الجمعة، 19 يوليو 2019

هل هناك شعوب أذكى من أخرى؟



مؤخرا تم نشر صورة أثارت جدلا: خريطة للعالم توضح مستويات الذكاء -بالألوان- حسب البلد، وملخصها أن أعلى معدلات ذكاء توجد في شرق آسيا (اليابان، الصين، هونغ كونغ كوريا)، يليها دول الشمال والغرب (الولايات المتحدة وأوروبا)، يليهم العرب والهنود، وأخيرا الأفارقة..

تصفحت التعليقات لأجد الكثير من الإحتجاج والرفض للصورة، وهي اعتراضات رأيتها سابقا فيما يخص موضوع شائك وهو العلاقة بين الذكاء والأعراق.. فمن ناحية توجد دراسات تزعم وجود علاقة ما (أي أن هناك شعوب بطبيعتها أذكى من أخرى)، ومن ناحية أخرى يعترض البعض على ذلك، قائلين أن الذكاء ليس له تعريف محدد، وأنه لا يوجد فوارق ذكاء بين الشعوب، بل ذهب البعض إلى عدم وجود فوارق ذكاء بين الأفراد..
-------------------------------------

1- مبدئيا يخيل لي أن الإعتراضين بينهما تناقض!
فلو قلنا أن الذكاء مصطلح ليس له أي معنى محدد ، فحينها يكون من العبث محاولة إنكاروجود فوارق الذكاء كما يكون من العبث محاولة إثباتها، وإنما يصبح النقاش كله لا معنى له..
وأما لو قلنا أن الناس تتساوى في الذكاء، فتلك العبارة تستلزم أن الذكاء هو أمر محدد وله تعريف ومقياس، راجعناه حتى تأكدنا من تلك المساواة..
-------------------------------------

2- لا أعتقد أن تعدد التعريفات يعني أن المصطلح وهمي..
حين نتعامل مع ظاهرة إنسانية (مثل الحياة أو الوعي أو الثقافة أو الدين) فهي تكون ظواهر نعرفها ونراها ونتعامل معها يوميا، إلا أن تعريفها يكون مسألة صعبة وجدلية، وربما يكون الأنسب هو التعريف من خلال سرد سمات وعناصر الظاهرة، ثم قياس تحققها من خلال قياس مدى توافر تلك السمات فيها..

مثلا: الحياة يصعب تعريفها بعبارة، ولكن يمكن القول أنها ظاهرة تحتوي على سمات معينة (الحركة، التمثيل الغذائي، النمو، التناسل..إلخ) ويعتبر الشيء حيا بقدر توفر تلك السمات فيه.. الفايروس مثلا يمكن القول أنه "شبه حي" من حيث أنه يتضمن بالكاد صفة من صفات الحياة..

كذلك الدين هو ظاهرة تحتوي على عناصر (آلهة وكتب مقدسة وأنبياء ومعابد وشرائع..إلخ)، ويمكن القول أن البوذية مثلا هي "شبه دين" لأنها تحتوي على بعض العناصر وليس كلها..

بنفس المنهج: الذكاء هو ظاهرة إنسانية نعرفها ونتعامل معها ولا يمكن إنكارها، ولتعريفها يمكن القول أنها تحتوي عدة عناصر: منها قابلية الفهم والقدرة على الإستيعاب والقدرة على التعلم والقدرة على حل المشكلات والإبداع..إلخ، ويمكن تقسيمها إلى ذكاء حسابي وذكاء بصري فراغي وذكاء لغوي وغيره..
-------------------------------------

3- الذكاء أنواع، ودرجات.. يوجد فوارق ذكاء بين البشر..
فإن اتفقنا أن الذكاء ظاهرة حقيقية وموجودة ومتعددة الجوانب، ولها أسباب جينية إلى جوار البيئية، فهنا لا يعقل أن ننكر فوارق الذكاء، وأما لو حاول البعض تمييع التعريفات وبالتالي إنكار فوارق الذكاء بين فلان وعلان، فلماذا لا ننكر فارق الذكاء بين الإنسان والسمكة مثلا؟ وأما إن اتفقنا أن الذكاء ظاهرة حقيقية فلا مفر من الإعتراف بأن البشر عموما أذكى من السمك، وإن كان في نوع معين من الذكاء (الحسابي مثلا)..

وأما وجود فوارق ذكاء بين البشر فهي حقيقة تبدو بديهية للبعض، وإن اضطررنا إلى التمهيد لها هنا: هناك فوارق فردية بين الكائنات عموما وبين البشر خصوصا في كل شيء تقريبا: الطول والوزن ولون البشرة وحجم العينين وكثافة الشعر، وكذلك في القدرات والمواهب..

فكما يمكن القول أن فلان أذكى من السمكة، يمكن القول أن أينشتاين أذكى من فلان في الرياضيات أو الفيزياء، أي أن لديه استعدادا أفضل لفهمها وقدرة أكبر على التعامل مع معطياتها وحل مشكلاتها..

والأدلة متوفرة بكثرة على أن هناك أشخاص أكثر نبوغا وموهبة من غيرهم في مجالات بعينها: مثلا فهناك من يولد ولديه استعداد أولي هائل لتعلم الرسم أو اللغات أو الرياضيات أو الشطرنج، والتفوق فيها منذ الطفولة على أقرانه..
-------------------------------------

4- يمكن الحديث عن ذكاء عام.. والإختبارات القياسية مقياس لا بأس به..
إن اتفقنا أن هناك أنواع من الذكاء كما ذكرنا، وأن فلان يمكن أن يكون أذكى من علان في المجال الفلاني، بينما علان أذكى في المجال العلاني، إلا أنه هذا لا يمنع إمكانية التعميم، فإذا كان فلان أذكى في العديد من المجالات فهنا يمكننا القول أنه أكثر ذكاءا من علان - وذلك على سبيل التعميم مع إمكانية وجود استثناءات..

قلنا أن الإنسان عموما أذكى من السمكة في القدرة على العمليات الحسابية، ولكن يمكن القول أن الإنسان عموما يبدو أذكى من بقية الحيوانات في سائر المجالات، فهو أقدر على الإدراك والفهم والإبتكار والإبداع والإختراع وحل المشكلات والإستفادة من الخبرات وتسجيل المعلومات ونقلها إلى الأجيال الأخرى..

هنا قد يأتي أحدهم ويقول أن بعض الحيوانات أكثر مهارة من الإنسان في البقاء على قيد الحياة في بيئتها، وهذا صحيح طبعا، ولكنه جانب محدد يتعلق بالغريزة والتطور البيولوجي أكثر من تعلقه بالذكاء بمعناه الأشمل، وتبقى الحقيقة أن الإنسان في المجمل أذكى الكائنات..

وأما اختبارات الذكاء فهي أداة توصل إليها البعض كتحديد عام للذكاء، وهي غالبا تغطي ثلاثة أنواع (اللغوي والحسابي والبصري).. نعم يعترض عليها البعض ويشكك في شمولها فهي غالبا لا تحتوي على الذكاء العاطفي أو الإداري مثلا، إذ يمكنك قياس قدرة الإنسان على حل مشكلة حسابية، ولكن كيف تقيس قدرته على فهم عواطف الناس أو كسب قلوبهم؟ وأليس ذلك نوعا من الذكاء أيضا؟

نعم، ولكن القصور في أداة معرفية ما لا ينبغي أن يدفعنا لرفضها، وإنما لتطويرها - والحق أن هناك اختبارات فعلا لقياس قدرة الناس على فهم العواطف ومشاعر الآخرين.. فالنهج الحكيم هنا هو الإعتراف بالجدوى النسبية لاختبارات الذكاء، ثم المطالبة بتوسيع مفهومنا عن الذكاء، وليس رفضه بالمطلق..
-------------------------------------

5- الصواب السياسي لا يجب أن يكون هو الحكم على الواقع..
فإن كانت هناك فوارق واضحة بين الكائنات وبعضها، فألا يمكن ملاحظة أن هناك فوارق داخلية بين الجماعات المختلفة في النوع الواحد؟

هل من الخطأ القول أن العرب بشرتهم أغمق من الروس؟ هل من الخطأ القول أن الأوروبيين - في المتوسط- قامتهم أطول من الشرق آسيويين؟ هل من الخطأ القول أن الأفارقة - في المتوسط- أجسادهم أكثر استعدادا للبطولات الرياضية من الهنود؟

وإن اعترفنا بوجود الفوارق الطبيعية الجسدية بين الجماعات الإنسانية، فهل يوجد مبرر علمي أو منطقي يحصر تلك الفوارق في الجسد، ويمنعها من الإنتقال إلى الشخصية والذكاء وأسلوب التفكير؟

بل من الواضح أن الإختلاف في الطبيعة هو الأصل، بين الأفراد والجماعات، بل إن العجيب وغير المعقول هو أن نجد تساويا في أي شيء..

ربما الخطأ الأكبر الذي يقع فيه البعض هو الخلط بين "ما يجب" وبين "ما هو كائن"، أي إسقاط رغبتهم الشخصية في العدل على الطبيعة، وكأن الطبيعة ينبغي أن تتبع مثاليات المجتمعات، فإن كان الصواب الأخلاقي هو العدل بين الشعوب، فمن الصواب الأخلاقي أيضا أن نعتقد أن الطبيعة تعدل بين الشعوب!، وأما القول بغير ذلك فهو عنصرية..

هذا المنطق يذكرني بالنقد الذي يوجه للداروينية من قبل المؤمنين : الداروينية لعينة لأنها تقول أن الأصل في الطبيعة هو الصراع، وأن البقاء للأصلح أو الأقوى، وأما الضعيف فمصيره الزوال، وهذا القول كفيل بأن يخلق الصراع والعنصرية داخل المجتمع.. فأولئك الناقدون خلطوا ما بين ما يقول داروين أنه يحصل في الطبيعة، وبين ما ينبغي أن يحدث في المجتمع.. والرد على ذلك (كما يشير بيولوجيون مثل دوكنز) أن الإقتناع بأن الطبيعة قاسية وظالمة لا يجعلنا نقلدها، وإنما على العكس، يجعلنا نحاول تهذيب مجتمعنا وتغييره بحيث يكون أكثر عدلا..

وإن كان البعض يتخوف من أن الحديث عن فوارق الذكاء بين الشعوب قد يؤدي إلى العنصرية، فينبغي أن يتذكروا أن ألف باء العلوم هو التقيد بالحقائق أولا، وعدم الحكم على الأمور بالمتوقع من نتائجها (وهي مغالطة منطقية تسمى الإحتكام إلى النتائج: قولك خطأ لأنه لو كان صحيحا فهذا سيضرني بشدة!)..

بالتالي دور المفكر هو محاولة فهم الأمور كما هي، ثم بعد ذلك محاولة ضبط المترتب عليها لصالح المجتمع، وأما محاولة لي عنق الوقائع لتوافق مفاهيمنا عن الصواب الأخلاقي فيوقعنا في دائرة الأيديولوجيات والدوغمائيات المتعصبة التي عفا عليها الزمن، أو ينبغي أن يكون هذا الحال..
-------------------------------------

6- نعم هناك دراسات تشير إلى اختلاف متوسطات الذكاء بين الجماعات الإنسانية..
ما سبق ليس الهدف منه القول أن هناك فوارق في الذكاء بين الشعوب، ولكن الهدف هو القول أن وجود تلك الفوارق هي مسألة ممكنة وواردة تماما ومتوقعة.. فالذكاء ظاهرة حقيقية، والتنوع سمة الكائنات والبشر، وبالتالي يكون المحك هنا هو الدراسات والتجارب فقط..

وبالفعل مجمل الدراسات تشير إلى أن هناك فوارق بالعرق، وأن اليهود (الأشكيناز) يسجلون درجات أعلى في اختبارات الذكاء، يليهم الآسيويون، يليهم البيض في شمال أوروبا، وبعد ذلك يأتي العرب والهنود ثم الأفارقة..

-------------------------------------

7- وهنا بيان بعنوان "رأي التيار الرئيسي للعلم فيما يخص الذكاء" أصدرته في أواخر عام 1994 جماعة من الباحثين والمتخصصين في مجالات تتعلق بالذكاء، وبعض نقاطه توافق ما ذكرناه:

- الذكاء هي قدرة العقل على فهم محيطه بشكل عام.
- الذكاء يمكن قياسه، واختبارات الذكاء تقيسه بشكل جيد، وبشكل غير منحاز ثقافيا.
- الإختلاف في الذكاء يترتب عليه نتائج مهمة اجتماعيا وتعليميا واقتصاديا، وإن لم يكن هو العامل الوحيد الذي يحدد تلك العوامل إلا أنه الأهم.
هناك شواهد على أن الجينات تلعب دورا أكبر من البيئة في تحديد معدل الذكاء.
- في المتوسط فإن معدلات الذكاء للبيض أعلى من السود.

أما بعد، فنعلم أن العلوم متطورة، وأن الذكاء مسألة معقدة تحددها عوامل متداخلة، كما أن العرق هو مفهوم شائك أيضا لا يسهل تعريفه بدوره، وبالتالي من يرى أن فوارق الذكاء يمكن تعليلها بعوامل البيئة والظروف فهذا من حقه طبعا - وهناك علماء يرون ذلك - وإنما ما نحاول قوله هنا هو أن تلك الفوارق موجودة، وأن القطع باستبعاد العوامل الجينية مطلقا هو موقف سياسية أو أخلاقي أكثر منه موقفا علميا..
-------------------------------------

8- الملاحظة الحضارية..
ربما لا نحتاج إلى دراسات لكي نلاحظ أن بعض الشعوب تاريخيا أكثر تفوقا من غيرها.. ولو أردنا مقارنة أقصى الطرفين فيمكننا الإشارة إلى قبائل أفريقية مثلا، عاشوا منذ آلاف السنين دون أن يحرزوا أي تقدم على المستوى التقني أو الفكري، فهم لا يزالون في حالة تشبه الإنسان البدائي ماديا ومعنويا.. على الجانب الآخر لدينا شعب تعرض إلى صعوبات ومظالم إلا أنه أثبت تفوقه تاريخيا، وهم اليهود..

فقديما نجد عددا من المفكرين والإنسانيين خرجت منهم عبارات تعتبر -بمقاييس اليوم- مسيئة للزنوج، أمثال داروين وغاندي وجيفارا وغيرهم، ولكنها بمقاييسهم لم تتعد إقرار بحال واضح كالشمس أمام الجميع..

واليوم نجد أن اليهود لديهم تميزا مدهشا فيما يخص جوائز نوبل، حيث نحو 22.5% ممن فازوا بالجائزة هم من اليهود، رغم أن نسبة اليهود من سكان العالم لا تتجاوز 0.2%- ويمكن مقارنة تلك النسب بالعرب أو الأفارقة مثلا، علما بأن أي تحجج بعوامل الإضطهاد أو الإستبعاد يمكن أن يستخدمه اليهود أيضا والذين تعرضوا إلى قرون من الإضطهاد والتضييق في أكثر أماكن العالم..
-------------------------------------

9- ما المغزى هنا؟
هل هذا يعني أن هناك أعراق "أرقى" من أخرى؟ وهل هو مبرر للعنصرية وإساءة معاملة بعض الجماعات؟

لا أظن، فتعريف العنصرية يتضمن التعميم، بينما حديثنا هنا عن المتوسطات، وهذا لا يمنع وجود استثناءات، وبالتالي فالواجب والسائد في المجتمعات المتقدمة هو معاملة الإنسان كفرد طبقا لمؤهلاته الذاتية، وليس كعضو في جماعة أو عرق أو طائفة..

أما المغزى هنا فهو أن العلم ينبغي أن لا يخضع للعوامل القيمية والأخلاقية، وإنما يجدر الفصل بين "ما هو كائن في الطبيعة" وبين "ما يجب أن يكون في المجتمع"، فلو أخبرني أحدهم أن "الرجال أكثر ذكاءا من النساء" فلن أنتفض غضبا أو أكتفي باتهامه بالذكورية والعنصرية..إلخ، وإنما سأناقش المسألة من جانبها العلمي، فما تقوله الدراسات المحكمة والمتكررة هو الحكم، أو ينبغي أن يكون، وليس أحكامنا الأخلاقية.. والحق أن الدراسات اليوم تقول أنه لا يوجد فوارق ملحوظة في الذكاء بين الرجال والنساء، وإن كانت بعض الدراسات تقول بوجود مميزات نوعية في بعض أصناف الذكاء هنا أو هناك.. وأما الوضع المتراجع للنساء في الماضي فيمكن إرجاعه فعلا إلى عوامل الإستبعاد من قبل الرجل، فترينا الملاحظة أن المسألة حين تغيرت- صارت أكثر عدلا- تغير وضع المرأة وصارت أكثر نجاحا..

ولكن لو كانت الدراسات تقول بعكس ذلك - أي أن المرأة أقل ذكاءا- فلا يجب علينا مواجهة ذلك بالغضب - مستسلمين للحكم الأخلاقي أو متوقعين عدلا من الطبيعة لم تزعمه - وإنما كان سيتوجب علينا الإعتراف بالأمر والتعامل معه..

فكما أن الداروينية لم تفرض علينا أن نتقاتل ولم تمنعنا من التعايش السلمي، بل إن أكثر المجتمعات اقتناعا بالداروينية هي أكثرها إنسانية وسلمية وتعايشا، فكذلك الحديث عن فوارق جينية بين البشر لا ينبغي أن يؤدي إلى عنصرية أو احتقارا لأحد، فبالنهاية نحن نعيش في عالم تختلط فيه الأعراق بشدة- وتزداد اختلاطا- بحيث أن مفهوم التصنيف العرقي نفسه لم يعد بذات الجمود الذي كان عليه بالماضي..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق