الأحد، 21 يوليو 2019

تطور لا نسبية




لا؛ العلم ليس متغيرا، والأخلاق ليست نسبية ؛ إنهما فقط يتطوران، مثل كل شيء..

الفارق كبير: فكلمات مثل التغير والنسبية هي كلمات خادعة توحي بالتخبط والعشوائية والتبدل صعودا ونزولا ودورانا بلا نمط أو غاية واضحة..

وهذا بعيد عن الواقع، فليست المسألة وكأن العلماء لديهم كل يوم رأيا جديدا ليس له علاقة بما قبله، أو أنهم يبنون نظرياتهم على خبط عشواء متقلب..

ولو كان الحال كذلك فما قيمة العلم أصلا؟ ولماذا نجهد أنفسنا في تحصيله وتوثيقه؟ وما معنى أن ندرس لأطفالنا معلومات يمكن أن تنقلب رأسا على عقب حين يكبرون؟

وكذلك، ليست المسألة وكأن الناس يصحون ذات يوم ليقرروا أن القتل والسرقة خطأ، ثم يصحون في اليوم التالي ليقرروا أنها صواب..

ولو كان الحال كذلك فلماذا نتمسك بمبادئنا؟ ولماذا نهتم بتحسين أخلاقنا إذن؟ بل لماذا نكترث بمناقشة الصواب والخطأ أصلا، طالما أن ما سنستقر عليه اليوم سيتغير إلى نقيضه غدا أو بعد غد؟


إنما يمكن فهم المسألة ببساطة عن طريق الرجوع إلى التعريفات:

فالعلم هو محاولة منهجية لفهم الواقع وتوصيفه والتعامل معه؛ ولو اتفقنا أن الواقع يتميز ببعض التماسك والثبات، مما يمكننا من استنباط ما نسميه قوانين طبيعية، ففي تلك الحالة يكون العلم هو طريق متصاعد نحو مزيد من النجاح في فهم تلك القوانين وتوصيفها بمزيد من الدقة والشمول..

هذا الصعود لا يشترط أن يكون في شكل خط مستقيم، وإنما قد يحتوي تعرجات أو حتى يشمل سقطات وتراجعات وانتكاسات، ولكن هذا لا يمنع أن المسعى واضح والهدف محدد، وأن التطور - أو التخلف- يمكن قياسه..

القول بأن الأرض كروية هو - قطعا- أكثر تقدما من القول بأنها مسطحة، يمكن قياس ذلك بما تم رصده وبالقدرة التفسيرية لهذا القول، ولا مانع بعدها من أن نحاول فهم أبعاد الشكل الكروي - أو شبه الكروي- بدقة أكبر..

كذلك الأخلاق هي قواعد وسلوكيات تضمن بقاء النوع وتحسن أحواله وسعادته؛ هذا الهدف محدد وثابت، وأما ما يتغير فهو وسائل تحقيقه، والتي تختلف على حسب ظروف المجتمع، ففي حالة الخطر مثلا نحتاج إلى الشجاعة والشدة بشكل خاص، بينما في حالات المن والرفاهة نحتاج إلى اللطف وتعايش بشكل أكبر..

وهكذا فالتطور أيضا صاعد، نحو مزيد من الأمن والرفاهة للبشر، وكلما تحسنت ظروف المجتمع كلما كنا أقدر على الإرتقاء بأخلاقنا بعيدا عن سلوك حيوانات الغابة، ونحو مزيد من الحرية والفردية والسلمية..

فالأخلاق السائدة في العالم المتقدم اليوم هي - قطعا- أفضل من أخلاق المغول أو الفايكنغ، يمكن قياس ذلك بأمان البشر وسعادتهم، ولا مانع بعدها من أن نحاول صقل أخلاق اليوم لتتحسن أكثر فأكثر..

هنا نلاحظ أن كلا من العلم والأخلاق له معايير قائمة في الطبيعة والظروف، لم يخترعها البشر بقدر ما هم يحاولون فهمها وتطويعها، وفي هذا الإطار لا يجب الحديث عن أنواع من العلوم وأنواع من الأخلاق، فهي ليست مسألة أمزجة وأهواء، بقدر ما هي مسألة قدرة ومراحل تطورية..

ولا شك أن العاملين مرتبطان يغذي أحدهما الآخر ، فكلما ازدادت علومنا كلما كنا أكثر قدرة على إدارة حياتنا، وبالتالي صرنا أكثر قدرة على توسيع دائرة ممارستنا للمحبة والسلام والحرية، فتتطور أخلاقنا..

هذا مسعى حقيقي وملموس ومتصاعد، وليس دورانا عبثيا في دائرة مفرغة من العشوائية، كما توحي كلمات مثل "النسبية" و"التغير"..

بل ولعله المسعى الأرقى والأجدر باهتمامنا، وهو ما يجعلنا بشرا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق