الأربعاء، 1 مايو 2019

كيف نشأت المسيحية



نعرف أن المسيحية خرجت من رحم اليهودية، فهي فرع عنها، وأن يسوع وتلاميذه كانوا بالأساس يهودا وأبناء يهود، يعيشون في أرض إسرائيل ويؤمنون بيهوه ويطبقون الشريعة ويدرسون التاناخ (الكتاب المقدس العبري، والذي سيسمى لاحقا "العهد القديم")..

ولكنهم كانوا يهودا يعيشون في عالم مختلف تماما عن عالم موسى وداود، تحت حكم الإمبراطورية الرومانية الوثنية، حيث لا حدود فاصلة بين الآلهة والبشر، وإنما يمكن للآلهة أن تتجسد على الأرض كما يمكن للبشر أن يتم تأليههم، وحيث كانت تعبد تلك الآلهة في شكل ثالوثات (بالعادة أب وأم وابن، مثل أوزيريس وإيزيس وحورس)..

أحد أهم البشر المؤلهين كان الحاكم القوي يوليوس قيصر، والذي تم رفعه إلى مرتبة الإله بعد موته، حيث تلاه في الحكم ابنه - بالتبني- أوكتافيوس المعروف بإسم أغسطس، وفي أنحاء الإمبراطورية كان يتم تداول عملات مكتوب عليها أن أغسطس هو "ابن الله"، وهي أول مرة يستعمل ذلك اللقب لدى الرومان، حيث كان منح قبل ثلاثة قرون إلى الأسكندر الكبير حين جاء إلى مصر وتم تأليهه باعتباره ابنا للإله المصري آمون رع..
وفي عهد أغسطس هذا، والذي تميز بأمان عام فرضته قوة الحاكم (جعلته يستحق لقب أمير السلام)، ولد وعاش يسوع الناصري..
-----------------------------------------------

كان اليهود يعيشون في مقاطعة يهودية بفلسطين تابعة للرومان، يحكمها بالوكالة الملك هيرود، وكانوا من قبل ذلك ينتظرون مسيحا، أي ملكا قوميا يخلصهم من هيمنة الوثنيين، وينتصر على جميع أعداءهم، ويعيد لهم مجدهم المفقود منذ زمن سليمان، كما بشرتهم كتبهم المقدسة بذلك في آيات كثيرة.. 

كلمة "مسيح" تعني "ممسوح بالزيت"، وهو طقس مرتبط بتتويج الملوك، أو الأنبياء.. 

كثيرون حاولوا لعب هذا الدور، حيث يحكي المؤرخ اليهودي يوسيفوس (القرن الأول) عن ظهور عدة زعماء محليين شكلوا حركات متطرفة وأعلنوا الثورة المسلحة على الرومان، ولقبهم أتباعهم بـ"المسحاء"، إلا أن أكثر تلك الدعوات انتهت بالفشل..

وإلى جوار الثورات المسلحة، كان هناك فريق آخر من اليهود يشعر باليأس من استخدام القوة أمام اليونانيين أو الرومان، فكان البديل هو انتظار خلاص من نوع آخر، لا يتضمن الحرب الدنيوية، وإنما يشمل تدخلا مباشرا من الله نفسه، ليحسم الأمور لصالح شعبه المختار..

نلمح ذلك الحل البديل في آخر سفر مكتوب من التاناخ، وهو سفر دانيال، الذي يتحدث عن حروب عالمية كبيرة حول اليهود، وينتهي السفر بتدخل من نوع آخر، حيث يأتي ملاك الرب ليعلن نهاية العالم ويبشر بالحضور الإلهي النهائي ليخلص اليهود وينصرهم..

ومن الأناجيل نجد أن يسوع كان على علم بالتاناخ، وكان مهتما بشكل خاص بذلك السفر..
-----------------------------------------------

في ذلك السياق بدأ يسوع دعوته، حيث نقرأ من سيرته بالأناجيل أنه كان قريبا من يوحنا المعمدان، ابن خالته الذي قام بتعميده، ويبدو أن الإثنين كانا من جماعة اليهود الأسينيين، والذين نجد تشابها كبيرا بين تعاليمهم وتعاليم يسوع، مثل الزهد والتقشف والعزوف عن الزواج، بالإضافة إلى التركيز على قرب نهاية العالم وقدوم مملكة السماء..

وكما أن كثير من تعاليم يسوع هي انعكاسات لأفكار موجودة بزمنه، فكذلك نجد أن خلافاته "الفقهية" مع خصومه حول أمور مثل الطلاق أو لمس الجثث أو حب الجار أو تعظيم السبت، هي أمور كانت متداولة من قبله بين اليهود، كما نجد في المدارس الدينية لهيليل وشاماي، وهما أشبه بالمدارس الفقهية الإسلامية.. 

وعلى سبيل المثال، فقد استخدم الفيلسوف اليهودي فيلمون السكندري تعبير أن اللوغوس (الكلمة عند الفلاسفة) هي بمثابة ابن للإله، وذلك قبل المسيحية..

ويبدو أن يسوع حاول لعب دور المسيح المنتظر، وكان له تعاليم وربما نسبت له معجزات، إلا أنه لم يكتب أي شيء وإنما كان يعتمد بالأساس على التاناخ ويعيد تفسير نصوصه، وذلك حتى تم القبض عليه ومحاكمته وإعدامه على يد الرومان، غالبا بتأييد فريق من خصومه من اليهود، وذلك بعد هروب جميع التلاميذ من حوله كما تخبرنا الأناجيل..
-----------------------------------------------

وهنا كادت الدعوة تنتهي وتدفن مع سابقاتها، لولا أن بدأت شائعات غريبة تنتشر بأن الرجل قام مرة أخرى من الموت، حيث قيل أن الجثة اختفت من القبر، واقترن ذلك - على ما يبدو- بادعاءات لأشخاص قالوا أنه ظهر لهم، مما أحيا ذكر يسوع من جديد..
ما سر تلك الظهورات ومن وراء إعادة الإحياء هذه؟ لا نملك سوى التخمين، وتوجد عدة نظريات، الأشهر منها عند المؤمنين بالطبع أنها قيامة حقيقية إلهية، بينما يرى آخرون (منهم بعض المسلمين وأهل الطائفة الأحمدية) أنه لم يمت من الصلب وإنما ظل حيا وعاد إلى تلاميذه..


بينما اقترح بعض الباحثين أن المروج الحقيقي لتلك الظهورات هن بعض النساء وعلى رأسهم مريم المجدلية التي كانت قريبة من يسوع، حيث تخبرنا الأناجيل أن أول من ادعى رؤيته كان عددا من النسوة منهن مريم، وبعد ذلك ظهر للتلاميذ..
ويمكن طرح نظرية أخرى: حيث تخبرنا الأناجيل أن يسوع كان له بعض الإخوة (وإن كان المسيحيون التقليديون يقومون بتأويل الكلمة، لأنه من غير المقبول أن يكون هناك أبناء آخرين للـ"عذراء")، ومن مصدر آخر نعرف أن يسوع كان له تحديدا أخ توأم، يسمى "توما" (أي التوأم)، وينسب لتوما هذا إنجيل خاص لم تعترف به الكنيسة، فهل تم استخدام ذلك الأخ للعب دور يسوع العائد من الموت، بعد أن قام التلاميذ بسرقة الجثة من القبر؟ هو مجرد تخمين يستحيل التيقن منه، ولكنه - بنظر البعض- يظل أكثر منطقية من افتراض أن رجلا قام من الموت بعد دفنه..
-----------------------------------------------

المهم أن الدعوة بدأت تنتشر من جديد، ولكن تلك المرة ليس بين اليهود -الذين رفضوها- وإنما بين الشعوب الأخرى (الأغيار أو الأمم)..

وكان المسئول الأول عن ذلك الإنتشار هو شخص غامض يدعى شاول أو بولس، تنسب له نصف أسفار الكتاب المقدس رغم أنه لم ير يسوع بحياته، وتحكي قصته - في سفر أعمال الرسل، وفي رسائله) أنه كان يهوديا دارسا كما كان مواطنا رومانيا، وأنه بدأ بمعاداة المسيحيين واضطهادهم في أول الأمر، ثم ما لبث أن شاهد رؤيا خارقة ليسوع جعلته يؤمن بالمسيحية وينقلب حاله مائة وثمانين درجة، حيث انضم إلى التلاميذ وسرعان ما صار أهم قائد للدعوة الجديدة..

وكانت أداة الدعوة هنا هي رسائله، وهي أول ما كتب من العهد الجديد - قبل الأناجيل- وصاغ فيها كثير من أعمدة العقيدة المسيحية كما هي معروفة اليوم، مع ملاحظة أنه لم يتكلم عن حياة يسوع ولم يكد ينقل شيئا من أقواله أو تعاليمه، وإنما كان أكثر تركيزه على مسألة القيامة والصلب والفداء، وتقديم الإيمان على الشريعة..
 
وتقول العقيدة الجديدة باختصار: أن يسوع ليس إنسانا عاديا وإنما هو إله متجسد، مات وقام، وأن موته وقيامته لم تكن اعتباطية، وإنما هي جزء من خطة إلهية تقتضي غفران خطايا البشر، الموروثة عن الخطيئة الأصلية التي قام بها آدم حين أكل من الشجرة (كما جاء بالتاناخ، سفر التكوين)، فمنذ ذلك التاريخ واليهود يقومون بذبح الحيوانات في المعبد طلبا للمغفرة، ولكن هذا لم يعد يكفي، ولا شيء يمكنه أن يغفر الخطيئة الأصلية، إلا أن يتم ذبح الرب نفسه قربانا للرب(!)..

والآن تم غفران الخطايا، ولم يعد مطلوبا من الناس الإلتزام بالشريعة اليهودية، وإنما المطلوب منهم فقط أن يؤمنوا بيسوع- صلبه وقيامته- لينالوا الخلاص، والذي لم يعد حكرا لليهود وإنما للجميع، وذلك هو العهد الجديد، الذي حل محل العهد القديم (الختان)..
وفي ظل تلك العقيدة - الجديدة- كتبت الأناجيل.. 

هذا يعني أن بولس هو الصانع الأهم للمسيحية، متقدما في ذلك على يسوع نفسه..
-----------------------------------------------

ولكن ما هو الدافع الذي كان يحرك بولس فيما فعله؟

مرة أخرى لا نملك سوى وضع الإحتمالات، فالمؤمن أيضا سيعتبرها معجزة هداية، ولكن يمكن طرح نظريات أخرى، منها التفسير النفسي (الرجل شعر بتأنيب الضمير من اضطهاد تلك الفئة الدينية، فمر بتجربة هلوسة قلبت حياته العقائدية رأسا على عقب)..

وهناك أيضا التفسير السياسي (نظرية المؤامرة)، حيث اقترح البعض أن بولس هنا كان يلعب دورا أشبه بـ"عميل مزدوج" حيث أنه ممثل لجهات سياسية رومانية، قام باختراق متعمد لصفوف اليهود أتباع يسوع، ليعيد صياغة عقيدتهم بشكل جديد..

والهدف هنا مزدوج أيضا: فمن ناحية أرادت روما أن تمزق صفوف اليهود من الداخل وتوجه ضربة إلى الجناح المتطرف الذي مايزال ينتظر قدوم المسيح العسكري المخلص، وذلك بتشجيع النزعة السلمية الروحانية، وكأن الرسالة المطلوب إيصالها هي: إن مسيحكم قد جاء ومات وانتهينا، فلا داعي لانتظاره بعد الآن، وهو لم يكن زعيما سياسيا وإنما دينيا، ولم يحرض على الثورة وإنما دعا للمحبة والسلام إلى درجة الخضوع للسلطات، وقد أعلن أن مملكته ليست من هذا العالم، ووصاكم بعدم مقاومة الشر بالشر وإدارة الخد للضاربين وإعطاء ما لقيصر لقيصر، ثم أنه لم يركز على الطقوس والذبائح بالمعبد بقدر ما ركز على الأمور الروحانية المعنوية.. ومن الناحية الأخرى ربما أراد المسيحيون الأوائل تجنب بطش روما، وبالتالي لم يمانعوا في ذلك التحول..

لو صحت تلك الفرضية، فهذا قد يعني أن يسوع "الأصلي" ربما لم يكن بذلك التسامح والوداعة التي تنقلها عنه الأناجيل، وإنما هي أمور زيدت على النصوص لخدمة غرض معين.. وهذا الإحتمال قد تدعمه عدة أمور أخرى: منها أن صورة المسيح المنتظر بالعهد القديم أصلا لا تتحدث عن داعية متسامح وإنما عن ملك مقاتل، ومنها بعض الأحداث الواردة في سيرة يسوع نفسه، مثل أنه توعد بجلب النار والدمار إلى الأرض، وأنه أمر أتباعه بشراء سيوف، وأنه اقتحم المعبد المقدس وقلب موائد التجار وطردهم ومنع الناس من الدخول - وإن كانت تلك الأفعال كلها تم تبريرها في الكتاب بشكل رمزي ديني، لا سياسي أو عسكري..
-----------------------------------------------

المهم أنه مع ظهور بولس تغير الوضع جذريا : تم التخلص من الشريعة اليهودية، والتي كانت تعوق انتشار اليهودية قديما، حيث أن اليونانيين بالذات يكرهون الختان كرها شديدا ويعتبرونه تشويها للجسد، وهو ما حرص بولس على تأكيد أن الختان - والذي كان علامة العهد اليهودي مع الله- لم يعد ضروريا، وبالتالي صار انتشار العقيدة أكثر سهولة بين الأغيار.. 

وبعد أن كانت دعوة يسوع يهودية خالصة، وبعد أن كان أمر تلاميذه (اليهود) بأن لا يبشروا إلا بين اليهود خاصة، ولدت رواية تقول أنه حين ظهر لهم بعد موته وقيامه وأمرهم بالتبشير إلى كل الأمم..

ونلاحظ في ثنايا رسائل بولس، وكذلك بقية الرسائل المنسوبة لبطرس ويوحنا ويعقوب، وجود خلافات جذرية وعميقة بين المسيحيين الأوائل، حيث هناك تحذيرات متبادلة من "الأنبياء الكذبة" الذين يظهرون بيننا ويعلنون تعاليم مخالفة للعقيدة الصحيحة، وسوف تستمر تلك الخلافات حتى تسويها المجامع الدينية تباعا عبر القرون ويتم توحيد المسيحية، على الأقل في جانب كبير من العقيدة والكتاب.. 

وبخصوص الكتاب فقد كتبت أيضا عشرات الأناجيل المختلفة، كلا منها يحتوي جزءا من سيرة يسوع أو تعاليمه، حتى انتهى الأمر بالكنيسة (أي جماعة المؤمنين وقادتهم) إلى اختيار الأناجيل الأربعة الشهيرة، وسفر أعمال الرسل الذي يفترض أن كاتبه هو لوقا، بالإضافة إلى عدد من الرسائل لبعض التلاميذ..

ومع انتشار المسيحية بين الوثنيين، بدأت تبتعد تدريجيا عن أصلها اليهودي، حيث تحول يسوع من كاهن يهودي يبشر بقرب مملكة السماء إلى إله متجسد ضمن أقانيم ثلاثية معقدة ضحى بنفسه لفداء البشر، وبعد أن كان أتباعه يهودا تقليديين يعظمون السبت ويمارسون الختان ويصلون بالمعابد اليهودية ويحتفلون بالأعياد اليهودية، صاروا يعظمون يوم الأحد (يوم الشمس المقدسة لدى الرومان)، وتحول عيد الفصح اليهودي إلى عيد صلب يسوع، وبدأت تلك الجماعة تؤمن بعقائد وتمارس طقوسا أقرب إلى الديانات الوثنية اليونانية والرومانية، وهكذا ولدت المسيحية..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق