الأربعاء، 1 مايو 2019

العقيدة المسيحية بين إلهين



لو استبعدنا تلك الحمامة الغامضة المسماة بالروح القدس، فإن المسيحية تؤمن بإلهين متناقضين للغاية.

دعني أعرفك بالأول والأكبر عمرا : الآب، إله العهد القديم، الشهير بيهوه أو إيل، والذي ترجع أصوله إلى الديانات السامية القديمة.. حين تقرأ كتاب اليهود المقدس (العهد القديم عند المسيحيين) تجد أننا أمام شيخ قبيلة صحراوي متعصب وعنيف وضيق الأفق بشكل مخيف، فهو يأمر الكل بطاعته وعبادته ويتوعد المخالفين والعصاة بأقسى أنواع العقاب.. وحين تتصفح صفحات ذلك الكتاب يصعب عليك أن تعد كم شعبا قتل يهوه في نوبات غضبه الجنونية، أو أمر شعبه المختار بقتله ذبحا بالسيف، فهو يبدو دوما حانقا سريع البطش متعطش للدماء، لا يعرف رحمة أو رأفة، ولا يريد علاقة مع البشر إلا عبيدا خاضعين لأوامره الضيقة والصعبة والحمقاء.

أما الإله الثاني- الأصغر والمناقض تماما - الذي تؤمن به المسيحية فهو الإبن، ذلك الأقنوم الوديع الذي تجسد في شكل بشر وديع أيضا، يأمر بالسلام ومحبة الأعداء، ويمشي متواضعا زاهدا بسيطا وسط أتباعه، حتى وصل به الأمر إلى التضحية بحياته على الصليب فداءا للبشر الذين أحبهم رغم خطاياهم.

بالطبع سيحاول المسيحيون إخبارك مرارا أن الإلهين في الحقيقة واحد، فلا تصدق.. بل يسهل على كل من قرأ عن ظروف نشأة المسيحية أن يكتشف أنها كانت محاولة للجمع بين التوحيد اليهودي والوثنية الرومانية، مما أنتج كائنا هجينا متناقضا يبدو مثل القصة الشهيرة عن دكتور جيكل ومستر هايد.

لكن صناع الدين المسيحية لم يكونوا حمقى تماما، بل إنهم صاغوا ذلك التناقض بشكل محترف نفسيا يجعل دينهم الجديد جذابا من الناحية العاطفية، ويمكنهم من نشره بين الناس دون أن يتوفر لهم السيف (الذي توفر لهم- ولغيرهم- لاحقا على كل حال).

ذلك الشكل المحترف يقوم على آلية ستسمى في عصرنا بإسم "الشرطي الطيب والشرطي الشرير".


(.. هي حيلة نفسية تُستخدم في المفاوضات والإستجوابات، وتشمل فريقا من محققين اثنين يلعبان دورين متناقضين أمام من يتم التحقيق معه.. فالشرطي الشرير يأخذ موقفا حادا وعنيفا وسلبيا تجاه الشخص المُستجوب، مثيرا اتهامات شنيعة وملقيا تعليقات مهينة وتهديدات كريهة، وهذا يمهد المسرح للشرطي الطيب الذي يتصرف بشكل متعاطف مع المُستجوب ويظهر بدور المساند والداعم والمتفهم، ويقوم بالدفاع عن المُستجوب أمام الشرطي الشرير.. وهنا يشعر المُستجوب بأنه يتوجب عليه التعاون مع الشرطي الجيد، إما من باب الثقة به أو من باب الخوف من الشرطي الشرير)

هذه هي السياسة الشهيرة الإحترافية للحصول على الطاعة الطوعية، ولم أجد تلخيصا لفلسفة المسيحية أبلغ منها.

من يقرأ العهد الجديد (خاصة الرسائل) ويستمع إلى الشروحات المسيحية لفكرة الخطيئة والفداء، يجد أن الإلهين يكملان بعضهما، وأن العلاقة بينهما تقوم على سيناريو خاص جدا ومبدع: فحكاية أن الآب – الغاضب دوما- حانق وناقم على خطايا البشر التي كثرت، مرتبطة بالخطيئة الأولى لجدهم الشره الذي لم يقاوم ثمرة على شجرة، مما جعل غضب يهوه قريب جدا، فهو على وشك تدمير الأرض والبشر جميعا في سيناريو يشبه التدمير الأول المسمى طوفان نوح، ياللرعب!

وهنا يأتي دور الإبن المحب، فهو منقذ البشر من ذلك الهول، منقذهم الوحيد.. أما كيف يكون الخلاص فهو بالطريقة الوحيدة التي يعشقها إله العهد القديم: بدماء الأضحيات، والضحية هذه المرة هي الإبن نفسه!

في الكتاب المقدس نجد تلك الصورة واضحة، فيسوع يقوم بتخويف أتباعه من الجحيم الذي هو هلاك للنفس وللجسد أيضا (أي نار مادية وليس كما يدعي بعض المسيحيين) (وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلَكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ) متى 10-28.. (وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ يَا أَحِبَّائِي: لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَبَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ. بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّنْ تَخَافُونَ: خَافُوا مِنَ الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هَذَا خَافُوا!) لوقا 12-4،5.

وهو يخبر أتباعه بوضوح أنه من لم يؤمن به فسوف يتم حرقه (أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجاً كَالْغُصْنِ فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ فَيَحْتَرِقُ) يوحنا 15-5،6.. والجدير بالذكر أن مثل تلك النصوص المقدسة استخدمتها الكنيسة ذريعة لإحراق الكفار والمهرطقين في عصور محاكم التفتيش.

نصوص العهد الجديد واضحة أيضا في أنه لا خلاص إلا عن طريق يسوع (وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ) أعمال الرسل 4-12، و هو يقول عن نفسه أنه الكل في الكل والسبيل الوحيد (أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي) يوحنا 14-6.. وهو يهدد الناس بأنهم إن لم يؤمنوا به فلن يكون لهم نجاة (إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ) يوحنا 8-24.

ثم يهدد الكتاب بصراحة كل من لا يؤمن بالمسيح و يتعمّد، بالإدانة و غضب الله (اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ) يوحنا 3-18، (مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ) مرقس 16-16،(اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ) يوحنا 3-36.

وتمتلئ الرسائل الإنجيلية وكتابات الآباء بنصوص تؤكد أن الخلاص بدم يسوع فقط وأن الإبن أنقذ الناس من الآب! (يَسُوعَ، الَّذِي يُنْقِذُنَا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي) تسالونيكي الأولى 1-10، (بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْغَضَبِ) رومية 5-9.

وربما أبشع نص ديني يمكن قراءته هو ما لخص به بولس هذه العقيدة المسيحية بقوله (قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ) رومية 5-10.

فيبدو أن بشاعة وجنون إله العهد القديم لم تقتصر على ذبح البشر وقتلهم زمن اليهودية ، وإنما امتدت –في العهد الجديد- إلى السماح بقتل ابنه (الذي هو نفسه!) في زمن المسيحية، وقبول ذلك الدم على أنه خلاص للبشر.. وأتمنى أن يدرك الأحباء المؤمنون بتلك العقيدة أن المشهد الأول لا يزيد جنونا ودموية عن المشهد الثاني أبدا.

هكذا يبدو أن إله العهد الجديد لا يمكنه أن يعيش بدون القديم، فمحبة الإبن لا تبدو جذابة إلا أمام نقيضها: كراهية الآب، والخلاص لا يكون له قيمة إلا بوجود الخطر.. وهكذا إن لم يكن الخطر موجودا فيجب صنعه صنعا، وإلا فلماذا سيقبل الناس على ديننا الجديد؟!

هل فهمت الآن لماذا تضخم المسيحية من مفهوم الخطيئة وتجعل الذنب الصغير يبدو ككارثة كونية؟ فقط لتجعلك تسارع بشراء الخلاص.

هكذا يبدو أن المسيحية هي دين يوهمك بالمرض حتى يبيع لك الدواء..أو هي دين يصنع حريقا لكي نشتري منه عبوات اطفاء.. وهنا المجرم والمنقذ ليسا إلا وجهان لعملة واحدة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق