هذا مقال قديم كتبته في أواخر فترة إيماني.. منذ ذلك الحين تبدلت كثير من قناعاتي من النقيض إلى النقيض.
فلماذا أنشر المقالة الآن إذن؟ فقط لطرح موضوع أظنه مشوقا و مهما.
المقتربون من الموت
ملايين من البشر الذين تم انقاذهم من بعد ما أعلن الأطباء موتهم ,
عادوا ليحكوا عن أشياء رأوها و سمعوها
قصة توم
(الواقعة مذكورة في كتاب "المصدر الأسود - La source noire" لباتريس فان ايرسيل, و كذلك نشرتها مجلة "باري ماتش" الفرنسية عام 1986).
(( يسكن توم فى روشستر بولاية نيويورك على ضفاف بحيرة أونتاريو.. هو أشقر فى الثلاثين من عمره, وسيم و بدين, و أب لولدين, يعمل كميكانيكي, و محل عمله قرب منزله تماماً.. فى عصر أحد الأيام كان يقوم بعمله كالعادة و هو ممدد تحت شاحنة صغيرة, فجأة أفلتت الرافعة و هوت الشاحنة بوزنها البالغ ثلاثة أطنان من الحديد على صدره و بطنه.. أطلق الرجل أنيناً رهيباً سمعه أحد أطفاله الذى كان يلعب في حديقة المنزل, و جاء ليرى والده فى ذلك الوضع, فركض مذعوراً إلى الجيران ليستنجد بهم, و بعد عشر دقائق جاءت سيارة الإسعاف.
كانت تلك الدقائق العشر فى غاية الصعوبة على توم, لأنه لم يفقد وعيه خلالها, فكان فى حالة لا تُطاق من الألم و الإختناق... و عندما بدأ رجال الإسعاف في رفع هيكل الشاحنة ليسحبوه على ناقلة الإسعاف كان قد فقد الوعي, و بدا و كأنه قد فارق الحياة.
استغرق الوصول للمستشفى عشرين دقيقة.. أما خلالها و داخل سيارة الإسعاف كان توم قد توقف عن التنفس, كما توقف قلبه عن الخفقان, رغم كل جهود الإنقاذ.. "لقد انتهى!", هذا ما قاله أحد المسعفون.. كان هذا هو الوضع كما يبدو من خارجه.. أما من الداخل فكانت هناك أموراً أخرى تحدث:
بعد ست سنوات من نجاته, كان توم يروي قصته لمؤلف كتاب "المصدر الأسود", كما كان قد رواها لأحد الصحفيين.. كان صوته يتهدج و هو يغالب دموعه, قائلا أنه فى اللحظة التى سحبه فيها رجال الإسعاف من تحت الشاحنة, اختفت فجأة جميع الآلام و المخاوف التى كانت تغمره, و شعر بأنه على ما يرام تماماً.. شعر بهدوء و صفاء و اطمئنان أكثر من أى وقت مضى.. ثم أحس بنفسه "يخرج من جسده" وينفصل عنه ويطفو للأعلى وكأنه أخف من الهواء.. و من مكان عالٍ مرتفع شاهد توم جسده الممدد على الأرض محاطاً بجموع المسعفين, و الدم يسيل من فمه ويختلط بالشحم و الزيت.. رأى سيارة الإسعاف الحمراء واقفة في الممر, رأى الناقلة و المسعفون يسحبونها بسرعة, و رأى أطفاله المصدومين و الجيران ممسكين بهم.
رأى توم المشهد كاملاً و بكل تفاصيله يتضاءل تدريجيا,ً و هو يبتعد عنه طافياً لأعلى..لأعلى.. ثم انقطعت الصورة ليجد نفسه بداخل ما يشبه نفقاً اسطوانياً مظلماً.. وجد نفسه مسحوباً فى ذلك النفق, صاعداً عبره بسرعة متزايدة.. هنا أدرك أنه مات.. ومع ذلك استمر شعوره بالهدوء و السكينة الكاملة.. ثم رأى فى نهاية النفق نوراً, ظاهراً من بعيد.. بدا أولاً كنجم صغير فى الفضاء البعيد, ثم ظل يقترب, و ينمو تدريجياً حتى صار كالشمس.. شمس هائلة الضخامة و نورها أكثر سطوعاً و ابهاراً من أى نور دنيوي.. رغم ذلك فلم يزعجه أو يؤذي بصره كالأنوار الأرضية الساطعة, بل تضاعف إحساسه بالراحة والأمان.
و كلما اقترب من النور كان يشعر و كأنما هناك ذكرى قديمة مخبوءة فئ أعماقه قد بدأت تستيقظ.. ذكرى كامنة تظهر الآن و تنمو تدريجياً, حتى تكاد تشمل كل عقله و روحه و كيانه, و كأنه كان هنا من قبل..و أدرك أنه يعود إلى مكانه الأصلي حيث ينتمي: إلى النور, الذي بدا الآن و كأنه يتكون من محبة نقية خالصة.. محبة لا يمكن مقارنتها بأي شيء دنيوي.. و غمره طوفان لا يوصف من الأمان و الحب و السلام, و هو يقترب من النور.. و يقترب..و يقترب..))
خبرة الاقتراب من الموت- Near Death Experience, NDE
كبشر, لا شك أن نظرتنا للحياة من حولنا, و كذلك اهتماماتنا و تطلعاتنا, محدودة بما نراه ونسمعه ونعايشه في حياتنا اليومية.. وبغض النظر عن تباين أفكارنا و معتقداتنا و آرائنا, فإن معظمنا غير قادر على تصور عالماً مختلفاً عن ذلك الذي يدركه بحواسه و يلمسه بيديه, و يطمأن لوجوده و استقراره.. وحين نواجه حقائقاً تخالف ما اعتدنا عليه أو ورثناه, غالباً ما نرفضها فوراً, و نتراجع محتمين بساتر من الموروث و المعتاد والواضح , مكذبين أو متجاهلين ما عدا ذلك.
إن قصة توم ليست حالة وحيدة أو استثنائية, ففي احصاء معهد جالوب Gallup عام 1992, وُجد أن ثلاثة عشر مليون شخص في الولايات المتحدة وحدها (أي ما يقرب من 5% من السكان) قد مروا بتجارب شبيهة بتجربة توم - بمعدل حوالي 774 تجربة يومياً.. أشخاص اقتربوا من الوفاة نتيجة تعرضهم لإصابات خطيرة: أزمات قلبية, نزيف في المخ, حوادث طرق, اختناق, غرق, سقوط من أعلى, صعقات كهربية,في أثناء عمليات جراحية أوغيبوبة, أوحتى محاولات انتحار أو نتيجة جرعة زائدة من المخدرات.. و بعض هؤلاء توقف عمل قلوبهم وأعلن الأطباء موتهم إكلينيكياً بالفعل, لفترات تطول أو تقصر, ثم عادوا مرة أخرى للحياة.. عادوا و لديهم قصصاً غريبة ليروونها.
و لا تقتصر الخبرات تلك على بلد بعينه, إنما تم تسجيل و رصد ملايين الشهادات لمقتربين من الموت من جميع أنحاء العالم..أشخاص من كل الأعمار و الأجناس و الأديان و المجتمعات: مسيحيين و يهود بيض أوروبيين, هنود و صينيين, هندوس و بوذيين, مسلمين عرب و أفارقة زنوج , مؤمنين متدينين و لاأدريين (بلا هوية دينية محددة), و ملحدين لا يؤمنون بالأديان.
بل إن هناك دلائل على حدوث بعض خبرات اقتراب من الموت في العصور القديمة, و لكن ليس بكثرة ورودها في العصر الحالي.. ربما لأن تطور الطب المعاصر و خاصة تقنيات الإنعاش و جراحات القلب, قد ساهم في زيادة عدد الناجين من الأزمات القلبية والحوادث و الغيبوبات, و بالتالي زيادة عدد الروايات الواردة عن مشاهداتهم.
الموت و الحياة
بغض النظر عن نتائج الجدالات الطبية حول تعريف الموت, ما بين موت القلب (الموت الإكلينيكي) و موت جذع المخ, فإن ما يمكننا استخلاصه- من خلال ذلك الخلاف نفسه- هو أن الموت -من الناحية الطبية- ليس لحظة بعينها, إنما هو عملية مُكونة من عدة مراحل.. فبتوقف القلب عن النبض يتوقف عمل الرئتين, و من ثم يموت المخ نتيجة انقطاع الأكسجين عنه..و لكن أحياناً ما يحدث هو نجاح جهود الطوارئ المسعفة في إعادة القلب للحياة بعد توقفه للحظات, و بالتالي "عكس" عملية الموت.. في أثناء تلك اللحظات الفارقة, يحدث أحياناً ما يسميه الأطباء "خبرة الاقتراب من الموت".
في 23 أكتوبر 2000 أذاعت أخبار البي بي سي BBC تقريراً بعنوان "إيجاد دليل على الحياة بعد الموت", تحدث عن دراسة بريطانية قام بها د.سام بارنيا و آخرين في جامعة ساوثامبتون, حيث أثبتت وجود دلائل علمية على استمرار الوعي الإنساني حتى بعد موت المخ.. و في 29 يونيو 2001 تناولت أخبار الأى بي سي ABC نفس الدراسة, معلقين عليها: "الدراسات و الأبحاث تشير لوجود حياة بعد الموت".
كانت بداية ذلك النوع من الدراسات الطبية عن ظاهرة الاقتراب من الموت مع رواد مثل جورج ريتشي و إليزابيث كبلر روس, صاحبة كتاب "في الموت و الاحتضار".. ثم بدأ الاهتمام بالأمر يتنامى مع د.رايموند مودي, الذي أصدر كتاب "حياة ما بعد الحياة - Life after life" عام 1975, و قام بإنشاء المؤسسة الدولية لدراسات الاقتراب من الموت - IANDS في 1978, و هوالذي صك المصطلح "خبرة الاقتراب من الموت -Near Death Experience -NDE".
ثم جاء الباحثون اللاحقون أمثال كينيث رينج و بروس جريسون و راسل نويز و مايكل سابوم , الذين نجحوا في إدخال تلك الدراسات و التجارب إلى المجتمع الطبي الأكاديمي.. كان المجتمع العلمي بصفة عامة مستنكراً لتلك الظاهرة و متردداً في الاعتراف بها, حتى أنه كانت هناك صعوبات في الحصول على التمويل اللازم لأبحاثها, ثم تحسن الأمر لاحقاً بالتدريج.
و حالياً هناك دراسات عديدة لباحثين و أطباء مثل سام بارنيا و بيتر فينويك وفان بيمر ألوميل و كارل بيكر, الذي قام بدراسة خبرات الاقتراب من الموت في المستشفيات اليابانية و الأمريكية على مدى ثلاثين عاماً, و نشر دراساته تلك في أكثر من كتاب..
و في سبتمبر 2008 قامت 25 مستشفى في أمريكا و بريطانيا بدراسة استمرت لثلاث سنوات بإشراف جامعة ساوثامبتون, على 1500 شخص ممن عايشوا خبرات الاقتراب من الموت, بعد توقف مؤقت للقلب.
و الدراسات المعاصرة التي تتناول خبرات الاقتراب من الموت كثيرة , و تمتد من استراليا حتى البرازيل .. و هناك العديد من المراجع المتوفرة تلك التجارب, لعل من أهمها كتب بي إم إتش أتووتر و رايموند مودي و كينيث رينج, بالإضافة لعشرات المقالات و الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية, أو على الإنترنت في العديد من المواقع المتخصصة, والتي تحتوي كذلك على مئات التجارب الشخصية المنشورة (الكثير منها لمصريين و عرب).
بل إن الكثير ممن ذكرناهم من الأطباء و الباحثين المهتمين بتلك الظاهرة , جاء اهتمامهم بها نتيجة مرورهم هم أنفسهم بخبرات مماثلة, في مراحل سابقة من حياتهم.
فما الذي يرآه المقتربون من الموت بالتحديد؟
رغم العدد الهائل لمن مروا بتلك التجارب, و رغم أنهم -كما ذكرنا- لا يجمع بينهم شيء, لا في خلفياتهم الثقافية و الدينية والاجتماعية, و لا في ظروف تجاربهم و كيفية اقترابهم من الموت, إلا أن الباحثون قاموا برصد ملامح رئيسية متكررة لما عايشه أولئك الأشخاص.. فالتجربة "النموذجية" تجري على النحو التالي:
يصل الشخص لمرحلة الاحتضار, و يبلغ الحد الأقصى من الإعياء و المعاناة الجسدية, و ربما يتناهى إلى مسمعه كلام الطبيب معلناً وفاته.. و عندها يسمع صوتاً أشبه بالأزيز أو الطنين المزعج, ثم يحدث له ما يُسمى بالخروج من الجسد, أى أنه ينفصل عن جسده المادي, و يشعر بجسده الجديد –الغير مادي- يطفو للأعلى متحركاً بحرية, ليصل لنقطة عالية في الفراغ (عند سقف غرفة العمليات مثلاً), و من هناك يرى جسده المادي, و يرى الأطباء و الممرضات حوله, وأقاربه المحيطين به, و يستمع لأصواتهم و كلامهم بوضوح شديد.. ورغم إدراك الشخص بأنه يموت, تختفي جميع مخاوفه و آلامه تماما, و تُستبدل بحالة من الأمن و الهدوء و الصفاء و الدفء.
و مع استمرار الصعود للأعلى- و الذي قد يصل للفضاء- يجد نفسه بداخل نفقاٍ اسطوانياً مظلماً, يظل يتحرك عبره صاعداً بسرعة متزايدة , مقترباً من نور مبهر ساطع في نهايته.. و خلال تلك الرحلة يلمح أحد أقاربه أو أصدقاؤه ممن توفوا من قبل (و البعض يرى شخصيات دينية), و يستقبله ذلك الشخص على أنه "مرشده" في رحلته تلك.. و قبل أن يصل لنهاية النفق تمر أمامه مراحل حياته بالكامل, في شكل لقطات ثابتة لأهم أحداث تلك الحياة, منذ الولادة و حتى لحظة "موته" الحالية..
و عند الوصول للنور و الامتزاج به, يشعر الشخص بأنه يعود لمكانه الأصلي الذي ينتمي إليه, و يدرك أنه في حضور كيان روحاني لطيف (قال بعضهم بأنه الله), يغمره بمدد لا نهائي من المحبة و السلام و التفهم.. و أحياناً يدور بينهما حواراً بلا كلمات عن طريق ما يشبه التخاطر, حيث يحضه ذلك النور بلطف على تقييم حياته الأرضية, و أفعاله و سلوكه خلال تلك الحياة, وهل هو مستعد للموت أم لا, وقد يخبره أن مهمته على الأرض لم تنته بعد.. و يكون عندها قد وصل لما يشبه الحاجز أو حدوداً فاصلة ما بين عالمين, إلا أنه عاجز عن عبوره إلى الجانب الآخر, و إنما عليه العودة مرة أخرى للحياة الأرضية.. في اللحظة التالية يفيق الشخص ليجد نفسه على سرير المستشفى محاطاً بالأطباء.
و تكون التجربة دوماً مشحونة بالعواطف و المشاعر و الانفعالات الدافقة, و غالباً ما يجد الشخص صعوبة شديدة في
إيجاد الكلمات المناسبة لوصف ما رآه و أحسه آنذاك , خاصة فيما يتصل بالنور.. فيتكرر الحديث أن ما عايشوه
هناك لا يشبه أي شيء ينتمي لعالمنا, و أن اللغة قاصرة عن التعبير عنه.
و نقتبس هنا مما قاله بعضهم و سجله الأطباء :
"أثناء وقوع الحادث لم أشعر سوى بألم حاد..ألم شديد في رأسي..فجأة انتهى ذلك الشعور بالألم تماماً, و شعرت بأنني أطير في فضاء مظلم.. كان اليوم شديد البرودة, و لكني كنت أشعر بالدفء, و براحة كاملة لم يسبق أن شعرت بمثلها".
"وجدتني أغوص في أعماق البحيرة.. و فجأة وجدتني هناك بعيداً عن جسدي, الذي كان على مسافة ثلاثة أو أربعة أقدام, و هو يخرج من فمه فقاعات الهواء.. ثم شعرت بأنني سابح في الفضاء كريشة, أنظر إلى جسدي الراقد في أسفل الماء عند قاع البحيرة".
"راقبتهم من أعلى.. رأيتهم يضربون صدري و يحاولون إنعاشي..قلت:لماذا تتعبون أنفسكم؟! أنا الآن بأفضل حال".
"رأيت اخي يجلس بجانبي في سيارة الإسعاف.. كان قلقاً للغاية..تمنيت أن أخبره إني أسعد حالاً الآن".
"عندما عرفت فجأة بأنني مت, أخذت أفكر للحظات, ثم وجدت نفسي أهتف قائلة: إنني ميتة..ياله من شيء رائع".
"أثناء فترة وقوعي في الغيبوبة, شعرت كما لو أنني ريشة خفيفة يحملها الهواء لأعلى.. شعرت بأنه لا وزن لي.. ثم ظهر ضوء أبيض ساطع, لا يشبه أي ضوء أرضي.. و أثناء انبعاثه كان يتخلل عقلي سؤال :"هل تريد الموت؟".. و كانت إجابتي "لا أعرف, فأنا لا أدري أي شيء عن الموت".. فقال لي:" تعالى إلى هذه الحدود, و سوف تعرفين كل شيء".. كنت أعلم إن تلك الحدود التي يتحدث عنها قريبة جداً, بل هي أمامي مباشرة, على الرغم من إنني لم أكن أراها.. و عندما ذهبت إليها انتابتني أحاسيس رائعة بالأمان و الهدوء السلام, و تلاشت تماماً كل المشاكل و التوترات التي كانت تملأ رأسي".
و كما أنه ليس كل من ينجو من موت قريب أو يتوقف قلبه يمر بخبرة اقتراب من الموت بملامحها السابقة, كذلك فليس كل من يمر بتلك الخبرة يعايش بالضرورة جميع مراحلها بالكامل.. فالبعض منهم يعود مباشرة بعد الخروج من الجسد, و البعض يدخل النفق المظلم, ثم يعود دون ان يصل للنور.. و القليل فقط (حوالي 10%) يصل لمرحلة الامتزاج بالنور, و التخاطب معه.. من هؤلاء توم الذي ذكرنا قصته.. لنرى كيف وصف شعوره حينها, كما نشر لاحقاً:
(( عندما كان توم يسرد ذلك كان يبكي كل ثلاث أو أربع جمل.. و عندما أعلن أنه لا يستطيع وصف ذلك الشعور بالكلمات, سأله الصحفي: "لكنك تتكلم عن المحبة, و هذا شىء نعرفه نحن".. "أترى؟" أجاب توم, "إن لي زوجة وولدان, أحبهما حباً شديداً, و لكن هذا الحب, بمداه الأقصى لا يشكل ذرة من الحب الذي شعرت به بحضور ذلك الكائن النوراني.. حب كامل و غير محدود"))
المؤكد أن كل خبرة لها خصوصيتها و تفردها, وليس هناك تجربتان متطابقتان بالكامل: فمن العائدين من تحدث عن رؤية كائنات كروية طافية من نور قالوا بإنها ملائكة, آخرين قالوا بأنهم رأوا لمحات من الجنة, ووصفوا سهولاً ممتدة و أعشاباً ذهبية و طيوراً مغردة و موسيقى عذبة و مدناً أشبه بالخيال.
في معظم الأحوال تكون التجربة رائعة و مبهجة, إلى الدرجة التي يكون فيها المرء غير راغب في العودة للحياة مرة أخرى.. مع ذلك فالبعض يتذكر أطفاله مثلاً, و أنه يرغب في العودة إليهم , كي لا يتركهم وحدهم بلا رعاية .. بالتالي فالعودة للحياة في آخر التجربة قد تكون إجبارية, بينما أحياناً تبدو و كأنها اختيارية.
و لكن لم تكن جميع التجارب مبهجة أو مطمئنة كما قد نظن , إنما البعض رأى مشاهدات مخيفة ومؤلمة, تتخللها مشاعر مُحبطة من الوحشة و الوحدة و الظلام.. و أحياناً تكون مصحوبة بالصراخ و الفزع و توقع الشر و المعاناة.. بل هناك من رأى كائنات شيطانية ووحوشاً مرعبة.. إلا أن ذلك النوع من الخبرات المخيفة نادر و غير شائع على ما يبدو (رغم إن بعض الباحثين يرون أنها غير نادرة, إنما من مر بها يكون غالباً غير راغب في تذكرها أو الحديث عنها).. و قد سجلت الباحثة بي اتش أتووتر بعض الخبرات من ذلك النوع المُحبط.
خبرات المشاهير
إذا أردنا مؤشراً آخر على مدى شيوع خبرات الاقتراب من الموت و انتشارها, يكفي أن نلقي نظرة على العدد الكبير من المشاهير الذين خاضوا مثل تلك التجارب: سينمائيين من هوليوود, و موسيقيين و مقدمين برامج معروفين.
الممثل الشهير بيتر سيلرز أصيب بأزمة قلبية عام 1964, رأى خلالها الملامح المعروفة للتجربة, فشاهد النور الساطع, و رأى يداً تخرج من خلاله, و صوتاً يخبره أنه لم تحن ساعة موته بعد, و يأمره بالعودة.. و قد صرح بعدها : "لن أخشى الموت أبداً".
كذلك اليزابيث تايلور "ماتت" اكلينيكياً لفترة خمس دقائق على مائدة العمليات, في أثناء إحدى الجراحات, و عبرت النفق و رأت النور.
روبرت باستوريللي أُصيب في حادث سيارة, و حينما كان في غرفة العمليات خرج من جسده ورأى والده يبكي و الممرضات يهدئنه.
و تم تسجيل تجارب مماثلة لجين سيمور و جاري بوزي و شارون ستون و لاري هاجمان و سالي كيركلاند و ويليام بيترسن و توني بينيت و دونالد ساثرلاند و إريك استرادا و بيرت رينولدز و جيمس كرومويل و شيفي شايس و لو جوسيت و إريك روبرتس و ريبيكا دي مورناي و جورج لوكاس و أوزي أوزبورن, و غيرهم.. و قد تم ذكر بعض تلك الخبرات في العديد من المراجع, مثل كتاب "باب الموت" لجين ريتشي.
خبرات تاريخية
و هناك شواهد و كتابات عن حدوث خبرات اقتراب من الموت في العصور القديمة.. فقد ذكر أفلاطون في الكتاب العاشر من مؤلفه الأشهر"المدينة الفاضلة" قصة ضابط اغريقي معاصر له يدعى "إر", تم انقاذه من الموت و عاد ليحكي عن خبرة اقتراب من الموت بملامحها المعروفة..وهناك عدة مراجع, مثل كتب د.كارول زالسكي تتحدث حول خبرات مماثلة حدثت في القرون الوسطى.. بل إن التراث الخاص بالتبت (ككتاب الموتى التبتي) يتضمن قصصاً و مشاهداً مشابهة لخبرات الاقتراب من الموت المعاصرة.
و يبدو أنه من مظاهر شيوع تلك الخبرات قديماً و حديثاً, نجد أحياناً مصطلحات و عبارات تجري على ألسنتنا,
مثل "الضوء في نهاية النفق", و "رأيت شريط حياتي يمر أمام عيني".
الخروج من الجسد
خبرة الخروج من الجسد Out of Body Experience OBE هو أمر متكرر و شائع الحدوث أكثر مما قد نتصور, و لا يرتبط بالضرورة بالاقتراب من الموت.. فمن الناحية الإحصائية يُقال أن واحداً من كل عشرة أشخاص قد مر بتجربة خروج من الجسد بشكل أو آخر, إما أثناء اليقظة أو النوم.
كان أول تسجيل موسع لتلك الخبرات هو ما قام به ملدون و كارينجتون 1951, متضمناً حوالي مئة حالة.. ثم توالت تجارب تشارلز تارت في الستينات, و كارليس أوسيس في السبعينات, كذلك جون بالمر و بروس جريسون و فان لومل و هورتل هارت و روبرت مونرو, صاحب كتاب "رحلات خارج الجسد", و هو الذي صك المصطلح "خبرة الخروج من الجسد".. بينما أكبر عدد من الحالات سجلها روبرت كروكال, و نشرها في عدة كتب.
و الخروج من الجسد يمكن ان يُصنع معملياً, عن طريق تحفيز المخ بعدة وسائل , منها كيميائية (باستخدام عقار الكيتامين مثلاً), و منها ميكانيكية (عن طريق ما يسمى بالطريقة الكهربية, أو الطريقة المغناطيسية - تجارب مايكل بيرسنجر), كما وُجد أنه يحدث أثناء تدريبات عسكرية معينة للطيارين المقاتلين في الجيش الأمريكي (د.جيم ويزي), و أحياناً لعدائين الماراثون, عند مرحلة متقدمة من الإرهاق الشديد و العطش.. بل يُقال أن بعض الأشخاص يمكنهم تحقيق الخروج من الجسد إرادياً عن طريق تأملات خاصة.. و يصفون تلك الحالة بأنها "يقظة العقل مع نوم الجسد".
و هناك دراسة اجتماعية أجراها دين شيلز, أثبتت أن مفهوم الخروج من الجسد متضمن فيما يقرب من 60 ثقافة عالمية مختلفة.
كيف يمكن إذن تفسير ما يراه المقتربون من الموت؟
أدت خبرات الاقتراب من الموت و المشاهدات الغريبة المصاحبة لها, إلى انقسام العلماء حول تفسيرها و محاولة فهمها.. فقد نظر فريق منهم إلى تلك الرؤى كمؤشر على وجود الروح الإنسانية, ودليل على لمحة من حياة ما بعد الموت, التي تحدثت عنها الأديان, بينما رأت مجموعة أخرى أن التجارب و المشاهدات المذكورة, يمكن تفسيرها تفسيراً طبياً علمياً بحتاً, دون اللجوء للغيبيات و الروحانيات.. فالعلم الحديث - في نظر هذا الفريق - لا يعترف بالروح أو الحياة بعد الموت, أو بأي عناصر أخرى غير مادية لا تدركها الحواس.. مما يربط الموضوع بذلك الجدال الأزلي, الممتد من مجالات العلوم إلى الفلسفة و الدين.
إذن, الفريق الثاني - المقتنع بالتفسير العلمي المادي البحت - كيف يفسر المشاهدات التي رآها المقتربون من الموت؟
نظرية احتضار المخ
إن ما وصفه العائدون من الموت - في نظر أصحاب التفسير الطبي- هو ببساطة ليس إلا نوع من الهلوسة والتخاريف, الناتج عن مرور المخ بمرحلة الاحتضار, و حرمانه من الأكسجين الكافي, بالإضافة لتأثير العقاقير المُستخدمة في أثناء الجراحات, أو حتى نتيجة لإفراز الجسم نفسه للأندورفينات.. ويقارنون بين تلك المشاهدات و بين الأعراض المعروفة لعقاقير الهلوسة, بل والحشيش, وكذلك بالعوالم الوهمية التي نراها في أثناء النوم: الأحلام..
و يُقال أن هناك بعض العقاقير (مثل الكيتامين) يمكن استخدامها لتوليد بعض الأعراض المشابهة لخبرات الاقتراب من الموت (تجارب كارل جنسن).
و من القائلين بتلك التفسيرات الطبية راسل نويز و مايكل شيرمر و كيث أوجستين و رونالد سيجل و سوزان بلاكمور, و التي مرت بتجربة شخصية باستخدام العقاقير.. و يُعد كتابها "الموت من أجل الحياة - Dying to live", من أشهر أمثلة محاولات تفسير و فهم ظاهرة الاقتراب من الموت طبياً, دون اللجوء للروحانيات.
و مما يقوله أنصار ذلك الرأي أن الموت (و الاقتراب منه بأي شكل) يعد تجربة فريدة و غريبة تماماً على المخ البشري, لم يمر بها قبلاً بطبيعة الحال, و بالتالي عندما يواجه الشخص تلك التجربة الجديدة, يقوم المخ -في محاولة للتعامل معها و فهمها- بمسح عام شامل لجميع الخبرات و التجارب السابقة التي مر بها عبر جميع مراحل حياته, بحثاً عن خبرة مشابهة للموقف الذي يعايشه, و ذلك هو تفسير"شريط الحياة" الذي يراه الشخص يمر أمامه.. أما فيما يُسمى بالخروج من الجسد, فلا شىء يخرج في حقيقة الأمر, إنما هو محاولة أخرى من المخ لتصور و استيعاب الموقف الغريب الذي يمر به (الاحتضار), عن طريق تخيل و اختلاق صورة شاملة للأحداث, كما "قد تبدو" من خارج الجسد.
و بما أن الموت و انتهاء حياتنا و فناءها هي أفكار نخشاها كثيراً و لا نرغب في الاعتراف بها , فإن عقلنا الباطن اللاواعي- محملاً بالتراث الديني و المعتقدات الروحانية - يلجأ في لحظات الاحتضار, ولمقاومة ذلك الخوف الغريزي, لأن يبث لنا و يعرض علينا مشاهداً و مشاعر مبهجة جميلة, في محاولة يائسة أخيرة للهروب من ذلك الواقع المؤلم المخيف: الفناء.
فالأمر كما يراه أصحاب التفسيرات الطبية البحتة, أن مشاهدات العائدين من الموت يمكن تفسيرها علمياً, على أنها هلوسة و أوهام و تخمينات عقلية, ناتجة عن نشاط عشوائي للمخ المحتضر المحروم من الأُكسجين, و رؤى مبهمة للعقل الباطن, الخائف من فكرة الموت, المشحون بالدين, و التواق لفكرة الخلود.. و أقرب مقارنة للأمر هي التأثيرات المبهجة لعقاقير الهلوسة, أو أضغاث الأحلام.. أما الحديث عن الروح الخالدة وحياة ما بعد الموت, فهو كلام غيبي لا يعترف به العلم التجريبي الحديث.
فما مدى نجاح تلك النظريات العلمية في تفسير الأمر؟
لا تدعي سوزان بلاكمور, مؤلفة كتاب "الموت من أجل الحياة" أن نظرية احتضار المخ هي التفسير الحقيقي الوحيد لمشاهدات الاقتراب من الموت, إنما تعترف أن أقصى ما تطمح إليه هو أن "كلا التفسيرين (الروح الخالدة و احتضار المخ) وارد".
فلنأخذ إذن أحد الأمثلة على مدى قدرة التفسيرات الطبية في فهم خبرات الاقتراب من الموت:
بعض المرضى الذين مروا بخبرة اقتراب من الموت و طافوا خارج أجسادهم في أثناء عمليات جراحية, قاموا بوصف الحوارات التي دارت بين الأطباء خلال الجراحة, أي عندما كانوا هم تحت التخدير.. فيفسر البعض ذلك طبياً, بأن إفراز الأدرينالين - نتيجة عمل أدوات الجراحة في أنسجة الجسم- يمكن أن يؤدي بالمريض لأن يسمع ما يحدث حوله, حتى و هو مخدر.
فإذا سلمنا بصحة تلك النظرية كتفسير لما يسمعه المريض, فهل هي – أو غيرها- تفسر لنا كيف أنه أحياناً في مرحلة الخروج من الجسد يشاهد المريض خطوات الجراحة و إجراءاتها بالكامل, بينما هو مخدر و قلبه متوقف عن العمل - و أحياناً مخه كذلك- ثم يقوم لاحقاً بوصفها بدقة, و وصف الأدوات و الأجهزة المستخدمة فيها, و التي لم يرها سابقاً؟ أو كيف أن بعضهم طافوا خارج غرفة العمليات, و زاروا غرف الانتظار الخارجية و شاهدوا أهليهم هناك, بل و تجولوا (طوافاً) في أنحاء مبنى المستشفى, و قاموا لاحقاً بوصف أقسام و حجرات بعيدة, لم يروها من قبل؟
و تلك الأمور ليست هي الوحيدة بلا تفسير, ففي أحد أبحاث تشارلز تارت, و التي نشرها في ورقة بحثية عام 1968, استطاعت سيدة - بعد إدخالها في غيبوبة- أن تطوف خارجة من جسدها, لتقرأ رقماً مكتوباً في ورقة معلقة قرب سقف الغرفة (رقماً مكوناً من خمسة خانات أي أنه من المستحيل تخمينه عشوائياً).
كذلك تم تسجيل حالة إمرأة تدعى أولجا جيرهارت, كانت تخضع لعملية نقل قلب, فقامت أثناءها بالخروج من جسدها, و زيارة أحد أبناءها الذي كان متواجداً في منزله البعيد عن المستشفى, و لقد رآها و هو بين اليقظة و النوم, تخبره أنها بخير.. و عندما أفاقت هي من الجراحة كان أول ما قالته هو: "هل وصلت الرسالة؟".
و هناك العديد من الحالات المسجلة لأشخاص شفوا فجأة من أمراض خطيرة كانوا مصابين بها, بعد ما مروا بخبرة اقتراب من الموت.. فقد سجل كينيث رينج, الطبيب النفسي و الأستاذ بجامعة كونيتيكت حالة بيتي مالز, أمريكية من انديانا, أُصيبت بتآكل شديد في معدتها بسبب الغرغرينا عام 1959.. و بعدما مرت بتجربة اقتراب من الموت تم شفاءها تماماً, و تجددت معدتها بالكامل.. و كان أول ما فعلته بعد انتهاء الجراحة أن طلبت وجبة دسمة لتلتهمها, وسط ذهول الأطباء!
و في منتصف السبعينات, برئ رالف دانكان, من اللوكيميا (سرطان الدم) فجأة, بعد ما رأى في غيبوبته ما وصفه بأنه كائن نوراني, و سمع صوتاً يقول: "هذا يكفي.. لقد زالت!".
جميع تلك الوقائع المسجلة -وغيرها مما سنذكره- لا يبدو أنها يمكن تفسيرها على أنها "تخريفات ناتجة عن احتضار المخ", أو "هلوسة العقل الباطن", و لا بأية تفسيرات طبية من أي نوع.
تجربة كارل يانج
أما كارل جوستاف يانج, الطبيب النفسي الأشهر, و مؤسس علم النفس التحليلي, فقد أُصيب بأزمة قلبية عام 1944, و مر بتجربة فريدة للخروج من الجسد, حيث طاف بعيداً لدرجة أنه خرج إلى الفضاء الخارجي.. و لقد رأى الكرة الأرضية ببحارها و محيطاتها و قاراتها, ووصفها بدقة من ذلك الارتفاع الهائل.. كان هذا قبل عقدين كاملين من صعود أول إنسان للفضاء, أي أنه لم يكن أحد قد رأى الأرض أو وصفها من ارتفاعات مماثلة.. و فيما بعد, قدر يانج أنه قد ارتفع في تجربته إلى علو ألف ميل تقريباً عن سطح الأرض.
تقول سوزان بلاكمور في كتابها: " إذا كانت الإدعاءات القائلة بأن المارين بخبرات الاقتراب من الموت, قد خرجوا من أجسادهم, و رأوا أحداثاً خارج محيط وجودهم, إذا كانت تلك الادعاءات حقيقية, فإن نظريتي –المخ المحتضر- تكون غير صحيحة".
مزيد من الغموض
كذلك فإن نظرية احتضار المخ لا تفسر كيفية حدوث مشاهدات اقتراب من الموت أحياناً بينما المخ لم يتعرض لأي إصابة أو حرمان من الأكسجين, بل كان سليماً و معافى تماماً - في الحالات المصاحبة لحوادث الطرق على سبيل المثال (دراسات سام بارنيا و بيتر فينويك 2001).
على الجانب الآخر هي لا تفسر أيضا حدوث تلك المشاهدات بينما كان النظام المركزي العصبي متوقفاً تماماً, أى أن الوعي واللاوعي معاً معطلان تماماً (تجارب فان لوميل مع آخرين- 2001).
و لكن لعل أصعب المآزق التي تواجه التفسير المادي على الإطلاق, هو التماسك الشديد و التشابه و التكرار بين ملايين القصص للمقتربين من الموت, رغم أنهم -كما ذكرنا - لا يجمع بينهم أي شىء مشترك, لا كأشخاص, و لا كظروف تجارب.. تلك الحقيقة المذهلة تتنافى تماماً مع فكرة الهلوسة والأحلام و تأثيرات العقل الباطن.. فحتى الخبرات المسجلة للهنود الحمر و قبائل الأمازون لا تختلف في شيء عن الخبرات التقليدية (د.دونالد سيجال).. هذا التكرار لا يوجد له أي تفسير علمي مفهوم.
يتحدث الطبيب الهولندي و أخصائي الأمراض القلبية فان لوميل , في إحدى مقالاته عن "الطابع الموضوعي لتلك التجارب, و عن تضمنها لعناصر ثابتة محددة, تجاوزت حالة الهوية و الثقافة الفردية و العوامل الدينية, وأصبحت في نمطية تكاد تكون واحدة".
يقول فان لوميل: "إن ما تضمنته تلك التجارب, و تأثيرها على المرضى يبدو متشابهاً في جميع أنحاء العالم, و في جميع الثقافات و الأزمنة".
و قد أثبتت الدراسات الإحصائية لبروس جريسون و إيان ستيفنسون, أن الخلفيات و المعتقدات الدينية للمقتربين من الموت لا تؤثر على حدوث المشاهدات من عدمه.. فالمتدينون ليسوا أكثر عرضة لحدوث التجربة من الملحدين.
ظاهرة أخرى غامضة و غير مفهومة, هي أنه من يخوضون تجربة اقتراب من الموت, يقولون إن وعيهم و انتباههم- و كذلك حواسهم- قد ازدادت أثناءها حدةً ووضوحاً بشكل غير مسبوق, و أن مجال رؤيتهم كان360 درجة.. و يتحدثون كذلك عن سطوع مبهر و غنى للألوان, و تجسيم شديد للأصوات.. و هذا بطبيعة الحال على عكس ما يفترض من مخ يضمحل و يذوي, و يناقض ما يحدث في خلال مشاهدات الهلوسة أو الأحلام المضطربة العشوائية الغائمة.. لنرى ماذا قال بعضهم في عدد من التجارب المسجلة :
"بدت حقيقية و ليست مبهمة أو متناثرة كالأحلام"
"أكثر واقعية من أي شيء عرفته"
"لا تشبه أي شيء يمكن للخيال أن يتصوره"
"ليس هناك كلمات يمكن أن تشرح ما عايشته" - "كان جسدي غائباً عن الوعي, و مع ذلك كنت أكثر صحوة ًووعياً من أي وقت مضى, مثلما ترى نافذة و قد تم تنظيف زجاجها.. حيث لا تدرك أنه كان متسخاً أصلاً, إلا عندما ترى الفرق".
و السؤال هنا هو: كيف أنه في لحظات احتضار الجسد و اضمحلال نشاط المخ, يمر الإنسان بمشاهدات و رؤى بتلك القوة و الوضوح و التأثير؟ و ليس هذا هو اللغز الوحيد كما سنرى.
خبرات المكفوفين و الأطفال و الخبرات الجماعية
هناك العديد من الدراسات, مثل أبحاث كينيث رينج وشارون كوبر, أثبتت أن المكفوفين الذين يمرون بخبرات الاقتراب من الموت, يرون نفس المشاهدات المعروفة التي يراها المبصرون المقتربون من الموت.. من هؤلاء سيدة ولدت و عصبها البصري مُدمر تماماً, أي أنها لم تر النور في حياتها, و ليس لديها أي ذاكرة بصرية!.. حتى أن بعض هؤلاء المكفوفين قد وصف ملابس الأطباء التي "رآها" أثناء مرحلة الخروج من الجسد.. و قد سجل رينج تجارباً عديدة للعميان في كتابه "رؤية العقل".
كذلك وجد الباحثون أن تجارب الأطفال لا تختلف كثيراً عما يراه البالغون, إلا من حيث قدرتهم المحدودة على التعبير عما رأوه.. و يوجد هناك عدة كتب حول خبرات الأطفال المقتربين من الموت, مثل كتاب بي إتش أتووتر "أطفال الألفية الجديدة".
وهناك أيضاً عدة تسجيلات لما يمكن أن نسميه "تجارب جماعية" للاقتراب من الموت..ففي عام 1996 أُصيب مجموعة من رجال المطافئ بالاختناق أثناء تعاملهم مع حريقاً في أحد الغابات..و قد نجوا جميعاً, بعد ما مروا بخبرة اقتراب جماعية من الموت, خرجوا خلالها من أجسادهم وتقابلوا معاً ليشاهدوا أجسادهم الممدة أرضاً.
وهناك واقعة أخرى سجلها كينيث رينج أيضاً, عن ثلاثة أصدقاء خاضوا تجربة جماعية مماثلة.. و قد اهتم بتلك
التجارب الجماعية باحثون أُخر أمثال إرفن جيبسون و ستيفي هوبر و ماي إليوت.
و نقتبس بعض ما قاله الأطباء و المختصون عن محاولات تفسير الأمر؟
يقول د.جيف لونج: "إن خبرات الاقتراب من الموت قد تتباين, و لكن ثبات عناصرها (الخروج من الجسد - النفق المظلم - النور في نهايته - مقابلة الأقارب المتوفين..الخ) ذلك الثبات يمثل صدمة!..ليس هناك تفسير بيولوجي لخبرات الاقتراب من الموت.. ليس هناك تجربة بشرية مماثلة في قوتها و بمشاركة عدد مماثل من الأشخاص".
و يقول فان لوميل: "وفقاً للمفاهيم الطبية, ليس هناك احتمال لاستمرارية الوعي أثناء السكتة القلبية"
و قد قام الطبيب الألماني مايكل شروتر كونهارت بدراسات موسعة لعدد هائل من خبرات الاقتراب من الموت المسجلة و المنشورة, و استخلص أنها "لا يمكن تفسيرها على أنها نتيجة خلل في عمل المخ".
أما دراسات طبيب نفس الأعصاب بيتر فينويك فقد نفت العلاقة بين الهلوسة من جهة, و خبرات الاقتراب من الموت من جهة أخرى.. و كذا دراسات ملفن موريس.. فعند استخدام الكيتامين و غيرة تكون التجارب باهتة و مشوشة (سكوت روجو), كذلك الهلوسات لا تتضمن أي اتصال بالموتى على سبيل المثال".
و يقول بيتر فينويك:"من المعروف أنه عندما يصبح نشاط المخ غير واعي (أثناء الغيبوبة), لا يمكن للمخ أن ينتج صوراً, و إذا حدث هذا فلن يتمكن المرء من تذكرها لاحقاً.. رغم هذا فإن المرء يخرج بعد تجارب الاقتراب من الموت متذكراً تفاصيلها بوضوح و قوة!..هذا لغز حقيقي لا أعرف له تفسيرا".
و يقول عن مقارنة التجارب بتأثيرات عقاقير الهلوسة: "المشكلة في تلك النظرية, إنه عندما تقوم باختلاق أوضاع مبهجة باستخدام العقاقير, تكون واعياً.. أما في خبرات الاقتراب من الموت, تكون غير واعي".
ثم يقول: "المخ لا يعمل..إنه غير موجود..مع ذلك يتم معايشة تلك الخبرات الواضحة جداً".
و يقول بروس جريسون: "ليس هناك تفسير فسيولوجي (جسماني) أو سيكولوجي (نفساني) يمكن أن يشرح الملامح المعروفة لخبرات الاقتراب من الموت".
أما كارل جنسن, الذي استخدم عقار الكيتامين لإنتاج بعض التأثيرات الشبيهة بتأثيرات الخبرات من الموت, فالمدهش أنه كان يؤمن أن كلا النوعين من التجارب -الطبيعية و الصناعية- هي تجارب روحانية أصيلة و حقيقية.
و يقول آلان كيلليهير: "إن الآراء الشخصية للمتشككين في خبرات الاقتراب من الموت يتم تقديمها على أنها آراء العلم".
ما بعد الاقتراب من الموت: كيف تؤثر تلك التجارب في حياة أصحابها؟
من أغرب ما لاحظه الباحثون أن من يمر بخبرات الاقتراب من الموت, يظل متذكراً لها بدقة شديدة, و تظل تفاصيلها و المشاعر المصاحبة لها حاضرة في ذهنه, بل إن بعضهم -بعد مرور خمسين سنة كاملة على التجربة - يظل يذكرها و يتحدث عنها بنفس التأثر و الانفعال, و كأنها حدثت بالأمس! (و تلك ظاهرة أخرى غير مفهومة, و تناقض بشدة تجارب الهلوسة و العقاقير و الأحلام).
بغص النظر عن سلوكهم السابق في الحياة, و سواء كانوا متدينين بعمق أو متشككين, و على كل درجات الاعتقاد من الإيمان المتسامح إلى الإلحاد الصريح,فقد ظل أغلبهم مقتنعين بأنهم كانوا في حضور كائن علوي روحاني, و قوة محبة, و أنهم عاشوا لمحات من حياة آتية..بل يبدو أن التجربة تكون من القوة و الروعة, إلى درجة أن العائدين يصيبهم نوع من الإحباط و الحزن لفترات طويلة, بسبب افتقادهم للمشاعر الجياشة التي عايشوها هناك, و التي كانوا غالباً يجدون صعوبة في وصفها بالكلمات (و قد تحدث كارل يانج عن انقلاب في نظرته للدنيا و البشر, بعد ما رأى ما رأى في تجربته: "المناظر و الألوان باهتة, و كأن الناس تعيش محبوسة بداخل صناديق!").
و قد عايش هؤلاء انقلاباً في مفاهيمهم و قيمهم و نظرتهم للموت و الحياة بعد تلك التجارب.. فقد ازداد تقديرهم للحياة و قناعتهم بأنه هناك هدف أسمى من ورائها, وتعززت ثقتهم بأنفسهم, بشدة, و ازدادوا تعاطفاً مع الآخرين, و رغبةً في مساعدتهم و الاهتمام بهم ..كذلك تلاشى خوفهم تماماً من فكرة الموت (بينما الشخص الذي ينجو من حادث خطير, أو عملية جراحية, دون الدخول في تجربة اقتراب من الموت, فعادة ًما يخرج و قد تنامى خوفه من الموت).
كذلك فإن المارين بالتجارب, يزدادون رغبة في التعلم و المعرفة العلمية, و يصبحون أكثر إيماناً بالغيب و الروحانيات (لا يترجم هذا بالضرورة إلى ممارسة طقوس دينية معينة).. وهناك روايات عديدة عن ملحدين لا يؤمنون بالأديان, و لا بأي شيء خارج نطاق الحواس, و بعضهم معادي و كاره لكل أشكال الدين و المتدينين, مروا بخبرة اقتراب من الموت, بعضها من النوع السلبي المؤلم, تبدلت بعدها معتقداتهم بالكامل, و قاموا تكريس حياتهم لدراسة الروحانيات..من هؤلاء الأسقف هوارد استورم, و الأسقف جورج رودونيا.. أما آي جي آير, و هو فيلسوف ملحد, و مؤسس فلسفة ترى أن كل ما لا تدركه حواسنا هو ببساطة هراء, فقد مر بتجربة اقتراب من الموت مخيفة, ووصف ضوءا أحمر.. صرح بعدها أن ما رآه قد "زعزع قناعتي السابقة, بأن الموت هو النهاية"..على الجانب الآخر هناك متشددون صاروا أكثر تسامحاً و انفتاحاً مع أصحاب العقائد المخالفة.
والمتتبع لقصص العائدين من تجربة الموت يجد أشياءاً عجيبة للغاية: مجرمين عتاة تحولوا لحياة من المحبة الاستقامة و مساعدة الآخرين, مدمنين أقلعوا فوراً عن إدمانهم, بل و أصيبوا بحساسية شديدة تجاه الخمور و المخدرات (و هي سمة عامة للمارين بتلك الخبرات).
تحول آخر ملحوظ عليهم هو الإهمال الشديد لجميع الأمور "الدنيوية", أي المادية و المالية, و تضاءل الاهتمام بالمتع الحياتية, و عدم الاكتراث بكل ما يختص بالتنافس و الصراعات و المناصب (يتمثل حتى في أشياء بسيطة, مثل عدم رغبة في ارتداء ساعات اليد).
و نقتبس مما قاله أحدهم (من دراسات تشارلز فلين): "كل ما أحرزته في حياتي من أموال, و كل ما امتلكته من متاع, فجأة لم يعد ذا أهمية! أما تلك المواقف التي تغلبت فيها على أنانيتي, و عبرت عن محبتي للآخرين و أبديت الاهتمام بهم, فقد تضاعفت أهمية تلك المواقف في نظري, و بدا و كنها قد حُفرت بداخل ذاكرتي حفراً".
و لكن إذا لم يكن التفسير العلمي كافياً لفهم رؤى و مشاهدات المقتربين من الموت, و التحولات الجذرية في حياتهم,
و إذا كانت نظرية احتضار المخ, أو غيرها من التفسيرات الطبية, غير قادرة على فك ألغاز تلك الظاهرة, فما هي الاحتمالات الاخرى الممكنة؟ و هل هي بدورها تفسيرات علمية, أم غير ذلك؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق