الأربعاء، 14 يناير 2015

عن الحقيقة




مقدمة
ما هي "الحقيقة"؟

هل هناك حقائق أصلا؟ و إن كان، فهل يمكننا أن نعرف تلك الحقائق؟ و كيف نعرفها؟

و كيف نستطيع معرفة الفارق بين ما هو حقيقي و ما هو غير حقيقي- أي متى يمكن القول أن شيئا ما يمثّل حقيقة؟ و هل يصح الحديث عن "حقائق مطلقة"، أم أن جميع الحقائق تظل نسبية؟

لعل تلك الأسئلة هي من أهم الأسئلة التي يمكن طرحها، و التي ناقشها الفلاسفة منذ القدم، حيث ترتبط الحقيقة بشكل وثيق و مباشر بكل فرع من المجالات التي يتعامل معها البشر في حياتهم، كالعلوم الطبيعية (الكيمياء و الفيزياء و الأحياء..إلخ) و العلوم الإنسانية (الفلسفة و التاريخ و علم الإجتماع و الإقتصاد..إلخ).

لنبدأ بملاحظة أكثر كلمة متكررة وسط تلك الأسئلة، و هي كلمة "نعرف" أو "معرفة"؛ فلعل التساؤل عن المعرفة ابتداءا يساعدنا في البحث عن الحقيقة.

عن المعرفة
مبدئيا، من البديهي أننا حين نتحدث عن الحقيقة فإنما ننطلق بالأساس من الحقيقة التي يمكننا نحن كبشر أن نعرفها.

ماذا إذن عن الحقائق غير القابلة للمعرفة بواسطة البشر؟

حسن، إن وُجدت تلك الحقائق فمن الواضح أنه لن يكون هناك أي معنى لنقاشها أو البحث عنها!

يمكن برهنة ذلك بمثال بسيط: لو فرضنا جدلا وجود كائنات أخرى- غير بشرية- لديها أنواعا أخرى من الحقائق التي لا تتوافر للإنسان، فإن تلك الفرضية ستضعنا أمام احتمالين لا ثالث لهما:

إما أن تلك المعرفة ستكون غير قابلة بالمرة للنقل لنا كبشر، ربما لعدم قدرتنا على تصورها أو استيعابها أو التأكد منها بأي حال من الأحوال، مما يعني أنها ستظل خارج دائرتنا إلى الأبد – و في تلك الحالة سيكون من العبث أن نناقش تلك المعرفة المزعومة أو نهتم بها أصلا!

و إما- ثانيا- أن هذه المعرفة ستكون قابلة لأن ندركها بشكل ما، ربما مثلا عن طريق اتصال بعض البشر بتلك الكائنات العالمة و استلهام علومهم منهم - و في تلك الحالة فهذا سيعني أن تلك المعرفة صارت معرفة يقدر البشر على إدراكها!

هكذا في الحالتين فالأمر سيعيدنا إلى القاعدة التي وضعناها: المعرفة التي يمكننا مناقشتها هي حصريا المعرفة التي يمكن للبشر إدراكها بشكل ما أو التأثر بها ؛ أما الحديث عن معرفة واقعة بالكامل خارج قدرات البشر على الإدراك فهو عبث و تضييع للوقت و الجهد في ما لا يفيد و ما لا يمكن التيقن منه، و بالتالي فلا جدوى من الحديث عنه أصلا.

هذا قد لا يكون مرضيا تماما للبعض؛ و لكنه يبدو الخيار الوحيد أمامنا للبدء به: الإنطلاق من "المعرفة الإنسانية".

أدوات المعرفة
طالما قررنا الإنطلاق من المعرفة الإنسانية – التي لا يمكننا تصورغيرها- فهذا يستتبع بعض التأمل في أدوات البشر للحصول على تلك المعرفة.

نحن نعرف أمورا كثيرة : أنا مثلا أعرف أن السماء زرقاء، و أن الأسبوع به سبعة أيام، و أعرف أن الماء يغلي عند درجة حرارة 100 مئوية، و أعرف أن الأرض شبه كروية، و أعرف أنني أحب البيتزا، و قد أعرف أن السياسي الفلاني (س) هو شخص مخلص جدا سيقود بلده إلى الإزدهار، و قد أعرف أنني غدا سأربح مبلغا هائلا من المال، لأن هذا ورد عن برجي في باب "حظك اليوم" في الجريدة!

بسهولة إذن يمكن تعريف المعرفة بأنها كل فكرة أو تصور كامن في عقولنا، سواء كانت تلك الفكرة صحيحة أم خاطئة؛ والواضح من الأمثلة السابقة أن بعض تلك المعرفة يبدو دقيقا و حقيقيا، بينما بعضها يبدو مشكوكا فيه، أو حتى خاطئ؛ و لكن قبل الدخول في "تقييم المعرفة" يحق لنا أولا التساؤل: كبشر كيف نعرف أي شيء؟

أول و أوضح مصدر للمعرفة هو الحواس (البصر و السمع و الشم و اللمس و الشعور بالمكان)، و هي أدوات تبدو رائعة جدا تمكننا من استقبال المعلومات من الواقع الخارجي.

أما المصدر الثاني للمعرفة فهو العقل، الذي هو بمثابة "مركز القيادة" حيث تجتمع عنده كل المعلومات الواردة من حواسنا ، فهو المسئول عن التعامل مع تلك المعلومات، سواء في شكل تحليلي (تنظيم و ترتيب و تفسير)، أو في شكل عاطفي (إعجاب و قبول و نفور و محبة و كراهية و اشمئزاز..إلخ)، و من ثم يمكن للعقل الخروج بأفكار عديدة حول كل شيء تقريبا.

هكذا الحواس هي نافذة المعرفة، بينما العقل هو محل المعرفة و خالقها و مسرح أحداثها.

يسهل علينا كذلك ملاحظة أن كلا الأمرين لا غنى لهما عن الآخر، فبإمكاننا تصور حواس بدون عقل حيث سيصبح الكائن أشبه بكاميرا تصوير جامدة مزودة بميكروفون لالتقاط الأصوات دون قدرة حقيقية على الفهم أو التحليل؛ كذلك يسهل إلى حد ما تصور عقل بدون حواس- فيفتقر حتى لحاستي اللمس و الشعور بالمكان- و من الواضح أن صاحب ذلك العقل لن يكون قادرا على الكثير من المعرفة، فهو إن امتلك نظريا القدرة على التحليل فلن يكاد يوجد بداخله ما يمكن تحليله أصلا – فلا مفر من الحواس و العقل معا لتبلور معرفة متماسكة.

المعرفة الصحيحة و المعرفة الخاطئة
طالما أن المعرفة هي في النهاية مجرد "فكرة أو تصور داخل أدمغتنا"، فما الذي يجعلنا نثق بتلك المعرفة؟ و ما الذي نعنيه حقا حين نتحدث عن "معرفة صحيحة" و "معرفة خاطئة"؟

هذا يمكن إجابته بالعودة إلى المصدر الأول للمعرفة، و هو الحواس، و هي بالتعريف نوافذ تربطنا بالواقع الخارجي، مما يعني أن المعرفة - بالتعريف أيضا- مرتبطة بشكل ما بذلك الواقع الخارجي أيضا.

ببساطة حواسنا ترصد و عقولنا تنتج الكثير من المعلومات و الأفكار و التصورات و الخيالات المختلفة كل يوم بل كل لحظة، و من الواضح أن بعض تلك الأفكار ينطبق على الواقع، و بعضها يتعارض مع الواقع أو يختلف عنه – الأولى نسمّيها صحيحة و الثانية نسمّيها خاطئة.

هكذا مثلا فمعرفتي بأن الأرض كروية هو أمر يمكن التأكد من مطابقته للواقع الخارجي و بالتالي صحته ، بينما توقعي بربح المال غدا هو أمر قد يثبت مخالفته للواقع الخارجي و بالتالي خطأه.

كذلك كلنا نفرق بين الأحلام و الحقائق فنجعلهما متناقضين، لأن الأحلام هي رؤى و تصورات داخلية غير مطابقة للواقع، غير حقيقية.

هكذا تبدو المسألة سهلة لا تحتاج إلى التعقيد ؛ حيث أن المعرفة لا قيمة لها لو كانت منفصلة عن الواقع أو مخالفة له، وهي في تلك الحالة "معرفة خاطئة" لا تعبر إلا عن نفسها، و على الجانب الآخر يمكن تعريف "المعرفة الصحيحة" بأنها "معرفة مطابقة للواقع".

و يمكن تعريف الحقيقة إذن بأنها هي تلك المعرفة الصحيحة و الواقعية، أو أن الحقيقة هي "تطابق بين الفكرة في أذهاننا و بين الواقع الخارجي" – و لو تذكرنا أنه في أفهامنا العادية فإن "الحقيقي" و "الواقعي" شبه مترادفان لغويا، فهذا يربط الأمور بشكل يبدو جيدا (حتى الآن).

و لكن هذا يطرح المزيد من الأسئلة، مثل: من أين تأتي المعرفة الخاطئة إذن؟ و هو السؤال الذي سيقودنا بالتبعية إلى السؤال الأهم و هو : كيف نضمن الوصول إلى المعرفة الصحيحة، الحقيقية؟

للإجابة عن ذلك قد يكون من المناسب العودة إلى تأمل أدواتنا للمعرفة مرة أخرى.

الخلل في أدواتنا
قلنا أنه لا يوجد معرفة بلا حواس أو بلا عقل، و يمكن القول أيضا أنه لا يوجد معرفة صحيحة بدون حواس سليمة أو عقل سليم، فتشوه البصر أو السمع أو الشم أو اللمس ، و تشوه العقل و ملكات التفكير (الخلل العقلي)، كلها ستقودنا إلى معرفة مشوشة أو خاطئة.

و بسهولة يمكن ملاحظة أن مصادر معرفتنا تلك- الحواس و العقل-  هي بالفعل ليست كاملة أو منزّهة بل هي بطبيعتها ناقصة و معرضة للخطأ، فحاسة البصر مثلا محدودة إلى حد كبير إذ أن أعيننا غير قادرة على النظر خلال الحوائط أو العوائق، و هي لا تصل إلى رؤية المجرات و النجوم و الكواكب البعيدة بتفاصيلها، كما أنها لا ترصد الميكروبات و الفيروسات الصغيرة، و ليس باستطاعتها تمييز إلا مدى معين من الموجات الطولية (الألوان) تغفل عن رؤية ما فوقها أو دونها..إلخ، و الأخطر أن أعيننا قد ترى أمورا وهمية لا وجود لها (مثلما يحدث مع السراب أو خداع البصر أو حتى الهلوسات) – و كذلك الحال مع سائر الحواس التي نملكها فهي، و إن كانت أدوات ممتازة، إلا أنها بعيدة عن الكمال أو الدقة و يمكن تضليلها.

و من الواضح أن العقل كذلك يخطئ و يمكن تضليله و خداعه و إيهامه ، فما أكثر الإستنتاجات الخاطئة التي نقع فيها كل يوم نتيجة خلط مثلا أو تعصبات أو ربط غير سليم أو تعميم غير دقيق أو ظن خيالي مبني على معلومات منقوصة..إلخ، فذلك النقص في الحواس و العقل كثيرا ما يقودنا إلى المعرفة الخاطئة و يبعدنا عن الحقائق.

و لذلك فقد سعى البشر منذ البداية، و نجحنا فعلا، في تطوير أدوات أخرى مساعدة تزيد من قدرات أدواتنا الذاتية، و تمكننا من القيام بدوري الحواس و العقل (استقبال المعلومات و تحليلها) بكفاءة أكبر، لتطوير معرفتنا.

فلمساعدة حاسة البصر مثلا قمنا باختراع التليسكوب و الميكروسكوب، اللذان يساعداننا على رؤية أشياء بعيدة جدا و أشياء صغيرة جدا، ليس باستطاعتنا رؤيتها بأعيننا العادية؛ و كذلك الحال مع سائر الأدوات التي تزيد من قدرتنا على رصد العالم من حولنا و تتجاوز أوجه القصور الكامنة في حواسنا البيولوجية.

أدوات العقل
أما أدوات العقل المساعدة فهي أكثر تركيبا من كونها مجرد أجهزة إلكترونية (رغم أنه يمكن اعتبار الكمبيوتر مثلا كأداة مساعدة للعقل البشري) و لكن هناك أيضا أدوات معنوية لمساعدة العقل على ممارسة مهامة.

من أهم تلك الأدوات العقلية هي اللغة ذاتها، أي ابتكار تراكيب صوتية (كلمات) و ربطها بمعاني محددة، و من ثم استخدامها في تبادل المعرفة و تطويرها بين البشر.

أداة معنوية أخرى لا غنى عنها هي الفلسفة، و هي محاولات لخلق أنماط تفكير أكثر شمولا و منطقية و تنظيما و تماسكا من عمليات التفكير الضيقة العشوائية الفوضوية.

و هناك أيضا الرياضيات، و هي أداة تحليلية مساعدة رائعة في مجالات العلوم.

تلك الأدوات تهدف إلى تلافي الأخطاء التي قد يقع فيها العقل، مع زيادة قدراته على القيام بمهام التفكير المختلفة بكفاءة أكبر؛ و هي تحقق الكثير من النجاحات في ذلك، بمساعدة أدوات الحواس؛ و يكفينا لنرى  ذلك النجاح أن نلقي نظرة على القدرة المعرفية البسيطة جدا لدى إنسان الكهف القديم، المفتقر إلى أجهزة أو لغات كتابة أو قدرات حسابية أو فلسفات متطورة، و نقارنها بالقدرة المعرفية الهائلة المتوفرة للبشر اليوم، و سيبدو الفارق أوضح من أن نحتاج للتأكيد عليه.

لكن الملاحظ هنا أن تلك الأدوات العقلية لا يمكننا وضعها و خلعها بسهولة كالملابس مثلا!، و إنما هي حين نكتسبها تمتزج امتزاجا بأسلوب تفكيرنا و تصبح جزءا من نشاطنا الذهني، سواء عن وعي أو عن غير وعي، بحيث قد يمكننا تغييرها أو تطويرها و لكن يكاد يكون من المستحيل علينا التخلص منها حتى لو أردنا – فنحن حين نفكر نفعل ذلك باستخدام الكلمات التي تعلمناها منذ الصغر، و نتفلسف حسب طبائعنا و ما اكتسبناه من مهارات عقلية.

بالتالي يحق لنا التساؤل: تلك الأدوات العقلية المساعدة- اللغات أو الفلسفات أو الرياضيات- هل هي (على روعتها) تقربنا حقا من المعرفة الصحيحة التي ننشدها، أم أنها بدورها لا تخلو من أوجه قصور و نقص و ضلال، بحيث يمكنها أيضا أن تبعدنا عن المعرفة الصحيحة (الحقيقة) و تقودنا إلى أنواع أخرى من المعرفة الخاطئة؟

النظري
لنبدأ بالرياضيات، تلك الأداة التي ساعدتنا قديما في تنظيم إدارة حياتنا، و ساعدتنا بعد ذلك و إلى اليوم في تطوير كافة أنواع العلوم خاصة الفيزياء و الهندسة.

على روعتها و فائدتها كأداة عقلية متميزة، للرياضيات خاصية يجدر ملاحظتها، و هي أنها بطبيعتها لا تعبر عن أمور واقعية، و إنما عن أمور نظرية مجردة – و إن ساعدت في التعامل مع الواقع بطبيعة الحال.

حين نقول 1+1=2، فذلك الواحد النظري قد يعبر عن أي شيء واقعي، تفاحة واحدة أو برتقالة واحدة..إلخ، كما يبسطها مدرسو الرياضيات للأطفال، و لكن تظل المعادلة نفسها لا تعبر عن أي تفاح أو برتقال ؛ هي تتحدث عن "واحد" و "اثنين" دون أن تتصل تلك الأرقام بشيء فعلي، و لهذا نسميها "أرقاما نظرية أو مجردة"- أي أنه في الواقع لا يوجد شيء اسمه واحد أو اثنين هكذا مجردا ، هناك فقط تفاحة أو تفاحتين أو برتقالة أو برتقالتين..إلخ، أو حتى جرام أو اثنين أو متر أو اثنين..إلخ، فالأرقام لا وجود لها في الواقع إلا حين ترتبط بأشياء أو قيم.

ما الذي يعنيه ذلك؟ لا شيء كبير حتى الآن، سوى ضرورة أن نلاحظ الفارق بين المجرد و الواقعي، و الذي سيستمر معنا، بل سيكتسب أهمية أكبر، حين ننتقل إلى اللغة و الفكر.

الفجوة بين المعرفة  و الواقع
حين تتحدث عن "الكرسي"، فيجب ملاحظة إنك تتحدث عن فكرة موجودة في رأسك عن الكرسي تقصدها، تلك الفكرة مصدرها معرفتك السابقة المستمدة ربما من ملاحظتك و تعاملك مع مئات الكراسي عبر حياتك، مما جعلك تكون فكرة عامة عن تلك الأشياء التي تندرج تحت تصنيف "كرسي".

هكذا من الواضح أن كلمة "كرسي" ليست هي الكرسي ذاته!، و إنما هي تعبير لغوي عن فكرة في رأسك عن الكراسي.

تلك الفكرة عن الكرسي قد تختلف من شخص لآخر، فالشخص متواضع الحال الذي يعمل في مقهي محلي حين تذكر أمامه كلمة كرسي، فما سيخطر في باله سيختلف حتما عما سيخطر في بال أرستقراطي ثري مترف لم يخرج من قصره الفخم طيلة حياته ذكرت أمامه نفس الكلمة- الأول قد يتصور جسم خشبي بسيط جدا صغير و متهالك، بينما صورة الكرسي عند الثاني هي عرش ضخم و فخم ممتلئ بالزخارف الذهبية المعقدة.

أما لو كان الحديث عن كرسي واحد معين نراه جميعا، فهذا بالطبع سيقرب التصورات كثيرا بين جميع الناظرين مهما كانت اختلافات خلفياتهم ، و لكن ستظل هناك فوارق طفيفة نسبيا، مثل زاوية الرؤية و مثل تباين قوة نظر كل شخص، و النتيجة أنه لو أردنا الدقة فإن كل شخص سيرى صورة مختلفة لنفس الكرسي! ؛ و في كل الحالات ستظل الكلمة حين نستخدمها محصورة بمعناها الآني، فهي تعني ذلك الكرسي تحديدا، أما لو استخدمناها في سياق مختلف أو أمام شخص مختلف فمرة أخرى سنجد المعنى الدقيق للكلمة يتفلت من بين أيدينا.

و لكن هناك ما هو أخطر مما سبق، و هو أمر محوري يتعلق بعملية الرؤية ذاتها- بل عملية المعرفة- و كيفية حدوثها.

كل ما تراه أو تسمعه أو تفكر فيه هو في النهاية ناتج عن نشاط مخي، فالحواس تستقبل الضوء و الصوت و الرائحة و درجات الحرارة..إلخ، و من ثم تترجم تلك المظاهر و توصلها إلى الجزء الخاص من المخ في شكل إشارات كهربية و كيميائية، و هي اللغة الوحيدة التي يفهمها المخ.

و النتيجة أنه حين تنظر إلى الكرسي فأنت لا تراه بشكل مباشر، فالعين هي أشبه بكاميرا صماء، و الكاميرا لا ترى، كما أن المخ هو كتلة خلايا دهنية و عصبية قابعة في الظلام و لا ترى أيضا – و ما نطلق عليه "الرؤية" ليس إلا ترجمة المخ للإشارات الواردة إليه من العين.

فهل تلك الإشارات مطابقة للواقع؟ حتما لا، بل هي معبرة عنه في أفضل الأحوال.

من أشهر الأمثلة التي توضح ذلك الأمر، هي الألوان ، فما تعتقد إنك تراه في الطبيعة على أنه تنوع لوني مبدع و مبهج، هو ليس إلا ترجمتك الخاصة للتباين في أطوال الموجات الضوئية التي تعكسها الأشياء؛  ببساطة الضوء يعكس مجموعة مختلفة من الموجات، و أعيننا و أمخاخنا تقوم بترجمة تلك الموجات المختلفة إلى ألوان متنوعة يمكن رؤيتها - أما الموجات الطولية التي تقع خارج إطار معين فلا نراها أصلا.

هكذا يمكن القول أن الألوان، الأحمر و الأخضر و الأصفر و الأزرق..إلخ، لا وجود مستقل لها في الطبيعة، بل هي طريقة ترجمتنا الخاصة للأشياء- و ما ينطبق على الألوان ينطبق على كل شيء تقريبا، فالسطح الأملس الذي تراه ليس أملسا و إنما هو مليء بالمتعرجات الدقيقة التي لا تراها، و كذلك الحائط الجامد الذي تراه هو في الحقيقة يحتوي على فراغات بأكثر بكثير مما يحتوي على مادة، إلا أن أعينك تترجمه بهذا الشكل المصمت.

و ما ينطبق على النظر ينطبق على سائر الحواس، و كذلك على الأفكار كما مر بنا: ما تستقبله و ما تفكر فيه ليس مطابقا للواقع.

تلك الفجوة بين المعرفة و الواقع قد لا تبدو خطيرة تماما في مثال الرقم واحد أو الكرسي أو حتى الألوان، و لكن تظهر أهميتها في مفاهيم عقلية أكثر تجريدا و شمولا: مثل الحق أو الخير أو العدالة أو الكمال أو الوطن أو الهوية..إلخ.

و لنأخذ مثال "العدل"، فمن المؤكد أن معنى الكلمة في ذهن فرد بدائي في قبيلة أفريقية نائية، سيختلف بالكلية عن معناها في ذهن قاضي دستوري في بلد من العالم الأول (بغض النظر عن أي المعنيين قد يحوز على إعجابنا أكثر!)، بحيث في النهاية قد لا نجد شيئا مشتركا بين الفكرتين إلا الكلمة فقط!

هذا يعني أن الكلمات- كالأرقام- هي مجرد تعبيرات عن أفكار نظرية لا وجود لها في الواقع بشكلها المجرد، هذا و إن كانت اللغة - كالرياضيات- تُستخدم للتعبير عن أشياء موجودة في الواقع.
 
فما المهم في هذا كله، و ما المغزى منه؟

المغزى قد يبدو صادما بعض الشيء، و هو أن جميع معرفتنا الرياضية و اللغوية و بالتالي الفلسفية – تلك المعرفة المنحصرة بالتعريف في العقل و أدواته- هي بطبيعتها معرفة غير منطبقة تماما على الواقع، بل الأدق القول أنها معبرة عنه.

هذا بالطبع لا يعني أن المعرفة المجردة خاطئة أو ضارة، و إنما هي – كالحواس- أدوات رائعة للتعامل مع الواقع، بشرط أن ندرك طبيعتها حتى نحسن التعامل معها ؛ فالمهم هو الإنتباه للفجوة بين المجرد و الواقعي، و كذلك الإنتباه إلى بعض الأخطاء المعرفية التي قد نقع فيها لو تغافلنا عن تلك الفجوة.

فخ المجرد ووهم المطلق
من الأمثلة السابقة يمكن القول أنه لا شيء في الواقع يسمى "العدل" أو "الكرسي" أو "الأحمر و الأخضر و الأصفر" أو "الرقم واحد"- هذه مفاهيم حسية أو عقلية فلسفية لغوية تخصنا نحن، سواء ولدنا بها أو اخترعنانا، و الهدف منها هو التعبير البشري عن أشياء واقعية، بدرجة مقبولة من الدقة.

هذا يقودنا إلى أحد الوسائل التي يمكن لأدوات عقولنا- اللغة أو الأفكار الفلسفية المجردة- أن تضلنا عن الحقيقة، لو لم تنتبه إلى تلك الفجوة، فتعاملت مع المجرد و كأنه واقعي.

لنأخذ مثالا آخر، و هو "الكمال"، و هو مفهوم فلسفي يتم تداوله كثيرا خاصة في مبحث الإلهيات؛ و لو أردنا ربط الكلمة بالواقع فيمكن تذكر أن الكلمة لها استخدامات بسيطة نستعملها في حياتنا اليومية، فحين نجد كوبا ممتلئا بالماء لآخره نقول أن "الكوب كامل"، و حين يمتلئ المدرج الدراسي بالطلاب نقول أن المدرج "اكتمل"، و هكذا فالكمال هو تعبير عن الشيء الذي يمتلئ بالقدر الذي يسمح به.

و لكن حين نقع في فخ توهم أن الأفكار المجردة لابد و أن يكون لها وجود واقعي، ننساق إلى الحديث عن "الكمال" و "الكامل" و كأنه مفهوم ينبغي أن يكون له وجود في الواقع بشكله المجرد النظري، و هذا عبث يشبه الحديث عن الرقم واحد أو العدل أو الكرسي و كأنها مفاهيم واقعية، بدلا من كونها مفاهيم عقلية مخترعة تهدف للتعبير عن أمور واقعية – و النتيجة أننا نستخدم الكلمة لوصف شيء زئبقي شديد الإبهام بحيث يكاد يكون من المستحيل تعريفه أو تصوره، و ذلك لأنه ببساطة لا وجود له في الواقع ، كما أنه لا وجود للعدل المجرد أو الكرسي المجرد أو الرقم واحد المجرد.

هكذا فالأفكار و المصطلحات الفلسفية المجردة هي – كالحواس- أدوات رائعة لاكتساب المعرفة و التعامل معها ، بشرط أن ندرك حدودها و نستخدمها في مكانها و نتجنب الوقوع في سبل إضلالها.

إعادة تعريف الحقيقة
هذا كله يجعلنا مضطرين لإعادة تعريف الحقيقة التي قلنا أنها "معرفة مطابقة للواقع"، فطالما أن ذلك التطابق بين المعرفة و الواقع قد سقط إلى الأبد - بكل أسف- فالآن يمكننا القول أن الحقيقة البشرية هي "تصور ذهني سليم للواقع" أو هي "معرفة معبرة عن الواقع بشكل مناسب"، فهذا هو أفضل ما يمكن الوصول إليه أو الحديث عنه.

نقول "بشكل مناسب" و ليس "بشكل صحيح" اعترافا باستحالة التطابق الكامل بين الكلمات و الأفكار المجردة (الكرسي، العدل، الرقم واحد..إلخ) من ناحية و بين الواقع من ناحية أخرى ، حيث أن كلا منهما من طبيعة مختلفة، و لكن في نفس الوقت إقرارا بجدوى و فائدة تلك الأفكار المجردة في التعبير الملائم عن الواقع- مما سنتناوله أكثر لاحقا.

و يبقى – بعد أن مررنا ببعض وسائل حدوث المعرفة الخاطئة- أن نبحث في كيفية الوصول إلى المعرفة الواقعية أو الصحيحة أو المناسبة.


نحو الحقيقة
لدينا إذن المعرفة (و هي فكرة داخل عقولنا)، و لدينا مصادر للمعرفة (الحواس و العقل)، و لدينا أدوات معنوية لذلك العقل (المجردات: اللغة و الفلسفة و الرياضيات)، و لدينا واقع خارجي قد تعبر عنه معرفتنا بشكل خاطئ (نتيجة قصور أو خلل في الحواس أو العقل و أدواته)، و قد تعبر عنه بشكل سليم أو ملائم، فنقول أننا اقتربنا من الحقيقة.

هذا السبيل للوصول إلى الحقائق ليس معقدا بل نمارسه جميعا بالخبرة و التجربة، فعلى سبيل المثال حين تشهد أمامك حادث تصادم لسيارتين، فأنت ترى الصدام يحدث و السيارتين تنبعجان, و تسمع صوت الإرتطام الحاد، و ربما تحس بالرجة و الشظايا المتطايرة و قد تشم الغبار المتناثر لو كنت قريبا بما يكفي، و في النهاية فعقلك سيربط تلك المظاهر كلها، و يحللها بما خبره عن قوانين حركة الأشياء و المواد المختلفة..إلخ، ثم يخرج بحقيقة إجمالية هي: أن حادثا قد وقع.

هذا يبدو سهلا في الحقائق الواضحة الظاهرة أمام الجميع، و لكن في الحقائق الأكثر تعقيدا فلابد من منهج أكثر تطورا.

و قد نجح البشر عبر تطور الفلسفات و تراكم الخبرات و التجارب عبر القرون في بلورة ما يمكن تسميته الأسلوب العلمي التجريبي، و هو ما سنقدمه هنا على أنه الوسيلة الأكمل بشريا للوصول إلى الحقائق.

المنهج العلمي
هذا المنهج يمكن تلخيصه في ثلاث خطوات: الخطوة الأولى تتعلق بالرصد المباشر للطبيعة و للظواهر التي تحدث حولنا، و الخطوة الثانية هي وضع الفرضيات أو النماذج التفسيرية لتلك الظواهر، و الخطوة الثالثة هي اختبار صحة تلك الفرضيات و اختيار أفضلها.

مع ملاحظة أن تلك العملية لا تسير في خط واحد متصل سهل، و إنما قد تتحرك ذهابا و إيابا و تستلزم إعادة رصد ظواهر أخرى بهدف تأكيد الفرضية أو نفيها، أو حتى تطويرها و الوصول إلى أشكال أكثر دقة منها.

هكذا يمكن القول أن هذا المنهج يتعامل مع نوعين من الحقائق : حقائق عبارة عن ظواهر يمكن رصدها بشكل مباشر، و حقائق تفسيرية تشرح كيفية حدوث تلك الظواهر و المسببات ورائها (نظريات).

لتقريب الأمر يمكن تشبيه المسألة بعمل الشرطة حين تتعامل مع الجرائم؛ فحين تقع حادثة قتل مثلا يكون هدف المحققين هو معرفة كيفية وقوع الجريمة و من المتسبب فيها - و هي أمور قد تكون حدثت دون أن يراها أحد، و لكن هذا لا يمنع وجود منهجية لكشفها.

أولا تبدأ الشرطة الجنائية و الطب الشرعي برصد عناصر الواقع مباشرة و تحليله، فيبحثون عما يمكن إيجاده من آثار الجريمة من المواد الملموسة : بصمات مثلا أو بقع دماء أو بقايا متعلقات أو شعر أو حتى جثة القتيل ذاته، و يقومون بفحص تلك المتعلقات، و على الجانب الآخر يقومون بجمع شهادات الشهود، للبحث عن أي طرف خيط قد يساعد في الوصول إلى الحقيقة.

و ثانيا يقوم المحققون- بناءا على ما تحليلاتهم للوقائع- بوضع فرضيات أو سيناريوهات للكيفية التي يحتمل أن تكون الجريمة قد حدثت بها، و للأشخاص الذين يحتمل أن يكونوا المجرمين (المشتبه فيهم)، و كذلك الأسباب المحتملة وراء الجريمة : القاتل- مثلا- هو الخادم الذي طعن المجني عليه بسكين بهدف سرقة أمواله، أو القاتل هو زوجة المجني عليه ذاتها حيث وضعت له السم في الطعام بهدف الإنتقام منه لأنه خانها..إلخ، أو غيرها من الإحتمالات الواردة في ضوء الأدلة المتاحة.

و في النهاية يتم اختبار تلك السيناريوهات، ربما عن طريق مزيد من الفحص للأدلة و الشهود ، بغرض الوصول إلى أكثر سيناريو تناسبا مع المعطيات الواقعية و الذي يفسر الأحداث بشكل أفضل، و يتم اعتبار ذلك السيناريو معبرا عن الحقيقة، و التي لم يشهدها أحد مباشرة.

فلسفة المنهج
للفكر العلمي شروط و قواعد مساعدة يجتهد في تطبيقها لضمان أداء عمله بأكبر كفاءة ممكنة.

من تلك القواعد أنه لايكتفي و لا يسلم بما ترصده الحواس، و التي هي محدودة كما ذكرنا و قد تضلنا، و لذلك فهو يستخدم أحدث الأجهزة و أدوات الرصد لجمع أكبر قدر من المعلومات المتاحة عن أي ظاهرة.

ففي مثال الجريمة السابق نجد أن أجهزة رفع البصمات و ميكروسكوب الفحص و أدوات تحليل الحمض النووي..إلخ، هي كلها أدوات تمنحنا معرفة أكبر بكثير مما يمكن الحصول عليه بحواسنا العارية.

و بشكل أشمل فحواسنا كما قلنا عاجزة عن إدراك الكثير من الأشياء المحيطة بنا و التي نعرف اليوم أنها موجودة ، مثل الأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية أو الموجات الصوتية العالية أو المنخفضة..إلخ ، بل و حواسنا لا تسعفنا بالشعور بحركة الأرض ذاتها، التي تدور حول نفسها بسرعة أكثر من ألف ميل بالساعة- بينما نشعر نحن أنها ثابتة تحت أقدامنا!

و أكثر من ذلك، فالمنهج العلمي كذلك لا يكتفي بما ترصده الأجهزة مباشرة ؛ فهناك أمور نعرف بوجودها رغم أننا عاجزين عن رؤيتها حتى باستخدام الأدوات، مثل الظواهر الفيزيائية كالطاقة المظلمة و المادة المظالمة و الثقوب السوداء..إلخ ، بل و حتى الإلكترون- و هو من مكونات الذرّة- لا يمكن رؤيته مباشرة بأقوى أجهزة الرصد، و لكننا نعرف بوجود تلك الأشياء لأننا قادرين على رصدها بشكل غير مباشر، عن طريق رصد تأثيراتها و قياسها.

المنهج العلمي أيضا يحرص على تلافي الضلالات العقلية ، فمثلا الإنحياز العاطفي يمينا أو يسارا تعتبر نقيصة كبيرة في البحث العلمي، لماذا؟ لأنه قد ثبت بالخبرة البشرية أن العواطف ليست مقياسا موثوقا و أن الإنحيازات بإمكانها أن تضلنا عن رصد الواقع أو فهمه- هذا لا يعني أن العاطفة مذمومة أو أن الخيال لا مكان له في العلوم، فالعكس قد يكون هو الأصح، و لكنه يعني أنه لا يصح الإكتفاء بالعواطف و الخيالات الشخصية لإثبات أي حقيقة، فالإحتكام فقط للأدلة الموضوعية.

في حالة قضيتنا الجنائية مثلا فلو وجدنا أن واحدا من الشهود على خلاف شخصي مع أحد المشتبه فيهم، فهذا سيكون سببا قويا لعدم أخذ شهادته بجدية، ليس فقط لاحتمال كونه كاذبا، بل لأنه على الأرجح سيكون منحازا مفتقرا إلى الموضوعية و الحياد اللازمين لتحري الحقيقة.

أما أنواع الضلالات العقلية فهي كثيرة و أغلبها نرتكبه جميعا دون قصد ، من ذلك مثلا ما يسمى "الإنحياز التأكيدي" و هو ميل الشخص بالفطرة للتركيز على المعلومات التي تؤكد وجهة نظره الحالية، مع تجاهله للمعلومات الأخرى المخالفة التي تناقضها- و هكذا فالعلماء يحاولون قدر الإمكان تفادي كل الطرق التي يمكن لعقولنا أن تضلنا بها.

من قواعد المنهج العلمي المفيدة أيضا القاعدة المعروفة بـ"موس أوكام"، و التي تنص على أن لو وجدت عدة تفسيرات محتملة للشيء، و كلها ناجحة، فإن التفسير الأبسط هو غالبا الأقرب إلى الحقيقة.

في قضيتنا مثلا ربما نجد أن كل الدلائل تشير إلى أن زوجة القتيل هي مرتكبة الجريمة، و لكن يمكن لشخص آخر القول أن شيطانا من الجن هو الذي قتل المجني عليه ثم قام بتحريف الأدلة كلها ليدين الزوجة!، هذا الإحتمال كلنا سنستبعده بسهولة و ربما نسخر منه ، ليس لأنه مستحيل عقلا، و إنما لأنه يعقد الأمور جدا دون دليل، فهو لكي نصدقه يحتاج منا إلى عمل كثير من الإفتراضات غير القائمة على شيء و التي يستحيل إثباتها بحال، مثل وجود الجن و قدرته على قتل البشر و قدرته على تحوير الأدلة و مصلحته في المسألة كلها..إلخ، و النتيجة أننا في حياتنا العادية نميل دوما إلى قبول التفسيرات الأكثر مباشرة و بساطة طالما هي قادرة على تفسير الظاهرة، و لا نلجأ إلى التفسير الأعقد و الأكثر تركيبا إلا حين تكون هناك حاجة جدية تستدعي القيام بذلك.

و في عالم العلوم كذلك، حيث نجد- مثلا- أن الطبيب حين يقوم بفحص مريضا لتشخيص مرضه بناءا على أعراضه، يميل ابتداءا إلى التفسيرات الأكثر شيوعا و بالتالي الأكثر احتمالا أن تصيب الناس عموما ، فلو كانت أعراض المريض المرئية يمكن تفسيرها بالأنفلونزا فلن يقفز الطبيب فورا إلى افتراض أن الرجل مصاب بالإيدز مثلا – إلا لو كان هناك ما يستدعي ذلك.

عامل آخر شديد الأهمية لاختبار صحة الفرضيات هي اختبار قدرة تلك الفرضيات على التوقع، فحين نضع نموذجا معين لتفسير الظاهرة، قد تقودنا دراسة ذلك النموذج نفسه إلى افتراض أمور أخرى يجدر توقعها لو صح نموذجنا، و من ثم ففحص تلك الأمور قد يكون وسيلة رائعة للتحقق من صدقية الفرضية – فالفرضية حين تصدق توقعاتها فهذا يرفع من مصداقيتها كثيرا.

في حالة قضيتنا، لو كانت فرضيتنا تقول مثلا بأن الجاني هو خادم القتيل و أن هدف الجريمة هو سرقة أموالا وفيرة كانت في خزينته، فتلك الفرضية ستحمل لنا توقعا بأن هذا الخادم ستظهر عليه بعد قليل آثار الغنى و الثروة المفاجئة، و هذا يجعل الفرضية قابلة للإختبار عن طريق توقعها - فلو صدق التوقع (وجدنا الخادم اشترى سيارة و ملابس جديدة..إلخ) فهذا سيرفع كثيرا من أسهم فرضيتنا، و العكس بالعكس.

و في عالم الطب يمر الأطباء باختبار توقعات فرضياتهم كل يوم، حين ينظر في الأعراض و "يخمن" أن المريض لديه المرض الفلاني، و من ثم يطلب منه أن يقوم بتحليل دم مثلا بهدف اختبار تلك الفرضية، فلو جاءت النتيجة إيجابية- كما توقع الطبيب- فقد صدقت فرضيته، و العكس بالعكس.

هذا يقودنا إلى شرط آخر من شروط النظرية العلمية، وضعه الفيلسوف كارل بوبر، و هو شرط "قابلية التخطئة" فقد قال بوبر بأن الفرضية حتى توصف بأنها فرضية علمية تستحق المعاملة بجدية، فلابد من أن تحمل في طياتها وسائل إثبات خطئها – أما الفرضيات التي لا يمكن تخطئتها فيصعب كذلك إثبات صحتها مما يجعلها أقرب إلى محاججات لفظية مطاطة من كونها نظرية علمية حقيقية.

من البديهي الإشارة إلى أن تلك الشروط للعلوم ليست قواعدا صارمة لا يجوز مخالفتها، و إنما هي أقرب إلى فلسفات مساعدة تعين العلماء على مراجعة أفكارهم و توجيهها بشكل أكثر كفاءة، و لكن لا مانع من مخالفة بعضها لو اقتضت الضرورة.

مثال تطبيقي: الجاذبية
منذ فجر التاريخ و الناس يرون الأشياء تسقط من أعلى إلى الأرض؛ و في القرن الرابع قبل الميلاد قال الفيلسوف الإغريقي أرسطو أن الأشياء بطبيعتها تحنّ إلى العودة لأصلها، و بما أن كل شيء أصله من الأرض فهو يريد دائما العودة إلى أصوله، و لهذا تسقط الأشياء إلى الأرض(!)، و أضاف أرسطو أن الأشياء الثقيلة تقع بسرعة أكبر من الأشياء الخفيفة.

عند فلاسفة الإغريق، الذين ينتمي إليهم أرسطو ، كانت الوسيلة الأهم لمعرفة العالم هي التأمل و العقل، و ليس التجربة، و بالتالي لابد أن تفسيرات أرسطو و استنتاجاته بشأن الجاذبية بدت منطقية و مقبولة عقلا إلى حد كبير- و لكنها لم تكن صحيحة.

و في أوائل القرن السابع عشر، أي بعد ألفين سنة من أرسطو، قام الفلكي الإيطالي غاليليو بعدة تجارب وجد من خلالها أن الأشياء الثقيلة و الخفيفة- و على عكس ما قال أرسطو- تقع جميعا بنفس السرعة.

كشوف غاليليو مهدت المجال للفيزيائي الإنغليزي إسحاق نيوتن في أواخر القرن السابع عشر، الذي وضع فرضية مفادها أن جميع الكتل تتجاب معا، و أن القوى التي تجذب الأشياء إلى الأرض هي ذات نوع القوى التي تجعل القمر يدور حول الأرض؛ و بالقياس و التجربة وضع نيوتن معادلات رياضية تصف تلك القوة.

و لاحقا حين قام العلماء بتطبيق معادلات نيوتن على حركة أحد الكواكب و هو أورانوس، قادتهم الحسابات إلى استنتاج أنه لابد من وجود كوكب آخر يؤثر على جاذبية أورانوس، فحاولوا توقع مكان ذلك الكوكب و البحث عنه - و هكذا في عام 1864 تم اكتشاف كوكب جديد هو نبتون!

و قد وجد العلماء مشكلة حسابية أخرى في حركة كوكب آخر هو عطارد، و لكن جميع محاولات البحث عن جسم يؤثر على جاذبيته باءت بالفشل، و ذلك حتى مجيء أينتشاين.

في 1915، وضع الفيزيائي الألماني ألبرت أينشتاين نظرية "النسبية العامة"، و التي تنص على أن المادة تقوم بعملية إحناء لنسيج الزمكان (أي الزمان و المكان، و الذين كان قد ربطهما أينشتاين معا في نظرية سابقة هي النسبية الخاصة)، و أن ذلك الإحناء الفراغي الذي تتسبب فيه الكواكب و الأجرام هو الذي يسبب تجاذب الكتل بعضها إلى بعض.

فرضية أينشتاين الجديدة، مع معادلاتها الرياضية، لم تساهم فقط في تدقيق معادلات نيوتن للجاذبية، فحلت مثلا مشكلة عطارد التي أشرنا لها، و إنما هي وضعت توقعات أخرى مهمة: فحسب النظرية الضوء أيضا حين يمر بالكواكب يحدث له انحناءا – و هو ما تم إثباته في تجربة عملية رصد فيها العلماء ضوء النجوم في أثناء كسوف شمسي في 1919، حيث وجدوا أن الضوء ينحني فعلا، و بنفس الرقم الذي تنبأت به معادلات أينشتاين.

في هذا المثال، و غيره من النظريات العلمية الناجحة، نجد محاولات الرصد بدرجات مختلفة من الدقة، و نجد محاولات لوضع نماذج تفسيرية فاشلة أو نصف ناجحة أو ناجحة، و نجد تحليلات رياضية لتلك النماذج، و نجد توقعات تتحقق لتؤكد صحة النظرية.

ختام
أحد الأسئلة التي تهم الكثيرين و التي أوردناها في المقدمة هو "هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟".

في ضوء ما سبق يمكن رؤية الفخ في السؤال، فهذا "المطلق"- مثل الكامل- يبدو و كأنه يفترض وجود مرجعية ثابتة يمكن قياس أنفسنا إليها و المقارنة بها، و لكن منذ البداية تكلمنا عن انحصار معرفتنا بالمعارف البشرية، و بالتالي فلا مجال للحديث عن مرجعية مطلقة.

و طالما لا معنى للحديث عن المطلق فلا معنى أيضا للحديث عن نقيضه- النسبي- و بالتالي فصيغة السؤال نفسها بحاجة إلى المراجعة، حتى لا نسقط في فخ المجرد اللغوي الذي حذرنا منه.

بل مما سبق أيضا فحتى حين نتحدث عن "الحقيقة" يجب علينا أن نتلافى السقوط في ذات الفخ!

بشكل أدق يمكن الحديث من ناحية عن "واقع" كامن خارج البشر (سمّه مطلقا لو شئت)، و من ناحية أخرى عن "معارف" في شكل أفكار و كلمات متغيرة كامنة داخل عقولنا (سمّها نسبية لو شئت)، و بذلك يكون السعي نحو الحقيقة هو ليس أكثر من محاولة تلك المعرفة للتعامل مع الواقع بشكل سليم- أو لمن أراد فيمكننا القول أن الحقائق هي تعبيرات معرفية نسبية عن واقع مطلق.

و بشكل عملي، ليس هناك معنى لتصور حقيقة واحدة مطلقة كامنة في عوالم نورانية خيالية لا يأتيها الباطل، و إنما أقصى ما يمكن أن نأمله هو أن تكون معرفتنا ملائمة عمليا للتعامل مع الواقع، فتلك هي الحقائق.

هكذا فحواسنا و أجهزتنا و لغاتنا و فلسفاتنا ليست حقائق واقعية بحد ذاتها – و لا يمكنها أن تكون كذلك- و إنما أفضل ما يمكنها الوصول له هو أن تنتج معرفة ملائمة للتعامل مع هذا الواقع، هذا يسمى معرفة؛ فالحقيقة بالأحرى هي عملية فهم مستمرة للواقع، و هي عملية جزئية ديناميكية متحركة متطورة تدريجية نحو معرفة إنسانية للواقع أكثر نفعا و عملية- فبمعنى من المعاني الحقيقي هو الناجح!

بهذا المنطق حين نسأل عن أكبر دليل يثبت صحة المنهج العلمي الذي تحدثنا عنه ، فالجواب هو نتائجه! ؛ ببساطة النتائج هي أكبر دليل على صحة أي شيء: حين تمرض لن تلجأ إلى الغناء مثلا كمحاولة للشفاء، ببساطة لأن خبرتك و خبرة السابقين تؤكد لك أن الغناء ليس أفضل شفاء للمرض، بل إنك بالأحرى ستقوم بتناول الدواء، لأن ثقتك في نتائجه المسبقة- معك أو مع غيرك- هي نتائج إيجابية.

هذا المثال السابق ليس دليلا على "حقيقة الدواء" فقط و إنما على حقيقة المنهج الطبي بالكامل، فنجاح الدواء هو دليل على نجاح (أو صحة) المنهج الذي أنتجه.

و نفس الشيء فيما يخص المجالات العلمية الأخرى: حين تريد السفر لن تلجأ إلى البحث عن بساط سحري يطير، بل ستلجأ إلى الطائرة- و التي أيضا وجودها و نجاحها هو دليل على صحة المنهج الفيزيائي الذي أنتجها.

بذلك التناول العملي للحقيقة، فحين نتفلسف و نسأل- مثلا- ما الدليل أننا موجودين و ما الذي ينفي أن عالمنا هذا ليس سوى حلم كبير؟ فالجواب أنه لا يمكن إثبات ذلك بشكل حقيقي، ببساطة لأن إثبات الشيء يلزم الإحاطة به، و لا يمكننا الإحاطة بوجودنا، و إنما نحن نصدق أننا موجودين لأن هذا هو الإحتمال الأكبر حسب موس أوكام، فالفرضيات الأخرى لم يظهر ما يدفعنا لأخذها بجدية – و إن كنت تعتقد أن هذا ليس دليلا كافيا فعليك تذكر أن كل معرفتنا تقوم على هذا النوع من الأدلة!



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق