الأربعاء، 1 مايو 2019

عن خرافة الإعجاز العلمي



يزعمون أنه وصف مراحل الجنين بدقة، وذكر أن الماء أصل الحياة، كما قال بكروية الأرض وأدرك أن الجبال تثبتها، بالإضافة إلى حديثة عن الثقوب السوداء وعدد كواكب المجموعة الشمسية وإنزال الحديد من الفضاء، وغير ذلك من الإعجازات المبهرة، ثم يتساءلون مستنكرين: هل يعقل أن هذا كلام بشر؟..

يدعي البعض أن القرآن يحتوي ما يسمى ما يسمى بالإعجاز العلمي، وتقوم الدعوى المعتادة على تقديم آية قرآنية يزعمون أنها تذكر حقيقة علمية لم يعرفها البشر إلا حديثا، ومن ثم يكون السؤال: كيف يمكن لمحمد أن يعرف تلك الحقيقة منذ ألف وأربعمائة عام؟ ويجيبون: لابد أن مصدر تلك المعلومة هو خالق الكون نفسه، إن هو إلا وحي يوحى..

فهل هذا حقيقي، أم أننا أمام منظومة دجل ونصب كبيرة؟
---------------------------------------
القرآن ينفي وجود معجزة..

في مناسبات عديدة طلب خصوم محمد منه أن يأتيهم بآية أي معجزة تثبت صدق نبوته، إلا أنه رفض وتملص مرارا، كما نقرأ بالقرآن نفسه:
(وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) الأنعام 35.. (وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) الأنعام 37.. (وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ؟) الأنعام 109.. (وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ) يونس 20..(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) الرعد 7..(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) الرعد 27.. (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) الرعد 38.. (وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) العنكبوت 50.. (وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى؟) طه 133.. (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ) الإسراء 59..
---------------------------------------
الخطاب القرآني يؤكد أنه لا يأتي بجديد..

في موضع آخر اتهمه خصومه (محمد) بأنه يتعلم القرآن من بشر، فكان رد القرآن الوحيد عليهم أن هذا البشر الذي تشيرون إليه أعجمي اللسان، بينما القرآن عربي (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ- النحل 103)، وهذا الرد المتهافت يؤكد خلو القرآن من أي علم معجز إضافي لم يكن معروفا بزمنه، وإلا لكانت الإشارة إلى ذلك العلم أولى لإثبات تميز كلام محمد فضلا عن ألوهيته، وأما تركيزه فقط على اختلاف اللغة فهو اعتراف ضمني متواضع أن كل المعارف التي ذكرها كانت متاحة آنذاك، فقط بغير اللغة العربية..

وكذلك نلاحظ أن كثير من الآيات تستشهد على الكفار بظواهر معينة لحثهم على الإيمان، وهذا الإستشهاد بحد ذاته دليل دامغ على أنهم كانوا يعرفون تلك الظواهر ومألوفة لديهم، إذ لا يعقل أن يستدل أحدهم عليك بشيء لا تعرفه..

فمثلا حين يحدثهم القرآن عن الأمم السابقة وكيف أهلكها الله، ويستخدم ذلك للتخويف والعبرة، فهذا يعني ضمنا أنهم يعلمون بشأن تلك الأقوام، وهو ما يتضح من سياق الآيات (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ؟) الأنعام 6.. (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) طه 128..(وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) إبراهيم 45..

كذلك حين يحدثهم عن ظواهر طبيعية (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ؟ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ- وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) الأنبياء 30، فالصياغة تؤكد أن السامعين يعرفون مسألة الرتق والفتق، ويؤمنون بأن الماء أصل الحياة، ويعتقدون أن الجبال تثبت الأرض، ويرون السماء كسقف محفوظ، وإلا فكيف يستنكر عدم إيمانهم، مستشهدا بتلك الأمور ويعتبرها آيات يعاتبهم لإعراضهم عنها، إن كانوا يجهلونها أصلا؟

وحين يخاطبهم قائلا (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ- بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لّا يَبْغِيَانِ- فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ؟) الرحمن 19-21، فهذا يعني أنهم كانوا يعرفون مسألة التقاء البحرين العذب والمالح، ولهذا يعتبرها نعما ظاهرة ينبغي عليهم التصديق بها.. وهذا ما تؤكده آية أخرى أوضح في أنهم كانوا يعرفون مسألة البحرين ويتعاملون معها بشكل مباشر، حيث يقول (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۖ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فاطر 12، لاحظ قوله تأكلون، تستخرجون، ترى، أي أنها ظاهرة ليست غريبة عنهم بحال..

ونفس الشيء يمكن أن ينطبق على كثير من الأمثلة، فحين يقسم لهم بالطارق، النجم الثاقب (الطارق 1-3) أو الخنس، الجوار الكنس (التكوير 15-16)، فهذا يعني قطعا أنهم كانوا يعرفون ما يتحدث عنه، بغض النظر عن معناه، فلا يعقل أنه يقسم لهم بشيء لم يسمعوا اسمه من قبل، وهكذا..

ولو كانت هناك حقائق علمية جديدة بالقرآن، لتوقعنا أن نقرأ- في التفاسير- أن أهل مكة مثلا استنكروا تلك الآية لأنها تخالف تصوراتهم وتتصادم مع معارفهم العلمية المتاحة، ولكننا لا نجد شيئا من ذلك، وإنما نجد فقط دهشتهم من ادعاءات القرآن الدينية (مثل التوحيد أو البعث) وقد سجل القرآن استغرابهم من تلك العقائد الجديدة عليهم، وأما من ناحية ادعاءات القرآن العلمية أو المعرفية فيما يخص شكل الكون أو طبيعة الحياة فلا نجد القرآن يسجل أي دهشة أو استنكار للمستمعين، مما يؤكد مرة أخرى أنه لم يبادرهم بأي معارف جديدة أو صادمة من تلك الناحية..

البعض هنا يقول: كان يستحيل على النبي أن يصادم قومه بمعارف جديدة حتى لا ينفروا من دعوته، وهذا القول يتضمن اعترافا ضمنيا بخلو القرآن من أي معجزة، ولكنه يظل مردودا عليه من عدة نواحي: فمحمد بكل الأحوال صدم قومه بعقائد جديدة، بل إنه زعم أنه طار إلى السماء، كما كلمهم عن الجن والعفاريت والبحار المنشقة والنمل المتكلم، ثم إن المكيين بالفعل اتهموه بالضلال والجنون والإفك ولم يؤمنوا به أصلا إلا تحت السيف بعد الفتح، فبتلك الحالة ما كان يضيره لو قدم لهم معرفة علمية حقيقية تجعلنا- على الأقل- نحن اليوم متيقنين من نبوته..
---------------------------------------
شروط الإعجاز..

المعجزة- بالتعريف- هي أمر خارق للعادة أو المألوف، ويكون واضحا بحيث لا يحتمل الخلط أو التأويل..
ولكي تتحقق من صدق دعوى الإعجاز العلمي فعليك بثلاثة أسئلة منطقية بديهية:

هل تلك الحقيقة العلمية المذكورة صحيحة ومثبتة؟ فلو كانت خاطئة أو مشكوك فيها فلا إعجاز..
هل تلك المعلومة كانت غائبة عن معارف القدماء قبل محمد؟ فلو كانت المعلومة معروفة سابقا فلا إعجاز..
هل النص القرآني المذكور واضح معناه لا لبس فيه ولا يحتمل إلا المعنى المرتبط بالإعجاز؟ فإن كان النص مبهم مطاطي يحتمل أكثر من تأويل فلا إعجاز..

تلك الأسئلة البسيطة تحتوي مفتاح الخداع الذي يمارسه أدعياء الإعجاز، وهي: مغالطة الكذب، ومغالطة تجاهل القدماء، ومغالطة التحريف اللغوي..
---------------------------------------
مغالطة الكذب..

حيث يبرزون معلومات علمية خاطئة على أنها حقيقة..

على سبيل المثال فالحقيقة أن عظام الجنين لا تسبق اللحم، وليس كل شيء مكون من زوجين، والجبال لا تثبت قشرة الأرض، والنمل ليس مصنوعا من زجاج، وناسا لم تعلن انشقاق القمر، وعدد كواكب المجموعة الشمسية ليس أحد عشر، والثقوب السوداء لا تجري تكنس الفضاء..

وهنا يجدر ملاحظة أن للنظرية العلمية خصائص معينة، منها تكامل ربط ونظم الأفكار، وكذلك الدقة اللفظية والوضوح، وهي سمات مختلفة تماما عن صياغة الكتب الدينية التي تتميز بالأسلوب الأدبي الذي يحتوي غموضا ومجازات ويخلط القصص مع الوعظ مع الغيبيات مع التهديد بشكل ليس له علاقة بما نعرفه عن العلوم، فالخلط بينهما عبث..

ونلاحظ أيضا أنه لم يحدث أبدا أن اكتشف أحدهم شيئا من القرآن، وإنما ما يحدث دائما هو العكس: يظهر كشف علمي من عند الغرب الكافر، ثم يسارع المسلمون لإبراز آية يزعمون أنها تعبر عن ذلك الكشف، مهللين ومكبرين، حيث أن العلم الذي كان محدودا ونسبيا في مواضع، يصبح دليلا قاطعا على صدق رسالة نبيهم في مواضع أخرى، في ممارسة المؤمن المعتادة للكيل بمكيالين..

وهم هنا مثلهم مثل الطالب الفاشل الذي يسمع سؤال المدرس ويظل صامتا حتى يسمع إجابة الطالب النابه، ومن ثم يهتف: كنت سأقول نفس الشيء! والسؤال: لماذا تسكت إذن؟ وكذلك السؤال الذي لا يجيب عنه دعاة الإعجاز هنا هو: طالما المعلومة موجودة بكتابكم فلماذا لم تكتشفوها قبل الآخرين؟

وبالمناسبة هذا لا ينطبق على العصر الحديث فقط، وإنما حتى في عصر ازدهار المسلمين كان النابغون منهم يستلهمون من التراث الأقدم اليوناني مثلا، أو يمارسون التجارب بأنفسهم، ولا نعلم عن عالم واحد اكتشف جديدا فقط وحصريا من خلال تأمل الآيات القرآنية..

والمجال مايزال مفتوحا اليوم أمام أهل الإعجاز لنفي التهمة: دعنا من الماضي، بل ها هو القرآن أمامكم، تزعمون أنه يحتوي معارف المستقبل، فافحصوه كما تشاؤون واستخرجوا لنا معارف علمية جديدة نسبق بها الكفار، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاعترفوا أن الإعجاز هو مسألة تلفيق تعكس شعور البعض بالضآلة الحضارية لا اكثر..
---------------------------------------
مغالطة تجاهل القدماء..

حيث يتغافلون عن أن كثير من المعلومات المذكورة كانت بالفعل معروفة لدى القدماء قبل محمد..

على سبيل المثال فكلمة الطارق لم يخترعها القرآن وإنما ذكرت في مصادر قديمة، منها ما روته السيرة الإسلامية على لسان الكافرة هند بنت عتبة حين قالت "نحن بنات طارق".. وكذلك الحقيقة أن اليونانيين واليهود وغيرهم ذكروا مراحل تكوين الجنين بشكل مشابه جدا لما ذكره القرآن، وبنفس الأخطاء أيضا..

ثم إن كثير من القدماء كانوا يطلقون على الحديد المعدن السماوي، وذلك لسبب وجيه هو أن الحديد قديما كان يتم استخراجه من النيازك الهابطة، فارتبط بذهن القدماء أن الحديد مصدره الفضاء..

حتى كروية الأرض (والتي لا يذكرها القرآن) كانت معروفة عند البعض قديما، فقال بها أرسطو مثلا، بل إن فلكيا من ليبيا هو إراتوستينيس (القرن الثالث قبل الميلاد، أي قبل محمد بنحو تسعمائة سنة) نجح بوسائل بسيطة عبقرية في قياس قطر كرة الأرض بشكل دقيق إلى حد كبير، ثم إن الرجل لم يدع الوحي أو المعجزة..

وأما الخطوط العريضة للمعارف القرآنية، فكلها منقولة عن التوراة، والمنقولة بدورها من أساطير الشرق الأوسط القديم، بالإضافة إلى المصادر اللاحقة كالتلمود والأسفار المخفية، من ذلك مثلا أن السماء والأرض كانتا ملتصقتين ففصلهما الله، فقد ورد ذلك في أساطير مصر والعراق كما ورد بالتوراة، وكذلك الحديث عن سبعة سماوات هو عقيدة تلمودية مستمدة بدورها من معتقدات العالم القديم المبنية على وجود خمس كواكب ظاهرة بالإضافة إلى الشمس والقمر..

أحيانا يتساءل البعض: وكيف وصلت معارف القدماء إلى محمد، وهو ساكن الصحراء الذي يتكلم العربية ولم يكن يقرأ ولا يكتب؟

هنا السؤال يتضمن افتراضا خاطئا أن العرب كانوا منعزلين عن العالم، بينما التاريخ المتاح يخبرنا بالعكس: أن العرب قبل الإسلام كانوا يسكنون العراق والشام وغيرها، ويحتكون بالشعوب المجاورة، وتتعامل قوافلهم بالسفر والتجارة مع الروم والفرس واليمنيين والأحباش وغيرهم، بل إن محمدا نفسه كان قد بلغ الأربعين ويحتمل أنه سافر إلى الشام وحتما تعامل مع يهود ومسيحيين وصابئة وغير ذلك، وهذا ينطبق على صحابته أيضا..

وقد ذكر القرآن شيئا عن وجود أشخاص يعلمون محمد، كما يظهر من اتهامات خصومه له (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ... وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) الفرقان 4-5.. وكذلك الآية المذكورة عن قيام بشر أعاجم بتعليمه (النحل 103)، مما يوحي بوجود عملية تلقين وترجمة وتدوين تحصل، وتذكر لنا السيرة أسماء عديدة لأهل كتاب كانوا يجلسون إلى محمد يتعلم منهم، مثل المدعو جبر ويسار وعداس وسلمان الفارسي وغيرهم، كما نقرأ لاحقا روايات عن تلقي محمد لرسائل تأتيه بلغة اليهود (السريانية أو العبرانية) طلب من زيد أن يترجمها له..

وكمثال تنقل لنا السيرة شخصا يدعى الحارث ابن كلدة، وهو طبيب عربي تعلم في فارس واليمن، ثم ذهب إلى المدينة وعمل طبيبا لمحمد وأصحابه..

إذن، ألا يحتمل أن بعض أصحاب محمد كانوا يعلموه وينقلون إليه معارف القدماء - وهي خليط من الصواب والخطأ - التي دونها في قرآنه؟ وأليس هذا الإحتمال أكثر وجاهة منطقية من القول بأن ملاكا مجنحا هو الذي أوحى له بتلك الأمور؟
---------------------------------------
مغالطة التحريف اللغوي: حيث يتلاعبون بمعاني الكلمات، ويتجاهلون التفسيرات الرسمية التي كتبها علماء الإسلام الكلاسيكيين، مستغلين جهل العوام باللغة والتفسير..

على سبيل المثال فكلمة دحية لا تعني بيضة وإنما الدحو هو البسط والتسوية، وكلمة أدنى لا تعني أخفض وإنما أقرب، وكلمة يحطمنكم لا تختص بالزجاج وإنما أي شيء يابس، والطارق لا تعني النابض وإنما تعني الذي يظهر ليلا، والثاقب تعني اللامع، والكنس تعني المختبئة ولا تعني المكانس الكهربائية..

وهنا تجدر ملاحظة أن اللغة مطاطة بطبعها، بحيث أنه يسهل كثيرا أن يقوم المغرض باقتطاع جملة من سياقها وإسباغ معاني عليها لم يقصدها الكاتب، فيما يمكن أن نسميه "باريدوليا لغوية" نسبة لتلك الظاهرة التي تجعل الناظر يتخيل أشكالا منظمة في أنماط عشوائية، مثل السحب أو أوراق الشجر، لا وجود لها إلا في مخيلته..

وهنا نقتبس محاكاة ساخرة قام بها البعض حيث استخرجوا إعجازات علمية من نصوص الشعر الجاهلي، ليبرهنوا بشكل عملي على مطاطية اللغة:

مثلا: تنقل كتب التراث قصة زوجة أبو حمزة الضبي الذي هجر زوجته لأنها لا تنجب الذكور، فأنشدت هي قائلة: مالي أبي حمزة لا يأتينا- يظل في البيت الذي يلينا- غضبان أن لا نلد البنينا- والله ما ذلك بأيدينا- وإنما نحن لزراعينا كالأرض- نحصد ما قد زرعوه فينا.. وتلك الأبيات يمكن اعتبارها إشارة إلى ما اكتشفه العلم حديثا أن مني الرجل- لا البويضة- هو المسئول عن تحديد جنس الجنين..

وفي معلقة امرؤ القيس يقول عن الخيل : مكر مفر مقبل مدبر معاً- كجلمود صخر حطه السيل من عل.. البعض استنتج من ذلك عدة إعجازات علمية خاصة بحركة أرجل الحصان إلى الأمام والخلف معا، وبنفس الوقت تحرك جسده كتلة واحدة، وفي لحظة معينة تكون أرجله كلها مرتفعة عن الأرض، وكل ذلك تصوره الأبيات بدقة رغم أنه لم يصبح معروفا إلا حين ظهرت كاميرات التصوير السريعة الحديثة..

امرؤ القيس أيضا يقول: وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم- يقولون لا تهلك أسى وتجمّلِ.. وهو هنا يشير لإمكانية الموت بالأسى والحزن، فسبق العلم في اكتشاف تأثير الإكتئاب على الوظائف الحيوية للجسم..

وهناك بيت لعنترة ابن شداد يقول فيه: وخلا الذباب بها فليس ببارح- غرداً كفعل الشارب المترنم.. وقد أثبت العلم أن الذباب يصدر أصواتا شبه موسيقية لا تسمعها أذن الإنسان، فكيف علم عنترة ذلك؟

بينما أشار البعض لأبيات أبو نواس الشهيرة: دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ- ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ.. فقال بأنه سبق علماء النفس في إدراك أن الممنوع مرغوب، كما سبق علماء الطب في اكتشاف البنسلين والمضادات الحيوية واللقاح..

وهذا لاينطبق على الشعر العربي فقط، ففي مقال مطول، ذكر أحدهم بيتا واحدا للشاعر الروماني الوثني من القرن الأول ق.م فيرجيل، يقول ما يمكن ترجمته إلى: ما الذي يجعل حقول الذرة تبتسم، تحت أي نجم تدير الأرض؟.. فاستخرج منها إعجازات مبهرة فلكية وبيولوجية تدل أن الآلهة الوثنية هي الحق، من ذلك أن الأرض تدور حول نفسها، وأنها تدور حول الشمس مما ينتج الفصول، وأن الشمس هي أحد النجوم، وأن التقويم الشمسي هو الأنسب للزراعة، بالإضافة إلى اكتشاف التمثيل الضوئي..

فالمقصود أن النصوص الأدبية قد تكون حمالة أوجه، يمكن للإنسان- ببعض الألاعيب اللغوية- أن يشكلها كيفما شاء، ولذلك تجد أن المناهج الحديثة لتفسير النصوص لا يمكن أن تفصل النص عن بيئته وسياقه الزمني، وهو يشبه ما يسميه المسلمون "أسباب النزول"..
ولذلك تجد أدعياء الإعجاز يتجاهلون التفاسير الكلاسيكية للقرآن، حيث أن الطبري وابن كثير والقرطبي والرازي والزمخشري والسيوطي والبيضاوي والبغوي وغيرهم من أعلام الإسلام، قد رجعوا في تفاسيرهم إلى قواعد اللغة الأصلية، بالإضافة إلى الأحاديث النبوية وأسباب النزول وأقوال الصحابة والتابعين، وكل هذا لا يتضمن أي علم، ولكن على الجانب الآخر ما يفعله الإعجازيون أنهم يتغافلون عن كل ذلك وينتقون كلمة أو كلمتين، منزوعتين عن أي سياق تاريخي أو لغوي، ويلصقونها بحقيقة -أو حتى أكذوبة- علمية..

من أمثلة تجاهل السياق هو إبراز آية إنزال الحديد على أنها معجزة، وتجاهل أن هناك آيات أخرى تتحدث عن إنزال اللباس والريش وإنزال الأنعام، وهي أمور لا يعقل أنها هبطت من الفضاء..

وأيضا إبراز آيات تتحدث عن تسيير الجبال ومحاولة ربطها بأن القرآن ذكر دوران الأرض، متجاهلين أن سياق الآيات تتحدث عن يوم القيامة لا الدنيا، كما ورد بجميع الآيات التي تتحدث عن سير الجبال..

وكذلك القول بأن القرآن وصف القمر بأنه نور والمقصود- بقولهم- أنه يعكس الضوء، فهذا كذب لا أثر له في معاجم اللغة، ثم إنهم يتجاهلون أن نفس القرآن يصف الله نفسه بأنه نور، فهل الله يعكس الضوء عن مصدر آخر؟!

ولو كانت الآيات تحمل إعجازا علميا لتوقعنا أن يقوم مفسر واحد فقط بإدراكه وتسجيله، أو على الأقل لتوقعنا أن يصدم المفسرون من الآية ويسكتوا عن تفسيرها، ولكن ما نجده هو العكس: كل تلك الآيات لها تفاسير واضحة ذكرها المفسرون القدامى، وهي تفسيرات بدائية لا تحتوي أي علوم، ولا يغفل عن ذلك سوى جاهل باللغة والتفاسير..
---------------------------------------
وهكذا لكي تدرك كذب مزاعم الإعجاز فلا تحتاج سوى أن تلاحظ تلك المغالطات الثلاثة، وعلاجها باختصار هو أن تقرأ مصدرا علميا للحقيقة المزعومة، وتقرأ معجما، وتقرأ أي كتاب تفسير، وقبل ذلك : لا تصدق كل ما تسمعه..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق