الأربعاء، 1 مايو 2019

الأوجه المتعددة للحقيقة



تتباين وجهات النظر بين البشر حول كل شيء تقريبا؛ وفي كثير من الأحيان تكون الرؤى متباعدة للغاية، بأقصى الشرق وأقصى الغرب، ولا يفلح النقاش في تقريبها..

فإن كانت الحقيقة واحدة (مطلقة) فلماذا نعجز عن الإتفاق حولها؟ وإن كانت الحقيقة متعددة (نسبية) فما جدوى النقاش أصلا؟

أتصور أن الناس تتبنى أكثر من تعريف، أو منهج، للحقيقة؛ وأتصور أن إدراك تلك التعددية هو ضروري قبل الدخول بأي نقاش..

منذ القدم والبشر يستخدمون عدة أدوات منهجية لإدراك الحقائق :

منها الحواس: فما نراه أو نسمعه أو نلمسه أو نشمه فهو الحق..
ومنها الشعور الباطني: ما أحس بداخلي أنه صحيح فهو كذلك..
ومنها الشائع: ما تربيت عليه ويردده الآخرون باستمرار فهو الحق..
ومنها السلطة: ما يقوله الكبار والعارفون هو الصواب..
ومنها العقل: ما نستنتج وجوده منطقيا يكون صحيحا..

ولا شك أن تلك الأدوات متداخلة ومتصلة لا تنفصل، وربما كلنا نعتمد على كل منها بدرجات مختلفة، وأعتقد أيضا أنه في كل بيئة يتم تغليب بعض تلك الأدوات على البعض الآخر:

فالإنسان في حالته البدائية مثلا يميل للإعتماد على الحواس أكثر من غيرها، ثم الذيوع، وقليل من الإستنتاجات العقلية..

ولاحقا في فترات قوة الدولة ومركزيتها يكون لجوء الناس إلى السلطة، فما يقرره الشيخ أو الملك هو الحق، فهو الأدرى والأقوى والعالم ببواطن الأمور، وهو الذي يعاقب من يخالفه؛ ويصل الأمر إلى ذروته مع الثيوقراطية حيث الحاكم أو الكاهن هو ممثل الإله الأعلى، كما في مصر القديمة أو في أوروبا العصور الوسطى..

وفي بعض المراحل- مثل اليونان القديمة وأوروبا عصر التنوير- يبرز استخدام الإستدلال العقلي (الفلسفة)؛ وربما يتزايد هذا في الأجواء الإقطاعية، حيث ينقسم البشر إلى فلاحين ونبلاء، فتحظى الجماعة الأخيرة بالراحة ووقت الفراغ وبعض العزلة، فيتجاوزون سلطة الدين والحكام، ويترفعون عن المنتشر والشائع، ويميلون إلى الإعلاء من شأن التفكير المنطقي المجرد فوق الحواس والتجربة التي تليق بالعامة..

وفي مراحل أخرى ربما أكثر فوضوية واضطرابا تتراجع الثقة في الدولة وفي العقل نفسه، فينتشر الإيمان بالشعور الباطني، للعوام أو للخواص، وتكون تربة خصبة لأهل الصوفية والخوارق..

ونجد أن معظم المنظومات العقائدية تجمع ما بين تلك الأدوات السابقة، فالأديان مثلا تبدأ بالشعور الباطني للنبي (الرؤيا)، والذي يتحول لاحقا - أو أتباعه- إلى سلطة كهنوتية تأمر فتطاع، وهي سلطة عميقة تستمد قوتها من الإله ذاته، ثم بمجرد ما ينتشر الإيمان يصبح أسهل تصديقه من خلال تأثير التكرار والذيوع عبر الأجيال، وهنا يتحول الدين من فكرة فردية كانت غريبة إلى شعور باطني مستقر لدى جميع المؤمنين، وفي مراحل مختلفة يبدأ المؤمنون في محاولة عقلنة هذا الإيمان بأن يصنعوا له أساسا فلسفيا مناسبا..

وفي العصور الحديثة ظهر المنهج العلمي التجريبي، والذي يجمع بشكل تفاعلي انتقائي بين الحس والعقل، فهو يشبه الفلسفة من حيث انتظامه المنطقي وتجاوزه للسلطة والدين والشائع، ولكنه يختلف عنها في أنه يجرب منتجات العقل حسيا فيغلب الواقعي على المنطقي؛ وقد أثبت هذا المنهج نجاحه الواسع بشكل غير مسبوق في كل ميادين الحياة تقريبا..

وهنا يجب على من يتعامل مع الفكر وساحات الرأي أن ينتبه إلى تلك الأدوات ومدى تأثيرها على البشر، فأولا هذه الأدوات تجعل للحقيقة معاني مختلفة: فعند الحسي الحقيقة لها معنى بسيط واضح، وعند صاحب الشعور الحقيقة هي إلهام وراحة نفسية عميقة، وعند العامي الحقيقة ترتبط بالتصالح مع المحيط، عن طريق تصديق ما يردده الناس أو السلطة، وعند العقلاني الحقيقة هي استنتاج أشبه بمعادلة رياضية..

وثانيا فالمشاهدة تخبرنا أن أكثر الناس يتمسكون بالحس والمشاعر أكثر من العقل الفلسفي، وهم يصدقون الشيء لو تكرر على مسامعهم وصار شائعا، وهم يفضلون الخضوع لسلطة فكرية يقينية عن أن يمارسوا التفكير الفردي المستقل بأنفسهم..

وفي منظومة الدين مثلا لاحظنا كم أن تلك الأدوات مترابطة بشدة، فمثلا السلطة قد تشيع الفكرة داخل المجتمع فتصبح شعورا داخليا لدى الناس يتمسكون بها وكأنها حقيقتهم الخاصة..

هذا يحدث مع فكرة الهوية، والتي هي شعور باطني قوي متجذر، ولكنه شعور قابل للتشكيل حسب ما تريده السلطة وما يشيع بالمجتمع، فالإنسان يبحث عنها غريزيا، ويصدقها بشكل غير عقلاني بفعل التكرار من اليمين واليسار، أو الإملاء من أعلى، ثم إنه يتمسك بها بشكل عاطفي ليس له أي علاقة بالعقل..

هذا قد يفسر لماذا الأصولي يبدو أن لديه حصانة ضد المنطق، فهو لم يعتنق دينه لأسباب منطقية حتى يتركه لأسباب منطقية، وإنما اعتنقه بالوراثة والإملاء والتكرار، وربطه بغريزة داخلية قوية هي الهوية، والتي هي شعور عميق مرتبط بغريزة البقاء لدى الكائنات، فلا تعجب حين ترى مؤمنا راغبا في التضحية بحياته- أو حياتك- في سبيل دينه الذي هو هويته، وهو سلوك ليس له علاقة بأية استنتاجات منطقية..

وهنا الجدل بين العلمي والديني يبدو متعسرا على كل المستويات؛ ذلك أن الخلاف جذري أساسي لا فرعي ثانوي : فأحدهما يعرف الحقيقة موضوعيا بأنها ما يطابق الواقع حسب الإستدلال المنطقي المدعم بالحس التجريبي، بينما الثاني يعرف الحقيقة ذاتيا بأنها ما قاله كتابي المقدس وما لقنوني إياه في الصغر، وما يشعرني بالهوية والكرامة وبالراحة النفسية، وما يعزيني وقت الألم، وما يجعل مجتمعي أكثر تماسكا واستقرارا وأخلاق، بالمعنى الديني ذاته..

ما سبق قد يفسر لنا أيضا ظاهرة فكرية أخرى، وهي التي صارت تغلب الشعور الداخلي المريح المسالم على الحس الواقعي وعلى العقل معا، كما نرى في الفلسفات المتصوفة أو حتى في رؤى حديثة تنظر إلى الحقيقة وكأنها نسبية، ومن ثم تغلب التعايش والسعادة وراحة البال على العلم والمنطق، وكأنه لا يهم أي فكر أو دين هو الصواب وإنما المهم أن نتعايش معا؛ وهي رؤية قد تصيب العقلاني بالإنزعاج الشديد، لأن الأخير لديه مفهوم محدد للحقيقة، مرتبط باستبعاد الباطل والخرافي، بينما صاحب المشاعر لديه قلب واسع قابل كل صورة بمرونه - فهو سينظر للعقلاني باعتباره متعصب ضيق الأفق، بينما العقلاني سينظر له باعتباره مائع مداهن، وربما الأدق أن نقول أن كلا منهما لديه مفهوم مختلف للحقيقة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق