الثلاثاء، 1 يناير 2019

خواطر عن الحشود



لعله شعور شخصي، ولعله غير مبرر بالكامل، ولكن هناك شيء ينفرني للغاية في مشهد الحشود البشرية في الشوارع والأماكن المفتوحة..

ذلك التجمع من الرؤوس الصغيرة السوداء المتلاصقين بالآلاف مثل موجات التسونامي، تراهم في صور أو على الشاشات أو حتى من نافذتك إن كنت قرب الحدث.. والأحداث متنوعة: لعله تجمعا سياسيا أو مناسبة رياضية أو مظاهرة أو ثورة عارمة أو احتفالا غنائيا أو طقس حج أو عمرة..


في كل الحالات لا يختلف الأمر، في كل الحالات لا أراه أبدا منظرا مريحا أو يبشر بالخير..

لماذا يجتمع البشر بهذا الشكل؟


غالبا يكون السبب عاطفي بحت.. غالبا لن تجد الآلاف من البشر يتجمعون في الشوارع بشكل هادئ لمناقشة فكرية أو تأمل وجودي مثلا..


غالبا السبب انفعالي، غريزي أولي، ينطلق بقوة عنيفة في هذا الإتجاه أو الآخر : غضب، احتقان، فرحة، نشوة، انبهار، خشوع..

ذلك الإنفعال يتميز بأنه جماعي، والإنفعال الجماعي يختلف تماما عن الإنفعال الفردي، إذ أنك لم تختره بنفسك حقا، أو على الأقل لم تحدد طريقته وكميته بشكل هادئ متعقل؛ لا بل فرض عليك دون حتى وإن لم تدرك أنه مفروض عليك، بتلك السلطة المخيفة المتمثلة في التأثير الجماعي للآخرين.. أنت غاضب لأن من حولك غاضبون، أو تصرخ لأنهم يصرخون، أو مبتهج لأنهم مبتهجون، أو منبهر لأنهم منبهرون، أو خاشع لأنهم خاشعون، أو تسجد لأنهم ساجدون، أو ترقص لأنهم يرقصون..

دائما هناك حركة، فورة تضطرب، هناك شيء على وشك الحدوث، شيء لا يمكن توقعه ولا يمكن التحكم به.. في تلك المناسبات يحدث التدافع والتكسير والتحرش والدهس..

وفي الحشود دائما هناك مقدسات يتم الإحتفاء بها وتمجيدها بكل حرارة : الزعيم أو الفريق الكروي أو المطرب أو الرمز الديني أو الثورة.. رايات وأبواق وهتافات تصرخ بالحياة والموت والنصر والدم..

الحشود وحش هائل الحجم، تحركه غرائزه، يتحرك يمينا ويسارا، غالبا بلا رأس، بلا عقل..

وبداخل ذلك الوحش تفقد فرديتك تماما؛ أنت بكل سماتك ومميزاتك وعيوبك وذكرياتك وأحلامك، لم تعد مميزا ولم تعد حرا حتى؛ أنت جندي في جيش، ترس في آلة، حبة رمل بالصحراء، قطرة ماء في محيط هائل لا تملك سوى التحرك مع التيار الجارف: تقفز أو تصرخ أو ترقص أو تلعب أو تصلي أو تضحك.. أنت لم تعد أنت..

ولا شك أن فقدان الذات هذا ممتع بالنسبة للبعض، ولعله يشبه نشوة السكران أو المصلي أو الراقص، ذلك الشعور بالإتحاد مع شيء أكبر، شيء لا تفهمه تماما ولا تدري إلى أين يقودك، ولكنك تائه وسطه، وهو ضياع يبدو كأنه إيجاد، ولا يخلو من لذة، لمن يجدون المتعة في المشاعر والغرائز..

لكن بالنسبة للصنف الآخر من البشر، الذي يتمسك بفرديته ويشك في البشرية ويخاف من الإنجراف ويجد الأمان في العقل والعقل وحده، فإن فقدان الذات هذا هو أمر مرعب، كئيب، مهما تنكر في شكل انتماء وطني أو ولاء كروي أو نشوة رقص أو خشوع صلاة..

لعله شعور شخصي وغير مبرر، ولكني مازلت أكره الرايات والأبواق والهتافات، أكره الحفلات ومباريات الكرة والصلوات والثورات.. وحقا لا أتذكر أنني شعرت بغربة ووحشة أكبر من تلك التي شعرت بها مرات وسط الحشود الكبيرة من البشر..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق