الثلاثاء، 1 يناير 2019

عن المادة والقيمة




حين يتحرر الإنسان من الدين، فإحدى الأفكار التي يتخلى عنها هي فكرة "الروح".. وقد يظن البعض أن اللاديني يرى نفسه ككيان مادي، وبالتالي فحياته أو مشاعره أو أفكاره هي بلا قيمة..

تلك المغالطة تقوم على فرضية مسبقة، يروج لها الفكر الديني، ومفادها أن "الروح" أكثر قيمة وأعمق معنى من "المادة".. وبالتالي فالكائن الروحاني فقط هو الذي لحياته قيمة ومعنى وعمق وكرامة، أما المادية فتنزع من الإنسان قيمته..

ونسأل أصحاب ذلك الفكر: من أين جئتم بذلك الزعم؟ وما دليله؟

ويا ترى هل لديكم وسيلة موثوقة لإثبات أن الروح أغلى من الهيدروجين، أو أن الكائن الروحاني أرفع قدرا أو أعلى قيمة أو أجدر بالحياة من الكائن المادي؟ كيف تثبتون أن الروح لها قيمة؟ وهل بإمكانكم شرح كيف تعطي الروح قيمة للأشياء؟

ولنعكس السؤال: هل بإمكانكم إثبات أن المادة لا يمكن أن يكون لها قيمة؟

بل هل يمكنكم تعريف القيمة؟ هل لديكم معيارا محددا تقيسون به قيمة الأشياء؟..

بل لنبسط الأسئلة أكثر: هل لديكم إثبات على وجود ذلك الشيء المسمى الروح؟ هل لديكم تعريف واضح لها أصلا، باستثناء ما لقنتكم إياه الأديان من أنها عفريت خفي يسكن الأحياء؟

لنعيد فهم المسألة من وجهة نظر أخرى : أجدادنا كانوا يلاحظون نوعين من الكائنات: الأحياء والجمادات.. ومع الملاحظة تصوروا أمرين: أولا أن الكائن الحي أكثر أهمية من الجماد.. وثانيا أن الكائنات الحية تتميز بوجود ذلك الكيان الغامض الذي أسموه روحا (نسبة للهواء "الرياح" الذي "تتنفسه" حصرا الكائنات الحية، فصار لها "روح" و"نفس")..

والآن لنسأل: هل يبدو لك أن العلاقة بين التصورين سببية، أي أن التصور الأول (القيمة) مستمد من التصور الثاني (الروح) ويعتمد عليه؟ بمعنى آخر: هل القدماء أعطوا البشر قيمة أساسا لأنهم ظنوا بوجود الروح داخلهم؟

حتما لا، فالبديهي أن الناس تشعر بأن لها قيمة، ليس بسبب نوع المادة التي تشكل أجسادهم، وإنما بسبب شعورهم بالوعي بذواتهم، وبكونهم يتألمون ويتفاعلون.. ثم من الطبيعي أن الكائنات تميل للتعاطف مع رفاق النوع، فنحن نشعر بقيمة البشر أساسا لأننا من البشر، فشعورنا بقيمتنا مستمد من حبنا لأنفسنا قبل كل شيء، وشعورنا بقيمة الآخرين مستمد من كونهم أقرباء لنا أو يشبهوننا، أو يشتركون معنا في الطبائع والمصالح..

بعد ذلك لا يهم إن كنا مصنوعين من كاربون وهيدروجين وأكسجين، أو كنا مصنوعين من كيان غير مرئي عفريتي اسمه الروح، النتيجة واحدة..

أما لو كنت تعتقد أن الكائن المادي أقل قيمة، لأنه يشترك مع الجمادات في نفس العناصر المادية، فعليك أن تتذكر المادة التي تقول الأديان أن الله خلق البشر منها، وهي من أحط أنواع المادة حيث نطأها بأقدامنا.. فحسب هذا المنطق لا يصبح لذلك الكائن الطيني أي قيمة تذكر..

فإن قلت بأن الروح أرقى من المادة لأنها خالدة، وبالتالي فإن وجود الروح بداخل جسده الطيني هو الذي يعطيه قيمة، فيمكن الرد بأن ذلك يعطي قيمة للروح فقط، وليس للطين.. ولو لاحظنا أن خلود الروح يعني أنها غير قابلة للموت أصلا، مما لا يجعل القتل جريمة، بل يمكن فهمه على أنه "تحرير للروح من سجنها"، فسنجد أن القتل لا مشكلة كبيرة فيه دينيا.. وهذا التصور بالمناسبة يتماشى تماما مع سياق الأديان، والتي تعلي من شأن الروح فقط، وتحتقر المادة والجسد، وتنظر للدنيا باعتبارها دار فناء لا تساوي جناح بعوضة، وأما الحياة الحقيقية فهي الحياة الروحانية القادمة في العالم الآخر إن شاء الله.. ولذلك فإن الأديان تمجد الموت بالنسبة للمؤمن، خاصة لو كان في سبيل العقيدة (تسميه شهادة)، كما أنها تستهتر تماما بحياة الكافر، إن لم تحرض على قتله، رغم أن الكافر أيضا بداخله روح، إلا أن ذلك لا يشفع له عندها..

أما من وجهة نظر عقلانية، فلا يوجد أي أساس منطقي للقول بأن المادة العفريتية الخفية أعظم قيمة من المادة الطبيعية الفيزيائية، والأهم أن القيمة لا تستمد أصلا من المادة المكونة، وإنما من طبيعة الكائن ذاته..

صحيح أننا فيزيائيا مادة، ولكننا أيضا كائنات حية.. وصحيح أننا بيولوجيا حيوانات، ولكننا أيضا بشر.. ولا تعارض بين تلك الأشياء جميعا، إلا في الأذهان التي تعتمد التقسيمات التقليدية العتيقة، التي تفصل الجماد عن الحيوان عن الإنسان، على أسس دينية لا علمية..

إنما علميا كل شيء مترابط، وهي مستويات متداخلة من الوجود في هذا الكون..

ولمن يتساءل مستنكرا: منذ متى كان للمادة قيمة؟ فالجواب: منذ صارت تعي وتحس وتتألم وتتفاعل وتفكر وتحب وتبدع..

فتلك الخصائص هي التي تجعلنا نقرر أننا مميزين وأن لنا قيمة، بغض النظر عن مصدر تلك الخصائص، سواء روحاني كما كان يؤمن أجدادنا الذين لم يكونوا يعرفون أن الأرض تدور، أو طبيعي فيزيائي كما توحي كل المؤشرات العلمية الحديثة، فكلا الحالين لا يؤثر في قيمة الإنسان..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق