الأربعاء، 1 مايو 2019

خمر الخلود



ربما أول ديانة تؤمن بالحساب الأخروي بعد الموت هي الديانة المصرية..

لعلهم شاهدوا دورة الموت والحياة في أشياء مختلفة بالطبيعة، مثل غروب الشمس (موتها) ثم بعثها حية في اليوم التالي، وهو ما سيتمثل في أساطير الإله الشمسي رع الذي ينزل بسفينته لزيارة عالم الموتى تحت الأرض..

وكذلك شاهدوا تعاقب مواسم الجفاف والحصاد، أي موت الأرض ثم انبعاثها من جديد، وهو ما تمثل في إله الخصب أوزير الذي تحكي أسطورته تقطيع جسده ثم جمعه مرة أخرى ليرجع حيا..

ولعلهم شاهدوا الخلود في النجوم التي ظنوها دائمة، وهو ما تمثل في أول صور خلود البشر، خاصة الحكام العظماء حصريا، حيث ظهر اعتقاد أنهم بعد موتهم ستصعد أرواحهم للسكن بين النجوم الخالدات..

ولاحقا، وبسبب شعبية أوزير تحديدا، انتشرت تلك العقيدة لتشمل إمكانية خلود أفراد الشعب أيضا، الذين بعد موتهم يقفون أمام أوزير قاضي العالم الآخر للمحاكمة..

في المراحل الأولى اقترن تحقيق الخلود بضخامة القبر، متمثلا في الأهرامات العملاقة، لكن لاحقا تراجع بناء الأهرامات واقتصرت المسألة على التعاويذ المكتوبة التي توضع في القبور، تحمي الميت وترشده إلى تحقيق الخلود بشكل طيب، وتحتوي اعترافات أخلاقية تؤكد أنه طاهر من كل سلوك شرير، وأنه بالتالي مستحق لأن ينال الخلاص ويتحد نهائيا مع الموتى السابقين: الآلهة..

تلك الأفكار ستصبح عاملا مؤثرا في الديانة اليونانية، حيث منذ القدم كانت الصلات التجارية البحرية قائمة بين مصر واليونان، عن طريق جزيرة كريت تحديدا والتي وجدت فيها آثارا مصرية (كما وجدت آثارا كريتية في مصر)، بالإضافة إلى بعض التشابه في الفنون والعقائد الكريتية مع مثيلاتها في مصر القديمة..

------------------------------------------------------------
حسب برتراند راسل (كتاب "تاريخ الفلسفة الغربية)، فبينما اشتهرت ديانة اليونان بآلهة الأوليمب، أولئك الأبطال المتفاخرين المتهورين الشهوانيين الذين تحدث عنهم هومر مثلا في ملاحمه، كانت هناك تحت السطح عناصر دينية أخرى أكثر غموضا وأكثر شعبية، وربما أكثر قدرة على الإستمرار..

الإله ديونيسوس، أو باخوس،
Dionysus - Bacchus
كان يظن أن أصوله ترجع إلى منطقة تراقيا، شمال شرق اليونان، حيث يعتبر التراقيين "برابرة" بالمقارنة مع اليونانيين، ولكن يحتمل أن الإسم له أصول محلية يونانية نابعة عن ديانات أقدم، في كريت أو غيرها..

كان باخوس إلها للخصوبة، على شكل إنسان أو ثور، وحين اكتشف السكان صناعة الجعة والنبيذ ازداد تقديرهم لهذا الإله، وارتبطت نشوة الخمر عندهم بالمقدس الديني..

في مراحل مبكرة انتقلت عبادة باخوس وطقوسه إلى اليونان، وانتشرت هناك رغم ما لاقته من رفض من قبل المحافظين، ربما بسبب ما احتوته من عناصر همجية، حيث كان الرجال والنساء يحتفلون رقصا ويسكرون ويقومون بتقطيع أشلاء حيوان إربا والتهامه نيئا، في نشوة عجيبة تمزج ما بين نشوة الخمر والنشوة الدينية..

ولكن التأثير الفلسفي المهم اللاحق لتلك الديانة لم يأت عن طريق تلك الصورة الهمجية، وإنما عن طريق صورة أخرى أكثر روحانية وعمقا، تنسب في العادة إلى أورفيوس..
------------------------------------------------------------
أورفيوس
Orpheus
شخصية غامضة، فيلسوف\نبي\ كاهن\إله أو شخصية أسطورية، جاء إما من تراقيا (موطن باخوس) أو من كريت (والتي هي بوابة التأثر المصري على اليونان)، ويقال أنه قام بتطوير ديانة باخوس وأعاد صياغتها، مما لم يعجب أصحاب الفكر التقليدي الغاضبين حتى انتهى الأمر بمقتله وتمزيقه إربا..

إلا أن أفكاره عاشت، فيما يعرف بـ"الأورفية" - وفيها نلمح تأثيرات مصرية وربما هندية أيضا..

يؤمن بالأورفيون بتناسخ الأرواح، أي رجوعها مرة أخرى في جسد مختلف، كما يؤمنون أن النفس يمكن أن تحظى بنعيم أو معاناة أبدية، وفقا لسلوكها في الحياة الأرضية..

وكانوا يسعون لتحقيق "النقاء" عن طريق طقوس وشعائر معينة، وعن طريق تجنب كل ما من شأنه أن يسبب لهم النجاسة الروحية، حتى أن بعضهم كان يمتنع عن أكل لحوم الحيوانات، باستثناء المراسم الشعائرية حيث يتم تناولها ضمن الطقوس الدينية..

في نظرهم فالإنسان له مصدر أرضي ومصدر سماوي، وحين يعيش حياة مستقيمة طاهرة فإن الجزء السماوي يتعاظم ويتراجع الأرضي، وفي النهاية يصبح الإنسان واحدا مع باخوس، ويسمى هو نفسه "باخوس"..

وفي اللاهوت الأورفي فقد تم ولادة باخوس مرتين، واحدة من أمه والثانية من فخذ والده الإله زيوس..

وتحكي أحد أساطير ديونيسوس (العديدة) أنه ابن زيوس وبيرسيفون، وحين كان صبيا قام التيتان بتقطيعه إربا والتهام لحمه، فيما عد القلب، والذي تم استخدامه لإعادة ولادة باخوس..

وشعيرة قيام الأتباع بتقطيع حيوان والتهامه هي بمثابة إعادة تمثيل ما حدث لباخوس، والحيوان في تلك الحالة يعتبر تجسيدا - تناسخ روحي- للإله، وعن طريق أكله يصبح الإنسان أكثر سماوية وقداسة..

وكان الأورفيون طائفة رهبان، فالخمر بالنسبة لهم هي رمز، والسكرة التي تجلبها مقترنة بنشوة الإتحاد مع الإله..

وكانت الطقوس تدور الدورات الموسمية للموت والبعث، فيما يشبه طقوس عبادة أوزير، فالنشوة الروحية المرتبطة بالخمر كانت تمثل التحرر من كل القيود المجتمعية والدنيوية..

وربما لذلك لم يكن مستغربا أن كثير من أتباع الأورفية كانوا على هامش المجتمع آنذاك : العبيد والأجانب والخارجين على القانون والنساء اللاتي كان لهن مكانة متميزة في الكهنوت الديونيسي..

وقد وجدت بعض الألواح الأورفية في المقابر تحتوي تعليمات إلى الميت ليجد طريقه في عالم الموتى (هيدز)، وتخبره ماذا يقول ليثبت أنه جدير بالخلاص، وبعض تلك النصوص تخبر الميت أنه قد تألم وعانى وبالتالي سيصبح إلها بعد أن كان بشرا، وسينال الخلود..

------------------------------------------------------------

ومع القرب من الإله، تأتي المعرفة الخاصة التي لا يمكن للأتباع الوصول إليها، وهو عنصر مهم سيتم تطويره عن طريق فيثاغورث، وهو مصلح للأورفية كما كان أورفيوس مصلحا للباخوسية..

تلك الطقوس تجد متشابهات لها فيما يعرف بـ"ديانات الأسرار" التي انتشرت في الشرق القديم ووصلت أوروبا، كما أن تلك الأفكار الفلسفية\الروحية ستجد طريقها إلى جوانب عديدة من الفلسفة اليونانية، وستساهم لاحقا في بناء الأفلاطونية والغنوصية، بالإضافة إلى الديانة المسيحية..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق