الثلاثاء، 13 يناير 2015

عن "دين الإلحاد"






لعلنا اعتدنا- كبشر عموما و كعرب على وجه الخصوص- على تصنيف البشر في جماعات, دينيا و مذهبيا و عرقيا و قوميا و أيديولوجيا, حتى أننا نجد صعوبة في التعامل مع الناس كأفراد و فقط.. بالتالي لم يكن مستغربا أن نتعامل مع ظاهرة تنامي أصوات الملحدين العرب بذات الطريقة
..

الإلحاد, بالتعريف, هو عدم الإيمان بالآلهة.. و فقط

و التعريف - كما هو واضح- شديد الإتساع بحيث لا يتضمن موقفا سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا, أو حتى يرسم ملامح تيار فكري معين.. هو مجرد موقف شخصي من قضية بعينها هي قضية الأديان و الآلهة- بعد هذا كل فرد ملحد حر في تبني ما يشاء من معتقدات, فقد يكون الملحد شيوعيا أو رأسماليا, ثوريا أو محافظا, ديمقراطيا أو دكتاتوريا, ليبراليا أو فاشيا, متسامحا أو متعصبا, مثقفا أو جاهلا, علميا أو خرافيا, ماديا أو روحانيا (نعم هناك إلحاد روحاني) ..إلخ, قد يكون كل شيء و أي شيء دون أن يكون لذلك علاقة بكونه ملحدا أي لا يؤمن بالآلهة..

الخلاصة أن الإلحاد هو موقف سلبي, نافي, من قضية معينة , و هو كذلك موقف فردي- بالتالي إطلاق وصف "الإلحاد" على إنسان لا يكفي بحال لتصنيفه بشكل عام..

و الخلاصة الأخرى بالتالي أن "الملحدين" لا يمكن اعتبارهم جماعة من أي نوع, سواء دينية أو فكرية أو سياسية.. فالإلحاد ليس دينا أو منهجا و ليس له أنبياء أو شريعة أو تعاليم أو كتب مقدسة.. و الإلحاد بحد ذاته لا يكفي للجمع بين الملحدين في أي شيء تقريبا..

أحدهم شبه الملحدين بطرافة بـ"هواة عدم لعب الجولف".. لا يتصور أن يوجد حقا ما يجمع هؤلاء سويا, سوى شيء واحد فقط هو "عدم لعب الجولف"!

هذا التعريف للإلحاد على أنه "ليس دينا", ليس فقط  المؤمنون هم من بحاجة إلى استيعابه , و لكن كثير من الملحدين أيضا – فالكل يقع في الخلط أحيانا على السواء.. و سبب ذلك في تصوري هو ما ورد في أول فقرة في المقال..

لكن يجدر القول أن تصنيف البشر في جماعات ليس فقط عادة فكرية, و إنما يبدو أنه غريزة اجتماعية فعلية قائمة و قوية .. الإنسان بطبعه يكره أن يكون وحده و بالتالي يميل إلى تصنيف نفسه داخل جماعة معينة, يستمد منها الأمان و القوة و تعينه على مواجهة الحياة.. و لا أشك أنها غريزة تعود في أصولها إلى أسلافنا من الكائنات التي كانت و لازالت تميل إلى تصنيف نفسها في جماعات\ قطعان\ أسراب مما له فائدة تطورية لا تخفى..

و حين نتذكر أنه إلى جوار غريزة الإنتماء إلى القطيع فلدينا كبشر غرائز أخرى نفسية و فكرية عديدة تحتاج إلى الإشباع, فمعظمنا مثلا يحتاج بشدة إلى الشعور بكيانه و دوره في الحياة, و كثير منا يحتاج إلى قضية كبرى يتصور أنه يتبناها و يدافع عنها - حين نتذكر ذلك قد نفهم حينها لماذا نرى أن كثيرا من الملحدين صاروا يعتبرون الإلحاد بديلا لدين و لإنتماء و لجماعة و لقومية لم تعد ترضيهم.. صار الإلحاد للبعض هوية و قضية , و صار الملحدون طائفة تحتاج إلى زعامات و ممثلين و ربما كهنة و أنبياء..

من البديهي القول أن كل واحد حر في طريقة تفكيره و كذلك في طريقة إشباع احتياجاته النفسية, و لكن وددت فقط تسجيل موقف شخصي من ذلك, حيث أنني واحد ممن يرونه وضعا للشيء في غير موضعه و تحميلا للأمور أكثر مما تحتمل.. لذا وددت تأكيد الآتي:

1) شخصيا أرفض بشدة تصنيفي كملحد باعتباره انتماءا لجماعة , و أرفض كذلك أن أنضم لأمة الملحدين المزعومة هذه, إذ لا أرى شيئا يجمع بين ملحد و آخر سوى هواية عدم عبادة الآلهة- هذا بحد ذاته لا يكفي لخلق تيار فكري أو جماعة من أي نوع..

انتمائي الأكبر هو للوطن و للمجتمع بكل أطيافه و للإنسانية كلها .. أما فكريا فليس لدي انتماءات , و إنما فقط اجتهادات فردية متطورة و متغيرة ينتج عنها اتفاقات و اختلافات مع كل الأطراف على السواء..

2) و بالتالي كفرد عربي ملحد أؤكد أنني لم أفوض أحدا للحديث بإسمي أو "تمثيلي إلحاديا" في أي منبر.. أحترم كثيرا من الملحدين لعقلهم و ثقافتهم و شجاعتهم, و أختلف مع كثيرين ممن لا أراهم نماذج جيدة, لكن في الحالتين كل واحد يعبر عن نفسه- فلا الأول يزيدني شرفا و لا الآخر يزيدني عارا..

3) لا أعتبر الإلحاد بحد ذاته فكرا مستقلا, و إنما أعتبر أن نقد المعتقدات و الأديان و الترويج للثقافة الإنسانية و العلمية هي – ضمن غيرها - أنشطة فكرية مهمة لنهضة كل المجتمعات..

4) لا أتفهم أن يكون الإلحاد "قضية" يتبناها البعض, و إنما أتفهم أن تكون المطالبة بحرية المعتقد و حق التعبير و الإنتقاد هي قضايا مجتمعية عامة مهمة ينبغي أن يدافع عنها الكل و يطالب بها للكل أيضا – بدلا من أن تكون قضية خاصة تتفكك بين زعماء طوائف محلية يطلبها كل واحد لطائفته فقط و حصريا..

5) لا أتفهم أيضا أن يكون الإلحاد "دعوة" مستقلة تحتاج إلى النشر, و إنما أتفهم أن تفتح المنتديات النقاشية بين المهتمين بالفكر و الدين و العلوم عموما, بحيث يعبر كل واحد عن آرائه الخاصة بحرية تامة و بشكل يثري الحياة الثقافية لمجتمعاتنا..

6) كذلك لا أتفهم أن يتحد الملحدون كأمة أو حزب أو تيار , و إنما أتفهم أن يتلاقى بعض من أصحاب التوجهات الفكرية الشبيهة معا بشكل يمثل نشاطا اجتماعيا لا أكثر..

---------------------
ختاما لم أترك دينا لأنضم إلى دين آخر, و لم أغادر جماعة حتى أنضم إلى جماعة أخرى.. أفكاري شخصية, و متغيرة, و أحاول جاهدا أن أتبنى معتقداتي الخاصة حول الكون و الحياة دون تأثر بسجن الإنتماءات و المعلبات الفكرية هذا .. فالرجاء للجميع أن يخفف قليلا من لهجة التصنيف و الإختزال هذه.. الملحد ملحد و لكنه أيضا و في نفس الوقت أمور أخرى كثيرة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق