الثلاثاء، 1 يناير 2019

الإلحاد والأديان الأرضية




حين تؤمن أن دينا معينا هو "الدين المختار" من دون الأديان، فأنت ذو فكر متعصب ضيق الأفق..

ولا يختلف الحال لو كنت تؤمن أن قومية معينة هي الأفضل، أو عرقا معينا، أو طبقة معينة..

في بعض ساحات المجموعات اللادينية يتم انتقاد الأديان بعنف (غالبا تستحقه)، مما يجعل البعض (دينيين ولادينيين) يظن أن الملحد يكره الأديان بشكل شخصي إلى درجة أنه مستعد لقبول - أو التغاضي عن- أنواع أخرى من التعصب..

وهذا الإعتقاد بنظري خاطئ، وإن صح فهو كارثي، فهو يعني أن الملحد تحرر من خرافة متعصبة ليقع في خرافة أخرى متعصبة..

نعم نرى بين الحين والآخر ذلك الشخص، الذي يلعن الدين والعروبة، وهو يفتخر بقومية أجداده الذين يعتقد أنهم خلقوا الكون واخترعوا الحضارة، وأنهم خير أمة أخرجت للناس..

أونرى من يدين جمود أهل الأديان وتمسكهم بكتبهم، ويدين عنصرية اليهود واستعلائهم، ويسخر من انتظار المسيحيين لعودة يسوعهم، ويستنكر جهاد المسلمين ضد خصومهم، ثم إذا به يعلي من شأن مبادئ المادية الديالكتيكية ويرفض التشكيك فيها، ويقدس كتب ماركس ولينين وستالين، ويهتف بأن البروليتاريا هم طبقة الطبيعة المختارة، وينتظر عهدا تختفي فيه الدول والطبقات، وينادي بضرورة القتال وتدمير الخصوم استعجالا لقدوم ذلك اليوم المنتظر..

أو نرى أخرى تعترض - بحق- على ذكورية الأديان وتحيزها للرجال، ثم إذا بها تنادي بأن المرأة هي الأصل وأن الرجال كائنات دونية ناقصو عقل وأخلاق..

ويتناسى الرفاق أن هناك فارق هائل بين أن تؤمن بأفكارك- وكلنا يؤمن بأفكاره- وبين أن تتعصب لتلك الأفكار بحيث تعتبرها الحق المطلق الذي لا يناقش، وأن تعادي مخالفيها وتصفهم بالخيانة أو الشر..

كما أن هناك فارق هائل بين أن تنحاز لحقوق جماعة ما لأنها منقوصة الحقوق: الأمازيع، الأكراد، النساء، العمال والكادحين..إلخ - والإنحياز لحقوق المستضعفين هو
انحياز إيجابي مطلوب - وبين أن تنحاز لتلك الجماعة نفسها إلى درجة معاداة الآخرين والمطالبة بقمعهم أو إبادتهم..

وهنا يتوجب على كل إنساني أن يرفض كل ألوان الجمود والتعصب، سواء ادعت أنها جاءت من السماء أو من الأرض..

نعم نعلم أن التفسير المعجمي للإلحاد هو "عدم الإيمان بالآلهة - وبالتالي الأديان خاصة التأليهية"، ولكن سيكون جميلا لو نتبنى تفسيرا أوسع للأديان، وهي جميع المقدسات والتعصبات، وبالتالي نلحد بها كما نلحد بالأديان "السماوية"..

هنا حين نسمع مؤمنا- مسلما أو مسيحيا- ينتقد الإلحاد مستدعيا نماذج ملحدين سفاحين مثل ستالين وماو، فقد يخطر ببالنا عددا من الردود المنطقية، ولكن بنظري الرد الأفضل على ذلك المؤمن هو: أنت محق تماما..

نعم هناك ملحدون سفاحون مجرمون، وأكثر الملحدين يدينون أولئك كما ندين إجرام الأديان تماما (وربما هذا هو الفارق الأهم بيننا وبين المؤمن الذي يبرر جرائم دينه)، ولكن مربط الفرس هنا هو أن أولئك المجرمين لم يكونوا مجرمين لأنهم "ألحدوا أكثر من اللازم"، وإنما لأنهم تركوا الأديان المسماة سماوية ليصنعوا أنظمة شبه دينية شبيهة، ولكن بطابع أرضي.. كما يقول سام هاريس: مشكلة الفاشية والنازية والشيوعية ليست في أنها ابتعدت عن الأديان أكثر من اللازم، وإنما مشكلتها أنها تشبه الأديان أكثر من اللازم..

حتى أن كثيرا من الباحثين أشار لعقيدة "عبادة القائد" في الدول الشيوعية أو شبه الشيوعية، كما حصل في الإتحاد السوفييتي والصين وكوريا الشمالية وكوبا وغيرها، حيث تم تقديس الزعماء بشكل لا يختلف عن تقديس الأديان لأنبياءها في وجه من الوجوه..

وبالنسبة للملحد بالذات فهو أول من ينبغي أن يدرك أن الفارق بين "دين سماوي" و"دين أرضي" هو فارق وهمي، حيث أن الملحد يعرف أنه لا يوجد دين سماوي أصلا، فالكل جاء من الأرض، وإن ادعى القداسة.. وفي تلك الحالة لا يوجد فارق أخلاقي بين من يستمد القداسة من السماء أو من الأرض.. كلاهما ينتج تعصبا وخرافات وطغيانا..

وسيكون رائعا لو أننا ألحدنا بكل الأديان والآلهة، بمعناها الواسع، دون الإنخداع بالتقسيمات الشكلية..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق