الخميس، 1 يناير 2015

المسيح: رسول من الجحيم (5)




الثمرة الكبرى: الكنيسة

- ((من بين جميع الطغيان الذي يصيب البشرية، فالطغيان باسم الدين هو الأسوأ؛ كل أنواع الطغيان الأخرى محدودة بالعالم الذي نعيش فيه، و لكن هذه تأخذ خطوة أبعد و تسعى لملاحقتنا عبر الأبدية))- المفكر و المخترع البريطاني توماس بين.



- ((الإيمان الأعمى بالسلطة، هو العدو الأكبر للحقيقة))- الفيزيائي الألماني ألبرت أينشتاين.



- ((المسيح ليس هو الله، و ليس مخلص العالم، و إنما رجل عادي، رجل خاطئ، و معبود بغيض؛ كل من يعبده هم وثنيون كريهون؛ و المسيح لم يقم مرة أخرى من الموت، كما أنه لم يصعد إلى السماء)) – ماثيو هاموند، الذي تم قتله حرقا على يد الكنيسة الإنغليزية، في 20 مايو 1579.


الكلمة اليونانية للكنيسة هي "إكليسيا"، و معناها الأصلي "التجمّع"؛ و في الكتاب المقدس تستخدم للإشارة إلى جماعة المؤمنين بالمسيح؛ و سرعان ما ستأخذ الكلمة معنى التنظيم الذي يقوم بتمثيل هذا التجمع الديني، بما يحتويه من موظفين و مناصب كهنوتية محددة.



و الكتاب المقدس ينص بوضوح على أن المسيح بنفسه هو من أسس الكنيسة و منحها سلطانها المقدسة على العالم.

فعلى الرغم من إعلانه مرة أن مملكته ليست من العالم (يوحنا 18-36)، فقد أعلن- في تناقض آخر- أنه يمتلك السلطات في السماء و على الأرض (دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ..) متى 28-18.

ثم إنه يؤكد وجوده دوما مع التلاميذ، حين يوصيهم بإكمال مسيرته، و تعليم و تعميد جميع الأمم، و يؤكد أنهم معهم فيما يفعلون (.. فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ. آمِينَ) متى 28-19،20.

و مع إرسال تلاميذه يخبرهم أن من يقبل رسل المسيح فهو يقبل المسيح، و من يقبل المسيح يقبل من أرسله المسيح: الله (الَّذِي يَقْبَلُ مَنْ أُرْسِلُهُ يَقْبَلُنِي وَالَّذِي يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي) يوحنا 13-20 مما يعد أمرا مباشرا يحث على طاعة رسل المسيح، كونها من طاعة الرب.

و هو ينقل سلطانه المقدس هذا إلى تلميذه بطرس- كصخرة الكنيسة و أول باباواتها حسب ما سيتقرر لاحقا – حيث يقول له (أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ) متى 16- 18،19.

ذلك النص شديد الأهمية في التأسيس للكنيسة؛ فحسب كلام المسيح نجد أن سلطة الكنيسة شاملة على الأرض و أبدية لا تقوى عليها الجحيم، و معها المسيح نفسه إلى الأبد؛ و هي روح الحق الذي يرشد المؤمنين، لأنه لا يتكلم من نفسه بل من الله (يوحنا 16-12،15) – فهرم السلطة يبدأ بالله، ثم المسيح، ثم الرسل، ثم الكنيسة برجالها، في سلسلة متصلة مقدسة.

و في موضع آخر يؤكد المسيح سلطة الكنيسة على الحكم بين الناس- أما من يعصاها فهو كافر (.. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فَخُذْ مَعَكَ أَيْضاً وَاحِداً أَوِ اثْنَيْنِ لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّارِ..) متى 18-15،17 ؛ ثم يكمل مؤكدا مرة أخرى سلطة الكنيسة و جماعتها الذين هم أتباعه (..اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي السَّمَاءِ وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاءِ) متى 18-18.

و يخبرنا الكتاب أنه بعد موت المسيح استمر الرسل في الإشراف على الطقوس التي أمر بها (..وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ وَكَسْرِ الْخُبْزِ وَالصَّلَوَاتِ) أعمال الرسل 2-42.

و المسيح لا يعد أتباعه بأنه معهم فقط، و إنما في مناسبة أخرى يدمج نفسه معهم، حين يظهر لبولس و يعاتبه سائلا "لماذا تضطهدني؟ (أعمال الرسل 9-4،5 و 22-7،8 و 26-14،15) – فحسب تفسير تلك النصوص نجد أن تجمع المؤمنين (الكنيسة) هي ذاتها المسيح.

و هذا ما فهمه بولس؛ حيث يقول عن المسيح (..وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ) كولوسي 1-18 (و نفس المعنى في أفسس 5-23).

ثم إن بولس يذكرحب المسيح للكنيسة و التصاقه بها كالتصاق الرجل بزوجته فهما جسد واحد، و يشير إلى تضحيته من أجلها، و يؤكد أنها- الكنيسة- مقدسة طاهرة بلا أي عيب، و أن الله يحبها كونها جسده شخصيا و هو رأسها (أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ .. فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ. لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ) أفسس 5- 25،27 و 29,30.

و في موضع آخر يأمر بوجود أساقفة لرعاية كنيسة الله التي ضحى من أجلها (.. اِحْتَرِزُوا اذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً لِتَرْعُوا كَنِيسَةَ اللهِ الَّتِي اقْتَنَاهَا بِدَمِهِ) أعمال الرسل 20-28.

و يا حبذا لو توافر مبشرين و رعاة و معلمين للخدمة من أجل جسد المسيح\الكنيسة (وَهُوَ أَعْطَى الْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ،لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ) أفسس 4-11،12.

و يذكر بولس أيضا كلاما حول وجود (..سُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ) كورنثوس الثانية 5-20، و من المعروف للكافة دور السفير فيما يخص تمثيل من أرسله و ممارسة سلطاته بإسمه و بتفويض منه.

ولا ننسى دعوة الكتاب- على لسان بولس- إلى طاعة السلاطين و الأباطرة و الملوك و عدم مقاومة السلطات و تأدية الجزية (رومية 13-1،3 و 5 و 7) - و إلى جوار ذلك يأتي الأمر بطاعة القادة الدينيين و الخضوع  لهم (أَطِيعُوا مُرْشِدِيكُمْ وَاخْضَعُوا..) العبرانيين 13-17.

و لنتذكر أيضا استخدام بولس لسلطته الأرضية حين سلم أناس "للشيطان لهلاك الجسد" أو "للتأديب" بتهمة الزنا أو التجديف (كورنثوس الأولى 5-5 و تمويثاوس الأولى 1-20، و استخدام بطرس لسلطة مشابهة في قصته مع المرحومين حنانيا و زوجته (أعمال الرسل 5- 1،11).

و لا تكمن أهمية الكنيسة فقط في أداء الطقوس و ممارسة السلطات الأرضية المقدسة - المنقولة من الله إلى المسيح إلى بطرس و خلفاؤه- و إنما وجود الكنيسة و رجالها حيوي للغاية من أجل فهم نصوص الكتاب المقدس نفسه.

نجد هذا في قصة فيلبس المبشر في العهد الجديد، حيث أوحى له الروح أو الملاك أن يذهب من أورشليم إلى غزة؛ و في طريقه وجد عبدا حبشيا يقرأ من الكتاب المقدس،فدار بينهما حوارا قصير لكنه ذو مغزى (.. فَبَادَرَ إِلَيْهِ فِيلُبُّسُ وَسَمِعَهُ يَقْرَأُ النَّبِيَّ إِشَعْيَاءَ فَسَأَلَهُ: "أَلَعَلَّكَ تَفْهَمُ مَا أَنْتَ تَقْرَأُ؟" فَأَجَابَ: "كَيْفَ يُمْكِنُنِي إِنْ لَمْ يُرْشِدْنِي أَحَدٌ؟". وَطَلَبَ إِلَى فِيلُبُّسَ أَنْ يَصْعَدَ وَيَجْلِسَ مَعَهُ) أعمال الرسل 8- 30،31.

الدرس المستفاد: الإنسان العادي- الجاهل- لا يستطيع فهم الكتاب بمفرده، و لابد من سلطة دينية إرشادية- واسطة- تفسر له كلام الرب و المراد منه.

و حين نتذكر طريقة كلام المسيح الغامضة و المراوغة و المتناقضة حيث يقول الشيء و عكسه، حينئذ تتضاعف أهمية رجال الكنيسة الموجودين لتقرير المعنى الحقيقي لألغاز الرب المتجسد – مما يمنح أولئك الكهنة احتكارا كاملا على الدنيا و الدين.

بالإضافة لهذا، اُستخدمت نصوص أخرى لترسيخ سلطة الكنيسة و تعيين الكهنة و القساوسة؛ مثل قصة وكيل الظلم الذي مدحه يسوع كما مر بنا، و مثل قول المسيح (.. فَإِنَّ الْحَصَادَ كَثِيرٌ وَلَكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ) لوقا 10-2، و غيرها من النصوص التي تؤكد أن وجود الكنيسة هو ضمن التعاليم المباشرة للمسيح، كما أن دور الكنيسة و سلطانها هو دور و سلطان أصيل يستمد شرعيته من الكتاب المقدس.

المسيحيون الأوائل
- ((المتحولون إلى المسيحية كانوا مخدوعين، و تقبلوا عقيدة ضارة لحياة البشر... و كما أن دجالي الطوائف استغلوا جهل المغفل ليقودوه  كيفما يشاؤون، كذلك فعل المعلمون المسيحيون؛ هؤلاء لا يريدون إعطاء أو تلقي أسبابا تبرر ما يعتقدون؛ و تعبيراتهم المفضلة هي "لا تسأل، و لكن آمن!"، و "إيمانك سوف ينقذك!"؛ و يقولون أن "حكمة العالم هي شر"))سيلسوس.

المصادر التاريخية التي تتحدث عن الجماعة المسيحية الأولى في القرن الأول و الثاني قليلة جدا-  و ربما ما يُعرف عنهم اليوم منحصر فيما ورد في العهد الجديد، خاصة سفر أعمال الرسل، بالإضافة إلى شذرات قليلة في أعمال أخرى يبدو منها أنهم مجموعة أخرى من اليهود يتبعون رجلا اسمه يسوع لكنهم لا يختلفون بشكل جذري عن جماعات يهودية أخرى كانت موجودة في زمانهم- حيث كان أتباع يسوع كذلك يعظمون السبت و يتبعون الشريعة اليهودية..إلخ.

أما في بعض المصادر الأخرى فنجد بعض الأوصاف المشينة التي شاعت عن المسيحيين الأوائل، بأنهم جماعة غامضة منغلقة تنغمس في طقوس أكل لحم البشر، بالإضافة إلى ممارسات جنسية منحلة (شيوعية جنسية و تبادل زوجات و زنا محارم) تجري في تجمعاتهم المسائية – نجد هذه الإتهامات مذكورة في كتابات المؤرخين و الآباء المسيحيين مثل أثيناغورس الأثيني و ثيوفيلوس الأنطاكي و أوريغانوس و جاستين الشهيد و إكليمدنس السكندري و يوسابيوس و غيرهم.

و كما رأينا، فمن كلام رسل المسيح الأوائل يبدو واضحا وجود خلافات عقائدية حادة بين "المسيحيين" منذ اللحظة الأولى؛ نجد هذا في هجوم بولس الحاد على المخالفين، و في حديثه عن البدع (كورنثوس الأولى 11-19) و الرسل الكذبة (كورنثوس الثانية 11-13) ؛ بطرس كذلك يتكلم عن نفس الشيء (..مُعَلِّمُونَ كَذَبَةٌ، الَّذِينَ يَدُسُّونَ بِدَعَ هَلاَكٍ)  بطرس الثانية 2-1؛ و يوحنا أيضا يحذر من السلام على المخالفين أو استقبالهم في البيت (يوحنا الثانية 1-10،11)..إلخ.

و لاحقا سنرى طوائف مسيحيين متعارضة مثل الناصريين أو الإيبيونيين (الذين يتبعون المسيح و يرفضون بولس و تعاليمه بصفته رسولا كذابا)، و مثل الماركونيين الذين يرون أن هناك إلهين، فإله العهد القديم ليس هو إله العهد الجديد، و مثل البنويين الذين يقولون أن المسيح هو ابن الله بالتبني، و مثل الآريين الذين سيقولون أن المسيح أقل من إله، و مثل النساطرة الذين سيرفضون القول بأن مريم أم الله، بالإضافة إلى عشرات و ربما مئات المعتقدات المسيحية المتنوعة المختلفة حول طبيعة الله و طبيعة يسوع و مريم و الأناجيل و الطقوس..إلخ- تلك المذاهب التي سيتم تسميتها "هرطقات" كونها تخالف المذهب الصحيح "الكاثوليكي\العالمي" الذي سيقدر له أن يسود في النهاية – و سنجد سيولا من الهجوم العنيف و الدائم من آباء الكنيسة - إيرينيئوس و تريليان و جيروم..إلخ - ضد أولئك المهرطقين.

و حين لا تكون القوة المسيحية اللازمة متوفرة لقمع الهراطقة، كما لم تتوفر للمسيح، فسنرى اللعن و الشتم و التكفير و التهديد بالجحيم على الطريقة اليسوعية ؛ أما حين تتوفر القوة الكافية فسنرى ما هو أسوأ.

السلطة الدينية
و مع مرور العقود، بدا واضحا للمسيحين أن المسيح الرب لن يعود قريبا هابطا من بين السحاب، فبدأ التعامل مع الواقع- و انتهازه- بتشكيل تنظيم كنسي موسع على النسق اليهودي، ينشر العقيدة و الفكر المسيحي و يدير المجتمع و يقوم على الطقوس الدينية و يجمع النذور و القرابين من المؤمنين، مؤيد بالطاعة الإلهية المطلقة المستندة إلى النصوص المقدسة.

هكذا سنجد أنه في أواخر القرن الأول و بدايات القرن الثاني، فإن القديس إغناطيوس أسقف أنطاكية و أحد أبرز آباء الكنيسة و يقال أنه تلميذ بطرس و يوحنا، سيكتب بدوره عدة رسائل إلى أهل إفسس و رومية و سميرنا و غيرها، مؤكدا على أنه يجب التعامل مع الأسقف و كأنه الله نفسه؛ فعلاقة الأسقف بالرعايا هي تماما مثل علاقة الله بالرسل، حيث واجبهم الطاعة المطلقة له - و أكد أن من يمجّد الأسقف يمجّده الله، و من يفعل شيئا دون معرفة الأسقف فإنما يخدم الشيطان.

و في رسالة من البابا الرابع كليمنت الأول إلى الكورينثيين، نقرأ حديثه عن الإيمان و المحبة و التواضع..إلخ، مع تأكيده الصارم بأن الله الجبار يمنح سلطاته الدنيوية إلى مندوبيه : الأساقفة و القساوسة و الشمامسة؛ محذرا بأن من يعصي تلك السلطة فعقوبته ستكون القتل.

و في النصف الثاني من القرن الثاني عُقد أول مجمع كنسي يدين فكر المذاهب المخالفة\الهراطقة (المونتانيين).

و كأي جماعة دينية متطرفة، سينبذ المسيحيون قيم التعددية الثقافية و يعلنون أنهم وحدهم المتحدثون بإسم الله، و ينسبون كل مصيبة تحدث للدولة على أنها عقاب إلهي على الذنوب (خاصة الجنسية) و تمهيد لدمار العالم الفاسد.

ففي منتصف القرن الثالث قام أسقف قرطاج، سان سيبريان، بتمجيد الطاعون المنتشر آنذاك و القول بأن له إيجابية هامة، و هي أنه يجعل المسيحيين الشباب يموتون مبكرا و هم مازالوا في حالة عذرية!

و منذ البداية نجد النزاعات بين المؤمنين و المنافسات بين القادة الدينيين ، ليس فقط فيما يخص ظهور العشرات من الأناجيل المختلفة التي ستظهر في كل مكان، تحكي قصصا متضاربة عن الله و العقيدة و التراث و عن حياة المسيح و تعاليمه و طبيعته كإله أو بشر أو مزيج بين الإثنين..إلخ  ممثلة مذاهب مسيحية شديدة التنوع ، و إنما سنجد الخلاف أيضا فيما يخص الأحكام و التنظيم و الديانة أحيانا بداخل المجتمعات المسيحية ذاتها.

ففي القرن الثاني أعلن البابا الروماني فيكتور حرمان (تكفير) الكنائس الشرقية بسبب خلافات حول عيد الفصح ؛ و سيحرم أيضا ثيودوتوس البيزنطي لادعاءه أن المسيح هو مجرد بشر و ابن الله بالتبني و ليس بالجسد-  و سيقوم ثيودوتوس هذا بإنشاء كنيسة خاصة به في روما للترويج لمذهبه.

أما القديس وواحد من آباء الكنيسة، إيرينئوس, الأسقف في بلاد الغال، فسيتوجه باللوم إلى البابا فيكتور على سلوكه المتعجرف تجاه الأساقفة ؛ و بعد موت فيكتور سيحل محله كبابا رجل دين آخر هو زيفرينوس؛ و الذي في زمنه ستظهر مجموعات معارضة عديدة، من الكهنة و أصحاب الرؤى المسيحية المختلفة مثل مونتانوس و سيبيليوس.

هذا كله سيثير حفيظة الكاهن هيبوليتوس (تلميذ إيرينئوس) الذي سيصف زيفرينوس بالجهل مؤكدا أن الكنيسة في عصره صارت مهلهلة و فاسدة؛ و حين سيموت زيفرينوس و يتم تعيين لص و سجين سابق- كاليستوس الأول- كخليفة له ، سيعلن هيبوليتوس تمرده زاعما أحقيته هو بالباباوية، و سيقود الإثنان جماعات مسيحية متصارعة ضد بعضهما البعض – و في النهاية سيخسر هيبوليتوس المعركة، مما سيجعله أول "بابا مضاد" أي موازي - تلك العادة التي ستصبح سمة مكررة كثيرا في التاريخ المسيحي.

الإضطهاد المسيحي؟
في تلك الأثناء كانت المسيحية تنتشر في  أماكن متفرقة في ثلاث قارات؛ و في أوقات متفرقة سيتم مزجها بشكل منهجي بالعقائد الوثنية المحلية في أماكن عديدة، مما سيساهم أكثر في تغلغلها وسط فئات عديدة.

و المعروف أن المسيحيين آنذاك تعرضوا إلى اضطهاد هائل من الرومان- فمن منا لا يعرف تلك الصورة الشهيرة عن المسيحي الذي يتم إلقاءه إلى أسد مفترس، وسط التهليلات الفرحة من الوثنيين؟

أولى مظاهر الإضطهاد كانت على يد الإمبراطور نيرون، و الذي – كما كتب المؤرخ الروماني تاسيتوس- اتهم المسيحيين بالتسبب في حريق روما الشهير أواخر القرن الأول ؛ أما الرأي الشائع فهو أن نيرون نفسه هو من تسبب في الحريق و اتهم المسيحيين ككبش فداء.

يظل السبب الفعلي وراء حريق روما غير معروف؛ و لكن أكثر الباحثين اليوم يرون أنه ليس نيرون، خاصة و الرجل لم يكن لديه مصلحة في ذلك كما أنه تاريخيا يكن بالقسوة و الجنون اللتين شاعا عنه ؛ على الجانب الآخر هناك من يرى أن التهمة لم تكن بعيدة بالفعل عن المسيحيين كجماعة متطرفة كارهة لروما الوثنية و مستعدة للتعجيل بدمار العالم.

يدعم ذلك الرأي الأخير ما قاله تاسيتوس في كتابه و الذي تضمن وصفا لأتباع المسيح أنهم كانوا "..مكروهين بالفعل من أجل جرائمهم"؛ و أن التهمة التي تم إدانتهم بها من قبل نيرون لم تكن من أجل الحريق المتعمد بقدر ما كانت "..كراهيتهم للعرق الإنساني بالكامل" ؛ على الجانب الآخر هناك من شكك في نص تاسيتوس.

أما حجم الإضطهاد المستمر و تأثيره حتى القرن الرابع، فمثار جدل بين المؤرخين و الباحثين.

الأدلة قليلة على أن الأباطرة الرومان في القرن الأول و الثاني كانوا على علم بوجود المسيحيين أصلا ؛ و لكن بشكل عام فالرومان الوثنيون لم يكونوا متحمسين كثيرا مع أو ضد أي دين، بل كان اهتمامهم الأول هو الحفاظ على الإستقرار السياسي لمناطق نفوذهم، فما الداعي لاضطهاد تلك الجماعة التي لا تسبب أية مشاكل؟!

هذا و غيره جعل البعض يرى أن الأسقف و أبو التأريخ الكنسي يوسابيوس، الذي عاش في القرن الرابع، و الذي كتاباته هي المرجع الرئيسي لاضطهادات المسيحيين، قد بالغ كثيرا في ادعاءاته عن حجم ذلك الإضطهاد ، بهدف البروباغاندا الدينية.

أما اللاهوتي و أحد الآباء أوريغانوس في كتابه "ضد سيلسوس" في القرن الثالث، فسيؤكد أن "قلة  قليلة" من المسيحيين هم من قاوموا في سبيل دينهم، و أن من ماتوا من أجل المسيحية "يمكن تعدادهم بسهولة"  ؛ و سيقوم المؤرخ إدوارد غيبون في كتابه "تاريخ أفول و سقوط الحضارة الرومانية" بتتبع كتابات يوسابيوس ليعدّ نحو ألف و خمسمائة شهيد مسيحي.

و من شبه المؤكد أنه لم تكن هناك حملات منظمة من الأباطرة الرومان موجهة ضد المسيحيين قبل ديكيوس في القرن الثالث ؛ في منتصف القرن الثالث مرت الإمبرطورية بأزمة واسعة نتيجة الحروب و الكساد الإقتصادي و انتشار وباء الجدري، مما سيؤدي في النهاية إلى انقسامها إلى ثلاثة ممالك متنازعة ؛ و في محاولة من ديكيوس لفرض هيبة الدولة، سيقوم، في تخلي عن ميراث التعايش الديني التقليدي، بإصدار مرسوم يفرض على جميع المواطنين تقديم أضحيات إلى الآلهة الرومانية – و حين سترفض بعض الطوائف الإنصياع، و منهم المسيحيون، سيؤدي ذلك إلى تعرض بعضهم إلى الإعتقال و أحيانا القتل.

و لاحقا ستندلع الحروب الأهلية بين ممالك رومانية مختلفة ؛ و في أوائل القرن الرابع سيقرر إمبراطور شاب دعم طموحه في السيطرة الإقليمية عن طريق استمالة جماعة المسيحيين، المنظمة رغم قلة عددها، و صاحبة التأثير النسبي في الشرق حيث الثقل الأكبر للإمبراطورية ؛ و هنا سيصدر- قسطنطين- "مرسوم ميلان" و الذي سيمنح المسيحيين حرية العبادة و يعيد إليهم حقوقهم المسلوبة.   

هذا الإعلان شديد الأهمية لأنه سيُحدث المصالحة بين الكنيسة المسيحية والدولة الرومانية ؛ و بعدها بقليل سيبدأ عصر الحكم المسيحي العالمي - و الذي ستكون أعداد ضحاياه من الإضطهاد الديني للمخالفين أضعاف أضعاف ما يمكننا تخيل حدوثه على أيدي الوثنيين، كما سنرى.





تحالف الدين و الدولة

- ((كان لديه أب زوجة فقام بشنقه ؛ كان لديه أخ زوجته فأمر بخنقه؛ كان لديه ابن أخ في نحو الثانية عشرة فأمر بقطع حنجرته ؛ كان لديه ابنا أكبر فقطع رأسه؛ كان لديه زوجة فأمر بإغراقها في المغطس - مؤلف من بلاد الغال كتب أنه كان يحب الحصول على منزل رائق)) – الكاتب و المؤرخ و الفيلسوف الفرنسي فولتير، في قاموسه الفلسفي، متحدثا عن الإمبراطور قسطنطين.



يحكي مؤرخ الكنيسة يوسابيوس عن رؤيا روحانية أخرى رآها قسطنطين في إحدى معاركه ، حيث شاهد الشمس في السماء مرسوم عليها صليبا و مكتوبا عليها "بتلك العلامة سوف تَقهر (أو تغزو)" ؛ على الجانب الآخر هناك جدل بين الباحثين الحاليين إن كان الإمبراطور قد تحول إلى المسيحية فعلا أم لا.

على كل حال فمن المؤكد أن سياساته كانت جيدة تجاه المسيحيين و منحازة لهم؛ فعبر سنوات حكمه، سيقوم ببسط حمايته عليهم و سيحرص على دعم الكنيسة ماليا، و بناء الكاتدرائيات، و منح المزايا للكهنة كالإعفاء من الضرائب، و ترقية المسيحيين إلى المناصب الكبيرة ؛ و على ما يبدو فإن هذه السياسة الراعية لم تكن قاصرة - خاصة في البداية- على المسيحيين وحدهم، بل تم توجيهها إلى طوائف أخرى وثنية.

لاحقا أصدر قسطنطين تعليماته بأن يتم توحيد المسيحيين و غير المسيحيين بتقديس يوم الأحد (يوم الشمس المقدسة) ؛ و عبر حياته سيظل تقديس الشمس هو العلامة المميزة على كل ما يخصه من آثار كالعملات و المباني.

و مع الوقت ستتطور سياسته تدريجيا لصالح المسيحيين و ضد أعداءهم ؛ فقد تم إعفاء موظفي الكنيسة من الضرائب و الجندية ؛ و لاحقا سيتم إعفاء أسرهم أيضا؛ كما سيُعفون من التقديم إلى المحاكم الرومانية العلمانية؛ و أنشئت محاكم موازية مسيحية يمكن تحويل القضايا لها، بحيث يكون للأسقف سلطة قانونية ملزمة؛ كما سيمنح قسطنطين أول قصر بابوي إلى ملتيادس -  تلك المزايا لابد و أنها ستجلب الكثيرين من الطامعين إلى هذه الديانة الملكية المرضي عنها.

و كبداية اهتم الإمبراطور بـ"تطهير القدس" من كل ما يزعج المسيحيين، ثم اتجه إلى غيرها فهدم العديد من المعابد الوثنية في الشام و مصر و غيرها، مع تدمير تماثيلها و نهب أملاكها و إعدام كهنتها ، و تقييد بناء أي معابد أو تماثيل أو ممارسة الشعائر و الإحتفالات أو تقديم الأضاحي لصالح الآلهة الأخرى ؛ و لاحقا ستصدر عشرات القوانين الرومانية ضد الوثنية، و سيتم القضاء على عبادات زيوس و أفروديت و أرتيميس، إلى آخر الآلهة "الوثنية" الأخرى.

تم أيضا منع اليهود من القيام بأي تبشير بدينهم؛ و لاحقا بعد مجمع نيقية المسكوني سيتم وصم اليهود بأنهم "قتلة المسيح" مما سيعرضهم إلى قمع لا مثيل له عبر القرون القادمة.

ثم سيأتي مجمع نيقية، و هو أول مجمع عالمي لكهنة و أساقفة المسيحية، بهدف حسم طبيعة المسيح، و الذي انتهى بالقول أن الإبن مساوي في الأزلية و القداسة للرب ؛ أما أتباع المذهب المسيحي المخالف- الآريين- فسيُعتبرون "هراطقة" و ستصدر قرارات بمطاردة و معاقبة كل من يدعمهم أو يخفي كتابات لآريوس؛ و بعد ذلك سيتم وصف الآريين بأنهم "نسل الشيطان".

و لاحقا سيتم تحديد العقيدة و الإيمان المسيحي في ما يسمى المجمعات المسكونية على غرار مجمع نيقية؛ تلك المجمعات التي ستُحسم أحيانا بالتصويت و غالبا بالقوة و استخدام البلطجة و التهديدات لفرض آراء الطرف الأقوى- و هكذا ستتشكل العقيدة المسيحية و سيُنقّح الكتاب المقدس المسيحي تدريجيا عبر القرون.

و في أواخر عهد قسطنطين لم يتورع عن منع الوثنيين و الهراطقة من معظم حقوقهم الدينية و الإجتماعية، مع مصادرة أملاكهم و منحها للكنيسة ؛ و الأرجح أن ذلك الشخص وحده، قد قتل من المسيحيين من المذاهب المخالفة- الهراطقة- أضعاف ما قتل الوثنيين من الوثنيين في سنوات الإضطهاد.

هذا السفاح الذي بلغت به الوحشية أن قتل أخو زوجته و ابنه الطفل، كما قتل زوجته و قتل ابنه هو نفسه ، صار يحمل لقب "قديس" عند العديد من الكنائس- خاصة الشرقية التي تحتفل بذكراه "المقدسة" كل عام.

و من بعد قسطنطين و تحت حكم الأباطرة المسيحيين ،سيغدو معاداة العقل و العلم و قيم الإنسانية و التعايش و اضطهاد غير المسيحيين في أنحاء الإمبراطورية هو السمة السائدة ، و ستغدو أحكام الإعدام ضد الوثنيين و مطاردتهم و نهب ممتلكاتهم و هدم معابدهم و حرق كتبهم من الممارسات الشائعة في آسيا و أفريقيا و أوروبا ؛ و ستتوالى الثورات الإحتجاجية من الكثيرين، مما سيستدعي المزيد و المزيد من عمليات البطش؛ الأمر الذي سيمثل البداية لواحدة من أسوأ المراحل في تاريخ الإنسانية.

عصور الظلام
- ((عبر نحو خمسة عشر قرنا كانت التأسيسات التشريعية للمسيحية تحت الإختبار؛ فماذا كانت ثمارها؟ بشكل عام و في كل المناطق، الكبرياء و الخمول للكهنة؛ الجهل و الخنوع للعوام؛ و في الإثنين الخرافة و التعصب و الإضطهاد)) – جيمس ماديسون، الرئيس الرابع للولايات المتحدة الأمريكية، و المعروف بإسم "أبو الدستور".

- ((لم يحدث أبدا في أية مناسبة، أن كانت الكنائس حامية لحريات الناس)) - جيمس ماديسون.

- ((المسيحية هي أكثر النظم التي رآها الإنسان انحرافا)) توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية.

- ((كنا لنكون متقدمين بألف و خمسمائة سنة لو لم تكن الكنيسة قد جرّت العلم إلى الخلف، و قتلت أفضل عقولنا حرقا)) كاثرين فاهرنجر، الناشطة الأمريكية في مجال فصل الدين عن مؤسسات الدولة.

- ((نظرا لعدد الخطايا التي تم ارتكابها عبر مدى زمني عشرين قرنا، فلا مفر من أن تكون الإشارة لها مختصرة))- المطران بييرو ماريني، موظف رسمي لدى الفاتيكان، متحدثا عن جرائم الكنيسة الكاثوليكية.

- ((الدين المسيحي لديه أسوأ سجل على الإطلاق)) – المؤرخ روبرت هيوز.

- ((أكثر المنظمات شرا في العالم هي الكنيسة الرومانية الكاثوليكية)) – المؤرخ و الروائي الإنغليزي هـ.جي. ويلز.

في أواخر القرن الرابع يأخذ الإمبراطور ثيوديسيوس خطوة أبعد في سياسة قسطنطين، فيعلن المسيحية كديانة رسمية للدولة الرومانية مما يوجب على الجميع اتباعها ؛ و سيصاحب ذلك منع التقويمات و التأريخات الوثنية، و منع عمليات البناء و التجمعات و الممارسات الوثنية، و ستجري المزيد من حملات التكفير و اضطهاد المذاهب المسيحية المخالفة (الهراطقة) في مصر و سوريا و اليونان و آسيا الصغرى و أوروبا – عن طريق حرق كتبهم و إعدام كهنتهم و أساقفتهم، و مصادرة أملاكهم و تسليمها لكهنة التثليث؛ و سينشئ ثيوديسيوس نظاما خاصا من الجواسيس للإبلاغ عن الكفار و تسليمهم للدولة.

هذا الحلف بين الدولة الرومانية و الكهنوت المسيحي سيكون بداية عصور الظلام الدينية في أوروبا و التي ستستمر لأكثر من ألف سنة ؛ سيتولى الأساقفة تحديد التعاليم و العقيدة، و سيتولى الأباطرة فرضها على الأرض بالقوة ؛ سيتم الإستعانة بجنود الدولة أحيانا، و بجموع الغوغاء المؤمنين أحيانا - بل و سيتم استدعاء الرهبان وقت اللزوم للمساهمة في فرض نفوذ الرب.

في الغرب تولى الباباوات دفة قمع الكفار و الهراطقة و محاربة كل من يخالف المذهب الرسمي ؛ و في الشرق أيضا ستتولى الكنيسة الأرثوذوكسية مطارة و قتل أعدادا هائلة من الهراطقة من أصحاب المذاهب الأخرى؛ سيتضمن ذلك هدم أضرحتهم و تمزيق صورهم و منعهم من ممارسة شعائرهم و حرق كتبهم و تجريم من يحتفظ بأي نسخة منها؛ و ستصدر أحكاما بالقتل على كل من يعبد إلها غير إله المسيحية، أو يمارس طقوسا مخالفة للمسيحية- حتى لو بشكل فردي.

القديس و أسقف ميلان في القرن الرابع أمبروز سيصف المسيح بأنه "قائد جيوش"؛ و سيكتب أنه "لا يمكن أن يوجد في هذا العالم ما هو أكثر تمجيدا من الكهنة أو أكثر تساميا من الأساقفة".

في أواخر القرن الرابع أيضا أشرف بطريرك الأسكندرية ثيوفيلوس على تدمير العديد من معابد الوثنيين؛ و منها معبد سيرابيس و الذي يقال أنه كان واحدا من أضخم المعابد في العالم آنذاك، و هو جزء من مكتبة الأسكندرية التي كانت تحوي سبعمائة ألف مخطوطة- و لاحقا سيتم بناء كنيسة على أنقاض المعبد.

في أوائل القرن الخامس، سيظهر ابن أخو ثيوفيلوس، و هو كيرلس الأول بابا الأسكندرية و الملفب بـ"عامود الدين"؛ و الذي وصل إلى منصبه ليس بالتصويت و إنما بالبلطجة بعد ثلاثة أيام من المعارك المتواصلة في الشوارع انتصر فيها أتباعه على خصم منافس له ؛ و بعد توليه السلطة لجأ أيضا إلى العنف كثيرا بمساعدة قوات خاصة منها جماعات من الرهبان (و الذين كانوا أشبه بعصابة من المجرمي قطاع الطرق)؛ فشن العديد من الغارات على الوثنيين و اليهود و المسيحيين من الطوائف الأخرى، مستخدما القتل و الطرد و الإستيلاء على الأملاك بإسم الرب – و هو ضالع جزئيا في مقتل الفيلسوفة و المحاضرة و عالمة الفلك والرياضيات هيباتيا على يد جماعة من المسيحيين الورعين و الغاضبين بداخل إحدى الكنائس؛ قبل أن يحملوا جسدها المقطع أجزاءا إلى الخارج و يقومون بإحراقه.

هذه العمليات العنيفة من القتل و الهدم و السرقة ستتكرر كثيرا؛ و لن تكون بالضرورة نتيجة أوامر سياسية مباشرة - بل كثيرا ما تكون مجرد اندفاعات غوغائية من جموع مسيحية هائجة و مدفوعة بالخطب الحماسية للأساقفة و الباباوات المتعصبين.

في أوائل القرن الخامس سيكتب القديس و أحد الآباء أوغسطينوس عن "داء الفضول" منتقدا الرغبة بعض في فهم أسرار الطبيعة و كيفية عملها، و سيؤكد أنه طالما أن الله تكلم معنا فلم يعد يتوجب علينا التفكير.

سيكتب أيضا في إحدى رسائله أن هناك نوعان من الإضطهاد: اضطهاد ظالم و هو الذي يمارسه الكفار ضد كنيسة المسيحي، و "اضطهاد عادل" و هو ما تمارسه كنيسة المسيح ضد الكفار؛ ذلك لأنها تمارس الإضطهاد بروح المحبة(!) لهذا فهو يرى أن "الإمبراطور من واجبه قمع المذاهب المهرطقة". 

و سيقوم أوغسطينوس أيضا في كتابه "مدينة الله"و غيره بإقرار مبدأ العبودية، و سيقول بأن اليهود ملعونين من الكنيسة و من الرب؛ كما سيقوم بإعطاء شرعية لمبدأ الحروب الدينية المقدسة، و أن الحرب المعتدية قد تكون عادلة.

و يكتب أيضا مؤيدا مبدأ استخدام القوة لإجبار الناس على الدخول في المسيحية؛ معتمدا في ذلك على نص كتابي من قصة رمزية يحكيها المسيح عن رجل ثري يقيم وليمة ضخمة و يأمر عبده بأن يجبر الناس على حضور تلك الوليمة (فَقَالَ السَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: اخْرُجْ إِلَى الطُّرُقِ وَالسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي) لوقا 14-23 ؛ و هكذا سيتحول إجبار الثري للناس على دخول بيته إلى تصريح شرعي بإجبار الناس على دخول البيت المسيحي!

أما الإمبراطور ثيوديسيوس الثاني، فقد أعلن تدمير المزيد من المعابد الوثنية؛ جاعلا القتل عقوبة كل من يمارس طقسا وثنيا؛ و لاحقا ستصدر عشرات القوانين ضد المذاهب الهرطقية بأنواعها، تحرم أتباعها من جميع الحقوق المدنية أو القضائية، و تستبعدهم من شتى مناحي الحياة.

و جاء الدور على اليهود؛ ففي القرن الخامس نسج يوحنا الملقب بـ "ذهبي الفم" مجموعة من الخطب الحماسية الكارهة و المعادية لليهود، مستمدة خاصة من أناجيل متى و يوحنا، واصفا إياهم بأن الشيطان يسكن في أرواحهم، و مدشنا بها عصرا جديدا من قمع اليهود ؛ و البداية كانت بالتضييق على طقوسهم و ممارستهم لشرائعهم مع استعبادهم من جميع الوظائف المهمة المرموقة.

و منذ البداية اشتعلت أحداث العنف ضدهم، فسيقوم أسقف منورقة بإحراق بعض اليهود داخل كنسهم (جمع كنيس) لرفضهم الإجتماع به في يوم السبت؛ و لاحقا ستقوم جماعات من الرهبان المسيحيين بإحراق كنس أخرى و تدمير قرى يهودية كاملة ؛ و في القرن الخامس سيتم منع بناء كنس جديدة.

يوحنا ذهبي الفم أيضا سيدافع عن العبودية مطالبا العبيد بطاعة أسيادهم؛ كما سيرسل بنفسه مجموعات من الرهبان المسلحين لتدمير المعالم الوثنية في فلسطين، و سيقوم بجمع الأموال لشن حملات عديدة لتدمير المعابد اليونانية ؛ و سيأمر الناس مطالبا إياهم أن "يفرغوا عقولهم من المعرفة الدنيوية".

و في مجمع خلقدونية الخامس عشر صدرت أوامر بحرمان (تكفير) جميع المسيحيين الذين يحتفظون بعلاقات جيدة مع أقارب غير مسيحيين- و لعنهم حتى بعد الموت.

و في زمن البابا ليو الأول، منتصف القرن الخامس، تم تضخيم السلطة الباباوية أكثر ؛ و في عهده أيضا بدأ إعدام الهراطقة بشكل منهجي، مع إصدار الإمبراطور لقانون آخر يقضي بحرق كتبهم.

على الجانب الآخر سنجد أن الوندال- المؤمنين بمذهب آريوس- يعلنون الكاثوليكية كهرطقة؛ و سيشنون اضطهادا موازيا ضد أتباع الكنيسة الكاثوليكية، تتضمن مصادرة الأملاك و ممارسة الإعتقال و التعذيب.

ثم جاء مجمع أفسس الثاني- حول طبيعة المسيح أيضا- و الذي تضمن استخدام حرس مسلح لحزم النزاع، و ضُرب كبير أساقفة القسطنطينية ضربا سيفضي إلى الموت؛ بينما سينجح منافسه ديوسقورس السكندري في فرض رأيهه اللاهوتي و بالتالي إدانة معارضيه كهراطقة؛ بعد ذلك سيوافق الإمبراطور على إصدار مرسوم بتحريم المزيد من الجدل حول طبيعة المسيح. 

و في أواخر القرن الخامس سيقوم البابا غاليليوس الأول بإرسال رسالة إلى الإمبراطور أناستاسيوس الأول يقول فيها أن المسيح تكلم ليس عن سيف واحد و إنما سيفين، مشيرا إلى أنهما يرمزان إلى القوة الكهنوتية و القوة الملكية- و أكد على هيمنة الأولى على الثانية.

في القرن السادس سيقوم الإمبرطور المسيحي الورع جستنيان بإغلاق مدرسة أثينا للفلسفة، و التي يعود عمرها إلى ألف عام و أسسها أفلاطون ؛ و ستستمر سياسة محاربة الوثنية و تحويل المعابد إلى كنائس.

جستنيان أيضا منع اليهود من قراءة كتبهم الدينية، و أمر بإجراء تعميد إجباري لجميع المواطنين تحت الدولة مع تحويل بقايا الوثنيين في آسيا الصغرى و اليونان إلى المسيحية ؛ كما شن مذبحة قتل فيها ثلاثين ألف مسيحي من أصحاب المذاهب المخالفة - معتبرا أن القتل ليس خطيئة طالما ليسوا على الإيمان الصحيح، و أنه كممثل لسلطة الله على الأرض فمن حقه معاقبة الوثنيين و المسيحيين على السواء إن هم رفضوا التسليم بما ورد في مجمع خلقدونية.

في القرن السادس ظهر ما يعرف بإسم "طاعون جستنيان" و الذي يعتبر أكبر طاعون في تاريخ البشرية، قاتلا في المتوسط خمسة آلاف إنسان في اليوم، ممتدا من الصين حتى أسبانيا و مدمرا مدنا كاملة، مهلكا نحو ربع البشرية في العالم المعروف آنذاك ؛ و ستعلن الكنيسة أن الطاعون عقوبة من الله بسبب الخطايا المنتشرة و عدم انصياعهم الكامل لسلطة الكنيسة – و  أضافت أن اللجوء إلى الطب و الدواء العلماني يعتبر هرطقة ؛ بعد الطاعون سيزداد نفوذ الكنيسة أكثر.

و في أواخر القرن احتج البابا غريغوري الأول على دراسة علوم اللغة؛ و أدان التعليم لأي أحد ما عدا الكهنة، و منع العوام من قراءة الكتاب المقدس، و أمر بحرق العديد من المكتبات - كما أعترض البابا على تعميد اليهود كي لا يموتوا مؤمنين، مفضلا تركهم على دينهم الخاطئ ليكون مصيرهم إلى الجحيم.

البابا أيضا أقنع العديد من النبلاء بالتخلي عن أملاكهم و عقاراتهم و أراضيهم و منحها للكنيسة، بحجة أن نهاية العالم الوشيكة لن تترك لهم فرصة توريث تلك الأملاك – و النتيجة كانت زيادات هائلة في ثروات الكنيسة.

و في أوائل القرن السابع سيمنع ملك القوط الكاثوليكي اليهود من تولي أية مناصب في الحكومة، مع الحكم بالقتل ضد من يترك المسيحية إلى اليهودية؛ و لاحقا سيقوم بتخيير اليهود بين اعتناق المسيحية أو الطرد من البلاد ؛ أما ملك الفرنكيين فسيفرض التعميد المسيحي على الوثنيين.

و حين يستعيد هراقليوس (هرقل) القدس من أيدي الفرس، سيقوم بمذابح عنيفة ضد اليهود هناك، ثم يأمر بتحول جميع اليهود في أنحاء الإمبراطورية البيزنطية إلى المسيحية- مما سيؤدي إلى هروب الكثير منهم خارج البلاد.

و حين ينتصر الإمبراطور شارلمان على قبائل الساكسون- أوائل القرن الثامن- سيقوم بتخييرهم بين الدخول في المسيحية أو القتل – و مع الرفض تم قتل أربعة آلاف و خمسمائة منهم في نهار واحد، في مذبحة شهيرة.

في أواخر القرن الثامن اشتعل نزاع مسيحي آخر بين من يقدس الصور و الأيقونات و بين من يرفض تلك العبادة، و سيدخل الأباطرة في ذلك الصراع الذي سيتضمن- كالمعتاد- إغلاق الأديرة و حرق الكتب و مصادرة أملاك الفريق المنافس.

و في القرن التاسع تستمر إدانة المذاهب المسيحية غير الرسمية، على يد البابا غريغوري الرابع، الذي سيطالب بقتل الهراطقة.

و في القرن العاشر سيصدر مرسوم كنسي يعتبر أن الإيمان بالسحر هرطقة (لاحقا في القرن الخامس عشر سيصدر مرسوما آخر يقول أن عدم الإيمان بالسحرة هرطقة!).

في القرن الحادي عشر سيحاول الكهنة الحفاظ على عزوبية الآلهة و رجال الكنيسة، فتصدر مراسيم تجعل من زوجات الأساقفة و  أبنائهم- إن وجدوا- عبيدا و ضمن ممتلكات الكنيسة.

سبب محاربة الكنيسة لزواج الكهنة لم يكن دافعه فقط فوبيا الجنس المسيحية ووصايا بولس ، و إنما له سبب آخر أكثر عملية: هو أن تؤول الثروات الضخمة للكهنة بعد موتهم إلى الكنيسة، بدلا من أن يرثها أبناء لهم.

و لذلك لن يكون التعامل مع الإنحرافات الجنسية للكهنة بنفس الصرامة؛ فالبابا أسكندر الثاني سيأمر بمعاقبة رجال الدين المتورطين في الزنا بـ"صفعة على المعصم" ؛ و لاحقا سيتم السماح للكهنة باتخاذ عشيقة مقابل ضريبة يدفعها الكاهن للكنيسة.

و حين يتولى غريغوري السابع سدة الباباوية، سيصدر مرسوما منح نفسه فيه سلطة غير محدودة، و يعلن أن الكل عليه أن يطيع تعريفاته هو للصواب و الخطأ، و أن البابا هو الإنسان الوحيد الحر، و أن الوحيد الذي يحق له مسائلة البابا هو الله، و أن الكنيسة لا تخطئ أبدا؛ و منح نفسه الحق في التدخل في أي موضوع ديني أو دنيوي في أي بلد أوروبي, و معاقبة الحكام غير المطيعين أو حتى عزلهم؛ و أعلن أن من يلمس البابا يتوجب قتله – و اليوم غريغوري السابع هو قديس عند الكنيسة الكاثوليكية.

و في لحظة ما ستظهر ما يسمى "منحة قسطنطين" و هي وثيقة منسوبة للإمبراطور قسطنطين تنص على منحه سلطة التحكم في روما و الجزء الغربي من الإمبراطورية إلى البابا.

تلك الوثيقة، التي تضمنت منح الإمبراطور للكرسي الرسولي لبطرس  بسط سيطرته العالم بأسره، سمحت للكنيسة الرومانية الكاثوليكية بمد نفوذها لقرون طويلة إلى قصور و أراضي و مقاطعات في إيطاليا و أنطاكية و القسطنطينية و الأسكندرية و القدس و غيرها، مما در عائدات مالية و سياسية هائلة؛ و سيتم إعدام من يشكك في صحة تلك المنحة  – ثم لاحقا بعد قرون سيثبت أن الوثيقة مزورة و مكتوبة في أواخر القرن الثامن، أي بعد أكثر من أربعة قرون من زمن قسطنطين.

و ستؤدي النزاعات المتصاعدة إلى ترسيخ الإنقسام الكبير في المسيحية في القرن الحادي عشر، بين الكنيسة الشرقية الأرثوذوكسية و الكنيسة الغربية الكاثوليكية.

و في أواخر القرن نفسه سيحفز البابا أوربان الثاني شن أولى الحروب الصليبية، فجمع جنود من أنحاء أوروبا لاسترداد القدس من أيدي المسلمين؛ و لكن بداية الحملة كان في أوروبا نفسها بخطف يهود من منازلهم و إجبارهم على اعتناق المسيحية ثم قتل بعضهم؛ و تنتشر الحمى في عدة مدن أوروبية حتى تم قتل نحو ثمانية آلاف يهودي بما فيهم النساء و الأطفال و نهب بيوتهم و حرق دور عبادتهم في عمليات نهب غوغائية و مدعومة من السلطات.

البابا استخدم كلمات و أوامر المسيح لأتباعه بأن يأخذوا صلبانهم و يتبعوه و أن يهلكوا أنفسهم من أجله (متى 16-24 و لوقا 9-23) ؛ و قام الجنود بتعليق صليبا أحمر – رمز للدماء- على أكتافهم كما فعل المسيح ؛ و عبر تلك الحملة و سائر الحملات فستختلط الدماء بالمشاعر الدينية الفياضة.

أما توجهات الحملة الأولى تلك فلم تتجه إلى المسلمين مباشرة، و إنما قامت بالإغارة على مدينة بلغراد شرق أوروبا، ثم اتجهت إلى القسطنطينية المسيحية أيضا فغزتها و نهبتها ؛ و حين وصلت الحملة إلى القدس أخيرا قام المسيحيون بذبح نحو سبعة عشر ألف مسلما بعد استسلامهم و تلقيهم وعدا من قائد الحملة بالحفاظ على حياتهم ؛ و تم كذلك حرق اليهود أحياء في دور عبادتهم، و طرد المسيحيين الأرثوذوكسيين و تعذيب كهنتهم و سلب ممتلكات كنائسهم – حتى أن أحد المؤرخين البيزنطيين، نيكيتاس كونياتس، سيكتب أنه حتى السراسنة (العرب) كانوا رحماء و كرماء بالمقارنة بمن يحملون صليب المسيح على أكتافهم.

و لاحقا سينتقم البيزنطيون، فيقومون بذبح اللاتينيين في القسطنطينية.

قامت الحملة كذلك بقتل سكان قيصرية، و لاحقا بيروت و غيرهما، و بيع بعضهم كعبيد ؛ و قامت بتدمير عدة مكتبات في طرابلس و أيضا مكتبة دار العلم التي تحتوي مئات الآلاف من المخطوطات- و هي عمليات ستكرر كثيرا تجاه المسلمين و اليهود و المسيحيين في الحملات الصليبية القادمة.

في القرن الثاني عشر استمر توافد المزيد من الحملات؛ و ستجرى المزيد من مذابح لليهود في فرنسا و انغلترا و غيرهما.

في أوائل القرن الثالث عشر سيكتب البابا إنوسنت الثالث معلنا عن حقه البابوي في المواقفة على تعيين الملوك؛ و الذي سينتج عنه تدخله- بالسلب رفضا أو بالإيجاب قبولا- في ترسيم الملوك في كل بلد في أوروبا تقريبا.

نفس البابا سيمنع تدريس فلسفة أرسطو في باريس ، و سيكتب أن من يبدي مفهوما عن الله يخالف عقيدة الكنيسة يجب أن يتم حرقه؛ و سيدعو إلى حرب صليبية جديدة.

و في الحملة الصليبية -الرابعة- سيتكرر ما حدث في الأولى، من غزو مدن مسيحية، ثم غزو القسطنطينية مرة أخرى و سماح القادة للجنود بثلاثة أيام متواصلة من السلب و التدمير ، فدخل الجنود إلي الكنائس و نهبوا كنيسة آيا صوفيا و اغتصبوا الراهبات و ذبحوا الآلاف من المسيحيين الأرثوذوكس – و لم تصل الحملة إلى القدس.

و في إثر الحملة تم تقسيم أراضي المسيحيين الشرقيين بين النبلاء الغربيين، و أُعلنت القسطنطينية مملكة لاتينية لنحو نصف قرن، و كتب البابا قائلا أن حكم الله العادل قد عاقب الشرقيين.

ثم هو نفسه سيكون أول من يحرض لحرب صريحة ضد مسيحيين ؛ فقد دعا لحملة صليبية جديدة ضد طائفة مسيحية تسمى الكاثار في جنوب فرنسا؛ و عرض منح المكافآت المادية- بالإضافة إلى الغفران الإلهي- لكل من يشارك في الحملة؛ آلاف تم بتر أطرافهم و فقء أعينهم و تمزيقهم بالأحصنة أو شنقهم أو حرقهم أحياء أو استخدامهم كأهداف للرمي في غارات مستمرة و طويلة.

موفد البابا صرح بأن غضب الله قد احتدم "في حكمة عجيبة" ضد الكفار؛ و وصف الحادثة بأنها إعجازية، و تفاخر بالآلاف التي قتلها الصليبيون و أنهم لم يرحموا طفلا و لا امرأة ؛ و حين سئل كيف يمكن تمييز الهراطقة من المؤمنين، قال كلمة ستصبح شهيرة "أقتلوهم، و الله سوف يعرف الذين له!" ؛ و كذلك قائد الحملة سئل عن الهراطقة التائبين و هل يجب إحراقهم، فأجاب بأنهم لو كانوا كاذبين فسيستحقون الموت، و لو كانوا صادقين فالنار ستطهر ذنوبهم و بالتالي أمر بإحراق الجميع دون تمييز.

و النتيجة بعد انتهاء الحملة المقدسة التي استمرت ثلاثين عاما هي تدمير المنطقة بالكامل و قتل نحو مليون إنسان في واحدة من أكبر المذابح في التاريخ.

بعدها سيسعى طفل راعي غنم بإقناع من حوله بالقيام بحملة صليبية أخرى لتحرير فلسطين من المسلمين الكفار؛ و سيتبعه آلاف الأطفال فيما يعرف بـ"حملة الأطفال الصليبية"؛ و حين وصلوا إلى إحدى المدن الإيطالية تم إمساكهم و بيع بعضهم كرقيق، بينما مات آخرون من الجوع و الإرهاق.

و في المجمع الكنسي لاتران الرابع سيتم فرض ملابس مميزة خاصة على اليهود و المسلمين، مع حصرهم بداخل مساكن محددة (غيتو)؛ مع إعلان أن الأمراء المسيحيين مسئولون عن محاربة الهرطقة - الأمر الذي سيستمر لمدة خمسة قرون حتى القرن العشرين.

آنذاك أيضا ستصدر أوامر بمنع ممارسة الجنس بين الرهبان و الراهبات (مما يعني أن الأمر كان يحدث قبلها؟!).

و في نفس المجمع سيُسمح بضرائب لإعفاء الأثرياء من المشاركة في الحملات الصليبية؛ في مقابل مصاريف مناسبة ينجو الشخص من المطهر بعد الموت و الذهاب إلى الملكوت مباشرة (و المطهر حسب الإيمان الكاثوليكي هو مكان تعذيب المؤمنين الخطاة بشكل يشبه عذاب القبر لدى المسلمين).

و الأهم أنه تم إعلان أن الخلاص غير ممكن خارج الكنيسة الكاثوليكية الرومانية؛ و جرى التصويت بأن أسقف روما يمتلك سلطة مطلقة حول جميع المسائل الروحية و الدنيوية ؛ و قال البابا إنوسنت أن أي شخص لديه رؤية لله متعارضة مع تعاليم الكنيسة يجب أن يُحرق، و أن الله قد منح بطرس السلطة المطلقة ليس فقط على الكنيسة بل على العالم بأسره – و عبر القرون التالية سيمتلك الباباوات سلطة عزل أي ملك، أو فسخ أي مرسوم علماني، أو نبذ أي دستور.

و في فرنسا في القرن الثاني عشر سيتم إنشاء "محاكم التفتيش" من أجل اصطياد الهراطقة و محاربتهم.

في أوائل القرن الثالث عشر، سيضغط مجموعة من البارونات على ملك إنغلترا للتوقيع على ما سيسمى بـ"الماغنا كارتا" (الوثيقة العظمى)؛ و هو تاريخيا أول ميثاق يحد من سلطات الملك و يضمن بعض الحقوق لرعايا الدولة ؛ فأعلن البابا أن هذه إهانة لا يمكن أن تمر دون عقاب، و أكد أن هذه الوثيقة "مخالفة للأخلاق" و أن الملك لا يتوجب أن يذعن للشعب بل لله و البابا؛ و أصدر مرسوما بفسخ الماغنا كارتا و حرمان (تكفير) كل من يؤيد محتوياتها - و أعلن إنوسنت الثالث أنه لا أحد بإمكانه مساءلة أوامر البابا، بل إن الجميع يتوجب عليهم طاعته "حتى لو أمر بما هو شر".

و سيأمر البابا التالي -هونوريوس الثالث- بمنع تدريس القانون الروماني في جامعات باريس.

ثم ستزداد الحملات ضد المذاهب المسيحية غير الكاثوليكية؛ ففي القرن الثالث عشر أصدر البابا غريغوري التاسع قوانين صارمة ضد الهراطقة، و جعل ديوان التفتيش سلطة مستقلة تابعة للبابا، مدشنا ما يعرف بعصر محاكم التفتيش؛ و التي ستستمر حتى القرن الثامن عشر على الأقل.

و ستقوم تلك المحاكم على اصطياد جميع المخالفين للعقيدة الكنسية و معاقبتهم ؛ و سيشتهر بعض قضاتها بشكل بطولي و يحملون ألقابا تعظيمية بسبب صرامتهم ضد الهراطقة و عدم إظهارهم أي نوع من الشفقة تجاههم ؛ كان شعار المحاكم هو "مذنب حتى تثبت البراءة"؛ و كما قال أحد قضاتها "أنا مستعد بكل سرور لحرق مائة إنسان لو أن فيهم واحدا مذنبا" ؛ و العقوبة التقليدية كانت الخرق؛ أما من يقوم بتنفيذ العقوبات فهي السلطات المدنية- و الحكمة هنا هي الحفاظ على طهارة الكنيسة.

و على يد البابا غريغوري التاسع ستبدأ أيضا حملات منظمة لمطاردة و قتل الساحرات- تلك العادة الشهيرة التي ستستمرفي أوروبا ثم أمريكا حتى القرن الثامن عشر و ما بعده،  وسيقع ضحيتها ما يقدر بمليون امرأة، بالإضافة إلى الرجال و الأطفال و حتى الحيوانات في بعض الأحيان (واحدة ممن حوكموا بتهمة السحر كانت والدة عالم الرياضيات و الفيزياء و الفلكي العبقري كبلر، الذي وضع قوانين حركة الكواكب في القرن السابع عشر).

و في حملة صليبية أخرى نجح الملك فريدريك في الوصول إلى الأراضي المقدسة؛ و عقد معاهدة صلح مع السلطان الكامل الذي كانت تربطهما علاقة صداقة ؛ نصت المعاهدة على منح القدس للمسيحيين مع السماح بحرية العبادة للمسلمين في المسجد الأقصى.

و ما أن علم البابا بالمعاهدة حتى رفضها و ألغاها؛ ثم قام بالدعوة إلى حملتين صليبيتين، واحدة إلى القدس و الثانية إلى جنوب إيطاليا ؛ و للحصول على الأموال اللازمة لتمويل الحملتين ضاعف من الضرائب و من عجز عن الدفع صودرت أملاكه – و في النهاية فشلت الحملتين.

و أعلن البابا أن سلوكه تجاه فريدريك- الذي كان قد حرمه في السابق- لا غبار عليه، لأن البابا مسئول  أمام الله فقط.

تضمن محاكم التفتيش مصادرة و منع كتب – ككتب الفيلسوف اليهودي موسى ابن ميمون و غيره- و أيضا أمر البابا بمنع التلمود اليهودي و أمر جميع السلطات في أوروبا بمصادرة المخطوطات اليهودية و حرقها ؛ و لاحقا سيتم اعتبار الإحتفاظ بأي نسخة من التلمود جريمة.

و حين انتخب البابا إنوسنت الرابع سيشرع التعذيب كأمر مسموح به في محاكم التفتيش، باعتبار أن "الغاية تبرر الوسيلة"؛ و تم عقد المجمعات لإصدار قرارات ضد المطالبة بأي رأفة أو تخفيف في معاقبة الهراطقة؛ المرض أو الشيخوخة أو تيتم الأطفال أو ترمل النساء هي أمور لا يجب أخذها في الإعتبار؛ و لا يوجد أي حقوق للمتهمين، بل أحيانا هناك تورط لأسرهم و أصدقاءهم و معارفهم.

حتى مع التوبة سيتم مصادرة الأملاك و أحيانا الحكم بالسجن المؤبد،؛و كثيرون تم إحراقهم في مراسم شبه احتفالية - و حتى نسلهم لن يسلم من الإضطهاد و المطاردة.

أما قضاة التفتيش و القائمين عليها فسيُمنحون المزيد من السلطات؛ مع الإذن المفتوح باستخدام العنف بأي شكل، مما سيعفيهم من أي مسائلة محتملة.

و في عهد إنوسنت سيكتمل إحراق مئات ممن تبقوا أحياء من الحملات ضد الكاثاريين؛ و حتى القرن التالي سيتم مطاردة من تبقى منهم حتى يفنوا تماما.

و في القرن الثالث عشر سيكتب القسيس و القديس و الفيلسوف توما الإكويني في كتابه "مجموع اللاهوت" أن الهراطقة المدانين لا يجب حرمانهم كنسيا فقط بل قتلهم أيضا، فهم يستحقون قطعهم من العالم بالموت؛ و لو تم استئصال جميع الهراطقة بالقتل فهذا لن يكون منافيا لأوامر الله.

توما سيكتب أيضا – في ذات الكتاب- أن المرأة أقل من الرجل و أنها ناقصة في العقل و الخلقة -  فهي عبارة عن "رجل لم يكتمل" نتيجة خلل في الحمل أو الولادة.

أما البابا غريغوري العاشر فمنع النقاش في المسائل اللاهوتية؛ و في عهده ستدين محاكم التفتيش أول ساحرة، و سيتم الحكم بسجن الفيلسوف و الباحث الطبيعي و واحد من رواد المنهج العلمي روجر بيكون، بتهمة نشر كتبا تحوي "بدعا مشككة" ؛ كما ستنتهي بعض النزاعات المالية إلى حرمان\تكفير مدينة كاملة في فلورسنا.

بينما البابا جون الحادي و العشرين، سيأمر بإصدار لائحة من الهرطقات المختلفة، و من ضمنها القول بأن الطبيعة تسير بقوانين، لأن ذلك يتعارض مع قدرة الله المطلقة؛ و من المفارقات أن البابا سيتوفى نتيجة واحدة من تلك القوانين التي أنكرها، و هو قانون الجاذبية، حين سينهار سقف قصره على رأسه.

و سيستمر قتل و حرق مئات اليهود في مناسبات مختلفة؛ و في أواخر القرن الثالث عشر أصدر ملك إنغلترا إدوارد الأول مرسوما بطرد جميع اليهود من إنغلترا؛ و سيتكرر نفس الأمر في بلاد و مدن أخرى.

و في أوائل القرن الرابع عشر يصدر البابا بونيفاس الثامن مرسوما يتضمن أن البابا لا يُسأل إلا من قبل الله فقط، معلنا أنه من الضروري لخلاص كل إنسان أن يخضع للبابا الروماني بالتحديد، و يؤكد مرة أخرى على سلطة البابا الأرضية في تعيين الملوك أو خلعهم كيفما يشاء.

و اشتعلت حملة صليبية أخرى تسمى "حملة الرعاة" حين زعم مراهق أن الروح القدس قد زاره و أمره بحرب المسلمين في أسبانيا؛ فانطلق الصليبيون لذبح مئات من اليهود في أكثر من عشرة مدن أوروبية.

لاحقا سيتم لوم اليهود على انتشار الطاعون (!) مما سيؤدي إلى المزيد من المذابح في مئات المدن.

و في مناسبة ما سيبلغ أحدهم عن أن يهوديا قام بكسر قطعة من خبز المناولة المقدس، مما سيؤدي إلى قتل نحو جميع اليهود في بلجيكا بما فيهم الأطفال؛ و في أحداث ستستمر في التكرار في أنحاء مختلفة من العالم المسيحي.

و في أواخر القرن قامت جماعات من الغوغاء المسيحيين بمهاجمة السكان اليهود في جميع أنحاء أسبانيا، قاتلين الآلاف و ناهبين بيوتهم و دور عبادتهم، و تحويل آخرين بالقوة إلى المسيحية ؛ و لاحقا سيتم طرد اليهود من البرتغال بعد إقامة عدة مذابح لهم.

و صدرت قرارات تسمح بأخذ أطفال اليهود عنوة من أهلهم و تنشئتهم كمسيحيين؛ و تم تعميد آلاف الأطفال عنوة ؛ و سيتم اتباع سياسة مشابهة مع الموريسكيين المسلمين في أسبانيا فسيتم فرض المسيحية عليهم.

البابا يوحنا الثاني و العشرين سيعلن أن الذي يزعم أن المسيح و الرسل لم يكن لديهم أملاك فهو يحرف النص المقدس ؛ و تم وصم حركة الفرنسيسكانيين – المعروفين بالزهد و الإهتمام بالفقراء- بالهرطقة ؛ و لاحقا سيتم مطاردتهم و قتلهم.

يُقال أن موقف البابا هذا كان لمواجهة الإنتقادات الموجهة ضد الغنى الفاحش للكنيسة و رجالها و التي قيل أنها لا تتفق مع تعاليم المسيح ؛ هكذا سيتم استغلال تعليم يسوعي (سلطة الكنيسة) من أجل نقض تعليم يسوع آخر (الزهد)!

أما البابا كليمنت السادس فقد أصدر مرسوما يضع الأساس لسياسة الكنيسة فيما يخص غفران الذنوب ؛ و النظرية الموضوعة ببساطة هي أن الأعمال و الفضائل المنسوبة للمسيح و مريم و القديسين تزيد بكثير عن ذنوب جميع البشر ؛ و هذا الفائض في الأعمال موجود تحت يد الكنيسة تمنحه للمؤمنين كما تشاء، بغفران جزئي أو كلي لذنوبهم – و هي السياسة التي ستدر أموالا طائلة على الكنيسة عن طريق "بيع الغفران" للناس بصكوك مكتوبة.

و في حملة صليبية أخرى لملك قبرص هبط الجنود في مدينة الأسكندرية ذات السكان المسيحيين فقاموا بنهبها و قتلوا المسيحيين و اليهود و المسلمين على السواء؛ ثم انسحبوا بعد ظهور جيش مصري في المواجهة.

في أواخر القرن قام كاردينال جنوة، روبرت، بقمع سكان مدينة تشيزينا الإيطالية، إثر ثورة قامت هناك بسبب قيام بعض مرتزقته باغتصاب النساء؛ و تم عقد معاهدة تضمنت وعدا من روبرت بعدم قتل السكان إن هم تخلوا عن أسلحتهم؛ ثم ما أن فعلوا حتى بدأ التقتيل فيهم و اغتصاب نساءهم مع نهب المدينة و حرقها – هذا المجرم روبرت سيصير هو البابا كليمنت السابع.

في القرن الخامس عشر كتب أسقف مدينة فيردين الألمانية قائلا أنه حين تكون سلامة الكنيسة مهددة فهي معفاة من جميع التعاليم الأخلاقية، و يُسمح لها باستخدام جميع الوسائل الممكنة بما في ذلك المكر و الخديعة و الرشاوى و العنف و القتل.

و في منتصف القرن سيصدر البابا نيقولا الخامس وثيقة تسمح لملك البرتغال باستعباد غير المؤمنين، مع سلب أملاكهم لصالح الدولة.

و ستقوم محكمة التفتيش الأسبانية على مطاردة و قمع اليهود و المسلمين و المسيحيين "الهراطقة"؛ و سيتم تأليف كتيبات تعمل كدليل إرشادي للمفتشين.

البابا إنوسنت الثامن يحرم إنكار أن السحرة مهرطقات؛ و يمنح السلطة لعدد من المفتشين الذين سيتبارون في قمع كل من يشك في كونها ساحرة؛ و سيصدر البابا أوامر رسمية بحرق القطط الأليفة مع الساحرات – و هو الأمر الذي سيستمر لقرون (لابد أنهم وجدوا في قصة يسوع - حين دفع الخنازير المشيطنة إلى الإنتحار- قدوة ممتازة).

و حين كاد البابا يموت يقال أن طبيبا سعى إلى إنقاذه عن طريق دفعه لابتلاع دماء ثلاثة أطفال ؛ و النتيجة فشل المحاولة و موت الأربعة.

و في أواخر القرن الخامس عشر قرر البابا أسكندر السادس تقسيم جميع الأراضي المكتشفة حديثا بين دولتين هما أسبانيا و البرتغال، شرط أن يقوموا بتحويل سكان تلك المناطق إلى المسيحية ؛ و هكذا تم رسم خط رأسي على الكرة الأرضية حصلت بموجبه أسبانيا على أمريكا الشمالية و الجنوبية فيما عدا البرازيل، بينما حصلت البرتغال على البرازيل و معها أفريقيا (هل يمكن لأحد لوم البابا على ذلك و هو الحائز على سلطة مفاتيح السماوات و الحل و الربط في الأرض من الرب نفسه؟!).

و لنشر المسيحية سيصطحب المكتشفون- ككولمبس و غيره- في حملاتهم كهنة و رجال دين إلى أراضي العالم الجديد ؛ أما ملكة أسبانيا فستعلن أن السكان الأصليين الذين يرفضون اعتناق المسيحية يجوز استعبادهم.

و مع وصول المسيحية ستتبعها سياسة محاربة الهرطقة – و الهراطقة هنا هم المرتدين الذين سيحاولون العودة إلى دياناتهم الأصلية.

 هكذا سيقوم المفتشون الأسبان بقتل و حرق الآلاف في المكسيك و أمريكا الجنوبية؛ فأشرف قائد الحملة هرنان كورتيز- و هو نفسه موظف في محاكم التفتيش- على نشر الديانة الكاثوليكية؛ فأوقف الإحتفالات الشعائرية لسكان المايا و أقام في مكانه قداسا، و قام بتكسير أصنامهم ووضع بدلا منها صورة مريم.

و قام البرتغاليون بالشيء نفسه في أقصى الشرق في جاوة في الهند- و الذي سينتهي بتمير جميع المعابد الهندوسية على الجزيرة.

و في الكاريبي سيتم استعباد و قتل الملايين في عمليات تبادلية ؛ حيث كان يتم شحن العبيد من مكان ما لتعويض القتلى في مكان آخر –  مما سيؤدي إلى أن سكان أمريكا الشمالية، و الذي كان يقدر عددهم بخمسين إلى مائة مليون إنسان، سيتم محو أكثر من 90% منهم، قتلا و تهجيرا و استعبادا، بحلول أواخر القرن السابع عشر.

في أوروبا آنذاك تأسس المذهب البروتستانتي، على يد القسيس و اللاهوتي الألماني مارتن لوثر، احتجاجا على  فساد الكهنة و رفضا لبعض تعاليم و ممارسات الكنيسة الكاثوليكية كتجارة الغفران و غيرها؛ و لكن الهدف الحقيقي كان استبدال سلطة طاغية بأخرى لا أكثر.

فحين ستشتعل ثورة الفلاحين الكبرى في الربع الأول من القرن السادس عشر، مطالبة ببعض الحقوق و الحريات لصالح الطبقات الفقيرة المطحونة و المستعبدة تحت النظام الإقطاعي بلا حقوق تذكر ، هنا سينحاز مارتن لوثر"الإصلاحي" إلى السلطة و الطبقات العليا و يدين الثورة ؛ و بعد أن تم القضاء على الثورة و قتل أكثر من مائة ألف فلاح إعداما في ميادين عامة و أحيانا تحت بصر زوجاتهم و أولادهم، سيكتب لوثر في كتابه بعنوان "ضد جحافل القتلة و اللصوص الفلاحين"، قائلا أن "الله لا يعبأ بذبح الفلاحين و قد أغرق العالم بأسره بطوفان كما أهلك سدوم بالنار- فهو إله قوي و مخيف".

سيكتب لوثر بحماس مطالبا بسحق الفلاحين و قطع حناجرهم و قتلهم كالكلاب ؛ و سيؤكد أنه هو بنفسه أمر بقتل الفلاحين بشكل مباشر- معلقا أن الله هو من قتلهم بأيدي المؤمنين. 

و يقارن لوثر الحاكم بسائق الحمير، فكما أن الأخير يستخدم العصا و السياط دائما حتى يطيعوه الحمير، فكذلك الحاكم عليه استخدام الإجبار و الضرب و الشنق و الحرق و قطع الرؤوس و التعذيب، بهدف إرهاب الناس و إجبارهم على الطاعة.

و في كتبه و رسائله الأخرى، سينفي وجود الإرادة الحرة، معلقا أن الإنسان عبد سجين، إما لإرادة الله أو لإرادة الشيطان ؛ و سيؤكد أن العقل عدو الإيمان و من صنع الشيطان، و أن العقل لا يمكن أن يوصل إلى الله ، و على المؤمنين قتله و دفنه بداخلهم ؛ و سيقول أن الخلاص يكون بالإيمان وحده و الأعمال لا تهم.

و عن النساء سيجعلهن كالعادة أحط من الرجال؛ و سيكتب (في تعليقه على رسالة كورنثوس الأولى أصحاح 7) أن كلام الله واضح بشأن أن النساء خُلقن إما ليكنّ زوجات أو عاهرات؛ و سيؤكد أن المرأة مكانها في البيت و لا فائدة لها سوى رعاية الأطفال ؛ و سيكتب أن الفتيات تتكلمن و تمشين أبكر من الأولاد لأن الأعشاب الضارة تنمو أسرع من المحاصيل المفيدة.


و عن اليهود سيكتب في كتابه "عن اليهود و أكاذيبهم" مطلقا عليهم ألقاب "الطاعون" و "الوباء" و "الديدان" و "الأشرار" و "الشياطين" و "مصاصين الدماء"..إلخ ؛ مطالبا أولا بحرق دور عبادتهم، و ثانيا بحرق كتب صلواتهم و تلمودهم، و حرمانهم من تدريس دينهم و من قراءة كتابهم المقدس، و ثالثا يجب منعهم من الصلاة أو حتى توجيه الشكر لله مع عقابهم بالموت إن فعلوا، و رابعا يجب منعهم من ذكر اسم الله على أسماع المسيحيين – فسيأمر كل من يسمع ذكر اسم الله من يهودي فعليه إما إبلاغ السلطة فورا، أو مطاردته و إلقاء الروث عليه.

و في مواضع أخرى سيطالب بإجبار اليهود على العمل و معاملتهم بجميع أنواع القسوة، كما فعل موسى النبي و ذبح منهم ثلاثة آلاف في الصحراء (سفر الخروج 32-28) ؛ و لو لم ينفع ذلك فيجب إذن طردهم من البلاد، حتى لا يلعننا الله بوجودهم معنا – و في مناسبات عديدة عبر عن رغبته في قتل جميع اليهود؛ حتى أن كثيرين من الباحثين لاحقا سيتكلمون عن تأثر أدولف هتلر بأفكار مارتن لوثر في هذا الجانب تحديدا.

أما الإصلاحي الآخر كلفن، فسيؤكد بأن "تعفن اليهود و صلابة رقبتهم العنيدة تجعلهم مستحقين لأن يتعرضوا للإضطهاد الأبدي و بدون نهاية حتى يموتوا في بؤسهم من دون شفقة".

و كما هو متوقع، اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية أن مارتن لوثر مهرطق كافر؛ و بدأ إحياء محاكم التفتيش لاصطياد أتباعه، الذين تم قتل و حرق بعضهم؛ و تم تجريم كتبه في فرنسا و إيطاليا و انغلترا و أسبانيا و هولندا و غيرها.

و في منتصف القرن السادس عشر قاد جون كلفن البروتستانتيين إلى أقامة دولة ثيوقراطية في جنيف؛ و أمر بمنع مظاهر اللهو و عيّن "شرطة أخلاقية" لتتبع سلوك الناس و مراقبة البيوت – و  تم قتل العديدين، و أقر كلفن حرق الساحرات و البطش بالمعارضة.

و بعد عقود قليلة من هذا "الإصلاح"، ستكون سياسة الحكومات الأوروبية هي فرض مذهب معين- سواء الكاثوليكية أو البروتستانتية- على جميع السكان تحت حكمها؛ مع قتل أو نفي أو قمع أصحاب المذهب المخالف.

و ستبدأ الحروب الشهيرة بين الكاثوليك و البروتستانت، متضمنة نزاعات و معارك و مذابح يشرف عليها البابا بنفسه أحيانا؛ فستستمر سلسلة الحروب بين الفريقين لأكثر من مائة و ثلاثين سنة، بين أوائل القرن السادس عشر و منتصف السابع عشر، و ستجري في سويسرا و فرنسا و ألمانيا و النمسا و إنغلترا و أيرلندا و اسكتلندا و الدانمارك و غيرها -  و سيكتب المصلح الديني الأسكتلندي البروتستانتي جون نوكس قائلا أن كل بروتستانتي لديه الحق في قتل كل كاثوليكي.


على الجانب الآخر ستحدث تحالفات بين الطائفتين بين الحين و الآخر ضد هرطقات أخرى، كالطائفة المسماة "التجديدية العمادية" - و التي سيوافق مارتن لوثر على إدانتها و قتل أتباعها.

و حين يقرر ملك فرنسا هنري الرابع السماح للبروتستانت بحرية العبادة، سيعترض البابا كليمنت الثامن بشدة مدينا القرار وواصفه بأنه "أسوأ شيء في العالم".

و لاحقا في فرنسا تم تقنين عقوبة الموت لكل من يقرأ أو يشرح أو يترجم أو يكتب أو يطبع أي شيء يخالف التعاليم الكاثوليكية ؛ مجرد ترجمة كتاب ما إلى لغة أخرى غير اللاتينية و اليونانية، أو الإحتفاظ بأي من نسخ الكتب غير المناسبة، يمكن أن يعد جريمة تودي بفاعلها إلى القتل – و ستصدر لائحة كنسية بالكتب الممنوع تداولها.

و حين كتب أحد اللاهوتيين الأسبان، مايكل سرفيتوس، مشككا في مفهوم التثليث المسيحي، أدانته محاكم التفتيش و أمرت بحرقه؛ لكنه تمكن من الهرب إلى سويسرا حيث قبض عليه جون كلفن و رفاقه – و تم حرقه هناك وسط تأييد من البروتستانت و الكاثوليك على السواء.

في منتصف القرن السادس عشر سيكون لوثر و أتباعه البروتستانت من المعارضين لنظرية عالم الفلك و الرياضيات كوبرنيكوس القائلة بأن الأرض تدور ؛ و في أوائل القرن السابع عشر سيتم حرق الفلكي و الفيلسوف و الرياضي الإيطالي برونو بتهم الهرطقة و معارضة الكنيسة الكاثوليكية ؛ مفهوم الفلاسفة و الرياضيين الفيثاغورثيين– منذ القرن الخامس ق.م- القائل بأن الأرض تدور حول الشمس تم دفنه تحت سلطة الكنيسة مؤخرا العلم الطبيعي قرونا إلى الوراء.

و بعدها سيتم الحكم على الفلكي أيضا و الفيزيائي و الرياضي و المهندس غاليليو بالسجن المؤبد بتهمة الهرطقة و القول بدوران الأرض
مما يخالف نصوص الكتاب المقدس، و تم إجباره علنا على التراجع عن موقفه و إعلان أنها لا تدور، ثم خُفف الحكم إلى الإقامة الجبرية في منزله حتى وفاته (و لن تعترف الكنيسة بخطأها في شأن غاليليو إلا بعد ثلاثة قرون و نصف، عام 1992).

و بطبيعة الحال، تم منع كتب غاليليو من التداول حيث وضعت على لائحة الكتب الممنوعة - تلك اللائحة التي تضمنت كتابات لاهوتيين مثل مارتن لوثر و جون كلفن، لكنها ستتضمن أيضا كتابات لفلاسفة و علماء و أدباء مستقبليين مثل ديكارت و باسكال و فولتير و جان جاك روسو و فيكتور هوغو و ألكسندر دوماس و جان بول سارتر و غيرهم.

و في القرن السابع عشر ستحتدم الصراعات أكثر بين الكاثوليك من ناحية و البروتستانتية و الكالفنية من جهة؛ منها حرب الثلاثين عاما التي عصفت بأوروبا و قتلت ملايين أكثر من أي حرب دينية أخرى في التاريخ- منها أحداث مجزرة يوم بارثولوميو و التي راح ضحيتها وحدها عشرات الآلاف من البشر ؛ حتى تقلص سكان أوروبا بمعدلات هائلة و صارت وسط أوروبا أرضا قاحلة؛ و في النهاية لم يكن هناك رابح بل توقفت الحرب -رغم اعتراض البابا- بعد الإنهاك التام لكل الأطراف.

و بعد حلول شيء من السلام، ستجرى محاولة لعقد معاهدة تتضمن بعض التسامح الديني و المساواة بين الطرفين؛ لكن البابا إنوسنت العاشر سيحتج و يدين المعاهدة بصفتها كفرا و جنونا – و سيتبعه في تلك السياسة سائر الباباوات.

و في ذات القرن ستشتعل الحروب الدينية\القومية في انغلترا و أيرلندا و اسكتلندا، بين الكاثوليك و البروتستانت- و التي سيستمر صداها يتردد في بعض المناطق حتى القرن العشرين.

و في أوكرانيا يقوم الأرثوذوكس- بتحريض من كهنتهم- بقتل مائة ألف يهودي في مئات التجمعات ؛ و ستستمر مطاردة اليهود و التضييق عليهم في روسيا حتى القرن العشرين.

أما في أمريكا البروتستانتية القرن الثامن عشر ، فقد تم منع التحول إلى المذهب الكاثوليكي، و تجريم تدريس الكاثوليكية في المدارس؛ و صدرت قوانين تحرم الكاثوليكيين من التصويت في الإنتخابات أو الترشح لمناصب حكومية ؛ و تم تقييد ممتلكاتهم و مضاعفة الضرائب عليهم بأكثر مما يدفعه البروتستانتيين، و كان الكهنة الكاثوليك مهددين بالسجن المؤبد في بعض الأحيان.

آنذاك كانت أفكار و ثورات العقلانية و الحداثة و التنوير و الحريات و الليبرالية و العلمانية تجتاح أوروبا؛ على الرغم من المقاومة المستميتة من البابا و الكهنة.

في أواخر القرن الثامن عشر، بعد الثورة الفرنسية العلمانية ، سيتم القضاء على محاكم التفتيش هناك ؛ بعد ذلك ستتحرك فرنسا لغزو أسبانيا و تفكيك محاكمها للتفتيش الأشهر و الأعنف.

و قد سجلت مذكرات لضباط فرنسيين حين دخلوا في أحد الأديرة في مدريد، فأنكر المفتشون وجود أي غرف تعذيب؛ و لكن مع التفتيش تم اكتشاف عنابر تحت الأرض مليئة بأدوات تعذيب و أشخاص عراة و كثير منهم مصابون بالجنون؛ حتى أن الجنود الفرنسيين،  المعتادين على القتال و الدماء، لم يتحملوا المنظر و بعضهم أفرغ معدته – و لاحقا أخرجوا المحبوسين و قاموا بتفجير الدير بالبارود.


و في الربع الأول من القرن التاسع عشر، ستشتعل حروب التحرير لدول أمريكا اللاتينية من الإستعمار الأسباني، منهية محاكم التفتيش في الجانب الآخر من الكوكب.

قبل ذلك كانت عادة محاكمة الساحرات قد تم وقفها في سويسرا و ألمانيا و سائر أنحاء أوروبا.

على الجانب الآخر سيشهد القرن التاسع عشر حملات تبشير مسيحية ضخمة حول العالم في استراليا و الصين و أفريقيا ؛ مستخدمة القوة و الإجبار لترسيخ القوانين المسيحية و فرضها على السكان هناك، عند اللزوم و دون احترام للثقافات المحلية – كمثال وحيد ففي هاييتي سيتم القضاء على الديانة الأصلية هناك، مع هدم أضرحتها و منع ممارسة شعائرها و مطاردة من تبقى من المؤمنين بها.

و حين يعود البابا بيوس السابع إلى روما، سيعيد إحياء محاكم التفتيش مرة أخرى، مرجعا لائحة الكتب الممنوعة؛ و ستدين المحكمة الرسام الأسباني غويا بسبب لوحة لامرأة عارية.

و بمعدلات متناقصة استمرت في أوروبا و أمريكا بقايا التعصب و إدانات الهراطقة و الصراعات الدينية المسلحة أحيانا.

و حين يأتي البابا غريغوري السادس عشر سينشر عدة مدونات مكتوبة، منها "التعليم المسيحي عن الثورة" و "عن الليبرالية و الحياد الديني"؛ في الأولى سيحرم الثورات على الحكام لأن الله هو مصدر السلطة، و في الثانية سيعلن رفضه لمبادئ حرية الفكر و حرية العقيدة و حرية الكتابة و التعبير و الصحافة؛ و سيؤكد أنه ليس من الشرعي المطالبة بتلك الحريات أو الدفاع عنها- و سيشكو متذمرا من أن حرية الفكر ستدمر الكنيسة، و أن حرية الصحافة هي أكثر الحريات فتكا و رعبا على الإطلاق.

و في جنوب أفريقيا ستقود "الكنيسة الإصلاحية الهولندية" البروتستانتية التي تم تاسيسها في القرن السادس عشر حملة المقاومة ضد الحريات الجديدة ؛ فستقوم بتوفير غطاءا لاهوتيا للأبارتايد – و هو نظام الفصل العنصري بين البيض و السود في جنوب أفريقيا- معلنة أنه ضمن إرادة الله و مدعوم من الكتاب المقدس؛ و لن تعترف الكنيسة بخطأها حتى أواخر التسعينات من القرن العشرين.

و في منشور آخر للبابا بيوس التاسع بعنوان "منهج الأخطاء" سيدين مفاهيم العقلانية و الليبرالية و الحضارة الحديثة و فكرة التقدم ذاتها؛ و أدان عدم قيام الدول باستبعاد جميع الأديان و المذاهب ما عدا الكاثوليكية الرومانية.

أما البابا ليو الثالث عشر، فقد منع الكاثوليك من المشاركة في الإنتخابات الإيطالية الجديدة آنذاك؛ و الهدف هو الإعتراض و الحيلولة دون قيام الفصل بين الدين و الدولة – ثم سيقر وجود عقوبات مدنية للهراطقة.

و في القرن العشرين سيصدر البابا بيوس العاشر عدة مراسيم تباعا تدين مفاهيم الحداثة العصرية - و التي وصفها بأنها هرطقة لأنها "تهدد براءة و نقاء التعاليم الكاثوليكية".

أما الموسوعة الكاثوليكية فستنص على أنه " لو تعارضت عقيدة دينية مع توكيد علمي، فيتوجب مراجعة الأخير" ، و أن "التراجع عن أية عقيدة هو تراجع عن الكنيسة"، و أن "استتباب الحكم الديني أهم لاستقرار المجتمع من تطبيق القيم الأخلاقية".

و في اواخر العشرينات من القرن العشرين أصدر البابا بيوس الحادي عشر منشور "حول تعزيز الوحدة الدينية" منع فيه الكاثوليك من المشاركة في أي حركة عالمية تهدف إلى توحيد الكنائس المسيحية المختلفة.

بعدها سيقوم بتوقيع اتفاقية لاتران مع دكتاتور إيطاليا بنيتو موسوليني؛ و الذي باركه الفاتيكان في مقابل الدعم المالي و السياسي باعترافه بالفاتيكان كدولة مستقلة ؛ تلك الإتفاقية تضمنت اعتبار الكاثوليكية هي الديانة الرسمية في إيطاليا و منع الدعاية لصالح البروتستانت.

و لاحقا سيعتمد موسوليني على ذخائر ينتجها مصنع مملوك للفاتيكان، لدعم جيشه الذي سيغزو أثيوبيا. 

و في برلين ابتهج صديق موسوليني أدولف هتلر بالإتفاقية و كتب أنها تؤكد تقارب الفكر الفاشي مع الفكر المسيحي.

و في أوائل الثلاثينات اجتمع الأساقفة الكاثوليك للتصويت على إدانة النازية- و كانت النتيجة بالرفض.

و بعد وصول هتلر للحكم و تحالفه مع موسوليني سيقوم الكهنة الكاثوليك في ألمانيا بتأييده و دعمه؛  فبعد توقيع معاهدة أخرى بين الفاتيكان و النازيين، سيحصل الكاثوليك على المزيد من الحقوق في ألمانيا، و في المقابل سيحتفظ الفاتيكان بحالة من الميوعة و الحياد الغامض تجاه جرائم النازية و الفاشية ضد الإنسانية - و يقال أن صاحب تلك السياسة كان الكاردينال باسيلي نفسه و الذي سيصير البابا بيوس الثاني عشر لاحقا؛ و حتى النهاية ستظل مواقف البابا من النازية متضاربة بين الشد و الجذب المائعين.

و المعروف أن جوزيف راتزوغر - البابا بينيدكت السادس عشر- كان هو نفسه عضوا في منظمة "شباب هتلر" النازية في الثلاثينات.

و حين صارت سلوفاكيا تابعة للنازية تحت قيادة القسيس الكاثوليكي جوزيف تيسو، تم إرسالك نحو سبعين ألف يهودي إلى معسكرات الإعتقال النازية ضمن الهولوكوست.

و حين غزا هتلر يوغوسلافيا فصل كرواتيا باعتبارها دولة كاثوليكية كمكافأة لحلفاؤه تحت قيادة منظمة "أوستاشي"؛ و قبل الحرب العالمية الثانية و في أثناءها ستتلقى تلك المنظمة الكرواتية الفاشية العنصرية الكاثوليكية دعما مباشرا من الكنيسة لقتل أكثر من نصف المليون من اليهود و الرومان و الصربيين، في واحدة من أكبر المجازر في القرن العشرين التي تمت تحت إشراف و مشاركة من كهنة و رهبان كاثوليك – و كتبت جريدة مملوكة لكبير أساقفة سراييفو أن الله يقف مع تلك منظمة أوستاشي و ما تقوم به ضد اليهود.

و حين تنتهي الحرب العالمية الثانية و يصدر حكما بالسجن ستة عشر عاما على الأسقف ستيبيناك لاتصالاته بأوستاشي و لمسئوليته عن المجازر و لفرضه اعتناق الكاثوليكية على الأرثوذوكس في صربيا ، سيغضب البابا الفاتيكاني و يصدر حكما بالحرمان\التكفير ضد كل من يشارك في محاكمة ستيبيناك ؛ و بعد ضغط سياسي سيتم الإفراج عن الرجل و يعود إلى الفاتيكان ليتم تشريفه بلقب الكاردينال، ثم بعد موته سيباركه البابا و يعلنه شهيدا – ولم يكن ستيبيناك هو الكاهن المجرم الوحيد الذي سيهتم الفاتيكان بإنقاذهم من المحاكمات إثر الحرب.

و في مناسبات مختلفة سيؤكد هتلر - في خطبه و فيما نقله عنه مرافقوه – أنه مسيحي كاثوليكي و أنه سيظل كذلك؛ و ستخرج منه عبارات عديدة تعبر عن حماسه الديني المسيحي القوي، و سيستلهم من كلمات المسيح في مناسبات مختلفة ؛ و في الجزء الأول من كتابه "كفاحي" سيؤكد أن ما يرتكبه ضده اليهود من مذابح هو من باب "القيام بعمل الله".

و في نقاش مع برننج أسقف أوزنابروك سيخبره هتلر أن سياسته تجاه اليهود ليست سوى استمرار لسياسة الكنيسة الكاثوليكية عبر الألف و خمسمائة سنة الماضية.



جرح غائر في جسد الإنسانية

يرى المؤرخ إدواد غيبون- في نفس الكتاب المذكور- أن أسعد فترة في تاريخ البشرية و أكثرها ازدهارا كانت منذ أواخر القرن الأول للميلاد و حتى أواخر القرن الثاني حيث كان الحكم الروماني في ذروة الإستقرار و العدالة و النظام – و من المؤكد، كما رأينا، أن هذا الحال السعيد قد انقلب تماما من بعد سيادة ديانة يسوع الناصري.

و قد قام أستاذ علوم كمبيوتر هو دافيد ألان بليستد بعمل تقييم تقديري لعدد الذين تم قتلهم بشكل مباشر نتيجة الحكم البابوي الكاثوليكي عبر التاريخ القديم فقط ، فجرى الإحصاء كالآتي: 20 مليون قتلوا في فلسطين و حولها في أثناء الحملات الصليبية- مليونين في حملتين ضد جماعتين الولدينيسيين و الكاثار – على الأقل 18 مليون في أثناء اضطهاد الدولة للهراطقة و السحرة و الساحرات في أوروبا منذ أوائل القرن الثاني عشر حتى أواخر الخامس عشر – حوالي 10 ملايين ماتوا في حرب الثلاثين عاما بين البروتستانت و الكاثوليك – 20 مليون بروتستانتي تم قتلهم في محاكم التفتيش في القرن السادس عشر – 15 مليون من السكان الأصليين في الأمريكتين و سبعة ملايين مسلم في أسبانيا -  فيقترب المجموع من مائة مليون إنسان قُتلوا على يد المسيحيين خاصة الكاثوليك.

و المؤكد أن هذه مجرد تقديرات عامة تقريبية، و كذلك ما ذكرناه هو خطوط عريضة للأحداث المهمة و المسجلة تاريخيا؛ لكن بالحقيقة يستحيل حصر عدد الضحايا - يستحيل حصر عدد المفكرين الأحرار الذين تم قتلهم و مطاردة أتباعهم فقط لأنهم أدانوا الفساد الكنسي أو حتى حاولوا نشر بعض العلوم أو الفلسفة أو اعتنقوا مفاهيم مخالفة للكنيسة أو حتى حاولوا ترجمة الكتاب المقدس في بعض الأحيان مما عارضته الكنيسة ؛ يستحيل حصر عدد المعابد و دور العبادة و تدمير المكتبات و التماثيل و حتى اللوحات الفنية و الآلات الموسيقية للمخالفين ؛ يستحيل حصر الحجم الفعلي للجرائم ضد بشر لم تكن جريمتهم سوى أنهم ولدوا يهودا مما عرضهم لتهم ظالمة و طرد و فرض تعميد و ذبح مدن كاملة في بعض الأحيان بمئات الألوف ؛ يستحيل حصر حجم ضحايا الحروب الطائفية بين المسيحيين أنفسهم، كما يصعب حصر الجرائم البشعة التي تمت أثناء تلك المعارك من مذابح جماعية و تعذيب و إحراق و تشويه أطراف و اغتصاب راهبات و غيره.

كما يستحيل حصر جرائم الباباوات من أول وصولهم إلى مناصبهم، أحيانا بالبلطجة و المعارك الدموية و اللجوء إلى التزوير و الرشاوي، مرورا بأوامرهم بقتل المنافسين أو سجنهم أو تعذيبهم أو تشويههم صراعا على الكراسي، وصولا إلى لجوءهم إلى التكفير و التحريض و إثارة النعرات و الحروب الدينية الدموية و فرض العقيدة بالجبر و الإرهاب.

بل إن الأمر لا يقتصر على السلوك السياسي و الديني، و إنما غالبا ما يمتد إلى فضائح شخصية أخلاقية و جنسية، تتضمن ممارسة انحلال و شذوذ و اغتصاب.إلخ ؛ فكثير من الباباوات كان لهم عشيقات و أبناء غير شرعيين؛ كما تورط العديد من الباباوات في عمليات سرقة واسعة بل و شاركوا في إدارة مراكز للدعارة و القمار و الإغتيال نظير أجل، مما جعل أكثرهم يتمتعون بثروات مالية هائلة و نفوذ كبير.

و في مناسبات عديدة تم قتل بعض الباباوات على أيدي المنافسين أو المعارضين أو أحيانا أزواج غيورين ينتقمون لشرفهم، حتى كانت الباباوية تشهد أحيانا تعاقب ثلاثة أو أربعة باباوات في عام واحد؛ بل و لم  يكن نادرا وجود أكثر من بابا في وقت واحد، كلهم يكفر الآخر؛

و كأمثلة : فالبابا كاليستوس الأول كان قبل نشاطه الكنسي مسجونا بتهمة النصب و الدخول في مشاجرة داخل كنيس يهودي، و بعد تعيينه اتهم باستغلال نفوذه البابوي لمضاعفة ثروته ؛ داماسوس الأول اتهم بالقتل و الزنا و نجا من المحاكمة بفضل تدخل الإمبراطور؛ سيرجيوس الثاني اشتهر بممارسة الإبتزاز و السرقة و كان يُعتقد بمشاركته في إدارة القمار و الدعارة في روما كما يُشك في اشتراكه في عدد من الإغتيالات ؛ سيرجيوس الثالث اشتهر بنفس الأنشطة السابقة، و كان له علاقة غير شرعية أنجب منها ولدا سفاحا و الذي سيصبح بدوره البابا يوحنا الحادي عشر ؛ أما البابا يوحنا الثاني عشر فمارس التعذيب و الإغتصاب و القمار و السرقة و كان يوزع من ممتلكات الكنيسة على عشيقاته، و تم قتله على زوج مغدور ضبطه يمارس الجنس مع زوجته ؛ البابا جوليوس الثالث كان على علاقة مشبوهة بصبي صغير و الذي عينه كاردينالا بعد ذلك؛ أما بينيدكت الرابع و الذي يقال أنه وصل إلى منصبه بالرشوة قيل عنه أنه كان مزدوج الجنس و كان له عشيقات بل و قيل أنه يمارس الجنس مع الحيوانات، كما سرق من أموال الأديرة و أمر باغتيالات و انخرط في طقوس السحر و الشعوذة حتى طرده الرومان من المدينة؛ و لاحقا قاد جيشا و عاد ليتولى منصبه مرة أخرى، ثم حين شعر بالملل من البابوية قام ببيعها إلى جده مقابل ألف و خمسمائة جنيها ذهبيا.

و ما يزال الشر مستمرا

- ((الكنيسة المسيحية كانت و ما تزال العدو الرئيسي للتقدم الأخلاقي في العالم))- برتراند راسل.

- ((ياللأعمال الشريرة التي تستطيع الأديان تحفيزها!)) – الفيلسوف و الشاعر اليوناني الوثني لوكريتيوس.

- ((الناس لا يفعلون الشر بكمال و سعادة كما يفعلونه و هم مدفوعون بقناعة دينية)) – البروفيسور بليز باسكال.

- ((اليوم يمكنني القول أنني أتصرف بما يوافق إرادة الرب القدير)) – أدولف هتلر.

- ((الله أخبرني أن أغزو العراق)) – الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن.


في النصف الثاني من القرن العشرين قام البابا يوحنا الثاني بالإعتذار بإسم الكنيسة، و بإسم المسيحيين الكاثوليك، عن أكثر من مائة واقعة مشينة شاركت المسيحية الكاثوليكية فيها على مدار ألفين سنة  :  غزو الأمريكتين و فرض المسيحية على السكان الأصليين- إدانة غاليليو- المشاركة  في تجارة العبيد الأفارقة- عمليات محاكم التفتيش- الحروب الصليبية – الحروب الدينية خاصة بعد عصر الإصلاح البروتستانتي- و قمع المرأة و اضطهاد حقوقها – اضطهاد اليهود- غض الطرف عن الهولوكوست النازي- بالإضافة لغيرها.

خطوة إيجابية و لا شك فقد حان الوقت للأعتذار!؛ و لكن الحقيقة المؤسفة أن الممارسات السلبية للكنيسة، و المعادية للحرية و العقلانية و التعايش السلمي، ما تزال مستمرة لا تتوقف ؛ بشكل يحتاج إلى المزيد و المزيد من الإعتذارات الباباوية، التي قد تأتي بعد ألف عام أخرى!

فرغم تقليم أظافرها نسبيا عبر عصور التنوير ، ما تزال الملفات مفتوحة عن تدخل الكنائس في العديد من شئون دول العالم، عن طريق وضع أيديها في النظام الصحي و النظام التعليمي و النظام القضائي للدول؛ بشكل ينتج في بعض الأحيان نتائج إيجابية و لكن غالبا سيئة- بل كارثية.

في عام 1994 تم إدانة عدة كهنة كاثوليك بشأن دورهم في بعض المجازر في أكثر بلاد أفريقيا كاثوليكية: رواندا ؛ أحدهم حمل مسدسا و شارك بنفسه قبائل الهوتو في قتل المئات من التوتسي ؛ و أب آخر شارك في هدم كنيسة على رأس ألفين شخص متحصنين فيها ؛ و بشكل أوسع فهناك اتهامات للكنيسة الرواندية برجالها النافذين، و حتى راهباتها، بلعب دور فعال في المجازر الأكبر للبلد، و التي راح ضحيتها ملايين.

و بشكل عام وجدت- و توجد- العديد من المنظمات المسيحية اليمينية الإرهابية، و التي تستخدم العنف في أماكن مختلفة حول العالم، مثل "جيش الله" و "كهنوت فينياس" و "الحرس الحديدي" في رومانيا و من قبلهم "كو كلوكس كلان" الشهيرة، و غيرها ؛ هذه المنظمات و فروعها و أتباعها و المتحمسين لها كانوا مسئولين عن العديد من التفجيرات و عمليات القتل و الخطف ضد الزنوج و اليهود و المسلمين و غيرهم في الولايات المتحدة و أيرلندا و الهند و لبنان و غيرها؛ و إن لم تكن تحظى بنفس الإهتمام الإعلامي الذي يحظى به الإرهاب الإسلامي.

و في عام 2003، صرح الرئيس الأمريكي جورج بوش، ربيب اليمين المسيحي البروتستانتي ، بأنه مكلف بمهمة من الله، وأن الله تكلم معه بشكل شخصي و طلب منه غزو أفغانستان، ثم كلمه مرة أخرى و طلب منه غزو العراق- تلك الحروب التي ستسفر في نتائجها طويلة المدى عن قتل و تيتيم و ترميل و ترحيل ملايين من الرجال و النساء و الأطفال.

و بالطبع- نكرر- هذه مجرد عينات فلا يمكن الإحاطة بالشرور التي قام بها أشخاص أو منظمات أو جماعات أو حتى حكومات مدفوعة، و لو جزئيا، بذلك الدين الذي يزعم أنه لم يأت إلا بالمحبة.


صراع البويضات الملقحة
- ((كيف يستقيم أنه في حالتنا يُسمّى إجهاضا، و في حالة الدجاج يُسمّى أومليت؟!))  الناقد و الكاتب و الممثل و مؤدي الوقفات الكوميدية الأمريكي جورج كارلين.

أما بعيدا عن السياسة، فربما واحدة من أشهر سلوكيات العنف المدفوعة بالعامل الديني حصريا- بعيدا عن العوامل القومية أو الوطنية- هي العمليات  الإرهابية التي يقوم بها مسيحيون متعصبون مناهضون للإجهاض، حيث شهدت الولايات المتحدة – و أيضا كندا و أستراليا و نيوزيلندا- العديد من حوادث قتل لأطباء إجهاض، أو محاولة خطفهم أو تهديدهم..إلخ، بالإضافة إلى عمليات تفجير عيادات طبية تمارس الإجهاض.

و من السهل رؤية أن محاربة الإجهاض و محاربة وسائل منع الحمل هما من أهم عناصر أجندة الكنائس المختلفة، و التي تحاول فرضها على الكوكب؛ إلى جوار منع الحرية الجنسية و الموت الرحيم و أبحاث الخلايا الجزعية.

أما الإجهاض فليس شيئا جميلا و لا أحد يفعله على سبيل التسلية و تمضية الوقت ، بل هو حل لمشكلة و يكون له ضرورات اضطرارية عديدة حين لا يكون الوالدين مستعدين للحمل أو يحدث بشكل خاطئ ؛ و بغض النظر عن كون القضية مثار جدال مفتوح من جوانبها الفلسفية و الأخلاقية و الإجتماعية و الإجتماعية و الطبية..إلخ، فيظل الأكيد أن المرأة لها الحق في أخذ القرارات فيما يخص جسدها و ما بداخله، خاصة أن الجنين في شهوره الأولى (حيث تُجرى الغالبية الساحقة من عمليات الإجهاض) ليس إنسانا بعد و إنما هو مجموعة خلايا تفتقر إلى الكينونة أو الشخصية أو الوعي أو الشعور (و ذلك بعكس الرؤية المسيحية التي تؤمن بأن الروح تدخل في لحظة الحمل ذاتها، مما يجعل الخلية المخصبة إنسانا!).

هكذا صار العالم المتقدم في النصف الشمالي من الكرة الأرضية يمنح المرأة حق التخلص من الجنين إن كانت تريد ذلك لأي سبب، مما مايزال مستعصيا في دول أخرى.

أما هذه النظرة المسيحية (غير العلمية) بأن الخلية المخصبة هي إنسان ، فهي التي تجعل المؤمنين في الغرب مناهضين بشدة أيضا و مطالبين بوقف أبحاث الخلايا الجزعية أيضا، و التي تعد بالمساهمة- و تساهم بالفعل- في علاج قائمة طويلة من أمراض الدم و المناعة، و السرطان بأنواعه، و الأنيميا، و السكري، و داء باركنسون، و الألزهايمر، و العمى، و أمراض الرئة، و المفاصل، و إصابات الحبل الشوكي و غيرها.

هكذا نحن أمام تفسيرين للأمر : إما أن الكنيسة بطبعها متطرفة في حرصها الراقي على الحفاظ على الحياة الإنسانية إلى درجة الدفاع عن حقوق الخلايا المخصبة، و إما أن الكنيسة بطبعها متطرفة في معاداة العلم و الوقوف عقبة أمام التقدم العقلاني و الإنساني–  من اطلع و لو قليلا على تاريخ تلك المنظمة فلن يجد أدنى صعوبة في معرفة الجواب.


أما وسائل منع الحمل فقد عارضها آباء الكنيسة منذ القرون الأولى بأشكالها المختلفة، فهناك عبارات على لسان يوحنا ذهبي الفم و جيروم و إكليمندس السكندري و أوغسطينوس و غيرهم تدين جميع الممارسات "غير الطبيعية" و التي قد لا ينتج عنها أولادا- متضمنة كذلك المثلية و الجنس الشرجي و الإستمناء.

و لعله ليس من المستغرب لكنيسة تقيم عقيدتها على حمل بلا جنس، أن تزعجها فكرة وجود جنس بلا حمل!

و لعل أحد العواطف التي تسكن في نفوس المؤمنين و تدفعهم إلى معارضة الإجهاض- و معها وسائل منع الحمل- بهذا الحماس هو رعبهم من من أن ينجو الزناة بزناهم دون عقاب، و رغبتهم الإيمانية المحمومة في أن من يمارس تلك العملية الجنسية اللعينة خارج ضوابطنا فعليه أن يتحمل ألما ما في المقابل.

و معارضو تلك الأمور اليوم لا يتجاهلون فقط الحرية الإنسانية و السعادة الإنسانية على المستوى الشخصي، و إنما يتجاهلون أيضا أن إهمال تنظيم النسل ينتج عنه عشرات الملايين من الولادات غير المرغوب فيها كل عام، مما يزيد الفقر و الجهل و يعوق النمو في دول العالم الثالث، كما يؤدي الأمر أيضا إلى انتشار هائل للأمراض الجنسية كالأيدز- و الذي تصر الكنيسة على ما يبدو أنه ليس أكثر خطرا من العوازل الذكرية!

الإيدز
في الستينات انطلقت في الغرب موجة جديدة من الحركات الحقوقية و المدنية المطالبة بمزيد من الحريات و الحقوق؛ تضمن ذلك ما يُسمّى "الثورة الجنسية"؛ و في إثره أصدر البابا بول السادس منشورا ضد جميع وسائل منع الحمل.

و مع انتشار مرض الإيدز في أفريقيا، و رغم مساهمة المؤسسات الكنسية الخيرية، مع غيرها، في توفير الرعاية الصحية للمرضى في البلاد المنكوبة، إلا أن جهودها كانت أكبر في محاولة منع توفير الواقيات الذكرية هناك ؛ و رغم  إجماع الهيئات الطبية العالمية أن الواقيات هي أفضل وسيلة لمقاومة انتشار الإيدز، إلا أن الكنيسة أصرت على منع توزيع الواقيات بصفته أمرا يشجع على الرذيلة..إلخ – حتى أن بعض الكهنة صرحوا لوسائل الإعلام معلومات علمية خاطئة بأن الواقيات لا تمنع الإيدز لأن الفايروس شديد الضآلة و يمكنه المرور عبر المسام الصغيرة للواقي(!)، و تم تكرار تلك الأكذوبة في عدة مناسبات.

و تقول التقديرات أنه لو كانت الكنيسة قد ساهمت، بنفوذها الواسع، في الترويج للواقيات الذكرية منذ الثمانينات لكان بالإمكان تلافي إصابة نحو 30 مليون ضحية إيدز حول العالم.


ملائكة الجحيم
- ((ذات يوم قابلت سيدة كانت تموت بالسرطان في أسوأ حال يمكن تصوره، و قلت لها "تعرفين، هذا الألم المريع هو فقط قبلة من يسوع- علامة على إنك قد اقتربت من يسوع على الصليب حتى أنه يستطيع أن يقوم بتقبيلك"، فضمت يديها معا و قالت "أيتها الأم تريزا، أرجوك قولي ليسوع أن يكف عن تقبيلي")) – الأم تريزا في خطاب للصلاة القومية، 3 فبراير 1994.

معلوم أن الكنائس- و الكنائس الكاثوليكية تحديدا- تقوم بأنشطة واسعة خيرية حول العالم، من توفير الرعاية للكثير من الفقراء و المرضى ؛ و الجدير بالذكر أنه حتى المنظمات الإرهابية الإسلامية في بلادها تقوم أيضا بخدمات خيرية و اجتماعية واسعة أيضا.

على الجانب الآخر هناك منظمات أخرى غير دينية – كمنظمة العفو الدولية أو أطباء بلا حدود و غيرهما- تقوم بتوفير رعاية مماثلة، من دون أن تستغل خدماتها تلك لهدف نشر عقائد دينية أو دعم جماعات معينة فرض أجندات اجتماعية و سياسية على المجتمعات التي تمد يد المساعدة إليها، كما هو الحال مع المؤسسات الخيرية الدينية، التي تستخدم النشاط الخيري كوسيلة لفرض النفوذ، و الترويج للأفكار و الأجندات الإجتماعية و السياسية؛ و هذا ما تهدف له الكنيسة.

فلو نظرنا إلى شخصية الأم تريزا- كمثال- و هي صاحبة مؤسسة المبشرين الخيرية المعروفة بأعمالها الخيرية في أكثر من مائة و ثلاثين بلدا، موفرة رعاية صحية و اجتماعية للمحتاجين، بشكل جعل تلك الراهبة الألبانية، الفائزة بنوبل للسلام، بمثابة نجم ساطع في سماء الرحمة و التسامح و الزهد و الإيثار و الخير..إلخ ، حتى باتت توصف بالقديسة، بل و تُنسب لها معجزات خارقة على طريقة الأنبياء و القديسين - أقول لو تأملنا تلك الشخصية فربما لن نجد الصورة بالنقاء الذي تبدو عليه، أو يُراد لها أن تبدو عليه.

فالحقيقة أن تلك السيدة هي مجرد ذراع للكنيسة الكاثوليكية الفاتيكانية، تقوم على تنفيذ أجنداتها و الترويج لأفكارها في دول العالم الثالث خاصة؛ فالأهداف الأولى لمؤسساتها و الملايين التي تتلقاها هي دعم نفوذ الكنيسة حول العالم و نشر العقيدة الكاثوليكية و محاربة حرية الطلاق و منع الحمل و الإجهاض خاصة في دول العالم الثالث.

فحين أثيرت قضية امرأة بوسنية تعرضت إلى الإغتصاب و كانت تنوي اللجوء إلى اجهاض حملها، أعلنت الأم تريزا في إحدى خطاباتها أن الإجهاض "بمثابة قتل" و أنه "أخطر ما يهدد السلام العالمي".

و على الجانب الآخر فالأم تريزا لا تجد غضاضة في صداقة و دعم عدد من رجال المال و السياسية الفاسدين؛ مثل صديقها تشارلز كيتنغ، المؤمن المتحمس، و الذي ثبت تورطه بالتحايل لسرقة أكثر من مائتين و خمسين مليون دولار في فضيحة مالية مدوية في الثمانينات.

و كان الرجل قد أعطى من الأموال المسروقة تبرعات هائلة للأم تريزا؛ و في أثناء محاكمته حاولت الأم الرؤوم الدفاع عنه و الإلتماس لدى المحكمة لصالحه- ثم حين راسلها النائب العام لاحقا لترد المال المسروق رفضت إعادته.

كما كان للأم القديسة اتصالات وثيقة بدكتاتور هاييتي فرانسوا دوفالييه، و الذي نهب بلاده و قتل عشرات الآلاف من مواطنيه؛ و قد توجهت إلي هناك لتستلم جائزة منه، و أغدقت الثناء عليه و على واحدة من أكثر العائلات الحاكمة قمعا و فسادا في العالم، مؤكدة أن دوفالييه "شخص محب للفقراء قريب من شعبه" – و لم تمض بضعة سنوات على تصريحاتها تلك حتى كان الرجل قد أطاحت به ثورة شعبية جارفة.

و بعد عودتها إلى بلادها في أواخر الثمانينات توجهت لزيارة و تمجيد قبر دكتاتور دموي آخر هو أنور خوجة، و الذي كانت البلاد في زمنه أشبه بمعتقل كبير.

و قد لعبت الأم أدوارا مماثلة مشبوهة في الهند و لبنان و نيكاراغوا و هاييتي و أرمينيا و غيرها، حيث ساهمت، كرسول للكنيسة، في دعم أنظمة و تبييض وجوه و دعم لجهات و ضغط على حكومات للترويج لسياسات بعينها..إلخ – ثم في لحظات الجد كانت تلجأ فورا إلى الحجة المسيحية، الكاذبة دوما: أنا لا أتدخل في السياسة!

لكن المؤكد أن دورها السياسي كان هو الأساس.

و في الثمانينات، في مدينة بهوبال في الهند، حدث تسرب غازي من مصنع مبيدات حشري مملوك لشركة أمريكية عالمية ، معرضا نصف مليون هندي إلى السموم و قاتلا الآلاف؛ و لم تتقدم الأم بأية مساعدات مالية للضحايا و أسرهم، بل ظهرت على الإعلام و كانت نصيحتها للأهالي الغاضبين هي أن "يتسامحوا و يغفروا".

و قد ظهرت العديد من الكتب و التحقيقات التي تكشف مخططات و أهداف تلك السيدة، و تتحدث عن صلاتها المشبوهة، و عن تلقيها الملايين من الدولارات التي تبقى في حسابات سرية غير مراقبة بشكل تثير التساؤلات، و تتحدث كذلك عن سوء الأحوال في مؤسساتها "الخيرية"، سواء على المستوى الإنساني أو حتى الصحي و الطبي، من حيث انعدام النظافة و قلة الطعام و الإفتقار للرعاية الصحية و حتى عدم توفر مسكنات الألم..إلخ.

من ذلك فيلم وثائقي للصحافي كريستوفر هيتشنز بعنوان "ملاك الجحيم"، و الذي تلاه كتابه "وضع المبشرين: الأم تريزا في النظرية و التطبيق"؛ ثم هناك دراسة منشورة لباحثين من جامعتي مونتريال و أوتوا، قاموا فيها بجمع و تحقيق مئات الوثائق المتعلقة بحياة و سيرة و أنشطة الأم تريزا،ثم كشفوا عن "أساليبها المشكوك فيها للعناية بالمرضى- صلاتها السياسية المريبة – إدارتها الغامضة للأموال الهائلة التي كانت تتلقاها – آراءها العقائدية الجامدة تحديدا حول الإجهاض و الطلاق ووسائل منع الحمل".

و حين تم توجيه الإنتقاد للأم تريزا بشأن ضعف الرعاية في مؤسساتها صرحت أنه "هناك شئ جميل في رؤية الفقراء متقبلين لمصيرهم، و يعانون كما عانى المسيح".

على الجانب الآخر حين احتاجت الأم نفسها إلى الرعاية الصحية، تلقتها في مستشفى أمريكية عصرية.
أما كيف و لماذا تم رفع شأن تلك السيدة لتصير أيقونة كما صارت ، فالدور الأكبر فيه لصناعة الإعلام؛ ففي أواخر الستينات تم استضافة الأم تريزا على البي بي سي، في برنامج تليفزيوني من قبل مالكوم ماغريدج، الصحافي اليميني الكاثوليكي المعارض للإجهاض، و الذي قرر تلميع صورة الأم فنسب لها معجزة مبهرة ظهرت على الكاميرا في شكل "ضوء غامض مبهر"- تبين لاحقا أنه مجرد عيب في الفيلم المستخدم.

و لاحقا ستنسب لها  الكنيسة الكاثوليكية معجزات أخرى كشفاءها لإحدى المريضات ، رغم اعتراض الأطباء المتابعين لها ؛ و في النهاية جميع الأصوات المعترضة لن تكون قوية، بالمقارنة مع الرغبة الواسعة و المحمومة في إظهار صورة البطلة المسيحية البيضاء التي تعمل على انتشال الشرق من آلامه؛ و هي صورة إعلامية لاشك أن البعض في الغرب في أشد الحاجة لرؤيتها.

أما الحقيقة، فهو أن السيدة هي مجرد ذراع كنسي للترويج لأجندات الكنيسة الكاثوليكية، و التي تؤدي في النهاية إلى استمرار الفقر و الضعف و التخلف و بقاء الأقوى و الأغنى على مقاعدهم.

المرأة
المرأة نصف الجنس البشري؛ و واحدة من اعتذارات بابا الفاتيكان الأخيرة التي ذكرناها كانت اعتذارا عن قمع الكنيسة الكاثوليكية لذلك النصف و الإنتقاص من حقوقه.

و قد ذكرنا قمع اليهودية للمرأة، و التي تميزت – كمثال- بالتشدد الهيستيري في نجاستها في فترة الحيض و ما قبلها و ما بعدها، بحيث أنها تقضي نصف حياتها نجسة قذرة ممنوعة من لمس أي شيء تقريبا، و ذكرنا استمرارية هذا القمع نسبيا في المسيحية، فرأينا كراهية المسيح و أتباعه للجنس، و منعه للطلاق الذي يعد بمثابة عبودية للزوجين و على الأخص الطرف الأضعف في المجتمع و هو المرأة، كما رأينا كيف يحط بولس من قدر المرأة و يجعلها سبب الخطيئة و أقل مكانة من الرجل، و يأمرها بالخضوع و الصمت في الكنائس..إلخ.

و عبر التاريخ، أصرت الكنيسة، عبر سلسلة من المجمعات و المراسيم الرسمية، على رفض ترسيم النساء و منعهن من تولي المناصب الدينية.

من أهم أسباب ذلك المنع هو انحطاط مكانة المرأة بشكل عام (فهي ممنوعة من الكلام في الكنيسة فما بالك بالقيام على الطقوس؟!)؛ و منها هيستيريا نجاسة الحيض و الخوف من تلويث طهارة الكنيسة.

و من الأسباب أيضا أن الكاهن- حسب المعتقد المسيحي- يتصرف بالنيابة عن المسيح نفسه، و الذي أخذ شكل ذكر حين تجسد- و بالتالي فلابد أن يكون الكاهن ذكرا ؛ و
من التعاليم الشفهية للكنيسة أن المسيح اختار الرسل و الرسل اختاروا آخرين ليخلفوهم في الكهنوت، و الكنيسة ملزمة بذلك الإختيار- و بالتالي فمن المستحيل ترسيم النساء.

و عبر التاريخ أيضا، كان اللاهوتيون و آباء الكنيسة- دون استثناء يُذكر- معادين بشدة للجنس، و كذلك للمرأة، حيث يعتبرونها مصدر للفتنة و الغواية و الشر و سببا في الخطيئة الأصلية.

فنرى إكليمندس السكندري، في القرن الثاني ، يكتب في كتابه "المعلّم- بيداغوغوس" قائلا أنه على كل امرأة أن تشعر بالخجل، لمجرد كونها امرأة.

في نفس الفترة تقريبا، قال ترتيليان أن المرأة هي "بوابة الشيطان"، و أنها سبب مصائب البشرية- مستنتجا ذلك من قصة الخطيئة و السقوط في سفر التكوين في الكتاب المقدس ؛ كما وصف ترتيليان الزواج بأنه أمر "ملطخ بالشهوة".

و كان اللاهوتي أوريغانوس معروفا بكراهيته للجنس و النساء؛  ففي سن الثامنة عشر قام بإخصاء نفسه بناءا على تعليمات المسيح (متى 19-12)؛ و قال أوريغانوس أن المرأة أسوأ من الحيوان لأنهن "مليئات بالشهوة دوما"؛ كما لم يكن يوافق على الجنس حتى بين الزوجين.

و قد أكد مطران الأسكندرية ديونيسوس في القرن الثالث على نجاسة المرأة في وقت الحيض، و أنه لا ينبغي لها لمس المقدسات أوالدخول إلى الكنيسة، كما ينص العهد القديم؛ و الجدير بالذكر أن ذلك العداء الهيستيري للحيض كان أكثر تشددا في الغرب منه في الشرق.

ثم إن القديس غريغوري أسقف القسطنطينية في القرن الرابع قال أن "المرأة لديها شرور شراسة التنين و خبث الأفعى".

و نصت تعاليم غريغوري آخر، هو أسقف نياسا، أن الجنس إنما هو فعل ظهر نتيجة سقوط الإنسان ، و أن الزواج هو نتيجة للخطيئة الأصلية.

أما القديس أمبروز، أسقف ميلان، فقد أكد أن طريقة خلق المرأة – من ضلع آدم و ليس من روحه - تؤكد مكانتها الدنيا ككائن من الدرجة الثانية، و أنها لم تكن مخلوقة على صورة الله كالرجل.

و ككل رجال الدين المسيحيين، أكد أمبروز أن العذرية و الإمتناع عن الجنس هي فضيلة عظمى، كما نصح بتجنب الزواج قدر الإمكان؛ و على من يلجأ إلى الزواج حرّم أمبروز الجنس إلا بغرض واحد هو إنجاب الأولاد؛ أما للزوجين الكبيرين في السن حيث المرأة لن تستطيع الحمل ، قرر أمبروز أنه لا يجب على الزوجين ممارسة الجنس مطلقا.

كذلك القديس جيروم، اللاهوتي الأشهر في القرن الثالث و الرابع، و الباحث و مترجم الكتاب المقدس إلى اللاتينية، فقد كره الجنس و مجّد العذرية، و أشار إلى أن حواء كانت عذراء في الجنة- مما يؤكد أن العذرية هي الحالة الأصلية، و أن الزواج لم يأت إلا كنتيجة للسقوط و الخروج من الجنة.

و قرر جيروم أن المرأة هي "أصل كل الشرور"، و أن "لمس امرأة هو أمر سيء".

و مثلهم القديس يوحنا ذهبي الفم، أسقف القسطنطينية في القرن الرابع و الخامس، فقد كان كالعادة معاديا للمرأة و الجنس معا؛ حيث قال أن النساء بشكل عام "ضعيفات و طائشات و متقلبات"، و أكد بأنه "لا يفيد الرجل أن يتزوج؛ فما المرأة إلا عدوة للصداقة، و عقوبة لا مفر منها،و شر ضروري، و غواية طبيعية، و خطر منزلي، و أذى لذيذ، و خطأ في الطبيعة، مصبوغ بألوان جميلة؟!".

و كي يساعد المؤمنين على التخلص من فتنة المرأة، أكد لهم يوحنا ذهبي الفم أن جسدها الفاتن ".. ليس إلا بلغم و دماء و مخاط و عصارة هضمية".

و كذلك القديس أوغسطينوس، في القرن الرابع و الخامس، فقد استخدم قصة السقوط مع الخطيئة الأصلية للترويج لكراهية النساء و الجنس بدرجة غير مسبوقة؛  فأدان المرأة على طرد آدم من الجنة لأن الشيطان أغواها مستغلا سذاجتها؛ وأكد على أن المرأة أحط مكانة من الرجل، إلى الدرجة التي جعلته يتساءل "لماذا تم خلق المرأة أصلا؟" ؛ و لم يجد ردا على سؤاله سوى سبب التناسل -  أما إعمار الأرض و توفير الأنس و السكينة فقد قرر أن صداقة الرجال أفضل في هذا الشأن.

و بخصوص الجنس بين الزوجين، فقد أكد أوغسطينوس- كسابقيه- أنه سيكون خطيئة لو كان له أي غرض آخر سوى التناسل.
هكذا فالفائدة الوحيدة للمرأة عند أوغسطينوس و غيره من رجال اللاهوت، هي فائدة مرتبطة بشكل مباشر بالخطيئة و الإنحطاط و الغواية و الشعور بالذنب: الجنس.

أما صديق أوغسطينوس، بوسيديوس، فقد ورد عنه التأكيد أن صديقه لم يسمح لأي امرأة بوضع قدمها في منزله مطلقا، و أنه لم يتكلم مع امرأة إلا بحضور شخص ثالث؛ و لم يكن لديه استثناءات في ذلك حتى مع اخته الكبرى و بنات إخوانه – و كن جميعا راهبات.

هذا الفكر اللاهوتي المعادي للمرأة سيستمر عبر القرون اللاحقة؛ ففي القرن الثالث عشر كان اللاهوتي الدومينيكاني الكنسي ألبرتوس ماغنوس كارها للنساء أيضا؛ حيث كتب أنها أقل أهلية للسلوك الأخلاقي، لأنها تحتوي على سوائل أكثر من الرجل- ممايجعلها أكثر ميوعة و أسهل في التحريك؛ و ذلك الإختلاف الجسدي هو سر كون المرأة متقلبة و فضولية و غير أهل للثقة بل تميل إلى الخيانة و الخداع و الكذب، كما أنها لا تعرف شيئا عن الفضيلة.
و أكد ماغنوس أن المرأة لا تتميز بالذكاء بل بالخبث- فكأنها "أفعى سامة أو شيطان بقرون".

أما تلميذ ماغنوس، و هو اللاهوتي الكبير في القرن الثالث عشر توما الأكويني، فقد كان يرى أن المرأة هي نتيجة "تلوث للطبيعة الأصلية"؛ فوجودها لم يكن ضمن خطة الطبيعة الأولى، التي تنزع نحو الكمال، و إنما في خطتها الثانية التي تتسم بالإهتراء و التشويه و الضعف.

و أكد توما أن النساء أقل ذكاءا من الرجال، و أن الرجال لديهم منطقا أكبر و فضيلة أقوى ؛ و ذكر أن التشوهات المنطقية لدى النساء شبيهة بالتي لدى الأطفال و المرضى العقليين، و لم يفته الإشارة إلى أن النساء أقل صمودا من الرجال تجاه الغرائز و الغواية الجنسية من الرجال، لأن محتويات أجسادهن من السوائل أكثر.


و في المجمل، فإن التعليم الكنسي المسيحي يقوم على التعاليم الآتية: الرجل مخلوق أولا قبل المرأة – المرأة خُلقت من الرجل و ليس العكس – المرأة خُلقت من أجل الرجل و ليس العكس – الرجل صورة مجد الله؛ أما المرأة فهي صورة مجد الرجل – رأس الرجل هو المسيح، بينما رأس المرأة هو الرجل - المرأة كانت السبب في الغواية و السقوط و الطرد من الجنة – في العلاقة الزوجية المرأة عليها أن تكون خاضعة للرجل، كما أن الكنيسة خاضعة للمسيح.
هذه التقاليد المتخلفة البدائية المعادية للنساء و المحتقرة لهن، تم تنحيتها جانبا من خلال جهود التنوير الأوروبي العلماني و كفاحه الذي امتد عبر القرون -  لكنها بقيت مع ذلك في ثنايا تعاليم الكنيسة، حيث تظهر في موقف كهنة المسيحية من قضايا مثل حرية الطلاق و الإجهاض و موانع الحمل و غيرها.

الأطفال
يبدو أن كراهية المسيحية للجنس و للمرأة، انتقلت في بعض الأحيان إلى كراهية نتائجهما البيولوجية : الأطفال.
في 3 يونيو 2014، نشرت الواشنغتون بوست خبرا من غرب أيرلندا، عن العثور على جثامين حوالي ثمنمائة طفل من أعمار مختلفة مدفونة في خزان للصرف الصحي، في أطلال مبنى قديم كان يطلق عليه "البيت".

هذا البيت كان عبارة عن مأوى للـ"نساء الخاطئات" و أطفالهم "غير الشرعيين"؛ و كانت تديره مجموعة من الراهبات على مدى الربع الثاني من القرن العشرين.

و مع التحقيق التاريخي تبين ما حدث : النساء اللاتي كن يتعرضن لحمل غير شرعي، سواء باغتصاب أو علاقات دون زواج، كان يتم نبذهن في هذا الملجأ و أمثاله ؛ حيث في النهاية تم ترك الأطفال- ثمرات الخطيئة – للموت بإهمال متعمد، و لأسباب متعددة، منها سوء التغذية أو الأمراض، و تدريجيا تم تكويم جثثهم بهذا الشكل، على مدى عقود.

تلك الممارسة- قتل الأطفال غير الشرعيين عمدا أو إهمالا - يبدو أنه تقليد قديم يمارس بشكل دوري في الأديرة المسيحية- كما نجد في نصوص المجمع الكنسي "أيكس لا شابيل" المنعقد في القرن التاسع للميلاد.

لكن الموت لم يكن هو المصير الوحيد للأطفال تحت رعاية كهنة المسيحية؛ فمنذ الثمانينات بدأت قضايا الإعتداء الجنسي على الأطفال في الكنائس و الأبرشيات الكاثوليكية على أيدي القساوسة و الأساقفة -  وحتى الراهبات- تأخذ اهتماما واسعا.

في الولايات المتحدة وحدها تم إدانة مئات الكهنة، و حصلت أُسر الضحايا على ملايين الدولارات من التعويضات عما تم إلحاقه بأبنائهم (أكثر من 90% من الحالات تضمنت اعتداءا على أطفال ذكور لا إناث ؛ و لعل السر في ذلك ليس الميل إلى المثلية و إنما فقط سهولة تواجد الكهنة الذكور مع الأطفال الذكور أكثر؛ كما تراوحت أعمار الضحايا بين سن المراهقة نزولا إلى ثلاثة سنوات).

تفجّر القضايا أجبر الكنيسة على فرض المزيد من الرقابة الصارمة على كهنتها؛ و بعد الولايات المتحدة تفجرت قضايا مشابهة في كندا و الفلبين و كينيا و تنزانيا و أيرلندا و انغلترا و فرنسا و إيطاليا و هولندا و ألمانيا و النمسا و بلجيكا و النرويج و السويد و بولندا و مالطا و كرواتيا و البرازيل و الأرجنتين و شيلي و المكسيك و بيرو و أستراليا و نيوزيلندا و غيرها، في سلسلة من الفضائح المدوية و المتلاحقة في كل بلد تقريبا حول العالم.


و مع التحقيقات تبيّن أن بعض القضايا قديم، أي أن الإعتداءات تمت منذ عقود (خمسين سنة في بعض الأحيان)، و أنها تراوحت بين الحديث الجنسي و بين الإعتداء الكامل (الإغتصاب)؛ فمنذ 2001 إلى 2010 فحص الكرسي الرسولي- المركز الإداري للكنيسة الكاثوليكية- ادعاءات هتك عرض و اعتداءات جنسية بشأن حوالي ثلاثة آلاف كاهن.

أظهرت التحقيقات كذلك أن المسئولين الكنسيين كانوا على علم بتلك الممارسات، و اجتهدوا في التستر عليها و إقناع أهالي الضحايا بعدم إبلاغ السلطات، و أنهم في بعض الأحيان تظاهروا أمام الأهالي باستبعاد الكهنة المغتصبين، لكنهم في الحقيقة كانوا يبدلونهم معا من أبرشية إلى أبرشية لا أكثر، مما كان يبقي أولئك المجرمين على اتصال بالمزيد من الأطفال.

كمثال، ففي 1980، استقبل البابا بينيدكت السادس عشر واحدا من الكهنة المعتدين على الأطفال و قام بتحويله إلى العلاج النفسي- ثم لاحقا تم نقل الكاهن إلى أبرشية أخرى، حيث استمر في الإعتداء على المزيد من الأطفال.

و كما قد يُتوقع، خرجت تصريحات عديدة من رجال الدين و من الفاتيكان مفادها أن الإعلام غير المنصف يتجنّى كثيرا على الكنيسة الكاثوليكية؛ و على الجانب الآخر خرجت جهات من جهات رسمية و بحثية تشير إلى أن نسب الإعتداء على الأطفال من قبل الكهنة ليس بأعلى من المعدلات الإعتيادية في أي طائفة مجتمعية أخرى.

ربما هذا صحيح؛ و ربما المشكلة الأولى هنا ليست في الكبت الجنسي فقط (فكثير من المعتدين متزوجين) ؛ و لكن لعل المشكلة الأكبر هي في هالة التقديس و السلطة الممنوحة للكهنة و التي سمحت لهم بالإستمرار في الجرائم لفترة طويلة و التستّر عليها، مع تعطيل البلاغات ضدها لوقت طويل.

و مؤخرا فقط، في 2014، تم القبض على المطران الكاثوليكي، جوزيف فيلوزكوسكي، 66 عاما، بتهمة ممارسة الجنس مع أطفال حين كان سفيرا للبابوية في جمهورية الدومينيكان لأربعة سنوات؛ و مع فحص جهاز الكمبيوتر الخاص به تم إيجاد


و على المستوى اللاهوتي لم ينج الأطفال من غضب إله المسيحية.

فمنذ العهد المبكر للمسيحية قام القديس أوغسطينوس بالتأمل في نصوص الكتاب المقدس، القائلة بأن جميع البشر يولدون في الخطيئة و الذنب (رومية 5-16 و 5-18 و غيرها)، ليستنتج من ذلك أن الأطفال الذين يموتون دون تعميد سوف يقعون تحت طائلة الإدانة و العقاب - مما فتح الباب أمام فكرة "الليمبو" (حدود الجحيم)، و هي المكان الأخروي المخصص لتعذيب الأطفال الذين ماتوا و لم يتم تعميدهم، حسب ما آمن العديد من اللاهوتيين المسيحيين عبر القرون. 

المسيحية و العبودية

- ((يسوع، رغم إداناته المتكررة للخطيئة بصفتها عبودية أخلاقية، فإنه لم يقل كلمة واحدة ضد العبودية كمؤسسة اجتماعية)) – أفيري روبرت دولس، الكاهن الجيزويتي و اللاهوتي و الكاردينال في الكنيسة الكاثوليكية.

- ((العبودية، تم ترسيخها بمرسوم من الله القدير؛ و هي مقبولة في الكتاب المقدس، في العهدين، من تكوين و حتى رؤيا)) -  جيفرسون دافيز، رئيس الولايات الكونفدرالية الأمريكية.

- ((الحق في امتلاك العبيد هو أمر راسخ في الكتاب المقدس، سواء في المبدأ أو في التطبيق))- ريتشارد فورمان، رئيس مؤتمر المعمودية في كارولينا الجنوبية.

- ((في كل العصور امتلكت الكنيسة الرومانية عبيدا، و اشترت و باعت عبيدا، و شرعت و شجعت أبنائها للتجارة في العبيد؛ و بعد وقت طويل من قيام بعض المسيحيين بتحرير عبيدهم، استمرت الكنيسة في التمسك بعبيدها؛ لو كان لأحد أن يعلم يقينا أن هذا كان صائبا و موافقا لإرادة الله فهو الكنيسة، كونها الممثل المُعيّن لله على الأرض و المفسّر الشرعي المعصوم الأوحد للكتاب المقدس ؛ كانت هناك النصوص، دون لبس في معانيها، الكنيسة كانت محقّة، و كانت تقوم بما رسمه لها الكتاب المقدس؛ و كان موقفها مستقرا  إلى درجة أنها، في كل القرون، لم تتفوه بكلمة ضد عبودية البشر)) الكاتب الأمريكي مارك توين، في مقاله "تعاليم الكتاب المقدس و الممارسة الدينية".

- ((لايجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الإسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أشكالهما)) -  المادة الرابعة من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.

الحقيقة أن الكتاب المقدس- بعهديه القديم و الجديد- لا يحتوي عبارة واحدة تحرم الرق أو تمنعه بشكل صريح ؛ و ينطبق الحال على جميع الكتب الدينية بحيث يبدو أن الله ليس لديه أي مشكلة مع استرقاق البشر و لم يكتشف أبدا أن العبودية هي أمر خاطئ.

صحيح أننا في التوراة، في مقدمة الوصايا العشرة، نجد يهوه يمنّ بفخر على الإسرائيليين بأنه أخرجهم من العبودية في مصر (..انَا الرَّبُّ الَهُكَ الَّذِي اخْرَجَكَ مِنْ ارْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ) الخروج 20-2، إلا أننا بعد بضعة عبارات نجد ضمن الوصايا وصية تقول (..لا تَشْتَهِ امْرَاةَ قَرِيبِكَ وَلا عَبْدَهُ وَلا امَتَهُ وَلا ثَوْرَهُ وَلا حِمَارَهُ وَلا شَيْئا مِمَّا لِقَرِيبِكَ) الخروج 20-17؛ مما يؤكد أن العبودية مكروهة عند الله فقط حين تكون موجهة لشعبه المختار من طرف الشعوب الأخرى.

و في سائر نصوص العهد القديم، نجد سماحا لليهود - بل و تحريضا- على استعباد البشر، و امتلاكهم، و توارثهم إلى الأبد-  و لا مانع من التلسط عليهم خاصة لو كانوا من الأجانب من الشعوب الأخرى (..وَامَّا عَبِيدُكَ وَامَاؤُكَ الَّذِينَ يَكُونُونَ لَكَ فَمِنَ الشُّعُوبِ الَّذِينَ حَوْلَكُمْ. مِنْهُمْ تَقْتَنُونَ عَبِيدا وَامَاءً. وَايْضا مِنْ ابْنَاءِ الْمُسْتَوْطِنِينَ النَّازِلِينَ عِنْدَكُمْ مِنْهُمْ تَقْتَنُونَ وَمِنْ عَشَائِرِهِمِ الَّذِينَ عِنْدَكُمُ الَّذِينَ يَلِدُونَهُمْ فِي ارْضِكُمْ فَيَكُونُونَ مُلْكا لَكُمْ. وَتَسْتَمْلِكُونَهُمْ لابْنَائِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ مِيرَاثَ مُلْكٍ. تَسْتَعْبِدُونَهُمْ الَى الدَّهْرِ. وَامَّا اخْوَتُكُمْ بَنُو اسْرَائِيلَ فَلا يَتَسَلَّطْ انْسَانٌ عَلَى اخِيهِ بِعُنْفٍ) لاويين 25-44،46 - و في مواضع أخرى نجد تفصيلات لأحكام التعامل مع العبيد و الإماء، سواء الأجانب أو اليهود (مثال في خروج 21 ، و غيره).

لكن هذا كان في العهد القديم فقط، أليس كذلك؟

لا.

أما عن المسيح – الذي أكد أنه لم يأت كي ينقض الناموس (متى 5-17)، و أكد أن الشريعة اليهودية لن تزول أبدا (متى 5-18)، و حث على تطبيق وصايا العهد القديم بحذافيرها و حذر من سيخالفها (متى 5-19)، فهو لم يقل شيئا مع أو ضد العبودية.

(و ربما الإستثناءات الوحيدة لذلك كانت في أمثلة يسوع العديدة التي كرر فيها استخدام مقارنة السيد و العبد العاصي الذي يتم ضربه؛ فيقول مثلا في إحداها (..وَأَمَّا ذَلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ فَيُضْرَبُ كَثِيراً) لوقا 12-47؛ في هذه و غيرها لم يبد أن لدى المسيح أدنى مشكلة مع ذلك التشريع أو تلك الممارسات التي كانت سائدة في زمنه و بيئته- و في كتابه المقدس).


أما بولس، فسيؤكد إقرار تلك المؤسسة، حين يحث العبيد على طاعة السادة في كل شيء و خدمتهم بخضوع، كما يحث السادة على عدم التشدد مع العبيد (أَيُّهَا الْعَبِيدُ، أَطِيعُوا سَادَتَكُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، فِي بَسَاطَةِ قُلُوبِكُمْ كَمَا لِلْمَسِيحِ -لاَ بِخِدْمَةِ الْعَيْنِ كَمَنْ يُرْضِي النَّاسَ، بَلْ كَعَبِيدِ الْمَسِيحِ، عَامِلِينَ مَشِيئَةَ اللهِ مِنَ الْقَلْبِ، خَادِمِينَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَمَا لِلرَّبِّ، لَيْسَ لِلنَّاسِ. عَالِمِينَ أَنْ مَهْمَا عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَيْرِ فَذَلِكَ يَنَالُهُ مِنَ الرَّبِّ، عَبْداً كَانَ أَمْ حُرّاً. وَأَنْتُمْ أَيُّهَا السَّادَةُ، افْعَلُوا لَهُمْ هَذِهِ الأُمُورَ، تَارِكِينَ التَّهْدِيدَ) أفسس 6-5،9.

 و في موضع آخر يكرر الوصية للعبيد بطاعة السادة بإخلاص و أن هذا يعد خدمة للمسيح؛ و يعدهم بالجزاء- بعد الموت طبعا (أَيُّهَا الْعَبِيدُ، اطِيعُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ سَادَتَكُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ، لاَ بِخِدْمَةِ الْعَيْنِ كَمَنْ يُرْضِي النَّاسَ، بَلْ بِبَسَاطَةِ الْقَلْبِ، خَائِفِينَ الرَّبَّ
. وَكُلُّ مَا فَعَلْتُمْ فَاعْمَلُوا مِنَ الْقَلْبِ، كَمَا لِلرَّبِّ لَيْسَ لِلنَّاسِ، عَالِمِينَ انَّكُمْ مِنَ الرَّبِّ سَتَأْخُذُونَ جَزَاءَ الْمِيرَاثِ، لأَنَّكُمْ تَخْدِمُونَ الرَّبَّ الْمَسِيحَ) كولوسي 3-22،24.

و في مكان ثالث (وَالْعَبِيدَ أَنْ يَخْضَعُوا لِسَادَتِهِمْ، وَيُرْضُوهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، غَيْرَ مُنَاقِضِينَ..) تيطس 2-9.

و إحدى رسائل بولس، رسالة فيلمون، هي خطاب موجه مع عبد يقوم بولس بإرجاعه إلى سيده مرة أخرى، موصيا إياه بحسن معاملته – غير ذاكر شيئا عن وجوب إطلاق سراحه هو أو سائر العبيد.

و تستمر التعليمات الدينية لحث العبيد على طاعة و توقير سادتهم، خاصة لو كانوا مسيحيين (جَمِيعُ الَّذِينَ هُمْ عَبِيدٌ تَحْتَ نِيرٍ فَلْيَحْسِبُوا سَادَتَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ كُلَّ إِكْرَامٍ، لِئَلاَّ يُفْتَرَى عَلَى اسْمِ اللهِ وَتَعْلِيمِهِ. وَالَّذِينَ لَهُمْ سَادَةٌ مُؤْمِنُونَ لاَ يَسْتَهِينُوا بِهِمْ لأَنَّهُمْ إِخْوَةٌ، بَلْ لِيَخْدِمُوهُمْ أَكْثَرَ..) تيموثاوس الأولى 6-1،2 ؛ و يتبع بولس هذا الكلام بإدانة و تشويه كل من يروج لتعاليم مختلفة تعارض كلمات المسيح الرب (.. إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُعَلِّمُ تَعْلِيماً آخَرَ، وَلاَ يُوافِقُ كَلِمَاتِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحَةَ، وَالتَّعْلِيمَ الَّذِي هُوَ حَسَبَ التَّقْوَى فَقَدْ تَصَلَّفَ، وَهُوَ لاَ يَفْهَمُ شَيْئاً، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّلٌ بِمُبَاحَثَاتٍ وَمُمَاحَكَاتِ الْكَلاَمِ الَّتِي مِنْهَا يَحْصُلُ الْحَسَدُ وَالْخِصَامُ وَالاِفْتِرَاءُ وَالظُّنُونُ الرَّدِيَّةُ..إلخ) تيموثاوس الأولى 6-3،4.

كذلك بطرس، فسيوصي الخدم بطاعة السادة و الخضوع لهم، حتى العنيفين منهم! (أَيُّهَا الْخُدَّامُ، كُونُوا خَاضِعِينَ بِكُلِّ هَيْبَةٍ لِلسَّادَةِ، لَيْسَ لِلصَّالِحِينَ الْمُتَرَفِّقِينَ فَقَطْ، بَلْ لِلْعُنَفَاءِ أَيْضاً..) بطرس الأولى 2-18 ؛ و يبرر ذلك بأن المسيح تألم و خضع فعلينا أن نكون مثله (..لأَنَّكُمْ لِهَذَا دُعِيتُمْ. فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ) بطرس الأولى 2- 21،22.

و عبر التاريخ المسيحي، سيتم استعباد الملايين من كل الأجناس و الأديان تقريبا؛ و ستتباين مواقف اللاهوتيين و رجال الدين المسيحي تجاه العبودية؛ إلا أننا لا نكاد نجد من يحاول إدانة النظام ذاته أو يطالب بتحرر العبيد:

في القرن الرابع عقد مجلس جانقري في أرمينيا، و الذي أدان الديانة المانوية لعدة أسباب منها مطالبتهم بتحرير العبيد ؛ و لاحقا سيعلن مجمع خلقدونية أن قرارات مجلس جانقري تعتبر "مسكونية" أي معبرة عن آراء ممثلي الكنائس العالمية.

و سنجد أن أكثر آباء الكنيسة روجوا للعبودية معتبرين أنها نظاما  اجتماعيا ملائما ؛ أوغسطينوس في كتابه "مدينة الله" سيعلن أن العبودية هي جزء من الآلية التي تحافظ على النظام الطبيعي للأشياء ؛ و يوحنا ذو الفم الذهبي أيضا سيؤكد أن العبيد عليهم الإستسلام لمصيرهم، و أنه بطاعتهم لسادتهم فإنهم يطيعون الله.
أما القديس توما الإكويني، فسيقول بأن العبودية هي أمر واقع و ناتج عن الخطيئة الأصلية (آدم و الشجرة إياها)، و بالتالي فهي مناسبة و ملائمة اجتماعيا لهذا العالم.

على الجانب الآخر سيظهر ضمن المسيحية حالات معدودة لمعارضين للعبودية، مثل القديس باتريك في القرن الرابع (و هو نفسه عبد سابق)، و مثل طائفة الكويكرز (الأصدقاء) البروتستانتية المؤسسة في انغلترا في القرن السابع عشر ثم هاجرت إلى أمريكا الشمالية ؛ و كذلك سيقف بعض الباباوات- كيوجين الرابع و بول الثالث- ضد توسيع قواعد الإستعباد الأوروبي و سيطالبون ببعض الرفق و المعاملة الإنسانية تجاه العبيد، و إن لم يدينوا نظام الرق ذاته ؛ و في المقابل ستستمر المعارضة لتحرير العبيد داخل الأوساط المسيحية من قبل الكثير من المذاهب و الزعامات الدينية - التي ستحاجج بأن الكتاب المقدس يؤيد الرق و يدعمه.


الخزعبلات المقدسة
- ((نحو 60% من المصابين بالفصام (السكيتزوفرانيا) لديهم أوهام دينية تضخيمية، تجعلهم يعتقدون أنهم قديس، أو الله، أو شيطان، أو نبي، أو يسوع، أو شخص آخر مهم؛ كيف نشرح لمرضانا أن أعراضهم الذهانية ليست بعلامات وحي خارقة، بينما حضاراتنا تعترف بأعراض مشابهة في شخصيات دينية مقدسة؟)) – موراي، كننغهام، برايس؛ "دراسة حول دور الإضطرابات الذهانية في التاريخ الديني"، دورية التحليل النفسي العصبي و علوم الأعصاب 2012.

- ((الدين أفيون الشعوب)) الفيلسوف و المؤرخ و عالم الإجتماع الألماني كارل ماركس.

- ((الذي يستطيع جعلك تصدق أمورا خرافية ، بإمكانه أن يجعلك ترتكب أعمالا وحشية)) - الكاتب و المؤرخ و الفيلسوف الفرنسي فولتير.

- ((ألوهية يسوع وفرت غطاءا مناسبا للسخافة و اللامعقول)) – جون آدامز، الرئيس الثاني للولايات المتحدة.

- ((أثق أن الله يتحدث من خلالي؛ بدون هذا لا يمكنني القيام بعملي)) –  الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن.

- ((كل معجزات الكتاب المقدس سوف تختفي فيما يتقدم العلم)) – الشاعر و الناقد و الكاتب الإنغليزي ماثيو أرنولد.

في 29 مايو 2012، نشرت الواشنغتون بوست خبرا، عن موت رجل في منتصف الأربعينات يدعى ماك وولفورد بلدغة ثعبان سام.

وولفورد كان يشتهر بالعروض الجريئة مع الثعابين؛ و حسب ما نشرته الجريدة فقد كان "يؤمن – طبقا للكتاب المقدس- بأن تعامل المسيحي مع الثعابين السامة قد يعتبر امتحانا لإيمانه، و كان يؤمن بأن الله سيحميه من الموت، كما قال المسيح ذلك (مرقس 16-17,18)".

 لكن للأسف، فالثعبان السام على ما يبدو لم يكن يحفظ تلك الآية!

في العهد الجديد نرى معجزات و خوارق المسيح المزعومة، و نسمعه يؤكد لأتباعه أن من يؤمن به فيمكنه أن يقوم بمثل هذه المعجزات و أكثر، و قرأنا أيضا عن مزاعم لا تنتهي لخوارق يقوم بها الرسل و الكهنة عبر التاريخ و إلى اليوم.

و عبر القرون الوسطى كان العالم المسيحي أشبه بمصنع للخرافات الهادفة للبروباغاندا الدينية؛ ليس فقط فيما يخص ادعاءات المعجزات و الخوارق، و إنما أيضا ظهر فيه عدد لا يحصى من المتعلّقات المنتسبة للمسيح و القديسين، بشكل مصمم لخلب لب العوام المؤمنين الشغوفين و المنبهرين.

آنذاك ظهرت رسائل مكتوبة بيد يسوع، و الذهب الذي أحضره الحكماء ليسوع الطفل، و السلال التي جُمع فيها الخبز الذي استخدمه لتغذية الآلاف؛ و كذلك تم إيجاد عرش داود، بوق أريحا، الفأس الذي استخدمه نوح لصنع الفلك؛ حتى أن بعض الكنائس زعمت امتلاكها لقلفة المسيح (الجلدة التي يتم قطعها في الختان)، كما كان هناك أجزاء خشبية عديدة من "الصليب الحقيقي"، نُسب للإصلاحي كلفن قوله أنها تكفي كحمولة لسفينة كبيرة
- بعض هذه التزويرات ماتزال تحظى بدفاع المؤمنين إلى اليوم.

و إلى اليوم هناك المزيد من هذه "الإكتشافات" المزعومة تظهر في الغرب و الشرق: مكتشفون مسيحيون يزعمون أنهم وجدوا سفينة نوح، و موضع برج بابل، و عجلات عربة فرعون الغارقة، و مكان صلب يسوع عليه آثار من دماءه..إلخ، كما تستمر رسومات المسيح و أمه في إفراز الزيوت و الدماء أمام المؤمنين المنبهرين، بينما تظهر العذراء في شكل ضوء مبهر على كنائس مصر أمام الجموع المتحمسة (ببعض المساعدة من تقنية الليزر الهولوغرام).

هذه الغيبيات و الخوارق تساعد على استمرار سيطرة الكهنة على الناس، و تساهم في تدفق المزيد من التبرعات المالية السخية، و التي لسبب ما فالرب بحاجة إليها دوما.

و على الجانب الآخر يعمل هذا المناخ الأسطوري على محاربة و تجريف الفكر العلمي و النقدي في المجتمعات، و يساعد على تغييب الناس- كالمخدر- فيغوصون في عوالمهم الخاصة البعيدة عن الواقع.

و قبل هذا و بعده تأتي المعجزة المفضلة للمسيح و أتباعه : شفاء المرضى و إخراج الأرواح الشريرة من أجسادهم؛ مما يؤدي إلى المزيد من الأضرار و المخاطر بل و الكوارث.

في عام 2008، انتشرت قصص عديدة حول كاهن مُعجز من فلورنسا، يُدعى فرانسسكو سافييرو بازوفي؛ هذا الكاهن قام بتأسيس مؤسسة خاصة، و كان يؤدي عروضا "روحانية" أمام الجماهير، فكان يتفق مع نحو دستة من عملاءه المتخفيين، الذين يتظاهرون بأنهم ممسوسين بروح شريرة، فيتمتمون و يصرخون و فينتفضون بعنف يستدعي معه عدة رجال أشداء لكبح جماحهم؛ و من ثم يقوم بازوفي بالقراءة عليهم بالأرامية فيشفون لتوهم، و تخرج الأرواح الشريرة من أجسادهم؛ يلي ذلك- كما قد نتوقع- أن يبدأ الكاهن في جمع التبرعات من الجموع المنبهرين بأدائه.

و أخيرا حين تم إلقاء القبض على الرجل كان قد نجح في جمع ملايين الدولارات، التي كان يدعي أنها تذهب إلى مشروعات خيرية في أفريقيا و آسيا، لكنها في الحقيقة كانت تذهب إلى حسابه البنكي.

و في عام 2003، تعرض طفل يبلغ ثماني سنوات مصاب بالتوحد، من مدينة ميلواكي الأمريكي و يدعى تيرانس كوتريل، إلى محاولة أخرى في الكنيسة لـ"طرد الأرواح الشريرة منه"، فتم تغطيته بملاءة حتى مات اختناقا و أعضاء الكنيسة مستمرون في الصلاة له.

و في 2005  توفت الراهبة ماريسيسا إيرينا كوريني، من الكنيسة الأرثوذوكسية شرقي رومانيا، بعد أن تم ربطها في صليب و تركها الراهبات و الكهنة دون طعام أو ماء لمدة ثلاثة أيام كمحاولة لشفاءها من مس شيطاني- تبيّن أنه في الحقيقة مرض نفسي كانت تعاني منه.

و في 2012، تم تعذيب، سينثيمبا دلاميني، مراهقة من جنوب أفريقيا، لمدة ثلاثة أيام حتى الموت، في إطار محاولات من أقربائها و من جماعات دينية محلية لتخليصها من الأرواح الشريرة- فاستمرت طيلة تلك الأيام تتعرض إلى مزيج من الضرب و الصلوات، حتى ماتت في النهاية حين قاموا بإخراج أمعائها من جسدها.
و في 2014 تم الحكم بالسجن عشرة سنوات على والدين أمريكيين، ترافيس ووينونا روسيتير، بتهمة قتل ابنتهما الطفلة المريضة بالسكري، عن طريق حرمانها من الدواء و استخدام الصلاة كبديل – الطفلة ظلت مصابة بالجفاف و القيء و لم تكن قادرة على الوقوف؛ و بينما كان يمكن علاجها بسهولة بالأنسولين، فضل الوالدان اللجوء إلى الدعاء و الصلاة، مما أدرى لموتها في النهاية.

هذه مجرد أمثلة معدودة قليلة، ففي الحقيقة يصعب حصر عدد من تعرضوا للموت أو التعذيب أو الضرب أو التشويه أو الإنتهاكات الجنسية في كل بلد تقريبا، نتيجة العلاج الروحاني المزعوم، و الذي تقام له جلسات خاصة تقيمها المؤسسات الدينية، خاصة المسيحية، حول العالم.

و في أهون الأحوال- حين لا يكون هناك ضررا مباشرا- فالنتيجة تكون استنزاف أموال المريض و ذويه في عملية نصب، تقترن في العادة بتوقف البحث في الإتجاه الطبي الحقيقي، الذي قد يكون هو القادر على تشخيص المرضى، و من ثم على تقديم الأمل الوحيد في حدوث الشفاء الفعلي.


القيامة
في يوم الإثنين، 19 أبريل 1993، قُتل 74 شخصا، منهم 21 طفلا و امرأتين حاملتين، مات أكثرهم حرقا، في تطورات دامية لعملية حصار لقوات الإف بي آي الأمريكية لأحد المباني في ولاية تكساس، حيث تحصنت جماعة من أتباع طائفة "الفرع الداودي".

تلك الجماعة، التي أسسها شخص كاريزمي مختل لقّب نفسه بـ"قورش" (خلفا للملك الفارسي الأشهر و المعروف أيضا بأنه "المسيح" محرر اليهود) كانت قد تورطت في العديد من الجرائم، منها قتل عملاء للشرطة، و منها اعتداءات جنسية و إساءات تجاه أطفال ؛ و لكن أبرز سماتهم كانت التزود بأسلحة غير مرخصة و التدرب عليها، لهدف واحد مهم هو "التحضير لنهاية العالم" ؛ حيث كان لقورش هذا أتباع بالمئات في الولايات المتحدة و بريطانيا و أستراليا و إسرائيل، و كانوا ينوون لاحقا الإنتقال إلى فلسطين لتكوين طلائع جيش المسيح و استقباله حين يعود مع نهاية الألفية.

هذه الجماعة المهووسة و هذا الفكر المترقب بحماس لدمار الأرض ليسا بغريبين على التراث المسيحي؛ و لقد رأينا تأكيدات المسيح و أتباعه و الكتاب المقدس على قرب تلك الدينونة و قرب نهاية العالم و عودة رب المجد مرة أخرى.

و يرى كثير من المؤرخين (كما ذكر تشارلز فريمان في كتابه "انتهاء العقل الغربي: صعود الإيمان و سقوط المنطق") أن المسيحيين الأوائل كانوا بالفعل يتوقعون عودة المسيح سريعا بعد جيل واحد من وفاته، و أن عدم حدوث ذلك المجيء الثاني قد فاجأ – بل صدم- المجتمعات المسيحية المبكرة.

ثم حين لم يحدث ذلك المجيء، ظهرت محاولات لاهوتية متنوعة لإعادة تفسير النصوص بشكل مغاير يدفع عنهم الحرج، فيما يُطلق عليه علم النفس "آليات التأقلم".

و على الجانب الآخر، استمرت عبر التاريخ موجات متلاحقة من النوبات المهووسة التي تتوقع نهاية العالم، و حدوث "الإختطاف" و هو عملية "شفط" عملاقة يختفي بها المؤمنين في السماء، على حسب ما جاء في الكتاب المقدس (تسالونيكي الأولى 4-16،17)؛ يلي ذلك الدمار العالمي و مجيء المسيح من السماء محمولا على السحاب.

هذا الفكر استمر طوال القرون و حتى زمن "الإصلاح"، فقد نُسب لمارتن لوثر، مؤسس المذهب البروتستانتي، أنه قال بأن يوم الدينونة قريب للغاية؛ و يرى البعض في كل كتابات لوثر ذلك الشغف المتعجل بقرب القيامة، و يشيرون إلى رؤيته لحرب المسيحيين مع المسلمين الأتراك على أنها مقدمات لـ"أرماغدون": حروب نهاية الزمن.

و بعد موت لوثر، استمر قادة اللوثرية على إيمانهم بقرب النهاية؛ حتى أن أحدهم- آدام ناكنموسر- كتب في العام 1584 يتنبأ بأن الكتاب المقدس سوف ينتشر في العالم بأسره بحلول عام 1590، و أنه في ذلك التاريخ سوف تكون نهاية الأيام.

أما الطائفة المعروفة بإسم "أنابابتزم"، أو تجديدية العماد، فقد كان بعضهم في القرن السادس عشر يؤمن بأن نهاية العالم ستأتي عام 1533؛ و حين فشلت النبوءة أصبح التجديديون أكثر تعصبا و عنفا، و أنشأوا دكتاتوريات قمعية في مدينة مونستر الألمانية، تحت حكم شخص ادعى أنه يمثل تجسيدا للنبي اليهودي إيليا؛ و قام التجديديون بطرد جميع اللوثريين و الكاثوليك من المدينة – لكن الدينونة لم تأت.

و في القرن السادس عشر أيضا أعلن أسقف يورك إدوين سانديز أن مجيء الرب بات قريبا، و أن جميع العلامات الموصوفة في الكتاب المقدس قد تحققت.

و في نفس القرن، قام واحد من آباء المسيحية المشيخية في إنغلترا، توماس برايتمان، بالتنبؤ بأنه بين عامي 1650 و 1695 سوف يشهد العالم تحول الكثير من اليهود إلى المسيحية، و سوف يُعاد إحياء الوطن اليهودي في فلسطين، و سوف يتم تدمير البابوية، إلى جوار علامات أخرى مرتبطة باقتراب القيامة.

ثم إن كريستوفر لوف، المشيخي في القرن السابع عشر، قد تنبأ بسقوط بابل في 1758، و بظهور غضب الرب تجاه الأشرار في عام 1759، ثم بحدوث زلزال هائل في عام 1763 يطال كل أركان العالم.

و في 1828، كتب الكاهن الأسكتلندي المعروف إدوارد إرفنغ عملا بعنوان "الأيام الأخيرة: محاضرة عن الطبع الشرير لأزماننا تلك، مثبتة أنها أزمنة محفوفة بالمخاطر، و أنها الأيام الأخيرة"، أكد فيه أنهم اليوم يعيشون مقدمات دمار العالم المرتقب في العهد الجديد.

أما 22 أكتوبر 1844، فيعرف بإسم يوم "خيبة الأمل الكبرى"؛ لأنه كان يُتوقع لهذا اليوم، ضمن غيره، أن يكون نهاية العالم، حسب نبوءات الواعظ المعمداني ويليام ميلر و أتباعه، و طبقا لحساباتهم و لتفسيراتهم لسفر دانيال من الكتاب المقدس- لكن تلك التوقعات فشلت كغيرها كما هو واضح، و بالتالي استحق ذلك اليوم لقبه سابق الذكر.

و الجدير بالذكر أن آلاف من أتباع "الميلرية" صدقوا النبوءة و قاموا ببيع ممتلكاتهم و قضوا أوقاتهم في انتظار عودة المسيح بشغف؛ و لاحقا سيتحول فكر ميلر إلى الطائفة البروتستانتية المعروفة بإسم "أدفنتسم"، أو المجيئية.

 كما أن هذه النبوءة الفاشلة ستجتذب أعضاء ديانة أخرى معاصرة ناشئة هي البهائية ؛ حيث استغل المدعو محمد علي الشيرازي أحد تواريخ ميلر ليعلن أنه ليس موعد ظهور المسيح نفسه كما يظن البعض، و إنما موعد ظهور الممهد لقدوم المسيح : أي الشخص المُلقّب بـ"الباب"؛ و هو- كما قد نتوقع- الشيرازي ذاته.

و في القرن التاسع عشر تنبأ الكاهن الروسي كلاس إب أن المسيح سوف يعود في عام 1889؛ و حين مر العام دون حدوث شيء، تنبأ بأن الأمر سيقع في عام 1891.

و في أثناء الحرب العالمية الأولى نُشر في مطبوعة "المبشّر الأسبوعي"، التابعة  لرابطة المنظمات المعروفة بإسم "تجمعات الله" و التي تضم عشرات الملايين حول العالم، عنوانا مفاده أن بدايات الأرماغدون قد بدأت أولى بشائرها، و أن المسيح سيأتي قبل نهاية الحرب – بينما رأت تقديرات أخرى أن نهاية العالم ستكون في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين.

و في القرن التاسع عشر أيضا ، تشارز راسل، رئيس منظمة "جماعة برج المراقبة" و واحد من أعلام طائفة "شهود يهوه" واسعة الإنتشار، قام بحساب موعد المجيء الثاني للمسيح، و أعلن أنه سيكون العام 1874؛ كما تنبأ بقيامة القديسين من الموت في 1875،  و توقع "نهاية الحصاد" و "اختطاف القديسين إلى السماوات" في 1878، و تنبأ بنهاية العالم في عام 1914.

 ثم في عام 1917 صدر منشور آخر من جماعة برج المراقبة يتنبأ أنه في عام 1918، سيقوم الله بتدمير الكنائس و ملايين من أعضائها.

و سيتنبأ أيضا خليفة راسل في رئاسة الجماعة ، جي راثرفورد، بأن النهاية ستبدأ عام 1925؛ و توقع أن الشخصيات الكتابية كإبراهيم و إسحاق و يعقوب و داود سوف يتم إقامتهم من الموت- حتى أن منظمة برج المراقبة قامت ببناء بيتا في كاليفورنيا خصيصا لاستقبالهم.

و منذ عام 1966، ستستمر مطبوعات شهود يهوه في توقعاتها بحدوث أرماغدون في عام 1975؛ قبل ذلك بعام بدأ أتباع تلك الجماعة في بيع أملاكهم و بيوتهم استعدادا لاستقبال النهاية ؛ و بعد أربع سنوات من التاريخ المحدد ستعترف جماعة برج المراقبة بخطأ توقعاتها.

و في السبعينات من القرن العشرين تأسست جماعة "الأخوية" بقيادة المبشّر جيم روبرتس، و سعت في الترويج لقرب نهاية العالم؛ و نصت التعاليم للأعضاء على تطهير أنفسهم عن طريق بيع أملاكهم و قطع العلاقات مع أسرهم لنيل الخلاص- مما يذكرنا بتعاليم المسيح لأتباعه.

اعتمدوا الأخويين على نصوص من الكتاب المقدس يأمر فيها المسيح بالتخلص من الأملاك (لوقا 14-33) و التخلي عن الأهل و الإخوة و الأمهات و الأزواج و الأولاد و حتى الأراضي (متى 19-29) و عدم التفكير في الحياة أو الطعام أو الشراب أو الجسد (متى 6-25)، و تشير إلى أن رسل المسيح لم يكن لهم أملاك (أعمال الرسل 4-32) و غيرها.

و كان أعضاء الأخوية أشبه بالرهبان في ملابسهم و لحاهم، و كان لهم تقاليد دينية و اجتماعية خاصة بهم؛ كما لم يكونوا يهتمون بنظافة الجسد؛ و حين شوهد بعض أفراد الجماعة يأكلون من القمامة تم إطلاق تسمية "آكلي القمامة" عليهم.

و مع انضمام المزيد من الشباب الصغير إلى الجماعة تزايدت البلاغات للشرطة من الأهالي الذين يشتكون اختفاء أبنائهم؛ مما أدى إلى محاولات الجماعة للتخفي و إلى زيادة مواجهاتهم مع الشرطة، الأمر الذي استمر طوال التسعينات.

أما مؤسس منظمة "مصلى الجلجثة"، اللاهوتي تشاك سميث، فقد نشر في 1979 كتابا بعنوان "أزمنة النهاية"، كتب فيه أن مجيء الرب قريب جدا جدا، و توقع حدوث الأمر قبل عام 1981؛ و تكررت نفس النبوءة في كتاب آخر للكاهن هال ليندسي بعنوان "الفقيد العظيم كوكب الآرض".

ثم في 26 مارس 1997، اكتشفت الشرطة جثثا لـ39 شخصا ارتكبوا انتحارا جماعيا آخر- خنقا هذه المرة.

هؤلاء كانوا أعضاءا في جماعة أخرى تُسمى "بوابات السماوات"؛ و التي
أسسها المدعو مارشال أبلوايت، بعد أن زعم أنه شاهد رؤية علم فيها أنه، هو و ممرضته، هما الشاهدان المذكوران في الكتاب المقدس في رؤيا يوحنا (11-3) ؛ و أعلن بعد ذلك أن كوكب الأرض على وشك أن يتم "إعادة تدويره" أو محوه بشكل ما، و أن طوق النجاة الوحيد هو في الإنتحار- الذي سيسمح لأرواح قلة مختارة بترك الأرض إلى سفينة فضاء ما تنتظرهم.

هذا الفكر قد يبدو مثيرا للسخرية كأفلام الخيال العلمي الساذجة؛ لكن الحقيقة أن فكر "بوابات السماوات"، و كما يوحي الإسم نفسه، هو فكر متأثر تماما بالفكر المسيحي، خاصة في مسألة دمار الأرض و خلاص فئة قليلة مختارة..إلخ، مع وضع الأمر في إطار تجديدي يبدو أنه بدا للبعض أكثر مناسبة للعصر.

أعضاء "بوابات السماوات" شددوا أيضا على وجوب تخلي الراغبين في النجاة عن كل ارتباط لهم بالكوكب؛ و ذلك يعني ترك أهلهم و أصدقائهم و أعمالهم و وظائفهم و أموالهم و ممتلكاتهم، بل و رغباتهم الجنسية؛ و بالفعل تخلى أعضاء الجماعة عن كل ما لديهم و عاشوا كالرهبان – حتى أن ثمانية منهم، بمن فيهم أبلوايت نفسه، قاموا بإخصاء أنفسهم لتحقيق التخلي الكامل عن الدنيا، مما يذكرنا أيضا بأوامر يسوع.

و في عام 2001، أعلن المبشر الأمريكي هارولد كامبينغ في إحدى محطات الراديو المسيحية أن الإختطاف و يوم الدينونة سيحدثان في 21 مايو 2011، و أن نهاية العالم ستحدث بعد خمسة شهور أخرى في 21 أكتوبر 2011 مصحوبة بزلازل هائلة و مدمرة.

تلك الدعوة انتشرت و تم الترويج لها بشكل هائل و صدقها الآلاف حول العالم ؛ البعض تخلى عن وظيفته، و باع منزله، و أوقف تعليم أبناءه، و هناك من أنفق أمواله داعما و مروجا لادعاءات كامبنغ - حتى أن بعض المظاهرات اشتعلت بالآلاف في فيتنام، انتظارا لعودة المسيح.

ثم في مارس 2012 سيعترف كامبنغ بأنه كان مخطئا.

و منذ 2010، انتشرت بالآلاف اللافتات التي تعلن عن تواريخ مزعومة للإختطاف حول العالم في كثير من البلاد؛ البعض أيضا ترك وظائفه للتحضير للإختطاف، و آخرون أنفقوا تحويشة العمر – عشرات الآلاف من الدولارات- لعمل إعلانات تروج للنبوءات؛ و لم يقتصر الأمر على الأفراد بل على المنظمات الدينية، فمؤسسة "راديو العائلة" مثلا أنفقت مائة مليون دولار في حملة دعائية مشابهة في عدة ولايات في أمريكا و في كندا.

الجزء الأول
الجزء الثاني

الجزء الثالث

الجزء الرابع


الجزء السادس

هناك تعليقان (2):

  1. انتم صفحة لكتابه الاكاذيب وتشويه بقيه الاديان لانكم خلقتم مسلمين وبداخلكم شيطان ودينكم دين نفاق وشقاق وسوء الاخلاق

    ردحذف
    الردود
    1. وما أدراك أنه مسلم أيها النصراني الملعون فلا عجب أن كانت نواياكم الخبيثة و ظنونكم سيئة فأنتم لا لستم إلا شياطين على هيئة بشر كما أن دينكم دين الكذب و التدليس و السفاهة و السفالة و الأخلاق السيئة

      حذف