الأربعاء، 1 مايو 2019

أضرار الإصلاح الديني



لدينا على ساحة الثقافة العربية عدد من المفكرين أو الباحثين، يطرحون أفكارهم التجديدية بشأن إصلاح الفكر الديني، عن طريق تنقيح التراث وإعادة تأويل النصوص المقدسة..

هؤلاء المفكرون - سنسميهم "المصلحون" تجاوزا- يمكن القول أنهم قدموا فوائد مهمة بناءة، كونهم أبرزوا بعض نقائص الخطاب السلفي التقليدي، وطرحوا أفكارا توافقية تصالح بين الدين والحداثة، وقدموا تأويلات نصية أقرب إلى العقلانية والأخلاق المعاصرة، فعملوا بذلك على مواجهة نزعات التطرف والتعصب والإنغلاق الديني، ثم إنهم عملوا على "دمقرطة" الدين، أي إظهار أن الجميع من حقه التفكر وفهم النص كما يشاء، مما يسحب البساط من تحت أقدام الكهنوت (أو الحاخامية) الرسمية الإسلامية، ويفتح بابا للعقلانية على غرار ما حدث في عصر الإصلاح الديني الأوروبي بداية من القرن السادس عشر..

ولكن على الجانب الآخر يمكن القول أن جهود المصلحين كان لها نتائج سلبية، تتراوح بين الفشل في مقاومة الفكر التقليدي الرسمي، وبين المساهمة في إعاقة التقدم الحقيقي وترسيخ نزعات الجهل والتخلف والتطرف..

تلك الأضرار - لو صحت- فهي بالطبع تبدو غير مقصودة، وأيضا غير مباشرة، وإنما يحتمل أن المصلحين حين يتكلمون بما يظنونه خير فإنهم يرسلون- بلا وعي- رسائل مبطنة تحمل أفكارا سلبية وأحيانا خطيرة - وهذا بلا تعميم على الجميع بطبيعة الحال..

----------------------------------
المصلحون يداهنون الدين..

فلكي يتمكنوا من انتقاد التراث، وبنفس الوقت يحافظوا على أمنهم الشخصي وسط المسلمين، ويحملوا المؤمن على تقبل كلامهم برحابة صدر، فإنهم يحرصون بإلحاح على توكيد إيمانهم بعظمة هذا الدين وأنه دين راقي يكرم الإنسان يحض على الأخلاق والقيم..إلخ.. تلك هي الرسالة الظاهرة وهي لا تبدو سيئة..

أما الرسالة الضمنية الضارة في تلك المهادنة فكأنها تقول: إن كان نقد التراث مباحا فإن نقد الإسلام نفسه مرفوض، وإن كان من يخالف الفقهاء يعتبر مصلحا، فإن من يخالف الإسلام نفسه يعتبر عدوا للحق والخير- وهذه رسالة سلبية تسيء إلى كل من هو غير مسلم، سواء كان على دين مخالف أو لادينيا..

البعض قد يدافع عن ذلك بالقول أن المصلحين يعملون في إطار الواقع الممكن، فهم مضطرون للمهادنة ليستمع لهم الناس، ولكن يمكن الرد على ذلك بأمرين: الأول أن المهادنة - كما يرى البعض- لا تخفف بالضرورة من حدة التطرف وإنما قد يكون العكس هو الصحيح، فتأكيد المصلح على عظمة الإسلام تجعل العوام أكثر تمسكا به، بينما لو سكت عن ذلك النفاق ربما يفتح الباب لمزيد من التنوير - أقول يسكت ولا أقول ينتقد صلب الدين فهذا شبه محال أحيانا، وأما الرد الثاني فهو أن هناك بالفعل تيارات علمانية صارت تنتقد الدين بشجاعة تؤتي بعض الثمار، مما يفند مسألة الإضطرار هذه..

----------------------------------
 بدلا من الرفض التام للتطرف، نجد أن المصلحين يوافقون بعض الأفكار المتطرفة من حيث لا يشعرون..
توجد قاعدة منطقية تسمى مفهوم المخالفة، فحين أقول لك: لا تأكل طعاما دسما بالليل، فهذا يعني- ضمنيا- أنه يمكنك التهام الطعام الدسم نهارا، وهذا ما يفوت بعض المتكلمين، فمثلا حين يريدون انتقاد التشدد ممثلا في ظواهر التكفير والإرهاب، فإنهم يقولون- مثلا- أنه من الخطأ قتل المسيحي يا جماعة لأن المسيحي أصلا- بتأويلهم- ليس كافرا، بل إنه يؤمن بالله مثلنا، وهذا الكلام ظاهرة جيد وباطنه خطير لأنه يعني- بمفهوم المخالفة- أنه لا مانع من قتل شخص ملحد لا يؤمن بالإله..

فالمصلح أحيانا لكي يمرر أفكاره التنويرية فإنه قد ينزلق إلى تأييد الكثير من أفكار التطرف، بقصد أو بدون قصد..

----------------------------------
هم يمنحون قبلة الحياة للإسلام..

لو كنت ترى أن الإسلام هو المكون الرئيسي للفكر العربي، وأن هذا الدين راسخ ومستمر، فقد ترى حينها المصلح بطلا يجدد ذلك الفكر والتراث الشعبي، ولكن على الجانب الآخر فالبعض لا يرى أن الدين بذلك الرسوخ، بل يرى أن الإسلام اليوم في مأزق حقيقي، بعد صعود التيارات الإسلامية وسقوطها ومع انتشار البحث والنقد الحر السابح في فضاء الإنترنت ومع تصاعد المد اللاديني في بلادنا، بل ويرى أن العلمانية أمر واقع مفروض، ومقبول شعبيا، وأن المشروع الإسلامي لم يبق منه إلا لافتات على وشك الزوال، فحينها يكون المصلح أشبه بمسعف يحاول ترقيع الإسلام لينقذه من الفناء، وهذا - بنظر البعض- دور سلبي معوق للتنوير الحقيقي..
----------------------------------
المصلحون كذلك بدلا من الخروج من دائرة الفقه والفتاوى التراثية، فإنهم ينقلون الجدال إلى أرض المشايخ، ويلعبون بقواعدهم..
فتجدهم يغرقون المستمع في مستنقع الكتب الصفراء من المعاجم والتفاسير وأقوال فلان وعلان، لينتقوا ما يلائم أفكارهم الخاصة، وهم أحيانا يستخدمون نفس أدوات التراث لنقد التراث- هذا قد لا يبدو سيئا..

ولكن المشكلة في ذلك أنه ضمنيا يرسخ مبدأ الإحتكام إلى التراث الذي يزعمون التحرر منه، فتجد أحدهم يشكك في الروايات، ثم يثبت كلامه برواية، وهو منهج مهادن يمثل خضوعا غير مباشر للسلفية، وترسيخا للسفسطائية والجدالات البيزنطية الدينية التفصيلية التافهة والمضيعة للوقت، كما أنه منهج زئبقي انتقائي يصفه الخصوم بالتضارب والهوائية، ويجعل كل مصلح جزيرة منفصلة، يرتبط مشروعه بشخصه ولا يمكن أن يستمر بعده..
----------------------------------
ثم إن المصلحين يضربون العلمانية في مقتل..

حين يقدمون تأويلاتهم الخاصة- التي تحمل بعض العقلانية والإنسانية- للنص الديني، فإن الرسالة الظاهرة الإيجابية هنا هي إصلاح الدين، ولكن هناك رسالة ضمنية سلبية خطيرة، ألا وهي أننا يجب أن نحكم الدين في حياتنا..

فالمصلح هنا يقبل ضمنيا فرضية أن الفكر الديني هو المكون الرئيسي للقانون والمجتمع، ومن ثم لا مانع من تطبيقه، بشرط أن يكون ذلك بتأويل المصلحين الراقي، ولكن المشكلة في ذلك الطرح أن البعض لا يقبل تطبيق الدين عليه أصلا، خاصة العلمانيين أو أصحاب الطوائف الأخرى، والذين لا يريدون دولة مسلمة متسامحة، وإنما يريدون دولة علمانية لا دور للدين فيها..
----------------------------------

أما البديل المقترح فهو أن يمارس المصلح نقد التراث والتاريخ الديني في مجمله، بشكل متوازن يجمع ما بين مراعاة الخطوط الحمراء الخاصة بأمن المصلح الشخصي، والإمتناع عن محاولة زخرفة النقد بالمهادنة والنفاق للدين، وأن يكون النقد كذلك بدون المبالغة في الخوض في جدالات بيزنطية تفصيلية تستخدم نفس أدوات السلف وتنقل الجدال إلى أرضهم، وأن يكون التركيز الإصلاحي الأكبر على ترسيخ قيم الإنسانية والعقلانية، والتي- ليدعوا كذبا - لا تخالف جوهر الأديان، وبالتالي يكون المطلوب هو تحكيم القيم الإنسانية بصيغتها المعاصرة مثل الديمقراطية والليبرالية والمساواة والعلمانية وحكم القانون وفصل السلطات، مع تنحية التراث كله والتأويلات والنصوص المقدسة عن الحياة العامة، لتصبح شأنا شخصيا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق