الأربعاء، 1 مايو 2019

المسار الإجباري





من أشهر الحيل المنطقية التي يستخدمها الفكر الديني هي ما يمكن أن نسميه "المسار الإجباري"..

تصور أنني قلت لك أن "(ب) صحيحة بدليل أن (أ) صحيحة"..
الآن، لكي نتأكد من صحة المقولة، لا يكفينا أن تكون (أ) قادرة على أن تؤدي إلى (ب)، وإنما يجب أن تكون (أ) مؤدية حتما إلى (ب) دون وجود احتمالات أخرى..

وأما لو كانت (أ) تحتمل مسارات متعددة حيث يمكن أن تؤدي إلى (ب) أو إلى (ج) أو إلى (د) أو إلى (هـ)..إلخ، فهذا كفيل بأن يجعل العبارة الأولى عاطلة منطقيا، لأن الإستنتاج المذكور ليس هو الإستنتاج المحتمل الوحيد هنا..

لنأخذ مثالا : لو كنا نجلس في غرفة وقلت لك أن هناك أسد خارج الباب، ثم سمعنا صوت جسم يصدم الباب فعلا، فهل هذا الصوت يعتبر دليلا على أن الأسد موجود هنا؟

منطقيا لا، وإنما يدل على أن الأسد "يمكن أن يكون موجودا، وأنه هو مصدر الصوت"، ولكن الحقيقة أن العديد من الأشياء يمكنها أن تؤدي إلى هذا الصوت، منها أن يكون إنسانا أو ذئبا أو طائرا أو حتى فرع شجرة..إلخ، أو قد يكون أسدا، أي أن المسألة تظل احتمالية إلى حين ظهور حقائق أخرى ترجح هذا الإحتمال أو ذاك..

ولكن واقعيا، لو أنني أخبرتك عن وجود الأسد، ثم سمعنا الصوت، فالأرجح أنك ستصدق كلامي، لسبب بسيط هو أنك لم تضع الإحتمالات الأخرى في حسابك، أي أنني نجحت في توجيه تفكيرك ,وحصره في اتجاه معين..

ولو أنني في مركز سلطة أعلى منك، ولو أنني نجحت في استمالتك عاطفيا، ولو أن تصديق وجود الأسد يشبع نزعات نفسية بداخلك، ولو أن الإدعاء تكرر على مسامعك منذ الطفولة، ولو أنني نجحت في قمع أي احتمالات أخرى وإسكاتها، فإن هذا كله كفيل بأن يجعل تصديقك لي أسهل وأسرع..

وهذا - باختصار - ما يفعله الفكر الديني: يطرح قضيته بتسلسل محدد قد يبدو منطقيا لأول وهلة، فقط لأن المسار المذكور مفروض علينا فرضا، وأما الإحتمالات الأخرى فهي غائبة إما بسبب غموض القضية أو بسبب القمع التراثي الديني..

ولإدراك خلل تلك السلسلة يكفي أن نتذكر أن المؤمن لديه نتيجة جاهزة مسبقا، وهو مصرّ على أن يصل إليها، وبالتالي فهو يحدد لك أن (أ) حتما تؤدي إلى (ب)، (الصوت حتما يعني أن هناك أسد بالباب)..

ولإسقاط تلك الحجة لا يلزمنا أن نثبت أن (أ) يستحيل أن تؤدي إلى (ب)، فمن الوارد أن تؤدي إليها، ولكن يكفينا أن نثبت أن (أ) يمكن أن تؤدي إلى عشرات النتائج الأخرى جوار (ب)، مما يعني ببساطة أن صحة (أ) لا يعني بالضرورة صحة (ب)..

لنتذكر تلك الأمثلة من الخطاب الديني:
الكون لابد أن له بداية، وبالتالي فهو مخلوق، والخالق هو إله واحد مطلق عظيم حكيم عادل رحيم..

هذا النبي قام بمعجزة، مما يدل أنه جاء بوحي من الله..

لقد دعوت بشيء وتحقق، مما يدل ان الله استجاب لي..

هناك ظاهرة خارقة حصلت، وبالتالي فلابد أن عالم الغيب موجود وبالتالي الله موجود..
..إلخ،

هذه مقدمات ونتائج، لا تبدو بالضرورة خاطئة، فالعقل قد يتصور حدوثها جميعا بالشكل الموصوف..

فأين الخطأ إذن؟

الخطأ - كما أوضحنا- في إهمال الإحتمالات الأخرى الواردة، وحصر العقل فقط في السيناريو الديني المقدم إلينا..

ولنعيد النظر في العبارات السابقة:
الكون لابد أن له بداية، وبالتالي فربما هو نابع من أكوان أخرى، وربما هو مخلوق بواسطة كائنات تعيش في بعد آخر، ربما تجري علينا تجارب، وربما الكون مخلوق بواسطة آلالهة وثنية عديدة متفقة أو متصارعة، وربما إله واحد ناقص أحمق شرير ظالم يتسلى بنا، وربما إله لامبالي خلقنا ونسينا، وربما إله عظيم لكنه مات، وربما الكون نفسه كائن حي.. ونعم ربما هو الله الذي تعرفه، لكنه ليس الإحتمال الوحيد بحال من الأحوال..

وبالمناسبة فالإحتمالات الأخرى ليست من اختراعي، وإنما هي واردة في أديان أخرى في الهند وفارس وحتى في بعض قصص الخيال العلمي، ومن الناحية النظرية فكلها واردة بنفس القدر..

كذلك، هذا الشخص قام بمعجزة، فربما هو ساحر وربما دجال وربما هو عفريت من الجن، وربما هو كائن فضائي، وربما جاءنا من المستقبل المتقدم، وربما هو المسيح الدجال.. ونعم، ربما هو نبي مرسل، لكنه ليس الإحتمال الوحيد..

وبالمناسبة فالإحتمالات الأخرى واردة في نصوص دينية عديدة، حيث نجد السحر والشعوذة والقدرات الشيطانية المختلفة..

كذلك، لقد دعوت بشيء ما وتحقق، فربما هي مصادفة، وربما حققتها لك كائنات فضائية تراقبنا وتحبك، وربما حققها لك الشيطان ليقودك إلى طريق ضلال يعده لك.. ونعم ربما الله استجاب، لكنه ليس الإحتمال الوحيد..

كذلك، هناك ظاهرة خارقة حصلت، فربما هي ليست خارقة وإنما معرفتك هي القاصرة، وربما هي خارقة ووقعت بفعل ساحر أو شيطان أو كائنات فضائية.. ونعم، ربما من الله، لكنه ليس الإحتمال الوحيد..

وهكذا فالفكر الديني حتى لو سلمنا بأنه منطقي فهو يحاول فرض مساره المنطقي الأوحد عليك وإهمال الإحتمالات المنطقية الأخرى، ولكي تسقط هذا الفكر فأنت لا تحتاج إلى إثبات خطأه، وإنما فقط إلى إثبات أن الإحتمالات- بالحقيقة- هي بالعشرات والمئات، وطالما أننا نتحدث في قضايا غيبية فلا توجد وسيلة لترجيح احتمال على الآخر..

المؤمن لا يرى ذلك، ربما لأنه مشغول جدا بالنتيجة التي يريد - بكل حرارة- الوصول إليها، والتي رسخت في ذهنه لأسباب وراثية وعاطفية لا منطقية، ولهذا فهو لا يدقق في التسلسل المنطقي أو في الإحتمالات الواردة المختلفة لما يطرحه..

والخطوة الأولى لحل تلك الإشكالية هي الخروج من النظرة الإبراهيمية الضيقة، والتي يتصور بعضنا أنها الإحتمال الوحيد لتفسير الوجود، ولننظر إلى السيناريوهات الأخرى الوافرة في التراث الإنساني، مثل الأديان البدائية والوثنية والغنوصية والفلسفات الروحانية والمادية، لا لكي نصدقها بالضرورة، وإنما لكي ندرك أن الخيال الإنساني قد أفرز تفسيرات عديدة لظواهر الطبيعة، وأن العالم أوسع كثيرا من رب اليهود وعقيدتهم..

وفقط من ذلك المنظور الواسع نكون قادرين على تقييم الأفكار الدينية المطروحة أمامنا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق