الثلاثاء، 1 يناير 2019

الغيب لا يمكن إثباته



لماذا من المستحيل إثبات وجود الآلهة، أو الروح أو الملائكة أو العفاريت؟
بساطة لأن الغيب لا يمكن أن يستدل عليه بأي شكل..

ذلك أن مفهوم الدليل ذاته يقوم على علاقة مشهودة بين معلومين، أحدهما يدل على الآخر، فإن جهلنا أحد أطراف المعادلة فلا دليل.

مثال: لما يأتي شخص برسالة يدعي أنها من ملك البلاد، فيمكن محاولة إثبات صحة كلامه عن طريق تفحص الرسالة نفسها وبالبحث عن علامات تدل أنها من الملك (ختم خاص مثلا)..

ولكن ماذا لو كنا لا نمتلك أي معلومات عن ذلك الملك ولا نعرف شكل ختمه؟ هنا مهما فعل صاحب الرسالة فلن يمكنه إثبات أن رسالته من الملك (حتى لو كان صادقا)!

مثال آخر شائع يردده المسلمون، حيث يقولون أن البعرة (مخرجات الحيوان) تدل على البعير، وهذا صحيح.. ولكنه صحيح فقط لأننا شهدنا بعيرا ونعرف أنه يخرج، أما لو كنا لم نشاهد أبدا بعيرا ولا نعرف خصائصه، فهنا لا يمكن للبعرة أن تدل على البعير.

هذا ينطبق على الله تماما: طالما لا نعرف كنه ذلك الخالق المزعوم، فلا يمكن لأي نبي أن يثبت أنه من عنده..

حتى لو جاء بمعجزة؟!

نعم، بل حتى لو شهدناه يأتي بألف معجزة فستظل الإحتمالات مفتوحة (على الأقل نظريا) لتكون تلك المعجزة من كائن آخر.. كائن فضائي أو شيطان أو جن..إلخ.

------------------------------
هذه الفكرة ليست تنظيرا فارغا، بل إن أصحاب الأديان تنبهوا لها منذ وقت طويل، ويمكن ملاحظة تلك الأمثلة من التراث الديني ذاته (والذي لا نؤمن به، ولكن نستشهد به لتوضيح الفكرة، وأنها لم تغب بالكلية عن بال مؤلفي الأديان:

1- لما موسى جعل العصا تتحول ثعبانا أمام فرعون، أمر فرعون السحرة يأن يفعلوا نفس الشيء.. نقرأ في القرآن أنه لما التهمت عصا موسى عصيهم (تفوق عليهم) هتف فرعون أن موسى هو "كبيرهم الذي علمهم السحر"، وهو استنتاج لا يخلو من منطق، فمن يمكنه إثبات العكس؟!.. والمغزى إنه لا يمكن التفرقة بين السحر والمعجزة.

2- في الأناجيل لما جاء يسوع بمعجزاته الخارقة، قال البعض أن "روحا شريرة تسكنه" (من يثبت العكس؟).. وهو نفسه حذر من أنه سيأتي بعده أنبياء كذبة يقومون بأعاجيب فلا تصدقوهم (فقط صدقوني أنا!).. والمغزى مرة أخرى أنه لا يمكن التفرقة بين السحر والمعجزة في عالم الأديان، إلا أن تقول المعجزة هي ما يأتي في ديني أنا والسحر هو ما عند الآخرين! وهو طبعا تحيز لا يقوم على منطق.

3- حين تنبأ محمد عن المسيح الدجال وصفه بأنه سيقوم بمعجزات مبهرة، وأمر أتباعه أن لا يصدقوه.. مرة أخرى نفس منطق يسوع: معجزاتي فقط هي من الله، أي معجزة أخرى هي من الشيطان.

4- قبل ذلك، لما نزل على محمد الوحي، هو نفسه ظن أن ما يأتيه شيطان.. وهنا قامت خديجة بتجربة درامية، حيث أظهرت عورتها فاختفى الكائن من أمام محمد، وهنا استنتجت أنه ملاك وليس شيطان! (هذا يطرح أسئلة: ما الذي يلزمنا بعقيدة سيدة وثنية تعتقد أن الملائكة فقط هي التي تختفي مع كشف العورات؟ وما يمنع أن الكائن لم يكن شيطان خبيث وافتعل تلك الحيلة حتى يظناه ملاكا؟..إلخ)، مرة أخرى يستحيل التفرقة.

------------------------------
الدرس المستفاد أنه حتى لو سلمنا باحتمالية وجود عالم الغيب فحينها لن يمكننا الإستدلال عليه أبدا أو الحديث بشأنه، فحين ترى فعلا تحاول نسبته إلى غيب، فحينها لن يمكنك أبدا نسبته إلى غيب (أ) أم غيب (ب) أم (ج)..إلخ، إلا بالإستناد على فرضيات غيبية بدورها.

ولهذا بينما يمكن حسم الخلافات العلمية بالرصد والتجربة، تجد أن الأديان لا يمكنها حسم خلافاتها (إلا بالإستئصال وحروب الإبادة بطبيعة الحال!).

أما منطقيا وعلميا، فالله ليس فقط يفتقر إلى الإثبات، الله -مثل أي غيب- هو قضية خاسرة، وهو مستحيل الإثبات.. حتى لو انفتحت السماء وظهر أمامنا الله فلن تكون هناك وسيلة علمية للتأكد أن هذا ليس شيطانا أو عفريتا أو كائنا فضائيا، ولن يمكننا التأكد أبدا أنه هو من خلق الكون أو أنه يقف وراء أي معجزة، ولو شهدناها بأعيننا.

----------------------------------------------------------------
----------------------------------------------------------------

المسلي في التفسيرات الغيبية أنها مرنة جدا وقابلة للتطويع، فهي لا تستلزم دليلا دقيقا مثل التفسيرات العلمية الملتزمة لحد الصرامة، وإنما الغيبيات هي كيانات مائعة تعيش في بحار الجهل الواسعة، وبالتالي يمكن تقليبها يمينا ويسارا حسب مزاج المتكلم..

فالظاهرة التي تفسرها أنت بالغيب (أ) يمكنني بكل سهولة تفسيرها بالغيب (ب) أو (ج) أو (د)، دون أن يكون لدى أي منا وسيلة لتأكيد كلامه، أو إثبات أن نظريته أقوى من الآخر، وذلك لسبب بسيط هو أن التفسير- بالتعريف- غيبي، أي غير قابل للفحص وإنما هو بالنهاية مجرد كلمة خاوية..

من خلق الكون؟ تقول الله..

ولكن كيف عرفت أنه الله؟ هل رأيته بنفسك؟ أم لعلك اعتدت هذا الجواب من تراثك الديني.. أنا أقول أن خالق الكون هو زيوس، أو وحش السباغيتي، أو هو الشيطان نفسه..

هل تعتبر جوابي الأخير غريبا؟ ولكن له شواهد منطقية حتى داخل المنظومة الإيمانية، فالعالم مادة والله روح، كما أن العالم يحتوي نقائصا وشرورا لا تليق بالله، وبالتالي ربما الشيطان خلق عالمنا فجاء ماديا ناقصا شريرا.. وبالمناسبة هذا الكلام ليس من رأسي، وإنما هو موجود راسخ بتراث الأديان منذ القدم، خاصة في ساحات الزرادشتية والغنوصية وحتى وجد طريقه إلى الفكر المسيحي..

ومثال آخر، بفرض صحة الخرافة القرآنية : ما هي القوة التي جعلت عصا موسى تتحول إلى ثعبان؟ من الواضح جدا أنها الله..

لا، ليس من الواضح ذلك، لأن السحرة فعلوا نفس الشيء بالإستعانة بقوى أخرى غير إلهية، وإن كنت تقول أن حركة موسى كانت أقوى منهم، فيمكنني تفسير ذلك بأنه "كبيرهم الذي علمهم السحر"، كما قال فرعون، هل يمكنك تكذيبه؟

واليوم لو رأينا ممارسات خوارقية لمؤمن من دينك، فقد تؤكد بحماس أنها دليل قاطع على الحضور الإلهي، ولكن ماذا لو رأينا ممارسة خارقة لمؤمن من غير دينك؟ ما أسهل أن تقول أن مصدرها هو السحر أو حتى الشيطان.. فلا يملك أحدنا أن يستحضر الله والشيطان لسؤالهما..

ولنأخذ مثالا أكثر بساطة، لقد أصبت بالمرض.. على المستوى الغيبي، من يا ترى الذي الذي أمرضني؟ هل هو الله (أراد اختباري مثلا)؟ أم هو الشيطان (ربما أراد إيذائي)؟ أم هو الجن أم السحر أم الحسد أو أي قوى غيبية أخرى؟ ثم أنني شفيت، فأيضا من الذي شفاني؟ على المستوى الغيبي كل تلك الإجابات ممكنة بشكل متساوي..

ولنختم بمثال مستقبلي : لو ظهر اليوم رجل جبار يقوم بمعجزات خارقة أمام الجميع، طالبا منهم أن يطيعوه، برأيك هل نتبعه أم لا؟ المسألة تستلزم حذرا بالحالتين، فلو أطعناه ربما يكون الدجال المنتظر، فنذهب جميعا في داهية، أو لو عصيناه فربما يكون المهدي المنتظر فأيضا نذهب في داهية.. حتى أن أي فعل يقوم به سيمكن تفسيره على الحالتين، لو فعل خيرا فربما يكون الدجال يخدعنا، ولو فعل شرا فربما يكون المهدي يختبرنا، وأن هذا الشر يخفي بداخله خيرا لا ندركه بعقولنا المحدودة.. مرة أخرى هذا موجود بالتراث الديني، فيسوع يحذر أتباعه من تصديق الأنبياء الكذبة مهما قاموا بمعجزات، ومحمد يحذر أتباعه من المسيح الدجال القادم وسيقوم بمعجزات مبهرة فلا تصدقوه..

تلك الأمثلة تنطبق على أي قضية يقدم لها تفسير غيبي، فافتراض كيانات خفية لا يساعد على فهم أي شيء..

المنهج العلمي يقوم على الفحص المباشر للظواهر، والحكم بما هو متوفر بأيدينا، والقدرة على اختبار الظاهرة وتجربة التفاعلات مرة بعد مرة.. أما المنهج الغيبي فيقوم على افتراض كيان معين (مصدره دينك) يتم إبرازه لتفسير ظواهر الطبيعة، وأحد مناحي الخلل في ذلك المنهج أنه يمكن بسهولة استبدال ذلك الكيان بكيان آخر، مما لا يجعله منهجا ملزما أو حتى مفيدا..

(في الصورة: يسوع المسيح يتواصل مع الكائنات الفضائية التي منحته قدراته الإعجازية وأقامته من الموت)..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق