الثلاثاء، 1 يناير 2019

رجل الدين



كلما رأيت رجل دين يتم توقيره، تذكرت هذه الفقرة للكاتب الراحل أحمد خالد توفيق:

"تذكر أن ساحر القبيلة لم يكن يجيد الصيد ولا القنص ولا الزراعة ولا القتال ولا يستطيع عمل وعاء من الخزف ولا يستطيع الامساك بثور أو العناية بالماشية .. هكذا يقرر أن يصير سيد الصيادين والمحاربين والمربين والخزافين .. إنه علي اتصال بالآلهه ويعرف كل الأسرار"..

هي مهزلة أن يتم عمل احترام لفئة من البشر لا يحملون علما مفيدا ولا يقدمون أي خدمة للمجتمع، إلا بالطبع لو اعتبرنا أن أحكام الحيض والرضاعة وطقوس دخول الحمام هي علوم عظيمة تحتاج إلى خبرات فنية عميقة، أو اعتبرنا أن تغييب العقول وتشجيع الطائفية ونفاق الحكام هي خدمات عظيمة تحتاج إلى مواهب عقلية نادرة..

مهزلة وإهانة لكل العلماء الحقيقيين، ولكل من يقدم خدمة حقيقية للمجتمع..

فبينما نجد أن كل فئة في المجتمع تقوم بدور ملموس حيوي، بداية من الطبيب الذي يعالج الناس وحتى عامل القمامة الذي ينظف شوارعهم، نجد أن الكاهن، رجل الدين، هو الخبير الأوحد في كل ما لا يمكن رؤيته أو التأكد منه، فهو يعلم ما طبيعة الله، وماذا يحب وماذا يكره، وكذلك طبيعة الملائكة والجن والشياطين، ويعلم أين تذهب الروح بعد الموت، ويعلم ماذا قال الله للشيطان بعد أن رفض السجود، وماذا قال لآدم بعد أن أكل من الشجرة، كما يعلم أنواع الجن وقبائلهم وأين يسكنون..

علم لا ينفع والأهم أنه غير قابل للنفي، أو التأكيد بطبيعة الحال، مما يجعلها مهنة مريحة، فضلا عن كونها مربحة مجلبة للسلطة والمال وأحيانا النساء..

وبينما نعلم أنه لو اختفى الأطباء أو المهندسون أو عاملو القمامة، فإن المجتمع سيتأثر سلبا فورا، نجد أنه لو اختفى جميع رجال الدين غدا، فلن يتأثر المجتمع سوى أنه سيصبح أقل تعصبا وطائفية وجهلا..

ورجل الدين كائن يعيش وينمو في الظلام، ويزدهر وينمو في أجواء الخرافة، ويذبل أمام العلوم، فبعد أن كان يعيش مجده العظيم وهو يفتي في نشأة الكون وأصل الحياة وطبيعة الأرض والجبال والأنهار، بدأ العلم تدريجيا يحل محله في شتى المجالات الطبيعية، مما جعل صلاحيات الكهنة تتراجع وتنحصر في مجالات أضيق، خاصة تلك المجالات التي لم يغطيها العلم بالكامل بعد..

والآن بعد أن لم يعد رجل الدين يفتي كثيرا في طبيعة الكون والمادة، وهي المجالات التي ورثتها منه - أو بالأحرى انتزعتها منه- الفيزياء والكيمياء، صار صاحبنا يفتي في مجالات أكثر مرونة ومطاطية، وهي الثرثرة عن الأخلاق والقيم والفضيلة.. وبعد أن كان يفتي في أسباب الأمراض العضوية وينسبها للشياطين والعفاريت، صار يتجنب ذلك- إلى حد ما، حتى لا يصطدم بالطب المادي - ويركز على مجال يبدو أنه أكثر غموضا وأقل حسما : الأمراض النفسية..

وهو كائن لزج حشري، يزحف بسعادة داخل ظلام الجهل والإنغلاق والدكتاتورية والتخلف، يتقوى من خصوصيات البشر وما يفعلونه في غرف نومهم، ويتغذى على الخوف والألم والطائفية ونظريات المؤامرة.. فكلما كان المجتمع أضعف، كلما نجح في إيهامهم بأن ذلك الضعف منبعه أنهم لا يلتزمون أوامره بالقدر الكافي، والمصيبة أنهم كلما التزموا أوامره كلما ازدادوا ضعفا وتراجعا، فاستغل هو ذلك ليقول بأن الأمور لم تتحسن لأنكم لا تلتزمون بها بالقدر الكافي، وهكذا لا تنتهي تلك الدورة الجهنمية..

على الجانب الآخر كلما نزع المجتمع إلى أن يصبح أكثر علما وأكثر ديمقراطية وأكثر تعايشا وأكثر تقدما، كلما تراجع دور الكهنة وحل محلهم علماء حقيقيون محايدون مختصون، يمارسون دورهم في خدمة المجتمع من دون كهنوت ودون وصاية ودون تدخل في حياة الآخرين، وذلك هو لب الفارق بين التخلف والتقدم..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق