هل سألت نفسك يوما لماذا إلهك- حسبما ورد في كتابك المقدس- يبدو و كأنه يجلس على عرش؟!
حسن، تصور معي المشهد التالي:
تصور رجلا، مسافرا غريبا، يدخل إلى قرية صغيرة نائية قابعة وسط الصحراء؛ و سرعان ما يبدأ ذلك الرجل في مخاطبة أهل تلك القرية، شارحا لهم من أين جاء و ماذا يريد.
تصور رجلا، مسافرا غريبا، يدخل إلى قرية صغيرة نائية قابعة وسط الصحراء؛ و سرعان ما يبدأ ذلك الرجل في مخاطبة أهل تلك القرية، شارحا لهم من أين جاء و ماذا يريد.
أما من أين جاء، يخبرهم، فمن مدينة كبيرة بعيدة و حصينة،
هي العاصمة الكبرى لمملكة شاسعة قوية و مزدهرة، على رأسها ملك عظيم جبار، يشتهر بالعدل
و الرحمة من ناحية، و بالبأس و البطش الشديد من ناحية أخرى؛ أما الرحمة فللأتباع المخلصين
الملتزمين بالطاعة و النظام، و أما البطش فللعصاة و المتمردين و أصحاب الأهواء.
أما هدف مجيئه لهم و ماذا يريد، فليس إلا مصلحتهم الخاصة:
لقد جاء كمبعوث شخصي من الملك الجليل نفسه، الذي كلّفه بإبلاغ رسالة بسيطة إلى أهل
القُرى جميعا، هم و من يجاورهم، تتلخص في الطلب منهم الدخول في طاعة ذلك الملك ، و
الإئتمار بأمره، و الإنضمام إلى إمبراطوريته العظمى، مع وعد بالحماية و المساندة و
الدعم اللامحدود إن هم قبلوا و خضعوا، و مع الوعيد بالهلاك و الدمار الشامل إن هم رفضوا
و تمردوا.
"ملكنا العظيم.."
، يخطب فيهم الرسول، "لا يطلب منكم سوى الولاء التام لتاجه السامي، و الطاعة الكاملة
لمبعوثه المتواضع، مع التحذير الصارم لكم من التعامل مع أية ملوك أخرى تحت أي ظرف من
الظروف".
و يكمل مهددا
"ملكنا الجليل تأتمر بأمره جيوش مسلحة لا أول لها و لا آخر، من جنود جبارين
لا يوقفهم شيئ و لا يهابون الموت؛ و من يتجرأ على التمرد عليه فلن يكون مصيرهم مختلفا
عن مصير مئات القرى و المدن التي أُهلكت عن بكرة أبيها و ابتلعتها رمال الصحراء، فقط
لأنهم تكبروا و رفضوا الإنصياع لصوت العقل و نداء الحق."
هنا سنترك ذلك المشهد، مع تداعياته و تعقيداته المحتملة و
تساؤلاته المحيرة ، بين كذب و صدق المبعوث، و بين الدليل الذي يتعين عليه توفيره لهؤلاء
القوم لإثبات صحة ادعاءاته، و مع بحث عدالة ذلك الملك الذي يبطش بكل من يرفض طاعته..إلخ،
و سنسأل سؤالا بسيطا بعيدا عن كل هذا.
السؤال هو : ترى أين رأيت هذا المشهد من قبل؟!
سأخبرك؛ رأيته في موضعين محتملين: الموضع الأول هو في أي
كتاب تاريخ قديم لو كنت من هواته، فكل ملك عظيم في الأزمنة السالفة ينجح في إنشاء إمبراطورية،
كان غالبا يسعى في إخضاع الشعوب و المدن و القرى التي تحيط بمملكته، و ضمان ولاءها
الشخصي و طاعتها الكاملة له دون غيره من الملوك ، و يكون ذلك عن طريق إرسال رُسُل أو
سفراء إلى تلك القرى، مبشرين محفزين و منذرين مهددين؛ و يكون نصيب المدن المستجيبة
هو الحماية و الوقوف معهم ضد أي خطر محتمل يتهددهم ، باعتبارهم صاروا من الأتباع المخلصين،
بينما يكون نصيب المدن الرافضة هو الإهلاك التام، في حملة نهب و تأييد عسكرية ضارية
لا تبقي و لا تذر، تزخر بها تاريخ الأمم القديمة.
أما الموضع الثاني الذي لابد و إنك رأيت فيه ذلك المشهد بحذافيره
، فهو- لابد و إنك خمنت بالفعل- ليس إلا الديانات الإبراهيمية : حيث الرسل و الأنبياء
تأتي إلى الأمم تدعوهم إلى طاعة الرب\الملك، و تمنيهم بدعمه و تأييده، و تحذرهم من
غضبته المخيفة، و تنذرهم من اللحاق بمصير الأمم البائدة من قبلهم.
ففي العالم القديم لم يكن هناك خط فاصل بين الدين و السياسة:
الأول ليس إلا انعكاسا و تعبيرا -بدائيا أسطوريا مبالغا فيه- عن الثانية.
هنا لا يستغرب أن يكون المطلب الأول و الأسمى في تلك الدعوات
هو "الإيمان"، و هو بمثابة ولاء مخلص للملك، و إنكار علني لملكية الملوك
المتنافسين، تكون معه كل الأخطاء و الذنوب مقبولة مغفورة؛
أما الذنب الأكبر- الذي لا يغتفر- فهو "الوثنية"
أو "الشرك"، و هو هنا بمثابة الجاسوسية أو العمالة أو الخيانة، حيث الوثني
المشرك هو شخص صاحب ولاءات مختلطة، لعدة ملوك، مما يعتبر خطرا لا مثيل له في ذلك العالم
القديم.
هكذا فالله، و إن أخذ أشكالا متباينة - أو متطورة- نوعا في
الأديان و المذاهب، إلا أنه في الأصل ليس إلا ملك جبار يجلس على عرش يحب أن يأمر فيطاع،
و هو يراقب ممالكه و يرسل الرسل لها مبشرين و منذرين؛ و هكذا فكل فكرة دينية جاء بها
البشر: الطقوس و القرابين و النذور، الصلوات و الصوم و الحج، القيامة و البعث و الحساب،
الجنة و النار، الملائكة و الشياطين، و حتى الآلهة ذاتها، إنما هي قياس بدائي بسيط
على ما كان الإنسان القديم يعاينه في حياته اليومية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق