الأربعاء، 1 مايو 2019

لغز النصارى



يسوع المسيح يلقب بـ"يسوع الناصري"، و القرآن يطلق على المسيحيين اسم "النصارى" ؛ و يبدو أن هذا التعبير كان له عدة استعمالات متعددة مختلفة و متداخلة، كما أن له جذور لا تخلو من غموض.
النزاريون\النصاريون في الأصل هو اسم لجماعة يهودية من القرن الأول قبل ميلاد المسيح، ورد ذكرها في الكتاب المقدس المسيحي (العهد الجديد).
بعد ذلك اُستخدم لقب "النصارى" (نوتزريم) للإشارة إلى أتباع يسوع المسيح ، بصفته "الناصري"، أي المولود في مدينة "الناصرة" شمال إسرائيل؛ و ظل الإسم مستخدما عند اليهود (ثم المسلمين) لوصف المسيح و المسيحيين.
أما في القرون الأربعة الأولى بعد الميلاد، فكان هذا التعبير يصف طائفة معينة من أتباع يسوع، و الذين كانوا أقرب إلى اليهودية منهم إلى المسيحية، و قيل أنهم الإبيونيين، كما تم الربط بينهم و بين المندائيين.
الكلمة يتم كتابتها بعدة طرق، في محاولة للتفرقة بين مصطلحات "مختلفة" ؛ و لكن حين نتذكر تقارب تلك المصطلحات في معانيها، و حين نتذكر طبيعة الثقافة الشفهية و غير المدققة للقدماء، فيمكن القول أن أكثر تلك التفرقات اللفظية مستحدثة زمنا، و ربما بعضها لم يكن موجودا في الماضي - و بالتالي فوجود اختلاف يسير بين اسمين مكتوبين، أو حتى انتمائهما إلى جذور لغوية مختلفة، لا ينفي أنهما كانا واحد في الأصل و إن تمايزا لاحقا.
------------------------------------------------------

1- النزارية اليهودية
الجذر اللغوي للكلمة مختلف فيه؛ في العبرية هناك عدة ألفاظ متشابهة جدا لها – نزر- نتسر- نذر- و كلها وردت في العهد القديم في سياقات مختلفة ؛ مما جعل هناك عدة احتمالات مطروحة لمعاني النزارية : من ذلك معنى "الغصن" و منه "المراقبة و القيام على الشيء"، و منه "المنذور أي المكرس لله".
و من المعنى الأخير فيبدو أن الكلمة كمصطلح كانت تطلق على الشخص الذي يكون "منذورا لله" فيأخذ عهدا بتكريس حياته لله، و من ثم يمتنع عن حلاقة شعره و شرب الخمور و لمس الجثث.  

و في الكتاب المقدس العبري يقال عن شمشون أنه كان نذيرا (منذورا) لله منذ ولادته (سفر القضاة 13:5).

أما أقدم ذكر تاريخي للنزاريين أو النصاريين كجماعة من اليهود فقد ورد في العهد الجديد، أعمال الرسل 24:5، حيث اُتهم بولس من خصومه بأنه زعيم لجماعة الناصريين، فنقرأ قولهم عنه (فإننا إذ وجدنا هذا الرجل مفسدا ومهيج فتنة بين جميع اليهود الذين في المسكونة، ومقدام شيعة الناصريين).
 
------------------------------------------------------
2- النزارية المسيحية
هذا التداخل بين النزارية\النصارية كطائفة يهودية من ناحية، و كإسم لأتباع المسيح من ناحية أخرى، سيستمر عبر التاريخ و كتابات المؤرخين و الباحثين.

و لكن مع انتشار المسيحية بين غير اليهود بعد زمن يسوع، و مع تشعب عقائدها و أفكارها ، ثم تبلور عقيدة و نصوص المسيحية الرسمية في المجامع المسكونية (العالمية) بإشراف من السلطة الرومانية، فسنرى انفصالا للنزاريين\النصارى و الذين سيعتبرون واحدة من الطوائف المسيحية.

منذ القرن الرابع للميلاد كتب العديد من المؤرخين من آباء و أساقفة المسيحية عن طائفة النزاريين، مثل جيروم و إبيفانيوس السلاميسي و أوغسطينوس، و من مجمل كلامهم نجد أن تلك الجماعة هم يهود اتبعوا المسيح و لكن ظلوا على يهوديتهم.
النزاري على ما يبدو آمنوا بيسوع كمسيح و كإبن لله مولود من العذراء مريم، و لكنهم لم يسقطوا الناموس و إنما استمروا في الإلتزام بأحكام التوراة كالختان و تقديس السبت وتطبيق الشريعة، كما كانوا يؤمنون بإنجيل عبراني خاص بهم (يحتمل أنه النسخة العبرانية من إنجيل متّى).

تقول الكتابات أيضا أن النزاريين هم رسل المسيح من ذوي الأصل اليهودي، و أنهم فروا من القدس هربا من حصار الرومان لها (70 ب.م).

البعض دمج ما بين أولئك النزارى و بين طائفة الإبيونية- اليهودية المسيحية- من ناحية فقال بأنهما نفس الجماعة ، بينما البعض دمج ما بين النزاريين و المندائيين من ناحية أخرى.

في كل الأحوال بشكل ما يمكن اعتبار النزارى أنهم البذرة الأولى المبكرة للمسيحية، أو هم المعبرون عن أصلها اليهودي، ثم لما صارت المسيحية يونانية تم اعتبارهم طائفة شاذة.
------------------------------------------------------

3- كتسمية للمسيحيين عموما
رغم التداخل في الأصول ، إلا أن أكثر المؤرخين بعد ذلك ميزوا بين النزارية كجماعة يهود آمنوا بيسوع و صاروا طائفة مسيحية ، و بين النزارية (أو لنقل النصرانية) كتسمية للمسيحيين عموما.

الأكيد أن لقب النزاري\النصارى كان يستخدم لتسمية المسيحيين عموما كما ورد في كتابات ترتليوس و إيزيبيوس و جيروم و غيرهم ؛ بينما نجد البعض الآخر من المؤرخين و الكتاب المسيحيين فضل استخدام لقب "المسيحيين" (و الوارد في العهد الجديد (أعمال الرسل 26:28) و أصله من أنطاكيا (أعمال الرسل 11:26)).

الخلاصة إذن أن اللقبين كانا مستخدمان معا لوصف المسيحيين ، و يبدو أن لقب "المسيحيين\خريستيانوس" كان مستخدما في أنطاكية، بينما "النصارى" تم اعتماده في القدس؛ و مع الوقت انتشر الأول في الغرب و الثاني في الشرق و بين اليهود حتى تبناه المسلمون لاحقا.

و التفسير الشائع أن "النصارى" هو نسبة ليسوع الناصري، و لكن هناك احتمال أخر لا يجب تجاهله، وهو أن جذرها الأول نبع من أن المسيحيين الأوائل كانوا من جماعة النزارية اليهودية.
------------------------------------------------------

4- يسوع.. الناصري
في مواضع عديدة من الأناجيل يرد وصف يسوع بأنه "الناصري"، و التفسير الشائع هو نسبة ذلك إلى أن أصله من مدينة الناصرة ؛ كما يؤمن المسيحيون أن قدوم يسوع من الناصرة هو تحقيق لنبوءة من الكتاب المقدس اليهودي (العهد القديم).

في إنجيل متى 2:23 نقرأ أن يوسف ارتحل إلى مدينة تدعى الناصرة، و ذلك لكي يتم تحقيق النبوءة الكتابية عن ولادة يسوع (... و أتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة لكي يتم ما قيل بالانبياء: "إنه سيدعى ناصريا").

و لكن المدهش أنه لا يوجد أي نص في العهد القديم يتحدث عن المسيح القادم بأنه سيدعى ناصريا!، فمن أين جاء متّى بتلك العبارة؟

يعتقد بعض المسيحيين أن متّى كتب إنجيله بالعبرية ثم تمت ترجمته إلى اليونانية، و لكن هذا على الأرجح غير صحيح؛ فالرأي السائد اليوم هو أن متّى كان يكتب إنجيله باليونانية مباشرة؛ و نعرف أن الرجل كثيرا ما كان يسيء ترجمة بعض نصوص العهد القديم (خطئا أو عمدا) لكي يجعلها تتحدث عن مقدم يسوع ؛ أو يمكن القول أنه كان يخترع أمورا في سيرة يسوع لكي تتوافق مع ما يظنه هو نبوءات كتابية – و يبدو أن هذا ما جرى هنا.

أغلب الظن أن النص الذي كان يقصده متّى هو من العهد القديم، إشعياء 11:1 (ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله) - يسى هو ابن داود، و كلمة "غصن" هنا بالعبرية هي نتسر أو نزر.

فعلى ما يبدو أن تقارب الألفاظ جعل كاتب الإنجيل متّى يدعي (جهلا أو تزويرا) أن الآية هي نبوءة بظهور شخص "نازري"، أي شخص مولود في مدينة تدعى "النازرة\الناصرة"!، و هو تفسير خاطئ تماما للنص.

الإحتمال الآخر أن متّى كان يقصد النص سابق الذكر من سفر القضاة، و لكن هذا لن يحل المشكلة حيث أن ذلك النص كان يتحدث عن شمشون.
------------------------------------------------------

5- عن الناصرة
هذا الخلط كله، و إحالة متّى إلى نبوءة مزورة، جعل البعض يرى أن المسيح ليس من مدينة الناصرة، بل و تمادى البعض فقال أن مدينة الناصرة هي مدينة مخترعة لم يكن لها وجود قبل زمن يسوع، بل أنها تم بناؤها خصيصا و تسميتها بذلك الإسم تحقيقا للنبوءة الكتابية المزعومة!

أصحاب ذلك الرأي يستشهدون بحقيقة أن هذا الإسم "الناصرة" لم يرد في أي مرجع سابق على زمن المسيح، فهي لم تذكر في العهد القديم (رغم امتلائه بذكر تفاصيل مناطق السكن لليهود في فلسطين) و لا هي مذكورة في التلمود (و الذي يذكر 63 مدينة في منطقة الجليل ليس من بينها الناصرة) و لا في كتابات المؤرخ اليهودي يوسيفوس (و الذي كتب مجلدات عن فلسطين و ذكر 45 مدينة و قرية في منطقة الجليل) كما لم يذكر بولس اسم الناصرة في رسائله رغم أنه تحدث عن يسوع مئات المرات- و أيضا فهي غير مذكورة في كتابات أي مؤرخ قبل كتابة الأناجيل، بل و بعدها، فأول دليل تاريخي على وجود مدينة الناصرة لا يأتي قبل القرن الثالث و الرابع للميلاد!

أما من ناحية التنقيب و علم الآثار، فالمكتشفات القديمة في الناصرة قليلة جدا و محل جدل و تشكيك، حتى أن من يرى أن المدينة كانت موجودة في زمن يسوع (بارت إيرمان مثلا) يقول أنها، قياسا على التنقيبات، لم تكن تحتوي سوى على خمسين بيتا فقط ـ أي نحو 300 – 400 نسمة- على مساحة أربعة فدادين؛ و لذلك تجاهلها المؤرخون.
------------------------------------------------------

6- يشوع النزاري
فإن افترضنا أن المسيح لم يكن من الناصرة، أو أنه لم يتسمى نسبة لها ، فيكون الإحتمال الآخر أنه أخذ لقبه من انتمائه إلى الطائفة اليهودية : النزاريين، فهو يسوع النازري أو النزاري.

في التلمود و الكتابات اليهودية عموما يرد اسم يسوع بهذا الشكل: يشوع هانوتزري ؛ و هناك واحدة من الكتب اليهودية من القرون الوسطى ("طوليدوت يشوع" أي "حياة يسوع") تتحدث عن حياة متمرد اسمه يشوع كان زعيما للنوتزريم\النازريين – الذين (حسب النص) كانوا نشطين في زمن سلالة اليهود الحشمونيين، مما يجعل يشوع النزاري يعيش في العام مائة قبل الميلاد!
------------------------------------------------------

7- النصارى في القرآن
يرى البعض أن القرآن - في حديثه عن النصارى- إنما يقصد تلك الطائفة اليهودية المسيحية التي ذكرناها، و التي كانت معروفة في إطار القرن الرابع للميلاد، و هذا غير صحيح ؛ بل من الواضح أن القرآن ببساطة يطلق على المسيحيين عموما لقب "نصارى" و هذا نابع من خلفيته الشرقية و اليهودية.
ذكر النصارى جاء في القرآن عدة مرات، يبدو أن كلها في الآيات المدنية المتأخرة؛ أما موقف القرآن من أولئك النصارى فهو مضطرب متضارب، فهو أحيانا يمدح إيمانهم و سلوكهم، و أحيانا يدينهم و يكفرهم لأنهم قالوا أن المسيح ابن الله..إلخ ؛ و الملفت أنه لا يكاد يذكر النصارى إلا و يقابلهم باليهود، و أحيانا مع الصابئة و المجوس (مما يؤكد أننا نتحدث عن أديان منفصلة و ليس طوائف و مذاهب).
أما عن أصل الكلمة، فالقرآن لا يبدو مهتما بالتراث اللغوي و التاريخي للمسألة، إذ يلمح إلى ربط كلمة "نصارى" بأن حواريي المسيح (تلاميذه) قد "نصروه" و من هنا صاروا "أنصاره"!- و كما هو و اضح فالكلمتان يبدوان من نفس الجذر العربي (ن-ص-ر) رغم أن واحدة منهما ذات أصل عبري.
نقرأ هذا الربط في حوار بين عيسى\يسوع و بين قومه (.. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) آل عمران 52.
و في موضع آخر يطالب المؤمنين بأن يكونوا أنصار الله مثل ما كان الحواريين ليسوع (الصف 14).
و من الملفت أن بعض المفسرين فسر كلمة "حواريين" بأن معناها "الأنصار" أي الذين ساندوا المسيح و دعموه، كما قام أنصار يثرب بدعم محمد و نصرته.
------------------------------------------------------
المراجع، للمزيد:
عن النازرية كتسمية
- 2

عن النازرية كطائفة 2- 3

عن أحد الجذور اللغوية المحتملة للكلمة


عن وجود مدينة الناصرة - 2

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق