الأربعاء، 1 مايو 2019

بين العلم والفلسفة



"الفلسفة" تبدو كلمة عامة جدا، تشمل الصالح والطالح، إلى درجة تشعر معها أحيانا أن الكلمة يجب أن تنقرض أو تتفكك لعدة كلمات أكثر تحديدا، فيقال أن العلم فلسفة، وربما الدين فلسفة، وكل تفكير هو فلسفة، وتساؤلي عن الفلسفة الآن هو فلسفة..

هذا يجعل المقارنة بين الفلسفة والعلم مسألة مشوشة، حيث يقول البعض أن الفلسفة أم العلوم، ويرد عليهم آخرون بأن الإبنة كبرت ولم تعد بحاجة إلى أمها العجوز..

أحاول تجاوز الجدال والمصطلحات وتبسيطها لنفسي بهذا الشكل: الكون ليس مطالبا بأن يتماشى مع منطق عقولنا، ولكن عقولنا هي المطالبة بصياغة منطقها ليلائم الكون.. كما أن التجربة علمتنا أن التفكير وحده لا يقود إلى شيء، إن لم يحتكم إلى الواقع..

وقواعد التفكير العقلاني الأرسطي المجرد (الشيء لا يكون نقيضه - الكل أكبر من الجزء..إلخ) تبدو قواعد بديهية واضحة بحيث لا تحمل أهمية مبهرة ولا تساعدنا على فهم جديد..

وكذلك هوس أصحاب العقلية الفلسفية بالجدل حول المطلق والنسبي والشك واليقين والكامل والناقص والمحدود واللامحدود يبدو لي رياضة لغوية لا تطبيق واقعي لها..

لنأخذ مثال "الممكن عقلا"، ففي كثير من النقاشات، خاصة الدينية عن الآلهة، يهتم أحد الأطراف بتأكيد أن تلك الغيبيات "غير مستحيلة" أو أن هذا الكائن لا يمكن نفي وجوده، ولا أدري ما قيمة ذلك؟ الحقيقة أن كل الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية وقصص الأطفال ممكنة عقلا لا يمكن نفي وجودها، أي أنها لا تتضمن تناقضات منطقية مثل الزوج العازب مثلا، يا لفرحتي.. ولكن هل هذا يعني أن نأخذها بجدية؟

لنقل أنني وجدت صندوقا مغلقا أريد معرفة ما بداخله، فالحل المتاح هو فتحه والنظر فيه مباشرة، أو محاولة رصده بالأشعة السينية مثلا، أو حتى هزه لسماع الصوت بداخله، أي الحل في الرصد المباشر أو غير المباشر، وأما الإحتكام (فقط) إلى العقل فنقول مثلا أن ما بداخل الصندوق يمكن أن يكون مفتاحا أو قلما أو حبة عنب..إلخ، ولكنه لايمكن أن يكون فيلا أو ديناصورا أو حوتا أزرقا..إلخ، لأن تلك الكائنات أكبر من حجم الصندوق فيستحيل عقلا أن تدخله، فهذا منهج عبثي لا يفيد..

نفس هذا الإبهام الغامض ينطبق على الظواهر الطبيعية، فالقول أن الصواعق يسببها ملاك من السماء، يمكن أن يقابله قول آخر أن الصواعق يسببها زيوس، وكلاهما من الكائنات الخرافية التي لم يرصدها أحد ولا دليل على وجودها، ويمكن أن أضع معهما آلاف الكائنات الأخرى المحتملة - ولا أدري ما قيمة ذلك في مسار البحث عن الحقيقة؟

وكذلك خلق الكون، فيمكن أن نرشح الله أو آمون رع أو براهما أو أي كائنات أخرى متخيلة لا يمكن تعريفها، فضلا عن رصدها، فضلا عن إثبات مسئوليتها عن الخلق..

أما العلم فيعمل بشكل عكسي تماما: هو يتقيد بالظاهرة وما حولها مما يمكن رصده والتعامل معه، ويتجاهل ما عدا ذلك من خيالات لغوية، فيقيد نفسه بقواعد مثل موس أوكام وشروط مثل قابلية التخطئة، ويلزم نفسه بالتعامل بما هو طبيعي ومشهود ومؤثر وواقعي..

ولهذا لو وقعت جريمة اليوم فلا أحد يعلن أن عفريتا هو من قتل الضحية، ولو ادعى أحدهم ذلك فسيوضع في مستشفى المجانين - هل لأن وجود العفريت وقيامه بالقتل مستحيل عقلا؟ لا، فهو ممكن عقلا مثل أي هراء آخر، وإنما نرفضه لأن التجربة علمتنا أن فحص الأمور بما هو معروف ومرصود أجدى وأكثر عقلانية.. وذلك هو العلم..

فحين نحاول تفسير ظاهرة ما، فلا معنى لأن نضع كل الإحتمالات الممكنة عقلا ونحاول فحصها بجدية، لأن عدد تلك الإحتمالات سيقترب من اللانهاية.. ولعلك فقط تنتبه إلى الإحتمالات القريبة من ثقافتك، فتهتم بفحص وجود الله ولكن يفوتك فحص وجود زيوس مثلا، لأنك ولدت في ثقافة إبراهيمية، ولو ولدت باليونان القديمة لاختلف الحال.. وإنما التصرف الطبيعي هو محاولة تفسير الظاهرة بما هو معروف وقابل للرصد، وهذا المنهج البسيط هو الذي أدى لجميع المعارف الإنسانية حتى اليوم..

بصيغة أخرى: المعرفة الإنسانية لم تتطور عن طريق إطلاق التخيل وتوسيع الآفاق، فهذا كان متوفرا بكثرة لدى القدماء، وإنما تقدمت بالعكس تماما: عن طريق تضييق الأفق بشكل منهجي ذكي.. بالإستبعاد والغربلة وتجاهل ما لا يمكن التعامل معه بالرصد..

ما سبق يفسر لك لماذا كانت الفلسفة موجودة منذ آلاف السنين ولم تتحقق تلك الطفرة التكنولوجية إلا بعدما بدأ تطبيق المنهج العلمي التجريبي.. وهذا الحال المشهود وحده أبلغ من أي كلام يمكن قوله..

وفي أحيان كثيرة ثبت أن الحقيقة العلمية مخالفة لمألوف العقل الإنساني، كما في حالة النظرية النسبية مثلا والتي مزقت مفاهيم الزمان والمكان الجامدين تماما، وكذلك ميكانيكا الكم التي زعزعت قاعدة السببية (العلية) إلى غير رجعة.. وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن الكون غير مطالب بالخضوع إلى منطقنا، وإنما العكس هو الصحيح..

ذلك كله بالطبع لا ينفي بالمطلق فائدة المناهج الفلسفية في البحث، من ذلك أن كثير من خصائص العلم- مثل الربط المنطقي واختبار الفرضيات- هي خصائص بالأساس ذات طبيعة فلسفية.. هذا أمر مفهوم لو تذكرنا أن الفلسفة قديما شملت كل مناهج التفكير، الحمقاء والحكيمة معا، فلا غرابة أن تصادف منهجا صحيحا وسط ركام من الضلالات، ولكن يظل الإنجاز الإنساني الأهم هو استبعاد هذا والإحتفاظ بذلك..

ثم إن التفكير الفلسفي مفيد خاصة في الأمور التي لم يتوصل لها العلم بعد، فهو - كما وصفه راسل- أشبه بعملية استشراف عقلاني لما نتوقع أن يجده العلم.. هذا مقبول ولكن بشرط أن يستند التفكير إلى الواقع، أي تتقيد الفلسفة بالعلوم التجريبية الحسية..

من فوائد الفلسفة أيضا أنها تعلمنا الشك وتؤكد على نسبية الحقائق، ولكن هذا أيضا سلاح ذو حدين، فهو من ناحية يجعلنا أكثر تشككا وبالتالي أكثر تواضعا وأكثر مرونة فيما يخص المكتشفات التي قد تتطور يوما بعد يوم، ولكن على الجانب الآخر فالإستغراق في الشك والنسبية يهدد بالتقليل من قيمة العلم حيث يجعله مساويا للجهل، فإن كانت الحقيقة نسبية فما جدوى البحث ووجع الرأس بالتفكير والتحليل؟

ولكن التجربة تؤكد لنا أن العلم لا يساوي الجهل، وأن المعرفة متطورة لا نسبية - فشتان بين الكلمتين: الأولى تعني التراكم والتحسن، بينما الثانية توحي بأننا ندور في حلقة مفرغة لا طائل منها..

فلا شك أن كل معرفة أو تفكير هي عمليات عقلية تحمل ملامح من الفلسفة بمعناها الواسع، ولكن معيار الكفاءة هنا هو ربط التفكير بما هو واقعي، مع محاولة تجاوز أفخاخ الإنحيازات العاطفية والثقافية واللغوية..

(بالرسم: يقول الفلسفة غير مفيدة،
فتلكمه قائلة: هذه عبارة فلسفية!)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق