين أو الهنود، وهذا إله اليهود والعرب- وهو سبب كافي لأن نتخلص من الربوبية مع تخلصنا من الأديان، مع الإحتفاظ باحتمالية وجود جهة ما غامضة خلقت الكون..



25- تناقضات الكمال
افتراض وجود خالق كامل يخلق الكثير من المعضلات والتناقضات المنطقية: فمثلا لماذا يحتاج الكامل الحكيم إلى خلق الكون والبشر أو فعل أي شيء؟ إن كانت تحركه الضرورة فهو ناقص القدرة، وإن كان يفعل بلا ضرورة فهو ناقص الحكمة.. كذلك كيف يمكن أن يكون كامل الرحمة والعدل بنفس الوقت؟ بينما كمال أحدهما ينقص من الآخر، فلو عاقب المذنب فهو ناقص الرحمة، ولو عفا عنه فهو ناقص العدل.. وكيف يكون كامل العلم والقدرة بنفس الوقت؟ فهل يستطيع تغيير ما علم مسبقا أنه سوف يفعله؟ إن قلنا نعم فعلمه ناقص، وإن قلنا لا فقدرته ناقصة.. وكذلك هل يستطيع خلق صخرة يعجز عن حملها؟ في الحالتين نجد أن قدرته ناقصة - والخلاصة أن فكرة الكمال نفسها فكرة مستحيلة الوجود لأنها متناقضة داخليا..


26- مشكلة الشر
هي معضلة قديمة وتصلح لمخاطبة من يؤمن بإله كامل وخير، وتسير كالآتي: هل الإله يريد منع الشر ولكنه لا يقدر؟ إذن هو عاجز.. هل هو قادر على منع الشر ولكنه لا يريد؟ إذن هو شرير.. هل يريد وقادر؟ إذن من أين يأتي الشر؟، والخلاصة أن وجود الشرور حولنا: الأمراض والحروب والزلازل والبراكين هي شواهد على استحالة وجود إله كامل ورحيم وعادل وعليم.. يحاول البعض الرد على تلك المعضلة بعدة أمور: منها القول بأن تعريف الشر ملتبس، ولكن هذا غير صحيح فالشر هو الألم والمعاناة، خاصة غير الضروريين.. ويحاولون القول بأن الشر هو فقط غياب الخير، وهو تلاعب لفظي يمكن عكسه بالقول أن الخير ليس إلا غياب الشر.. ويقولون أن الشر ضروري لكي نشعر بالخير، ولكن هذا يبدو عجيبا مع وجود إله مطلق القدرة، ومطلق الخير، ويعدنا بنعيم أبدي لا شر فيه.. ويقولون أن الشر منبعه الإنسان وحريته، ولكن يفوتهم ملاحظة الشرور في الطبيعة مثل الأمراض والكوارث الطبيعية - والخلاصة أن كل محاولات الردود لا تزيل المعضلة أو تحلها..


27- الدعاء لا يستجاب
هذه من التجارب العملية البسيطة التي تحدث أمامنا كل يوم ويمكنها أن تثبت وجود - أو عدم وجود- إله قادر يراقبنا ويرعانا: ببساطة ارفع يديك إليه بالدعاء، وستجد أن النتيجة - إحصائيا- مطابقة لتوجهك بالدعاء إلى أي إله آخر، أو حتى إلى حجر أصم، فما تتمناه قد يحدث أو لا يحدث، وذلك تبعا لسهولته واحتماليته الواقعية ولضربات الحظ، فلو أنك أصبت بمرض بسيط وذهبت إلى طبيب ماهر فالأرجح أنك ستشفى سريعا، ولو أصبت بمرض خطير ولم تشرع بالعلاج فالأرجح أن أمورك ستسوء، وذلك بغض النظر عن الإله الذي تتوجه إليه بالدعاء، ويمكنك التأكد من ذلك حين ترى المؤمن يهرع إلى الأطباء قبل أن يدعو، وحين ترى الكوارث الطبيعية تصيب الجميع بلا تفرقة، وحين ترى متوسط العمر مرتفع في المجتمعات المتقدمة تقنيا وطبيا، وحين ترى الفقر والجوع والجريمة منتشرة في البلاد المنهارة سياسيا واقتصاديا، والتي أكثر سكانها مؤمنون مخلصون، ولكنك مع ذلك لا ترى أثرا لتدخل الآلهة فيها، إلا لو كانت آلهة الشر والخراب..
 

28- العالم يسير بقوانين ثابتة
اغمض عينيك وحاول أن تتخيل كونا يسير بإرادة شخص مهيمن مطلق القدرة، والآن تخيل كونا يسير بقوانين ميكانيكية ثابتة مثل الساعة المضبوطة، ألا ترى أن الصورتين تتناقضان نظريا؟ إما أن الأمور تسير حسب قرارات كائن علوي له شخصية وإرادة وأغراض، يحب ويكره ويفرح ويغضب، وإما أن الأمور تسير بخصائص طبيعية لا يسيرها عقل أو إرادة شخصية، ولا يمكن الجمع بين التصورين - وكل الشواهد تشير إلى أننا نعيش في عالم من النوع الثاني.. هذا ونجد أن كل مزاعم الخوارق والمعجزات هي ادعاءات تاريخية أسطورية أو معاصرة من قبيل الحكايات الشعبية التي يحاول كل أصحاب دين الترويج لأنفسهم من خلالها، والتي يمكن تفسيرها طبيا ونفسيا وفيزيائيا، وواقعيا لم يثبت أن قوانين الطبيعة تم خرقها ولو مرة واحدة..


29- عبث المعجزات
ولكن حتى لو سلمنا جدلا بوجود الخوارق المعجزة قديما أو حديثا، فهذا- إن صح- فلن يثبت شيئا بالحقيقة، إلا أن معرفتنا ناقصة أو أن علومنا خاطئة، وهذا لن يبرهن بالضرورة على وجود أي عفاريت سماوية، فلو فرضنا أن شخصا جاءنا فأحيا الموتى أمام أعيننا وطار في السماء وحول الماء إلى نبيذ، فما الذي سيثبته ذلك؟ أنه مدعوم من خالق الكون؟ لا، ليس بالضرورة، فقد يعني أشياء أخرى منها أن هذا الشخص ساحر ماهر أو يمتلك تكنولوجيا خارقة أو ربما جاء من المستقبل أو حتى مدعوم من كائنات فضائية..إلخ، الإحتمالات كثيرة، فالمعجزة تعني أن شيئا ما ليس على ما يرام، ولكنها لا تثبت شيئا، لأن الإثبات- بالتعريف- هو عملية منظمة ممنهجة تقوم على دراسة القوانين المعروفة، ولكن المعجزة - بالتعريف أيضا- هي خرق للنظام والمألوف، فهي تصلح للتشكيك في المعرفة ولكنها لا تصلح لإرساء معرفة جديدة، فلا يجتمعان.. هذا المعنى نجده في ثنايا النصوص الدينية نفسها، حين ترى النبي يحاول البرهنة على صحة رسالته عن طريق القيام بمعجزة، وفي نفس الوقت يحذر أتباعه من تصديق أي مدعي نبوة آخر أو مسيح دجال، مهما جاء بمعجزات، لأنها في تلك الحالة تكون سحرا أو من الشيطان - وهكذا فتصديق المعجزات لا يؤدي إلى الإيمان بالدين، وإنما الإيمان بالدين هو الذي يؤدي إلى تصدق المعجزات..


30- التطور
الحياة ظاهرة كيميائية، والكائنات الحية لم تخلق فجأة بشكل سحري، وإنما هي نشأت بشكل مبسط نسبيا وتعقدت ببطء تدريجي عبر مليارات السنين، وهذا التطور لم يحدث عن طريق سلسلة متصلة من المصادفات، وليس عن طريق مهندس مصمم، وإنما عن طريق ثالث هو آليات طبيعية، فبسبب الطفرات (العشوائية) نجد أن الكائنات تولد بسمات مختلفة قليلة عن سمات الوالدين، ثم إن الكائن الذي يمتلك سمات تؤهله للبقاء وسط ظروف بيئته ينجح في التناسل وتمرير جيناته، بينما الكائن الذي يمتلك سمات سلبية يموت (الإنتقاء الطبيعي)، والنتيجة النهائية أن الأنواع تتطور باستمرار، وتصير أقوى وأسرع وأنسب لظروفها، كما تتفرع إلى أنواع جديدة - ذلك التطور هو حقيقة علمية ثابتة تدل عليها الحفريات والتشريح والجينات، وهي مباحث مختلفة لكنها تتفق جميعا في رسم نفس الصورة التي فطن لها تشارلز داروين من قبل..


31- خرافة الروح
من الناحية العلمية فليس هناك روح وجسد، تلك الثنائية خرافة أخرى ساقطة، وإنما كل ما نشعر به ونفكر فيه هو نتاج عمل المخ المادي، ولهذا نجد أن التأثر متبادل بين الفكر والمادة، فالإشارات العصبية تحرك أطرافنا، والمخدرات تعطل عقولنا، وحدوث الألم قد يسبب لنا الحزن، كما أن الإستغراق في الحزن قد يؤدي إلى آلام جسدية، فلا فصل بين النفس والجسد كما نتوهم.. وأما الروح فهي خرافة نبعت من ملاحظة القدماء أن الميت لا يتنفس، أي أن رياح\روح الحياة، أو النفس، قد خرجت منه.. والنتيجة أن الحديث عن وجود حياة بعد الموت هو كذلك حديث غير علمي، حيث أن الوعي ناتج عن نشاط المخ، يزول بزواله..

32- الكون لا يبدو مخلوقا
لا يوجد نظام يحكم الكون كما يزعم البعض، وإنما ما لدينا هو خصائص طبيعية للأشياء، نسميها قوانين الطبيعة، وهي لا تحتاج إلى مهندس لوضعها، ولم تنتج سوى كرات صخرية ونارية تدور وتتصادم لملايين السنين بلا هدف، ولكن الفوضى حين تشغل مساحة كافية وتستمر وقتا كافيا فقد تخلق أنماطا محدودة من الترتيب غير المقصود، وهو ما حدث في بعض مناطق كوكبنا.. وذلك مع ملاحظة أن كوننا لا يبدو مصنوعا من أجلنا، وأكثر الكواكب والنجوم والمساحاة الفضائية لا تصلح لإقامة حياة، بل أكثر كوكبنا بمحيطاته وصحاريه لا يصلح، بالإضافة إلى أن الحياة ظاهرة حديثة فقد ظل الكون لنحو عشرة مليار سنة بلا حياة - فلماذا الخالق العظيم يحتاج إلى كل تلك المساحة وكل ذلك الوقت؟ هذا كله لا ينبئ بأن هناك تخطيط أو غاية، وإنما هي تقلبات طبيعية صادفت حظا سعيدا، ومن يرى غير ذلك يشبه مسافرا في الصحراء صادف واحة خضراء صغيرة وسط الرمال، فظن أن هناك من وضعها هنا خصيصا من أجله..

33- الخلق خرافة
يستند المؤمنون أحيانا إلى مبدأ السببية لمحاولة إثبات أن الكون مخلوق، ولكن حتى المؤمن لا يعتبر أن قانون السببية مطلق، فهو يستثني الله منه، حيث قام بالخلق بشكل عفوي دون سبب يؤثر عليه، وربما كذلك يستثني الروح الإنسانية من السببية (لأنه يؤمن بحرية الإرادة العفوية)، وكذلك من الجانب العلمي نجد أن ميكانيكا الكم (فيزياء الجسيمات الصغيرة) لا تخضع لمبدأ السببية التقليدي الذي نعرفه، والخلاصة أن كلا الفريقين يؤمن أن السببية يمكن كسرها، وأن هذا حدث في بداية الكون.. ولكن تخبرنا الفيزياء أن مفهوم العدم وهم، وأنه حتى الفراغ ينبض بذبذبات الطاقة، وأن مبادئ الفيزياء تسمح بظهور جسيمات في ذلك الفراغ، كما تخبرنا أن طاقة الكون الكلية تساوي صفرا، لأن مجموع المادة (طاقة إيجابية) يساوي مجموع الجاذبية (طاقة سلبية) والنتيجة أننا لسنا أمام خلق وإنما تحول للطاقة من صورة إلى أخرى..

34- إله الفجوات
ما سبق لا يعني أن العلم قد توصل إلى جميع الإجابات بشكل كامل، فقضايا مثل نشأة الحياة الأولى وسر الوعي وبداية الكون هي قضايا مايزال العلماء يبحثون فيها، ولكن يجب ملاحظة أن نقص العلم - أو حتى الجهل- ليس سببا كافيا للإستسلام للخرافات.. وإلا كنا مثل الإنسان البدائي الذي عجز عن تفسير ظاهرة البرق والرعد فقال بأن الآلهة غاضبة، أو مثل القروسطي الذي عجز عن فهم سبب المرض فقال بأنها شياطين..إلخ - فحتى مع نقص العلوم نجد أنفسنا ملزمين بالبحث المنطقي والطبيعي القائم على الرصد والتفكير المنظم، وليس على تصديق خيالات بدو الصحاري، وهكذا يبقى التنظير العلمي أقرب إلى التصديق لأنه يفسر الأشياء بالإحالة إلى سمات الطبيعة التي يمكن رصدها ومعرفتها وإثباتها، ولا يفترض وجود عفاريت غيبية قامت بالأمر وكشفته لفرد واحد في كهف خفي، وهكذا تبقى المعتقدات الدينية عائق حقيقي أمام التفكير العلمي، لأنها تقدم لنا وهم المعرفة، وهو أخطر من الجهل..


35- معنى الحياة
يرى البعض أنه بدون الدين فحياتنا عبث تام، جئنا من العدم ومصيرنا إلى العدم، بلا معنى أو غاية.. وأول ما يخطر بذهني هنا هو: أين المعنى العظيم في وجود كائن خفي خلقنا لنؤمن به ونعبده دون رؤيته، ولنطيع أوامره دون فهمها، وذلك لكي يضعنا في حديقة كبيرة نمرح فيها إلى الأبد؟ على الجانب الآخر فالكون بالفعل لايبدو أن له غاية معينة شاملة، فالقصدية هي سمة حديثة ناشئة لدى الكائنات ولاسيما البشر، ومن الغباء الشديد أن نسقط سماتنا على الكون ذاته، كما من الغباء الظن بأن توقنا للمعنى والعدالة والخلود يجب أن يعني بالضرورة وجود تلك الأشياء، وكأن الكون موجود لتلبية رغبات أشباه قرود تعيش على ذلك الكوكب بأطراف مجرة ضمن مئات المليارات من المجرات.. وأمام تلك الحقيقة القاسية (غياب المعنى) أمامنا حلان: إما أن نخترع معنى نخدع به أنفسنا فنوهمها بأننا مركز اهتمام الوجود كله، وإما أن نتقبل المسألة ونسعى نحن لخلق معاني متعددة ومحدودة لحياتنا نعيش من أجلها..


36- الإلحاد هو البداية لا النهاية
لقد اعتدنا على أن الدين هو منظومة شاملة تجيبنا على جميع الأسئلة وتدير كل شئون حياتنا، ولكن البعض يترك تلك المنظومة إلى اللادينية أو الإلحاد، ولكن ظل الإعتقاد موجودا عند البعض أن الإلحاد لابد وأن يكون منهج فكري - دين موازي- يجيب بدوره على الأسئلة ويدير الحياة، وهذا عبث، فالخروج من الأديان يعني أنك قد تحررت من القطيع وصرت فردا تبني أفكارك بنفسك من خلال القراءة والبحث، ولا تتلقاها جاهزة من كتاب مقدس أو كاهن، فكل شيء قابل للتشكيك وكل شخص قابل للخطأ، والعلم التجريبي، وإن كان أفضل أداة معرفة توصل لها البشر، وإن كان يقدم لنا أفضل إجابات متاحة عن أسئلة الوجود والنشأة، إلا أنه يظل أداة محدودة ومتطورة باستمرار، لا تدعي العصمة أو الكمال، وأما بناء مفاهيم عن الأخلاق والمعنى فهي مهمة البشر جميعا، وهم قادرون على إنجازها بشكل مستقل عن خرافات العصر البرونزي..