مشهد من كواليس رسالة الله الخاتمة..
الآية الرابعة من سورة النور نزلت تحكم بما يسمى "حد القذف" وهو جلد كل شخص يتهم امرأة بالزنا دون أن يأتي بأربعة شهداء.. (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)- النور 4 و5..
وفي تفسير الرازي نقرأ مشهدا طريفا (قال سعد بن عبادة : يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال : نعم).. وهو حديث صحيح موجود كذلك في صحيح مسلم وسنن أبي داود وموطأ ابن مالك وكتاب السنن ومجمع الزوائد..
لكن القصة لم تنته هنا، فالصحابة سيعترضون بشدة على هذا الحكم العبثي، وسيحدث ذلك بشكل يدل أن الخيانات الزوجية لم تكن أمرا نادر الحدوث في تلك البيئة، ومن ثم سيتدخل الله كالعادة لينقذ محمدا من الإعتراضات، ويحشر استثناءا للحكم فيما يسمى "اللعان" بين الزوجين، في الآيات التالية مباشرة..
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ - وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ - وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ - وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ - وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) النور 6 - 10..
ومن التفاسير نقرأ العلاقة بين احتجاج الصحابة وبين التدخل الإلهي، مع ملاحظة أن المعترضين هما من كبار الصحابة وأصحاب النفوذ، سعد ابن عبادة وهلال ابن أمية، حيث الأول افترض أن زوجته يمكن أن تخونه، وأما الثاني فقد رآها بالفعل مع رجل وكاد يتعرض للجلد وإبطال الشهادة، مما يمكن أن لا تحمد عقباه لمحمد، لولا تدخل جبريل في اللحظات الأخيرة..
من الطبري (عن عكرمة، قال: لما نـزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، قال سعد بن عبادة: الله إن أنا رأيت لَكَاعِ (زوجته) متفخذَها رجل فقلت بما رأيت إن في ظهري لثمانين؟... فقال رسول الله... " يا مَعْشَرَ الأنْصَار، ألا تَسْمَعونَ إلى ما يَقولُ سَيِّدُكُمْ؟ ".. قالوا: يا رسول الله لا تَلُمْه، وذكروا من غيرته، فما تزوّج امرأة قط إلا بكرا، ولا طلق امرأة قطّ فرجع فيها أحد منا، فقال رسول الله: " فإنَّ الله يَأبَى إلا ذَاكَ" فقال: صدق الله ورسوله ..
قال : فلم يلبثوا أن جاء ابن عمّ له فرمى امرأته ، فشق ذلك على المسلمين، فقال: لا والله، لا يجعل في ظهري ثمانين أبدا، لقد نظرت حتى أيقنت، ولقد استسمعت حتى استشفيت، قال: فأنـزل الله القرآن باللعان، فقيل له: احلف! فحلف... ثم قيل: احلفي، فحلفت)..
كما ذكر نفس القصة برواية أخرى (عن ابن عباس، قال: لما نـزلت هذه الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ..إلخ ، قال سعد بن عبادة: لهكذا أنـزلت يا رسول الله؟ لو أتيتُ لَكَاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحرّكه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله ما كنت لآتيَ بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته، فقال رسول الله : " يا مَعْشَرَ الأنْصَار أما تَسْمَعونَ إلى ما يَقُول سَيدُكُمْ؟ " قالوا: لا تلمه فإنه رجل غَيُور، ما تزوّج فينا قطّ إلا عذراء ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوّجها؛ قال سعد: يا رسول الله، بأبي وأمي، والله إني لأعرف أنها من الله، وأنها حقّ، ولكن عجبت لو وجدت لَكَاعِ، قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، والله لا آتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته، فوالله ما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية من حديقة له فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فأمسك حتى أصبح، فلما أصبح غدا على رسول الله وهو جالس مع أصحابه، فقال: يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء، فوجدت رجلا مع أهلي، رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله ما أتاه به وثقل عليه جدا، حتى عُرف ذلك في وجهه، فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به، والله يعلم أني صادق، وما قلت إلا حقا، فإني لأرجو أن يجعل الله فرجا، قال: واجتمعت الأنصار، فقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيجلد هلال بن أميَّة، وتبطل شهادته في المسلمين؟ فهمّ رسول الله بضربه، فإنه لكذلك يريد أن يأمر بضربه، ورسول الله جالس مع أصحابه، إذ نـزل عليه الوحي، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نـزل حتى فرغ، فأنـزل الله: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ )... إلى: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فقال رسول الله: " أبْشِرْ يا هِلالُ، فإنَّ الله قدْ جَعَل فَرَجا)..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق