الخميس، 18 يوليو 2019

البدائل اللادينية



حين كنت مؤمنا بالله والدين كان لدي أجوبة يقينية على كل الأسئلة الكبرى: كيف نشأ الكون؟ ما أصل الحياة؟ ما غاية الوجود؟ ما سر الوعي والشعور؟ كيف ينبغي أن نعيش؟ ما منبع الأخلاق وما الصواب والخطأ؟ ما هو الموت وماذا بعده؟ كل ذلك عرفته.

ليس هذا فقط، بل كان لدي ضمان راسخ بأن العدل سيتحقق، وبداخلي رضا عميق يخبرني بأن رعاية كونية رحيمة خاصة تحوطني رغم أي معاناة، فالخير بانتظاري في النهاية.

الآن وأنا ملحد ليس عندي شيء من ذلك، فمعرفتي عن الوجود أقل بكثير مما سبق، وحيرتي أكبر من يقيني، وتساؤلاتي أكثر من إجاباتي، كما أن شعوري بوجود المعنى والعدل والرحمة والرعاية والأمان قد ذهب بغير رجعة.

في النقاشات حول الأديان يتحول الجدل أحيانا إلى لعبة إغاظة: "نحن لدينا يقين وأنتم لا"؛ فيطرح المؤمنون مميزات إيمانهم العظيمة التي تجعلهم على علم بأسرار الوجود كلها- من أول معنى الكون وسر الحياة وصولا إلى ماذا يريد خالق الكون من خلقه- وعلى الجانب الآخر يجتهد اللادينيون في إبراز إجاباتهم البديلة.

والحق أن التناطح لا جدوى منه، لأن المنافسة غير عادلة؛ إذ أن الدين متفوق دائما ولديه إجابة محفوظة لكل الأسئلة الوجودية الكبرى وهو ما يفتقر الملحد له.

نعم قد يقول الملحد، وأقول معه، أن الأجوبة الدينية كاذبة، خرافية وساذجة، وأنه لا إله سوى إله الفراغات، حيث يستغل المؤمنون فجوات المعرفة الإنسانية ليحشروا فيها أساطيرهم التبسيطية كالآلهة والشياطين والأرواح والعفاريت..إلخ، دون سند منطقي أو علمي.

ربما، ولكن هذا لا ينفي ضرورة أن يعترف الملحد بأنه عاجز عن منافسة أهل الأديان في مضمارهم القديم: ادعاء امتلاك المعرفة اليقينية المطلقة، والقيم المطلقة - تلك المنافسة الممقوتة تجعل الإلحاد يظهر للبعض وكأنه دين جديد، يمتلك رؤية عقائدية وأخلاقية شمولية ثابتة وجامدة، وهي التخصصات القديمة للأديان.

ما البديل المطلوب إذن؟

أن نتحلى،كخارجين من الأديان، بمزيج خاص من التواضع ومن الثقة بالنفس معا، فنعترف من ناحية بأننا لا نمتلك جميع الأجوبة، ونعلن من الناحية الأخرى بأنه ليس من الضروري أن نمتلكها.

ببساطة أكثر : الملحد أصلا لا يجب أن يتوقع (بفتح الياء) كما لا يجب أن يتوقع منه (بضمها)، أن يمتلك إجابات شمولية جاهزة على كل شيء، وإلا صار بدوره صاحب دين.

لو أننا نعرف بالتفصيل كيف نشأ الكون وكيف تشكلت الخلية الأولى وما سر الحياة وماذا بعد الموت وماهية الأخلاق..إلخ، لتوجب علينا إذن أن ندون كتابا مقدسا شاملا ينافس كتبكم، ونسعى لنشره بين الشعوب، ثم نغلق عقولنا عن الفكر والبحث إلى الأبد.

ولكن هذا اليقين وذلك الجمود وتلك الراحة تركناها لأهل الأديان والعقائد.

فنحن حين تخلينا عن الإيمان بالمقدسات تركنا (أو حري بنا أن نترك) معه الإيمان بالمطلق والجاهز واليقيني، وأدركنا (أو يجدر بنا إدراك) أن الوجود سؤال مفتوح نقرأ فيه كل يوم جديدا، وأن الحقيقة ليست محطة بقدر ما هي رحلة مستمرة، وأن عناء الشك والحيرة أنبل وأشرف وأحلى مذاقا من راحة اليقين الكسولة.

نعم عندنا أجوبة وأشباه أجوبة، ولكنها تظل أجوبة ناقصة مبتورة متحركة ومتزعزعة أحيانا- ليست ثابتة ثقيلة جامدة راسخة مثل إجاباتكم.

لماذا؟ لأن إجاباتكم تلقيتموها جاهزة مصقولة مدونة في نصوص صفراء عتيقة ومتربة ممنوع نقاشها، بينما إجاباتنا صنعناها بأيدينا، بل حفرناها بأظافرنا من جهود السابقين وجمعناها شذرات وغربلناها وامتحناها مرة تلو المرة، فرفضنا أكثر مما قبلنا، وهدمنا أكثر مما بنينا، حتى وضعنا القطع المتبقية جنبا إلى جنب على أمل أن ترسم صورة مقبولة.

ثم - وبعكسكم- نحن لم نزعم أبدا أن الصورة كاملة.

ولأنها ليست كاملة، كتاب لا يزال مفتوحا، فبالتالي البحث لا يزال جاريا، والقطع لا تزال تتجمع ببطء مضني، وممتع بشكل لا يحسه أهل الإجابات المعلبة الكاملة الذين رزقوا وفرة من الراحة واليقين.

لهذا نحن، بعكسكم لا نخاف الإعتراف بالجهل، لأن هذا هو ما يدفعنا للتعلم.. كما أننا لا نحتقر الشك، فهو دليل حياة العقل، وسلاحه الذي يميز به الخبيث من الطيب.

حين تركت الدين داهمني شعور ثقيل صادم بأنه علي أن أمزق أوراق عقلي كلها، وأتعلم كل شيء من جديد، ومع الوقت تعلمت أن الرحلة تبدأ ولا تنتهي، وأن الطريق مزعج وصعب، وأن السائر عليه أن يتعلم، أول ما يتعلم، أن يلقي اليقينيات الجاهزة الكاملة الشاملة الثابتة المريحة، ويرحب بالنسبي والمتغير، ويعتنق الشك والحيرة، ويتعايش مع نقص المعرفة،
فرب علم متغير نسبي محدود أفضل من جهل ثابت ومطلق وغير محدود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق