الخميس، 1 يناير 2015

المسيح: رسول من الجحيم (6)





سادسا: الخاتمة
ولكن ما مدى مسئولية المسيح عن كل ذلك؟
من البديهي أنه لا يصح محاسبة المسيح على كل خطأ قام مسيحي، كما أنه لا يصح نسبة جميع أخطاء المسلمين إلى محمد أو القرآن.

و لكن على الجانب الآخر، حين نشاهد سلوكا معينا، إيجابيا كان أو سلبيا، يتكرر بشكل مستمر في ممارسات أتباع نبي أو دين معيّن، فلابد على الأقل أن نقف و نتساءل، بل و نربط - و إلا فنحن نتجاهل الواقع ؛ و كذلك الأمر حين نرى مجتمعا متأثرا بفكر معين، فلا يمكن تجاهل تأثير ذلك الفكر على شكل ذلك المجتمع و حالته، فلا يمكن الفصل بين الفكرة و تطبيقاتها- أو كما ربط المسيح نفسه بين صاحب الفكر و بين ثماره على الأرض.

و في حالة يسوع تحديدا، فنرى أن المسيح و تعاليمه و الكتاب المقدس مسئولون فعلا بشكل كبير عما ذكرناه من الكوارث التي ارتبطت بالكنيسة و المناطق التي عملت فيها، في الماضي و الحاضر.

مؤسس السلطة الدينية
لنقف قليلا أمام جرائم الكنيسة تلك، و ما مدى مسئولية المسيح عنها ؛ و نتساءل: هل المشكلة الحقيقية هي في الجرائم، أم في السلطة التي تم منحها للمجرم فسمحت له بالإستمرار في جريمته بحرية؟

لنفترض- مثلا- أنني رجل دين كبير مسموع الكلمة في مجتمعه؛ و الآن لو أنني قمت باستخدام سلطتي "الروحانية" تلك لتعيين شخصا فاسدا كحاكم على دولة، مع جمع كافة السلطات الموجودة في الدولة في يد ذلك الشخص وحده، ثم أقوم بإلغاء البرلمان و منع إجراء أي انتخابات تصويتية –  ألا أكون مسئولا بذلك عن الطغيان المتوقع  الذي سيقوم به صاحبنا؟! أظن الجواب واضح.

و بصياغة أبسط نتساءل: هل كان يمكن للكنيسة أن تقوم بما قامت به، بدون تأسيس المسيح لسلطانها المطلق، المستمد من سلطانه هو شخصيا، طبقا لكلامه الموجه إلى بطرس الذي نقلناه (متى 16- 18،19)؟

بالطبع يوجد في كل زمان و مكان من يريد الإستحواذ على السلطة المطلقة، هذا بديهي، و لكن يبقى العائق أمام هؤلاء في أن الناس في العادة لن تستسلم للسلطة بشكل مطلق؛ بل سيستمرون في الشك و التساؤل و المطالبة بالحقوق.

و هنا يأتي دور الدين؛ الذي يمنح الكهنة تلك السلطة، المطلقة ببساطة لأنها مستمدة من سلطان الله ذاته- و من يمكنه مسائلة الله أو جداله في أوامره؟!

فقط حين ينجح فئة من الناس بالإستحواذ على توكيل حصري من الله، فهنا يصبحون آلهة تمشي على الأرض، و يصير من حقهم الشرعي أن يتحكموا في حياة البشر، كما رأينا في تاريخ الكنيسة.

و حين تقوم بإنشاء سلطة مطلقة، فهذا بالضرورة سيستتبع وجود طاعة مطلقة في الجهة المقابلة ؛ و هنا فقد خلقت الدكتاتورية و القمع و الطغيان، و فتحت أبواب الجحيم على الأرض- و هذا ما قام به المسيح تحديدا.

و المشكلة في أصلها لم تبدأ مع كلام المسيح إلى بطرس الصخرة، و إنما بدأت قبله، و تحديدا مع ادعاء المسيح أنه يتكلم باسم الله؛ فمن هنا وُلدت السلطة المطلقة التي لا يجب مناقشتها، و التي يوصف كل من يعارضها بأنه شيطان، و تلحق به جميع أنواع اللعنات و الشرور؛ هنا تحديدا يتم إلقاء بذرة السلطة الدينية، التي ستستمر فروعها في الحياة و النمو و التوحش حتى بعد موت يسوع.

فالمسيح ببساطة قام بنقل سلطة الله إلى ذاته، ثم قام بنقل تلك السلطة إلى التلاميذ و الرسل- ثم إلى الكنيسة و الكهنة عبر التاريخ المسيحي الأسود.

ثم إن المسيح دعم تلك السلطة عن طريق تخويف الناس من جحيم أبيه السماوي، و عن طريق الترويج للخرافة و الجهل و الإيمان بالغيبيات و الخوارق بين أتباعه؛ و المعروف أن نشر الخوف و الخرافة و الجهل بين الناس هي أنجح الوسائل لخلق شعوبا طائعة خاضعة و خانعة.

و هنا يحق لنا التساؤل: هل المجرم الأكبر هم من استخدموا السلطة الدينية المطلقة، أم من منحها لهم منذ البداية؟

مرة أخرى أظن الجواب صار واضحا: المسيح مسئول عن كل ما قمت به الكنيسة من الحروب و حرق المخالفين، بل و وصولا حتى إلى اغتصاب الكهنة للأطفال- فهو و إن لم يأمر بذلك طبعا، لكنه مهد له جزئيا عن طريق التأسيس للسلطة الدينية\الدنيوية المطلقة و تسليمها للكهنة كما رأينا - تلك السلطة لا مفر من أن تخلق فسادا مطلقا، كما حدث بالفعل.

بين الفكرة المسيحية و تطبيقاتها
ثم أننا أشرنا إلى العلاقة الإجتماعية الضرورية، بين الفكرة و تطبيقاتها، بحيث أنه لا يمكن تبرئة الثانية من الأولى.

ذلك التأثير السلبي- بين الفكرة و تطبيقاتها- حدث أحيانا بشكل مباشر نتيجة تفعيل بعض نصوص كتابية من فم يسوع ، كالنصوص التي استخدمتها الكنيسة- مثلا- لحرق الكتب المخالفة للمسيحية، ذلك الفعل الذي يظهر في الكتاب المقدس على أنه أمر إيجابي (أعمال الرسل 19-19)، و حتى لحرق البشر أنفسهم، حيث يقول المسيح أن من لا يتمسك به يستحق الإحراق (يوحنا 16-6)، إلى النصوص التي تحمّل اليهود -و أبناءهم- ذنب جريمة قتل المسيح
(متى 27-25)؛ بل حتى الحروب الصليبية ذاتها أرجعها البعض إلى أمر المسيح بعدم إعطاء المقدس للكلاب (متى 7-6)- إلى غير ذلك من النصوص التي مرت بنا، و استخدمتها الكنيسة لتدشين سلطتها الذاتية الحاكمة و المالكة لمفاتيح السماوات، كما استخدمتها للترويج للعنف و التعصب و الجهل و الخرافة، و أيضا لحرب جميع المخالفين و قمعهم و اضطهاد المهرطقين و العلماء و المرأة و العبيد..إلخ، إلى آخر النصوص و الجرائم التي ذكرنا بعضها.

و لكن ربما الأخطر من التطبيقات المباشرة السيئة لبعض النصوص الدينية، هو المناخ العام السيء الذي تخلقه العقيدة السيئة بشكل شامل غير مباشر، و الذي يساهم على المدى الطويل- عبر التلقين و الوعظ و الأمثولات و الأقاصيص..إلخ- في خلق إنسانا مشوه العقل و الخلق، يميل بتكوينه إلى الجهل و التعصب و التفكير الخرافي غير العقلاني و غير العلمي- و بعد ذلك لن تكون حاجة إلى أية نصوص كتابية سلبية لنرى جحيما على الأرض، يخلقه ذلك المجتمع المشوه.

و هذا تحديدا ما قامت به تعاليم يسوع.

مُعلّم أخلاقي أم رسول من الجحيم؟
- ((السؤال هو: هل كان المسيح أفضل البشر و أكثرهم حكمة؟ بشكل عام يسود الاعتقاد أننا جميعا متفقون على ذلك؛ أنا لا أعتقد بذلك... من جهتي لا أستطيع أن أجد لدى المسيح الحكمة و الأخلاق التي أجدها في شخصيات تاريخية أخرى. في وجهة النظر هذه أستطيع أن أضع بوذا أو سقراط في مرتبة أعلى منه)) -برتراند راسل، "لماذا لست مسيحيا؟".
- ((على الرغم من أن الكثيرين يعتبرون يسوع أعظم معلم أخلاقي للبشر، فإن غالبية المسيحيين، ناهيك عن الباحثين، لم يتمكنوا أبدا من الإتقاق حول ما كانت تعاليمه الأخلاقية فعلا؛ الكاتب متّى، هو وحده، ينقل أن يسوع قال "ليكن كلامكم نعم نعم لا لا"، و لكن كتاب الأناجيل الأربعة يتفقون على نسبة إجابات مبهمة و مراوغة ليسوع في ردوده على أسئلة واضحة و بسيطة، ليس فقط تجاه الكاهن الأكبر أو بيلاطس؛  فبشكل عام فيسوع العهد الجديد يتجنب العبارات المباشرة، مفضلا الأمثلة و المبالغات؛ بعض أمثلته مبهمة إلى درجة أن بعض كتاب الأناجيل، ناهيك عن اللاهوتيين، يخرجون بتأويلات مختلفة لها.. في القضايا الأخلاقية الصلبة، فقد تم استخدام أقوال المسيح من قبل جميع الأطراف)) – الكاتب و الفيلسوف الأمريكي والتر كاوفمان، في "عقيدة مهرطق".
- ((باستثناء البتولية، لا نكاد نجد في الأناجيل أية مقولة تفوه بها و لم يخرقها ؛ كما لا نجد لديه أية كلمة هداية بشأن المشاكل الكبرى في الحياة الإجتماعية، لأنه كان مؤمنا بأن العالم على وشك الإنتهاء ؛ هو النموذج الأصلي للمتشددين، محتقر لكل ما هو جميل في الحياة، مرير و ظالم تجاه كل المختلفين عنه، و لا يتسم بالعملية- بل أحمق- في العديد من نصائحه؛ من السخف القول أن عالمنا المعاصر يمكنه أن يستفيد بأي شكل من المسيح)) - الكاتب الإنجليزي و القس السابق جوزيف مكابي، في كتاب "هل كان المسيح موجودا؟"

- ((أسعى هنا إلى منع الشيء شديد الغباوة الذي كثيرا ما يقوله الناس عنه : "أنا مستعد لأن أتقبل يسوع كمعلم أخلاقي عظيم، و لكن لا أتقبل ادعاءه بأنه إله".. لا يجب علينا قول ذلك ؛ فالرجل الذي هو مجرد رجل و يقول الأشياء التي قالها المسيح لن يكون معلّما أخلاقيا عظيما؛ إنما سيكون إما مجنون – بنفس مستوى رجل يدعي أنه بيضة مسلوقة – أو سيكون شيطانا من الجحيم؛ و عليك أن تقرر- إما أن ذلك الرجل كان ابن الله، و إما أنه كان رجل مجنون، أو ما هو أسوأ.. يمكنك أن تتجاهله كأحمق أو يمكنك أن تبصق عليه و تقتله كشيطان، أو يمكنك أن تجثو عند قدميه و تدعوه سيدا و ربا، و لكن دعونا لا نردد هراءا حمائيا حول كونه معلما إنسانا عظيما، فهو لم يترك لنا المجال مفتوحا لذلك الإفتراض)) – اللاهوتي المسيحي و الفيلسوف سي.إس.لويس، متحدثا عن المسيح.
و مما سبق رأينا كيف أن المسيح- بفكره و خلفيته- لم يظهر من فراغ، و إنما هو مجرد عنصر ابن بيئته الدينية و الإجتماعية و السياسية؛ و لا يوجد عنصر في أفكاره إلا و هو مستمد من تلك البيئة: من أول اللقب- المسيح- و حتى ادعاء بنوة الإله، مرورا بالمعجزات و الخوارق المزعومة، وصولا إلى الدينونة و الحياة الأخرى بعد الموت.

و رأينا كيف أن يسوع هو مجرد كاهن يهودي مثل غيره، لا يختلف عمن كانوا حوله في يهوديته و التزامه الصارم بالكتاب و التقاليد اليهودية، و رأينا إيمانه التام بخرافات ذلك الكتاب و هجميته و عنصريته و ما ورد فيه من عنف و دماء و لاإنسانية؛ و رأينا كيف أن المسيح يعتبر أن الخلاص من اليهود، و أن غير اليهود مجرد كلاب لا يستحقّون دعوته السامية ؛ كما رأينا أن أفكاره "التجديدية" في مجملها لن تكون إصلاحا حقيقيا لذلك الإيمان، بقدر ما هو تأييد له، و أحيانا تشدد و مبالغة فيه، مع تحوير بعضه لخدمة أهداف تتعلق بالدينونة التي كان يترقبها قريبا.

و لعلنا حين نقيّم تعاليم المسيح من الناحية الأخلاقية، فإن اعتماده المبدئي للكتاب المقدس العبري (العهد القديم) كوحي إلهي، هو أمر يكفي وحده لإدانته؛ فأي إنسان لديه أساس أخلاقي قوي لا يمكنه إلا أن يرفض الغالبية العظمى من الأفكار و الأوامر و المواقف الواردة في ذلك الكتاب العنصري البغيض، إلا قليلا – و لو أن المسيح قد تبرأ من العهد القديم و اعتبره كتابا من الشيطان، لا الله، لكان ذلك إنجازا ممتازا له- لكنه لم يفعل.

و رأينا كيف أن المسيح تشدد بشكل مهووس في الجنس يفوق أي شيخ إسلامي وهابي، فجعل النظرة إلى المرأة تساوي الزنا، كما طالب الناس بتقطيع أيديهم و أرجلهم، و إخصاء أنفسهم، فقط لتجنب الشهوة الجنسية ؛ و سار أتباعه على نفس دربه، فمنهم من نصح الناس بعدم الزواج (كبولس)، كما اعتبروا أن المتعة الجنسية هي أمر مكروه قذر حتى لو كان في إطار الزوجية ؛ و تتجلى قمة العداء المسيحي للجنس ليس فقط في كون المسيح هو نفسه بتولا لم يمارس الجنس أبدا، بل في كونه وُلد من غير عملية جنسية-  تجنبا لأي نجاسة أو قذارة ترتبط بالرب المتجسد.

أما سر ذلك العداء الصارم للجنس، فربما تتراوح أسبابه المحتملة بين سلوك ديني كان معروفا سائدا في تلك الحقبة بين بعض الطوائف الدينية، كالأسينيين مثلا، تأثر بها المسيحيون، و بين احتمال آخر هو وجود عقدة شخصية لدى يسوع تتعلق بكونه ابنا غير شرعيا على ما يرى البعض - أو حتى بمثليته (شذوذه) المحتمل.

رأينا أيضا كيف أن الأخلاقيات الجيدة المزعومة للمسيح هي في الحقيقة مبالغات متطرفة في السلام و الميوعة ، يصعب توفيقها مع مبالغاته المتطرفة في الجانب الآخر العنيف؛ فمطالبة الناس بعدم مقاومة الشر إو الإستسلام للاطمين و السارقين و القتلة و المستعبدين، مع إعلان القبول للمزيد من الإيذاء، بل مع محبة ذلك العدو، هو سلوك ليس فقط سلبيا و ضعيفا و متراخيا و مذلا و مهينا ، بل هو يبدو سلوكا عبثيا مضحكا و أقرب إلى الماسوخية- و لا يوجد ما يثير الإعجاب فيه.

و كذلك تعاليمه ببيع جميع الممتلكات و التصدق بها، و عدم الإهتمام بالمستقبل، و التجاوز القانوني عن المخطئين، هي أيضا شعارات خيالية لا يمكن تطبيقها، ولا تصلح لإقامة مجتمعا حقيقيا، و إنما هي في الحقيقة مجرد مزايدات لفظية لعل المسيح قصد بها – جزئيا- معاندة الكهنة اليهود و تلميع نفسه وسطهم كنجم ديني جديد.

على الجانب الآخر، رأينا المسيح لا يطبق شعاراته السمحة، بل هو يؤكد- في تعصب و نرجسية شديدة - أنه هو الطريق و الحق و الحياة، و أن من ليس معه فهو بالضرورة ضده؛ و لا نراه يقدم أي نوع من المحبة تجاه مخالفيه و خصومه، بل مع كراهيته المكبوتة لهم، و عجزه عن إلحاق الهلاك بهم، نراه يركز جهده على العنف اللفظي، فالجميع بسيول من الشتائم الغاضبة و اللعنات و التهديدات الحادة، بالموت و المرض للمذنبين تارة، و بالدينونة المخيفة التي ستدمر المدن الرافضة له تارة، و بعذاب الجحيم في نيران أبدية حيث الدود و صرير الأسنان..إلخ، تارة أخرى- كل ذلك الهلاك سينالنا على يد أبيه رب اليهود الصحراوي المختبئ في السماوات.

و من الكذب المبين ادعاء أن المسيح يحذرنا من أخطار كونية محدقة لا علاقة له بها، بل هي "نتيجة طبيعية لسلوكياتنا" كما يحلو للبعض القول؛ الرجل قرن نفسه بالله بحق السماء ، سواء كرسول منه أو كإبن أو كأقنوم متجسد؛ في كل الحالات المسيح موافق و مشارك في جميع الكوارث الدنيوية و الأخروية التي يعتقد المسيحيون أنها ستصيب العالم بأسره ما عدا هم – بل و لا نبالغ لو قلنا أننا في ثنايا تهديدات يسوع المخيفة و الكثيرة، نكاد نلمح استمتاعا ساديا واضحا.

و رأينا أن الخلاص- الضيق- للمؤمنين المخلصين يكون بأغرب طريقة يمكن التفكير فيها: بالدم- يقولون أن دم المسيح الناتج عن صلبه هو الذي سيغفر الذنوب للبشر، و يمكنك أن تجهد عقلك كما تشاء في محاولة فهم العلاقة المنطقية أو الأخلاقية بين الدم و الغفران!

رأينا أيضا عداء المسيح للأسرة، و مطالبته للناس بالتخلي عن أهلهم و أبنائهم كما أمرهم سابقا بالتخلي عن ممتلكاتهم و مستقبلهم و كرامتهم، من أجله؛ مرفقا أوامره تلك بالتهديد من الموت و الجحيم لمن لم يطعه – فهو يقدّم نفسه على كل ما عدا.

كما رأينا استخدامه للعنف المادي، في المعبد هو و أعوانه الغوغاء، حين أمسك سلاحا و ضرب و طرد و أفسد ممتلكات التجار.

و أيضا  رأينا وعود المسيح الكاذبة لأتباعه، مرة بأنهم سيمتلكون قوى خارقة تمكنهم من صنع أعاجيب لا نهاية لها كشرب السم و تحريك الجبال..إلخ ، و مرة بتأكيده لهم أنه سيعود بعد موته مباشرة من السماء محمولا على السحب، ليقيم الموتى و يحاكم البشر و يعوض أتباعه عن كل ما تخلوا عنه في الدنيا.


قبل ذلك و بعده رأينا تناقضاته الكثيرة و تعاليمه غير المتماسكة، فمرة يأمر باتباع العهد القديم و مرة يخالفه، مرة يدعو إلى السلام و مرة يبشر بالسيف و النار و الفرقة، مرة يأمر بمحبة الأعداء و مرة يشتم المخالفين و يأمر ببغض الأقارب..إلخ؛ فالرجل متلاعب بالكلمات بامتياز يقول الشيء و عكسه، فلديه رد و مثل لكل مناسبة حسب الظرف و المصلحة و الأهواء.

ذلك الإبهام و تلك التناقضات و المراوغة اللغوية لكلمات لمسيح هي السبب الأول في انقسام أتباعه إلى كنائس و فرق تعد بالآلاف و تختلف حول كل شيء تقريبا؛ بينما التطرف و التسطيح و السذاجة المثالية في تعاليمه، مع تكريسه لفكرة الحق المطلق لأتباع "العقيدة الصحيحة" و تهديداته للكفار، هي التي أدت في النهاية إلى ذلك العداء و تلك السلاسل من الحروب الدموية المتبادلة بين أتباع تلك الكنائس عبر التاريخ.

و بشكل أشمل، فتعاليم يسوع كما نراها هي كتلة من التعصب و الشعارات الفارغة و التضاربات و الخرافات السخيفة ؛ و لا يوجد فيها أي فلسفة أخلاقية واضحة نافعة للمجتمع البشري- ذلك لأن الهدف الأول لتلك التعاليم لم يكن إصلاح المجتمع أصلا، بقدر ما كان جمع أكبر عدد ممكن من الأتباع المختارين الناجين بإيمانهم و تخليهم عن كل شيء، انتظارا لكارثة الدينونة القريبة.

هذه التعاليم تستبدل التعصب اليهودي التقليدي القديم بتعصب أشد هوسا و عنفا و شمولية و عالمية؛ ذلك لأن بذرة التعصب، كل تعصب، إنما تكمن في فكرة واحدة و هي تقسيم العالم – بشكل مثالي تبسيطي ساذج- إلى فريقين متواجهين، يمثلان الخير المطلق و الشر المطلق- جماعة الرب و جماعة الشيطان.


فبمجرد ما تجعل نفسك و جماعتك المختارة في جانب الخير و الحق و الهداية المطلقة، فأنت تجهل خصومك- بشكل أوتوماتيكي- في جانب الشر و الباطل و الضلال المطلق؛ فهذا وحده كفيل بفتح أبواب الجحيم بالتمهيد لصراعات دموية دينية لا تنتهي.

و الكارثة هنا أن جانب الشر ذاك سيكون هو العالم كله، الذي سيوصم بالضلال و الفسوق و الوثنية و الشر..إلخ؛ و من ثم فيجب معاداة ذلك العالم، إما عن طريق المواجهة المباشرة معه (القتال)، و إما بالإنعزال عنه و القطيعة معه و الخوف من التلوث بأي شيء يخصه، انتظارا للخلاص المنتظر، المرتبط بدمار ذلك العالم الملعون.

و الأسلوب
ان هما مما تستخدمه جميع الحركات المتطرفة عبر التاريخ، و منها المسيح و أتباعه، كما رأينا نصوصهم القائلة بوجوب كراهية العالم، لأن الشيطان هو من يسيطر عليه، و بوجوب انتظار دمار ذلك العالم على يد إلهنا الذي سيخلصنا.

ذلك التقسيم الثنائي الحاد للوجود و للبشر إلى خير مطلق (أنا و إلهي و إيماني و حرماني و روحانيتي) و شر مطلق (العالم و شيطانه و كفره و شهواته و ماديته) ، لا يمكن أن ينتج المحبة أبدا، و لو تضمنت الكتب المقدسة ألف نص "يأمر" بها أمرا ؛ فالمحبة لا تأتي بالأوامر و إنما تنبع بشكل تلقائي عفوي، و تنطلق أساسا من التقبّل الرحب للعالم و للواقع و للبشر، و حتى للمخالف، لا احتقاره و شيطنته.

هذا يؤكد أن أصل تعاليم المسيح ليست المحبة -كما يحلو للبعض الترويج- و إنما الكراهية؛ الكراهية الجمة و الحادة لقيم الحرية و العقلانية و الإنفتاح و السعادة و المتعة و الرفاهية و العمل و التقدم و التعايش، و للحياة ذاتها؛ و ذلك عن طريق تمجيد التعصب و التطرف و الشعور بالذنب و الفقر و التواكل و السلبية و الخنوع و الكبت و الحرمان و الألم و التضحية و الذلة و المعاناة، بل و الدم و الموت.

و لا نكاد نرى في تعاليم المسيح أي إشادة أو مدح للعلم و المعرفة و البحث- بل حتى النصوص القليلة التي تبدو و كأنها نصيحة بالتعلّم، لا تكون كذلك حين نقرأها في سياقها ؛ فهو يقول مثلا (فَتِّشُوا الْكُتُبَ..) يوحنا 5-39، و هي تبدو نصيحة رائعة، لولا أنه سرعان ما يكمل (...وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي) – فالمقصود هو الكتب المقدسة الدينية، و الهدف هنا هو إخبارهم بأن تلك الكتب إنما تشهد له هو.

و بينما كثيرا نجد المسيح يغضب في الأناجيل (مرقس 3-5) و يشتم و يهدد و ينذر كما رأينا، فإنه عبر العهد الجديد كله، و في جميع مواقف الرجل و قصصه العديدة، لا نرى المسيح يمزح أبدا مع رفاقه، و لا نراه يضحك ، أو حتى يبتسم، و لو مرة واحدة في أي من مشاهد الكتاب المقدس – و لعلها علامة أكيدة، كما هي بسيطة، تشير إلى التعصب و التزمّت و الجمود، و ثقل الظل أيضا، فهي صفات تأتي معا.

عن التضحية، مرة أخرى
- ((يقال غالبا أن المسيح كان قادرا على إنقاذ نفسه، لكنه اختار ألا يفعل؛ و لو قرأت الأناجيل فمن الواضح أنه كان قادرا على الدفاع عن نفسه و تجنب الصلب بسهولة، لكنه كان عنيدا للغاية ؛ الرومان في الحقيقة لم يريدوا قتله أبدا، و لكن في النهاية ساروا مع الأمر لأنه كان مزعجا كثيرا؛ الحقيقة أنه لم يكن يستطيع الإنتظار حتى يصعد على ذلك الصليب؛ في الواقع أظن أن المسيحية موجودة فقط لأن يسوع المسيح كان مصابا بالماسوخية (الولع المرضي بتعذيب النفس)، أعتقد أنه ألقى نظرة واحدة على المطرقة و المسامير و لم يصدق حظه السعيد؛ قال لنفسه "حسن، بعد ثلاثة أيام سأكون في السماء، و لكن حتى ذلك الحين سأستمتع كثيرا")) – الكاتب و الكوميديان و مدون الفيديو الإنغليزي، بات كونديل.

من أسوأ تعاليم المسيحية على الإطلاق هي أكذوبة "الخطيئة الأصلية"، فلأن الجد آدم أكل من الشجرة صار جميع البشر يولدون مخطئين مستحقين للعقوبة الأبدية - تلك الفكرة النظرية وحدها كفيلة بأن تجعل تلك الديانة كارهة للإنسان و للحياة.

لكن الأمر يزداد سوءا حين تجعل وسيلتك الوحيدة للنجاة من تلك الخطيئة اللاصقة فيك هي أن تؤمن بأن الداعية اليهودي  يسوع الناصري هو ابن الله المخلص؛ بذلك تكون قد قبلت تضحيته العظيمة، ملاذك الوحيد و أملك في النجاة من المصير الأسود الذي كان ينتظرك.

أما تضحيته المزعومة، فداءا للبشر و من أجل غفران الخطايا كما يؤمن المسيحيون، أو فداءا لعقيدته و ما يؤمن به كما يعتقد بعض غير المسيحيين، فهي في كل الحالات لا تستحق الثناء أو التقدير.

من الناحية الدينية، فالله- بالتعريف- يفترض أنه مطلق و قادر على كل شيء؛ و بالتالي كان بإمكانه أن ينفذ إرادته من الصلب كما يدعي المسيحيون (غفران الخطايا أو التغلب على الموت أو غير ذلك)، بدون التجسد و الإهانة و الضرب و البصق و التعذيب ووجع الرأس هذا.

أما كونه اختار هذا الطريق بالذات، فهو أمر يخصه- و لا شك أن القتل ثم العودة إلى الحياة كانت هواية الكثير من الآلهة الوثنية أيضا؛ و لكن هذا لا يجعل المسألة تضحية بل أقرب إلى الإنتحار؛ فالتضحية – بالتعريف أيضا- تتضمن أنه لم يكن هناك وسيلة أخرى لتحقيق الغرض من التضحية؛ و لكن المشكلة أن هذا يتعارض مع تعريف الله بأنه قادر على كل شيء- و لا يوجد بهلوانيات لاهوتية في الكون يمكنها أن تتغلب على ذلك التناقض الفادح.

بالتالي فهذا السيناريو المفبرك عن الإله المضحي و المصارع للموت..إلخ، قد يصلح في الأساطير الآلهة الوثنية (التي سُرق منها بالفعل)، و لكنه حتما لا يستقيم مع الإله الواحد المطلق و القادر على كل شيء.

أما من الناحية الإنسانية، فالتضحية بالنفس ليست بالضرورة أمرا عظيما يستحق التمجيد و التعاطف؛ تاريخيا فمئات من القادة الطموحين قُتلوا في سبيل سعيهم نحو أطماع شخصية لا تستدعي الإعجاب أو التقدير؛ و مثلهم من المشعوذين و الدجالين واجهوا الموت – أو ماتوا بالفعل- في سبيل أهدافهم أو حتى معتقداتهم و أوهامهم الخاطئة؛ محمد النبي تخبرنا سيرته أنه كاد يواجه الموت أكثر من مرة، و لكن هذا لا يجعله ملاكا قديسا، بل و خصمه مسيلمة- الملقب بالنبي الكذاب- تم قتله بالفعل و لكننا لا نعتبره شهيدا عظيما مات من أجل معتقده..إلخ؛ و الأمثلة لا تنتهي على أن المتعصبين و المختلين و المهووسين دينيا يُقتلون دوما من أجل أوهامهم؛ بل إن كل إرهابي متطرف بتفجير نفسه إنما يقوم بذلك من أجل عقيدته- و لكن لا يوجد عاقل يرى أن هذا أمرا يستحق الإشادة.

و المسيح- حسب ما رأيناه من سيرته- لا يبدو مختلفا عن أي مهووس ديني آخر سعى إلى مقتله حثيثا ؛ و حسب ما كتبته الأناجيل عن محاكمته فقد كان بإمكانه الدفاع عن نفسه و النجاة بسهولة من الموت، فالرومان لم يكونوا راغبين أبدا في إعدامه ، لكنه رفض و أصر على العناد – و تفسير ذلك يتضح من الأناجيل أيضا، حيث أن الرجل كان يتوق بشدة إلى الموت ظنا منه أنه سينتقل إلى حياة أخرى و يصبح سيد العالم و قاضي الدينونة فيجلس على عرشه الإلهي لمحاسبة الناس و الإنتقام من أعداءه.

(و  الطريف أنه بعد أن بشر المسيح الرسل بموته كثيرا، مؤكدا أن هذا أمر حتمي و مذكور في الكتب، و بعد أن رفض الدفاع عن نفسه في المحكمة، سائرا بثقة إلى مصيره المحتوم، إذا به و هو علو الصليب إذا به يرفض الموت و يصرخ (..بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: "إِيلِي إِيلِي لَمَا شَبَقْتَنِي" (أَيْ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) متى 27-56؛ و هكذا فالكتاب المقدس مصر على جعل يسوع يظل يناقض نفسه حتى و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة!)

و لكن الأخطر أن تلك التضحية- و مثلها من التضحيات- التي يحرص كهنة الأديان على تضخيمها و تسليط الضوء عليها، إنما تستخدم للسيطرة أيضا- ففكرة "الشهيد الذي ضحى من أجلك" هي فكرة عبقرية أخرى مصممة لإخضاعك نفسيا و الحصول على طاعتك- عن طريق إشعارك إنك مدين بشيء كبير و عليك سداده.

و هذا ما حدث؛ فتضحية المسيح قد تحولت إلى سيف من الإبتزاز العاطفي على رقاب الناس.

و من المفارقات الطريفة في شأن هذه التضحية المُنجية، أننا نسمع المسيح –و كذلك أتباعه- يطلبون من عامة الناس أن يؤمنوا بيسوع، و ينضموا إلى قطيعه المخلص، و أن ينفذوا تعاليم الكتاب و الكهنة بكل دقة، و لا يخالفوهم في صغيرة أو كبيرة، بل و أن يتخلوا عن شهوات الدنيا و متعتها، و عند اللزوم أن يتخلوا عن أموالهم و ممتلكاتهم و ربما أقرب الناس إليهم، و أن يكرسوا حياتهم لتلك العقيدة فتكون لها الأولوية على كل شيء، حتى أنك مطالب بالتضحية من أجلها بحياتك ذاتها – الإستشهاد- لو تطلبت الأمور هذا.

ألا نلاحظ الأمر الغريب هنا؟

المسيح ضحى من أجلك و غفر خطيئتك ، و الآن عليك أن تؤدي ثمن تلك التضحية!

و الثمن هنا ليس فقط إيمانك، فالإيمان يستتبعه أشياء؛ بل الحقيقة أن المسيح ضحى من أجلك بحياته لكي يخلصك ، و هو الآن يطالبك بأن تضحي بحياتك من أجله لكي يكتمل خلاصك؛ و لا مبالغة هنا، اسمعه و هو يقول (وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا) مرقس8-35 ؛ و النصوص كثيرة التي يطالب فيها يسوع الناس بالتضحية، و يأمرهم بالإستعداد لكل أنواع المعاناة من أجله.

و لكن أليست التضحية- بالتعريف- تعني عدم المطالبة بمقابل أمامها؟

إن ادعيت أنني قد ضحيت من أجلك، ثم طلبت الثمن، فهذا يؤكد أنها لم تكن تضحية و لا يمكن تسميتها كذلك- سمّها تجارة، صفقة، أي شيء آخر.

و لا ننسى العذاب الذي ينتظر كل من يرفض أداء ثمن تلك التضحية العظيمة!

و لكننا بالطبع نعلم أن الثمن هنا لن يقبضه المرحوم يسوع، و إنما ورثته، الكهنة الحريصون على إحياء تضحيته الكبرى هذه من أجلك، و إشعارك بأكبر قدر من الإحتياج إليها.

لهذا ليس غريبا أن المسيحية- دونا عن باقي الأديان- تركز على الذنوب الإنسانية و تضخم من شر البشر بشكل كاريكاتوري قد لا نراه في عقيدة أو فكر غيرها ؛ الهوس ضد الجنس و التشديد على العذرية و الطهارة و احتقار مظاهر المتعة و السعادة..إلخ.

حين ننظر إلى اليهودية و الإسلام، نجد فيهما مسحة قوية جدا من العنف و الدموية الإجتماعية و القانونية، و لا نجد ذلك في تعاليم و حياة المسيح؛ و لعل هذا هو أبرز تفوق و سمة إيجابية في تعاليم يسوع، و التي تظهر حين نقارنه بموسى مثلا، أو داود أو محمد.

و لكن من جانب الآخر، و بشكل شخصي فكاتب المقال وُلد مسلما من خلفية إسلامية؛ و أقر أنني في هذا الدين، على ما تحتويه تعاليمه من ظلم و همجية و خرافة ، لم أجد أبدا ذلك الشعور الثقيل و العميق بالذنب و الحقارة و النجاسة و الدنس، فقط لكوني إنسانا ناقصا أخطئ – ذلك الشعور الذي أراه بوضوح عند المسيحية و الفكر المسيحي.

كما لا أظن أن هذا الإحتقار للنقص الإنساني و الشهوة الإنسانية موجود في اليهودية، بل إن قصص العهد القديم تمتلئ بظواهر نقص و أخطاء قام بها أنبياء و أشخاص بطبعهم صالحون- و هذا يمكن اعتباره أمرا إيجابيا من ناحية الإعتراف بنقص البشر و عدم مطالبة الإنسان بما يفوق قدراته.

هذه المرونة و هذا التفهم للنقص الإنساني غير موجود في المسيحية؛ بل أنني لا أذكر أنني سمعت شخصا يثقل اللوم على الإنسان- هكذا بالعموم- و ينسب له كل نقص و خسة ممكنة، و يصر على تصغير و تحقير جميع منجزات الإنسانية من العلوم و الفنون و التقدم، كما يجعل الإنسان مسئولا عن جميع الشرور فكأن الشر هو الأصل المتأصل فينا ، بما فيها الأمراض و الكوارث الطبيعية في بعض الأحيان، إلا و كان ذلك الشخص مسيحيا مؤمنا
.

 و ربما كل من تعامل مع الفكر المسيحي يدرك كم أن هذا الفكر يستمتع بالتأكيد على الجانب السيء و الدنيء من الإنسان، و يركز على الأصل الشرير لذلك الإنسان – و المرتبط و لا شك بفكرة الخطيئة الأصلية، التي نولد جميعا بها، و التي لا أبالغ لو قلت أنها من أقبح الأفكار التي جاؤت بها المخيلة الدينية في تاريخ الإنسانية على الإطلاق.

تبدو المسألة و كأن الإله المسيحي خلق البشر ناقصين شهوانيين أشرار ، ثم هو يلح عليهم بإصرار أن يحققوا الكمال و الخير و الطهر المستحيل، بل و يلومهم بشدة حين لا يفعلوا!

هذا السلوك المتشدد يمكن تفسيره من عدة نواحي، و لكن أهمها برأيي هو الترويج للمغفرة التي يقدمها المسيح المصلوب ؛ فببساطة كلما شعرت بكبر حجم ذنوبك و نقصانك، و كلما شعرت بالخجل و الخوف من نتائج تلك الذنوب و ذلك النقص، كلما سارعت بقبول العرض السخي الذي يُقدمه لك الكهنة- الذين يلعبون هنا لعبة كل تاجر ماكر : سأقوم بالتضخيم  من حجم المرض الذي أنت مصاب به، لأدفعك إلى قبول الدواء الذي أعرضه عليك".

هكذا يتضح سر اهتمام المسيحية بالحديث عن الشر الإنساني بدلا من اهتمامها بالحديث عن الخير الإنساني ؛ و تركيزها على الذنوب التي نقوم بها فنستحق العقاب، بأكثر كثيرا من تركيزها على الخير الذي نقوم به أيضا فينبغي أن نستحق المكافأة ؛ لا، فالتقييم الموضوعي هنا لا يهم، بل كل ما يهم هو الرغبة المحمومة لدى المسيحية في تضخيم الشعور بالذنب و التقصير في نفسك، لكي تشتري مغفرتها فورا، و تدفع السعر المطلوب دون جدال.

هذا كله ينتج فكرا دينيا – باختصار- كارها للإنسان و للإنسانية.

و بين قوسين فلا يغيب على أحد أن شهوة الجنس هي من الوسائل الأكثر نجاحا في إشعار الناس بالذنب- فلا غرابة في تركيز صناع الأديان و كهنته على تضخيم خطرها و التخويف الهيستيري منها.

أما بالنظرة البسيطة للأمر، فتلك التضحية- لو صدقناها- فلا تبدو كبيرة أو هائلة بالشكل الذي يصورونه لنا؛ الرجل- الإله- تألم بضع ساعات، تلقى بعض الضرب و بعض السخرية ثم مات بسرعة و عاد فورا للحياة- أين الألم الكوني العظيم هنا؟!

هل هذا الألم البسيط يقارن بعذاب ملايين البشر من القتلى و المعذبين و المضطهدين الذين عانوا أشد و أطول المعاناة، في كوارث و حروب و مجاعات، بعضها سمح الله بها، و بعضها أمر بها، و بعضها قام بها، و بعضها قامت به كنيسة المسيح على مدار ألفين سنة؟

الحقيقة أن قيمة حياة المسيح، و لو كان ربا متجسدا، لا تزيد عن قيمة حياة أي من أولئك الضحايا- و بعضهم من ضحايا المسيح نفسه، سواء اعتبرناه إلها أو مؤسس دين ؛ بل كل شخص من هؤلاء يستحق شفقة و تعاطفا أكبر ، لأن المسكين على الأرجح لم يختر الموت و التعذيب و لم يرغب فيهما، بل كل ما أراده هو الحياة بشكل عادي مع زوجة و أبناء يحبهم و يحبونهم، دون أن يدّعي شيئا خارقا عن نفسه ، و دون أن يطلب من أحد تقدسيا أو تمجيدا، و دون أن يزعم لنفسه لا مملكة أرضية أو سماوية.

و الحقيقة أيضا أنه بذلك الشكل و ذلك السيناريو فالمحبة المسيحية و التضحية المسيحية في شكلها الإلهي قد تبدو من الخارج شيئا لطيفا لا ضرر منه؛ لكن مع الوقت سرعان ما تبدو كاقتحام غريب و مربك و غير مريح لحياتك ؛ الأمر يبدو كشخص لا تعرفه يظهر في حياتك و يتودد إليك، بل و يطالبك بأن تحبه فورا من أعماق قلبك و أن تطيعه دون نقاش و أن تترك كل ما تملك من أجله و أن تكرس حياتك كلها له؛ و حين تبدي ترددا في الأمر سيلح دون ملل أو كلل؛ سيسمح لنفسه بتعداد نعمه و أفضاله عليك، و يصدع رأسك بقصص عن حجم التضحيات و المعاناة الشاقة التي خاضها من أجلك (دون أن تطلبها، و أيضا دون أن يمكنه إثبات حدوثها)؛ ثم سيخبرك عن نفسه، و كم هو محب و جميل و رائع و عظيم، و متواضع أيضا(!)، و سيظل يؤكد أنه الوحيد الذي يحبك بشكل حقيقي، و أنه أعلم الناس بمصلحتك، و بالتالي فلا خير لك إلا أن تسلم أمورك له وحده، و تعتبره مركزا لحياتك و متحكما في مصيرك؛ ثم لو أبديت المزيد من التردد فسيبدأ صاحبنا في اتهامك بالجحود و نكران الجميل، و سيغضب منك لأنك لا تمنحه الحب الكافي الذي يستحقه بعد كل ما فعله من أجلك؛ بعد ذلك ستأتي مرحلة التهديد، بشكل غير مباشر أولا، فأنت لن تحظى بسلام و راحة بدوني؛ أنا نجاتك الوحيدة من جميع الأخطار المحدقة بك؛ و لاحقا سيأتي التهديد المباشر بالقتل أو التعذيب؛ فهو لن يتركك تبتعد عنه و تعيش سعيدا أبدا!؛ في نظر الإنسان الطبيعي تلك المحبة تبدو كشعور مريض أشبه بحب مزعوم من دكتاتور طاغية تجاه شعبه الخاضع له، أو حب زوج متسلط يضرب زوجته و يهددها و يدعي أنه يقدم لها الحماية و المحبة، بل هو في صورته الأكثر بساطة يبدو كحب إنسان مريض مستعد لأن يقوم بإلقاء الحمض الحارق على وجه حبيبته إن لم تبادله الحب!- باختصار هي علاقة على الأرجح ستبدو مختلة في نظر أي إنسان سوي.

أما بعد، فهل جاء المسيح بجديد؟
- ((أنتم تذكرون أنه قال : "لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا" (متى5 / 39). هذا الكلام أو المبدأ ليس جديدا. هذا الكلام قاله لاوتسي و بوذا قبل المسيح ب 500 أو 600 سنة و هذه المقولة من المقولات التي لا يتبعها المسيحيون بشكل عام)) - برتراند راسل، "لماذا لست مسيحيا؟".

- ((ليس هناك أي جديد أو مبهر في تعاليمهم الأخلاقية؛ و حتما حين نقارنهم بالفلسفات الأخرى، فضحالة عقولهم تصير جليّة))...((و هم لا يسيئون فقط فهم كلمات الفلاسفة، و إنما يعمدون إلى نسبة كلمات الفلاسفة إلى يسوعهم؛ فمثلا، تم إخبارنا أن يسوع حكم على الأغنياء بقوله " دخول الغني ملكوت الله أعسر من دخول جمل من ثقب إبرة‏"؛ و مع ذلك نعرف أن أفلاطون عبر عن تلك الفكرة تحديدا بشكل أكثر نقاءا حين قال "من المستحيل لشخص شديد الخير أن يكون في نفس الوقت شديد الغنى"- فهل أي من القولين أكثر إلهاما من الآخر؟)) – سيلسوس.
يشير الفيلسوف سيلسوس، ناقد المسيحية في القرن الثاني، إلى أن الكثير من أفكار المسيحية قد تم التعبير عنها بشكل أفضل، و أقدم، على يد اليونانيين "الذين كانوا متواضعين كفاية كي يتجنبوا الإدعاء أن تلك الأفكار تأتي من إله أو ابن إله"، فيتحدث- مثلا- عن كلام أفلاطون حول "الخير الأسمى"، و أنه لا يمكن التعبير عنه بكلام و إنما يأتي بشكل مألوف كبارقة ضوء تنطبع في الروح؛ ثم يشير سيلسوس إلى أن أفلاطون "لم يذهب إلى الإستعانة ببعض الأساطير كي يوصل نقطته"، كما لم يحاول إخراس المتسائل الذي يجادل بعض الحقائق التي يطرحها، و هو لم يطلب من الناس أن يتوفقوا عن التساؤل و الشك، أو أن يقبلوا أن الإله كذا و كذا؛ و إنما هو بالأحرى يخبرنا من أين استمد أفكاره و كيف تبلورت تاريخيا، بدلا من أن يحاول نسبتها إلى سلطاته الخاصة.
كما يشير سيلسوس إلى مقولات المسيح حول عدم مقاومة الشر و عدم الشتم، و ضرورة إدارة الخد الآخر؛ و يؤكد أن هذه المقولة ليست جديدة، بل تم التعبير عنها بشكل أفضل على لسان أفلاطون أيضا، و الذي ينسب تلك المقولة إلى سقراط "ليس من الصواب أن تقوم بالشر، و ليس من الصواب أن تنتقم، و لا تجازي الشر بالشر، أو تحاول رد الإساءة بمثلها".
و رغم كونه ليس موضوعنا الرئيسي، فقد مررنا بشكل عابر على علاقة عناصر العقيدة المسيحية، كالإله العالمي و بنوة الله و اللوغوس (الكلمة) و التثليث و القربان و التضحية و موت الإله و بعثه..إلخ، بما سبقها من التراث الوثني و اليهودي.

و لعل الشيء نفسه يطبق على باقي عناصر الديانة، كالكهانة الدينية و الطقوس و فكرة الكتاب المقدس ذاته..إلخ، فهذه أيضا لها متوازيات في التراث السابق على المسيحية.

حتى سيرة المسيح و مواقفه و معجزاته، فقد أشار كثيرون إلى تشابهها مع سير آلهة و أبطال أسطوريين قدامى- مما يثير الشك لدى الكثيرين في تلك السيرة، و الذي يصل إلى الشك في وجوده هو نفسه.

لكن ما يهمنا هنا الإشارة له، هو أن أخلاق و تعاليم المسيح و المسيحية كذلك ليست جديدة، بل نجدها- و أحيانا بشكل أفضل- في ثنايا فلسفات (كالرواقية) و أديان (كالبوذية) و مذاهب (كالأسينية).

بشكل عام فإن القدماء، و خاصة اليونانيون و إلى حد ما الصينيون و الهنود و الفرس و الرومان، كانوا متقدمين على المستوى العلمي، فمنهم من تكلم عن وجود الذرات، و منهم من علم أن الأرض كروية، بل قام بقياس قطرها، و علموا أنها تدور حول الشمس، و منهم من درس حركة النجوم و الكواكب و تنبأ بحدوث الكسوف بدقة مبهرة، كما استنتجوا بعض من قوانين حركة الأجسام كقوانين الطفو و هندسة المثلثات و غيرها، و في مناطق عديدة من الشرق و الغرب كان هناك فلسفات و علوم و نظم قانونية و اجتماعية و سياسية متطورة بمقاييس عصرها.

و بنفس القدر كان لدى بعضهم نظما أخلاقية أيضا، لا تقل جودة عما جاءت به المسيحية، بل يزيد.

كمثال فإن التعاليم الأخلاقي المُسمّى بـ"القاعدة الذهبية للأخلاق" : "أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك" – و الواردة في متى 7-12 و لوقا 6-31- تلك القاعدة التي يتفاخر المسيحيون كثيرا بأنها وردت على لسان يسوعهم، هي قاعدة موجودة بأشكال عديدة في معظم ثقافات العالم قبل يسوع بخمسة قرون و أكثر؛ نجدها منسوبة لكونفوشيوس، و مذكورة في تعاليم البوذية و الطاوية و الهندوسية و الزرادشتية، بل و في الكتاب المقدس العبري (العهد القديم) و الذي يسبق المسيح بنحو ألف سنة – و لو عدنا إلى النصوص الكتابية لوجدنا المسيح يقر بذلك، فينسب المقولة إلى كلام الأنبياء اليهود السابقين عليه.

و هذا ينطبق على القيم التي تبدو مميزة للمسيحية؛ فكذلك نجدها متوفرة في الطوائف التي كان لها تواجد حتى في فلسطين في زمن يسوع.

و كمثال وحيد أكثر وضوحا و شمولا، فإن تلك الطائفة اليهودية المسماة "الأسينيين" و التي كانت موجودة منذ قبل المسيح بقرنين و حتى بعده بقرن، كانوا يتسمون تقريبا بجميع السمات التي نجدها عند المسيحيين و بشكل يكاد يصل إلى حد التطابق ؛ فالأسينيون، على حسب ما نجد في كتابات يوسيفوس و فيلون السكندري و غيرهما، كانوا أيضا يؤمنون بالإله الواحد العالمي، و يعتقدون بوجود مملكة السماء و يسعون تجاهها و يجعلونها مركزا لإيمانهم، و كانوا يتخلون عن جميع أنواع الترف و الرفاهية الأرضية، و يعارضون الغرور و العنف و الحرب، و يبشرون بالسلام و التواضع و المحبة حتى للأعداء ، و يحتقرون متع الحواس و الجسد، و حتى يتجبنون الزواج ، و كانوا يتخلون عن الأملاك و يقتسمون كل ما لديهم فيما بينهم، كما كان يفعل أتباع يسوع، كما كانوا ينعزلون عن المجتمع و يكثرون من الصلاة و الصيام، بشكل شبيه تماما بالرهبان و النساك، و كانوا يقيمون العماد بالماء، بدلا من التضحية بالحيوانات، كما كانوا يلجأون إلى التفاسير المجازية للنصوص و يستخدمون الأمثال و الرموز الخاصة في تعاليمهم، بل و كان لديهم كنائس و قساوسة و كهنة، و كانوا يمارسون الترانيم الدينية الجماعية، و أخيرا كانوا يمارسون "المعجزات" و الخوارق الشفائية.

و كما أشرنا، فحين نقارن تعاليم المسيح بتعاليم محمد مثلا، و هو النبي الذي ظهر بعد يسوع بستة قرون، و اتسمت دعوته بطابع عسكري عنيف و شريعة صارمة على الطريقة اليهودية العتيقة، فستبدو لنا أن تعاليم المسيح نموذجا رائعا للسلام و المحبة، كونها لا تتسم بنفس الطابع العنيف؛ و لكن الحقيقة أن التشابه بين الدينين: المسيحية و الإسلام، أكبر مما نتوقع، ليس فقط على مستوى العقيدة و لكن على المستوى الفكري و الأخلاقي أيضا.

بالإضافة إلى العناصر الطبيعية الموجودة في أكثر الأديان، مثل الإيمان بالله و المعجزات..إلخ، ففي هذين الدينين بشكل خاص نجد : مفهوم الدين العالمي الواحد الذي ينبغي أن يسود الكوكب – متلازمة تقسيم البشرية إلى فريقين أبيض و أسود، مؤمنين و كفار، جماعة الرب و جماعة الشيطان – تضخيم القيامة و علاماتها العجائبية و دمارها المنتظر الذي سيعم الجميع، إلا الفئة المختارة – جهنم كعذاب أبدي للكافرين؛ هنا و هناك نرى تلك العوامل التي لم نراها في الديانة اليهودية الأصلية التي أخذ محمد عنها، بشكل يجعلنا نتساءل: هل كان يمكن لدين محمد أن يوجد، لو لم يوجد دين المسيح أولا؟

و هذا يذكرنا بأمر آخر جانبي، و هو أن محمد أيضا- حسب سيرته- قضى ثلاثة عشر سنة كاملة في دعوة سلمية دون أن يرفع سيفا، متحملا في ذلك أنواعا من المتاعب و الصعاب هو و أعوانه- أي أربعة أضعاف الوقت الذي قضاه المسيح.

حتى الآيات المكية الأولى لم تتضمن أمرا بالحرب و القتال، بل فقط تبشيرا سلميا، مع التأكيد على تهديد الكفار بمصيرين أسودين ينتظرانهما، و هما القيامة و جهنم ؛ مما يجعل سيرة المسيح تبدو شبيهة بسيرة محمد كثيرا في مرحلة دعوته الأولى.

"الشهيد ربما يكون سفاحا مات مبكرا، و السفاح ربما يكون شهيدا امتد به العمر"- هكذا يُقال أحيانا؛ و بذلك لا ندري لو كان امتد العمر بالمسيح كما امتد بمحمد، هل كنا سنشهد تحولا في تعاليمه و سلوكه أيضا نحو العنف؟ نذكر بحادثة المعبد ذات المغزى، و نترك التصور للقارئ.


و لكن على الجانب الآخر حين نقارن تعاليم المسيح بتعاليم مصلحي التاريخ القديم الإنسانيين المفكرين الأقرب إلى العلمانية ، كسقراط أو أفلاطون أو أبيقور أو كونفوشيوس أو لاوتزو أو حتى بوذا أو ماهافيرا (مؤسس فلسفة\ديانة هندية أخرى شبيهة بالبوذية و معاصرة لها، تُسمّى "الجاينية")، فسنجد أن أولئك المعلمين – و غيرهم- كان لهم أفكار مماثلة بل و أفضل مما جاء به المسيح، لكن الفارق أن هؤلاء القوم لم يدعوا أنهم آلهة أو أبناء آلهة، و أنهم لم يجعلوا من أنفسهم الحق المطلق الوحيد في هذا الوجود، و لم يشيطنوا مخالفيهم، و لم ينهالوا بالسباب و التهديد تجاه كل من يعارضهم أو يرفض اتباعهم، و لم يبشروا أحدا بكوارث إلهية وشيكة تهبط على رؤوسهم إن لم يتبعوا تعاليمهم – بل على العكس، هم قدموا أفكارهم كبشر عاديين، و اعترفوا بالإستلهام و لو جزئيا ممن سبقهم، و تقبلوا النقد و المعارضة ممن حولهم، و تعايشوا بهدوء مع من خالفهم مقدمين الإنسانية على عقائدهم الشخصية.

بوذا- مثلا- لم يقل أن إلها يكلمه، و لم يلزم جميع الناس بطاعته و اتباعه، و لم يعترف بنصوص دينية إجرامية سابقة عليه، بل طالب الناس بالتفكير لأنفسهم، و لم يدعي لنفسه معجزات و يعد أتباعه بالقيام بمثلها، و لم يقل أنه جاء ليرمي سيفا و نارا و يفرق بين المرء و أهله، و لم يهدد من يخالفه بالويل و الهلاك و غضب الرب و العذاب الأبدي في بحيرة من النار؛ و بعكس المسيح الذي كان نجارا فادعى المُلك و الألوهية، كان بوذا أميرا فتخلى عن مكانته و عاش بين البشر كشخص عادي، و تركزت تعاليمه على فهم الذات و ممارسة الإخلاق الإنسانية و الإمتناع عن العنف و توجيه الأذى للغير.

الأخلاق الحقيقية
هذا يقودنا إلى ختام الموضوع، و هو رسم صورة عامة للأخلاق "الأخرى"؛ أي الأخلاق من وجهة نظر غير دينية، علمانية- و ذلك حتى تتضح المقارنة.

هذه الأخلاق التي نقصدها، و سنسميها "الأخلاق الإنسانية"، هي بالتعريف: مجموعة الأفكار و السلوكيات التي اكتشف البشر – بالتقدير المنطقي و بالتجربة و الخطأ - أنها الأكثر نجاحا في صياغة مجتمع سعيد؛ أي متزن و متكافئ و عادل و ناجح و متطور؛ سواء كان مجتمعا محدودا (دولة) أو على مستوى المجتمع الإنسان ككل.

تلك الأخلاق عرفها البشر منذ قديم الأزل و إن كان بشكل متفرق و مؤقت؛ و ظهرت نظريا في كلمات و مناقشات بعض الفلاسفة القدامى العظماء، و تطبيقيا في سلوكيات محدودة جدا من الدول و المجتمعات القديمة ؛  ولكن الأهم أن هذه الأخلاق في صورتها المعاصرة الحديثة هي نتاج تراكم مجمل المعارف و التجارب الإنسانية عبر القرون الطويلة، و شارك في صنعها فلاسفة و علماء و مفكرون و قانونيون و سياسيون، و تطورت بأشكال مختلفة في مجالات فلسفة القيم و القانون و السياسة و علم الإجتماع و علم النفس.

و من أهم مبادئ تلك الأخلاق هو مبدأ المساواة بين البشر؛ ليس بشكل مطلق بالطبع فهذا مستحيل، و لكن المقصود هو السعي قدر الإمكان نحو المساواة في الحقوق و الواجبات الأساسية بين جميع البشر؛ و هكذا فمبدأ "حقوق الإنسان" عند المقتنعين به، هو بالتعريف يشمل جميع البشر دون استثناء؛ و بالتالي فالقول بأن شعبا معينا له ميزة حقوقية ما على بقية شعوب الأرض، فقط لأن إلها ما قرر أن يتكلم معهم وحدهم و يتجاهل الآخرين ، هو أمر غير مقبول بالمرة في هذا الإطار ؛ و كذلك لا يُسمح باسترقاق الناس كعبيد أو المتاجرة في البشر كأنهم متاع أو بضاعة؛ كما لا يوجد أي معنى للإنتقاص من مكانة المرأة و حقوقها، و جعلها في مكانة ثانية بعد الرجال.

و لان الأخلاق هنا نابعة من الإنسان، فهي تلجأ إلى الواقعية و العلم و المنطق و العقلانية لتقييم ما هو صالح و ما هو خير، فتقيس الأمور بدوافعها و تأثيرها، و لا تحيل الخير و الشر إلى كيانات غيبية مجهولة كالآلهة و الشياطين و الملائكة؛ كما أنها تستلهم طاقتها من الضمير الفردي و عاطفية الخير الموجودة لدينا جميعا، و لا تعتمد على الأوامر و التعليمات من نصوص جامدة مقدسة ؛ فأنا حين أحبك و أحسن التعامل معك، سأفعل ذلك لأنك تستحق أو لأن ضميري و عاطفتي تحتمان عليّ ذلك، و ليس لأنني تلقيت أمرا علويا من سيدي بأن أحبك فورا و أحسن إليك! – مما يبدو و كأنه محبة بلاستيكية مصطنعة، بل و لا تخلو من ملامح تكبر و تعالي مستترين.

أما ما تعتبره شرا فهو كل أذى أو ظلم أو ألم يتم توجيهه من البشر، للبشر، و لمواجهة هذا توجد القوانين و العقوبات الجنائية - و التي تجعل الإنسان مسئولا عن أفعاله، لا يمكن لأي واسطة أن تنجيه من العقاب؛ بينما أهم شرط من شروطها هو تناسب حجم العقاب مع حجم الجريمة، فلا تهاون مع كبيرة و لا قسوة مع صغيرة.

و لأن هذه الأخلاق الإنسانية هي من صنع البشر، و من أجل البشر، فلابد أن تأخذ في اعتبارها طبيعة أولئك البشر نفسيا و جسديا، كما هي في الواقع، لا "كما يجب أن تكون" حسب تصور ديني معين؛ و بالتالي فهي تنظر إلى نوازع و شهوات الجسد (كالجوع و العطش و الجنس) و شهوات النفس (كالرغبة في التملّك و تكوين الأسرة و الطموح و المنافسة و الكرامة..إلخ) نظرة متزنة طبيعية، باعتبارها ليست عيوبا خبيثة أو نقائص مخجلة في الكائن البشري "كان يجب ألا تكون فيه" كونها ناتجة عن خلل شرير طارئ في الخطة الكونية، ينبغي إصلاحه بخطة كونية مضادة ، بل باعتبارها نوازع عادية و طبيعة و أصيلة فينا، علينا قبولها بكل راحة، و التعايش معها و تنظيمها بشكل يضمن الحرية و النظام و الإستقرار و العدالة و السعادة للبشر أفرادا و مجتمعات.

هذه النوازع ليست شرورا بحد ذاتها تستدعي الشعور بالذنب، و لا تكون كذلك إلى لو تجاوزت حدودها بشكل غير متزن يؤدي إلى الأذى أو الألم أو الظلم، بينما لو تم تنظيمها بشكل سليم فهي خير في دوافعها و في نتائجها – فالتقييم الأول يكون سعادة البشر و سلامة المجتمع.

أما رفض الطبيعة الإنسانية فهو شر و غباء، لا يقود إلا إلى الفشل في التعامل مع النفوس و الأجساد، مما ينتج نفاقا في المجتمع و كبتا و عقدا نفسية لا حصر لها، و في النهاية يؤدي إلى الإنهيار الحتمي لأي نظام يحاول بناء نفسه على إنسان وهمي، لا علاقة به بالإنسان الحقيقي بميوله و غرائزه.


تلك الأخلاق الإنسانية لم تصل إلى المثالية أبدا، و لكن يُحسب لها أنها لم تدعي المثالية يوما- بعكس الأخلاق الدينية المطلقة و الجامدة و المكتفية بذاتها – و لذلك تحديدا فإن الإخلاق الإنسانية العلمانية تتسم بالديناميكية و الحركة، و تتطور دائما و تتحسن كل يوم، نتيجة الجدالات المجتمعية و النزاعات المدنية التي تطالب كل يوم بالمزيد من الحريات و العدالة و الحقوق للجميع – و قد حققت الكثير بالفعل، فقد تقدمنا إنسانيا و تخلينا بشكل كبير عن عادات سيئة كانت سائدة في العالم القديم، مثل الدكتاتورية و العبودية و السُخرة و الإقطاع و قهر المرأة، و صرنا أكثر تقبّلا لأنفسنا، و انخفضت معدلات الجرائم (عكس ما يُشاع)، و كل ذلك بدون مساعدة (بل: على الرغم من معارضة) من نصوص مقدسة و كهنوت متسلط و تعلّق مهووس بملكوت آتٍ و دمار للمدن و آلهة متجسدة تبشر بعودة خرافية.

تلك الإنسانية المتراكمة نتشّربها جميعا اليوم من خلال كل منتجات الحضارة الحديثة، فتتغلغل في عقولنا و نفوسنا بدرجات متفاوتة ؛ بعد ذلك يقوم المؤمن غالبا بربطها ببضعة نصوص "أخلاقية" منتقاة الإختيار و منتقاة التفسير، من كتابه المقدس؛ ثم يؤكد أن دينه أيضا يحث على الأخلاق الجيدة – و الأدق هو القول أنك اليوم تعيد فهم دينك في ضوء أخلاقيات علمانية جديدة.
---------------------------

بعض المراجع و المصادر:
http://www.womenpriests.org/traditio/unclean.asp
http://www.earlychristianwritings.com/secretmark.html
http://www.transchristians.org/archive/the-practice-of-self-castration-in-early-christianity
http://www.ibtimes.com/birds-same-feather-harold-camping-william-miller-charles-taze-russell-285439

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق