الثلاثاء، 1 يناير 2019

الحجاب والسيطرة




"ملابس المرأة في مجتمع ما قد لا تخبرنا الكثير عن أخلاق المرأة نفسها، بقدر ما تخبرنا عن أخلاق الرجال في ذلك المجتمع"..

العبارة السابقة يمكن أن تفهم على وجهين متناقضين :
الأول ملائم تماما للفكر المحافظ الديني التقليدي المتشدد، ومعناه أن مسئولية تغطية النساء تعود إلى الرجال، فالذكر الشريف يتوجب عليه الإشراف على تغطية "نساءه" جميعا: بناته وإخواته وزوجاته وحتى أمه - فإن لم يفعل فهو يستحق وصف "الدياثة" المشين..

والحقيقة أنني أيضا أرى العبارة صحيحة، ولكن بشكل معاكس..

فذلك الهوس المنتشر في مجتمعاتنا بضرورة تغطية المرأة وقمعها حتى لا تكاد تتنفس، لا ينبع فقط من نزعة تقليدية نحو الحشمة كان يمكن تفهمها، وإنما هو يعكس بالأساس قلة ثقة الرجال في بعضهم البعض..

ولنجرب- آسفين- استلهام مقارناتهم البغيضة للمرأة بالمتاع : فلو أنني أخبرتك أنني أسكن في حي لا يقوم الناس فيه بالخروج ليلا، أو إظهار أي نقود علنا بالشارع، بل والحرص على عدم ارتداء مقتنيات غالية الثمن، فهل ستعتبر تلك الأوصاف دليلا على أن أهل ذلك الحي هم جماعة من الشرفاء على خلق عظيم، أم دليلا على أنني أسكن في حي يمتلئ باللصوص وقطاع الطرق الذين سينتظرون أقل فرصة للوثب على ممتلكاتك؟ أظن الجواب واضح..

كذلك فرض الحجاب (غطاء الرأس) على المرأة، لا يعكس فقط النظر للمرأة على أنها متاع يجب حمايته، وإنما هو يعكس أيضا انتشار المخاطر والفوضى وسوء الخلق داخل المجتمع، من قبل الرجال تحديدا، كما يظهر انعدام الأمان للنساء في ذلك المجتمع..

ويظهر ذلك في النصوص الدينية ذاتها، فنقرأ الآية (يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) الأحزاب 59..

و تجمع التفاسير - مثل الطبري وغيره- على أن الآية نزلت بسبب تحرش بعض أهل المدينة (الصحابة) بالنساء و الفتيات بالطرقات، خاصة الجواري..

من تفسير ابن كثير نقرأ (كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة يتعرضون للنساء، وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة، فإذا كان الليل، خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب، قالوا: هذه حرة، فكفوا عنها، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب، قالوا: هذه أمة، فوثبوا عليها)..

هذا يعني أن الحجاب في الأصل كان وسيلة لتمييز النساء الحرائر، حتى لا يتم التحرش بهن من قبل سكان المدينة المنورة بقدوم رسول الله إليها..

وفي آية أخرى تمنع نساء محمد أنفسهن من ترقيق الصوت، لأن هذا كفيل بإثارة الطمع في قلوب الصحابة أيضا (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) الأحزاب 32..

و في نفس السورة نقرأ تعليمات مشددة تحدد دخول الصحابة إلى بيت محمد، وتمنعهم من الكلام مع زوجاته وجها لوجه، مع تلميح بأن بعض الصحابة كان ينتظر موت الرسول ليتزوج من نسائه من بعده..

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا) الأحزاب 53..

هذا كله يصف مجتمعا من الذكور أصحاب الأخلاق البهيمية، لا يكتفون فقط بالنظر العابر إلى النساء، أو حتى اتخاذ صديقات وعشيقات كما عند الغرب، وإنما النتيجة المباشرة المترتبة على ذلك عندهم هي التحرش والأذى والقفز على النساء عند كل فرصة، والطمع حتى في زوجات نبيهم، كما ورد في روايات أخرى عديدة..

وحتى اليوم، نجد أن هناك علاقة طردية واضحة بين مدى الهوس بتغطية جسد المرأة، وبين النظرة الدونية المحتقرة لها ولدورها بالمجتمع، وهي علاقة لم تأت صدفة أبدا..

فنجد أن أكثر من ينادي بالحجاب والحشمة هم حصرا رجال ينظرون إلى المرأة باعتبارها كائن جنسي، جسد، قطعة لحم معروضة ومعرضة للنهش في أي لحظة، فلا مفر من إخفاء لحمي عن أعين الرجال الآخرين، وويل لهم هم إن لم يخفوا لحمهم عن عيوني!

وهنا تأتي الوصمة الكبرى للديوث، أنه نصف رجل يعجز عن حماية أملاكه ومتاعه، ويترك قطع لحمه تسير بالشارع معرضة لنهش الكلاب - عفوا، الرجال- الآخرين..

ويتساءل الإنسان الطبيعي: أي مجتمع هذا الذي لا يتميز بالحد الأدنى من الأمان والثقة بالبشر؟ وهل يبقى بعد ذلك دور للأخلاق التي يزعم الدين أنه يزرعها في نفوس أتباعه؟ وإن كنت تحتاج إلى تغطية شعر ووجه زوجتك وتمنعها من الخروج وحدها حتى لا تتعرض إلى الأذى، فهل يمكنك بعد ذلك أن تتفاخر بأخلاق أهل ذلك المجتمع المسلم العفيف، الذين تخاف على زوجتك منهم؟!

وهذا ما تعنيه مسألة الحجاب كلها، فهي لا تتعلق بالحشمة والعفة (ولنا في عورة الجارية عبرة) وإنما بالشعور بالأمان، وبالمستوى الأخلاقي للمجتمع، وهذا نعرفه جميعا بالتجربة، كرجال: حين أكون في مناخ حر حضاري راقي يحتوي أناسا متمدنين متعلمين، فلن أشعر بأي قلق بينما زوجتي تتحرك وتكشف وجهها وشعرها، ولو كنا على شاطئ بنفس تلك الصفات فسترتدي المايوه وستكون بأمان، لأن الآخرين سيكونون بشر طبيعيين مهتمين بشئونهم، فكل شاب لديه حياة وصديقة، والنظرة للمرأة أنها إنسان مثل الرجل، وليس أنها قطعة لحم..

أما لو كنت في مناخ متخلف جاهل ممتلئ بالكبت الجنسي والعقد النفسية، ومحمل بنظرة دونية بهيمية إلى المرأة، بحيث يبدو الرجال أشبه بكلاب جائعة لا يرون في المرأة سوى قطعة لحم متحركة، فحينها حتما سأشعر بالقلق على زوجتي، وسنجد أن الحشمة لم تعد مجرد عرف وإنما صارت ضرورة عملية هنا، درء لخطر، حتى لو اضطررنا إلى مجاراة الأعراف الدينية والتقليدية للمجتمع حولنا، فحينها تكون المرأة مضطرة لعدم لفت الإنتباه ولتجنب المضايقات والتحرشات من ذكور خير أمة أخرجت للناس..

وهذا لا ينطبق فقط على العلمانيين وإنما المسلمين أيضا، فالمسلم الذي يؤمن بتغطية شعر المرأة لو عاش ببلد ينتشر فيه النقاب، فقد يجد نفسه ينصح زوجته بالنقاب، لأن سقف العري تغير فصار وجهها يلفت الإنتباه هنا مما يجعلها معرضة للمضايقات أيضا- وهذا بالمناسبة يتماشى تماما مع آية الحجاب وأسباب نزولها..

يهوى المتشددون دائما طرح سؤالا ساخرا يوجه للعلمانيين: وهل العري هو معيار التحضر يا جماعة؟

والجواب حتما بالنفي، ولكن على الجانب الآخر لو لاحظنا أن التشدد في الحجاب هو أمر مرتبط باحتقار إنسانية المرأة، وأيضا بعدم الثقة في أخلاق الرجال، وبالخوف على النساء بالشوارع والطرقات، فسنستنتج أنه من أهم معايير التخلف وسوء الأخلاق..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق