الخميس، 1 يناير 2015

المسيح: رسول من الجحيم (3)





رابعا: يسوع الإرهابي

تهديداته لمن يخالفه
التهديد، من حيث المبدأ، قد يكون مقبولا حين يخرج من سلطة عادلة و يكون موجّها لردع المجرمين، و لكنه حتما غير مقبول حين يكون موجّها ضد كل من لا يؤمن بدين معين أو يتبع داعية بعينه أو ينتمي إلى طائفة محددة – حينها يكون إرهابا.

الإرهاب بالتعريف هو التخويف و الترويع ؛ و الإرهابي الديني لا يتورع عن استخدام السلاح لتخويف الناس حتى يتبعوه ؛ ثم أنه لو افتقر إلى السلاح المادي فسيلجأ إلى السلاح المعنوي: التخويف عن طريق تهديدنا بأسلحة إلهه.

هكذا فرجل الدين المتعصب الذي يهدد البشر بانتقام إلهه لا يختلف كثيرا عن الإرهابي الذي يهدد الناس بانتقامه و انتقام رجاله - النتيجة واحدة و الهدف واحد و إن اختلفت القدرات و الوسائل، فإرهاب الكلمة ليس إلا مقدمة لإرهاب الفعل و مصاحب له، لا يمكن فصلهما تماما.

ذلك التهديد الديني قائم منذ فجر التاريخ على أيدي كهنة الأديان ؛ فكان القدماء يؤمنون بأن الآلهة تعاقب البشر بشكل دنيوي، بالمرض أو الموت، و فقط  ؛ و هذا هو ما احتوته اليهودية التقليدية-  فالرب اليهودي كان عقابه دنيويا بالأساس.

و لاحقا تأثرت اليهودية بفكرة أخرى، آمنت بها شعوب كثيرة سابقة، هي الإيمان بوجود نهاية مدمرة و مهلكة للعالم بأشكال مختلفة ؛ نسبتها اليهودية لإلهها أيضا، كأسلوب جذري من جانبه لعقاب البشر، كما حدث بشكل ما في طوفان نوح و هلاك سدوم و عمورة (قوم لوط).

أما اليهودية المتأخرة المتطورة، التي ستتحول إلى المسيحية اليسوعية، فقد تضمنت في عناصرها ثلاثة أشكال من العقاب: العقاب الدنيوي للبشر، و أضافت له أساطير نهاية العالم المقتبسة من الشعوب الأخرى ، ثم أتبعت ذلك بمصيبة ثالثة تنفرد بها المسيحية عن سائر الأديان و الثقافات وهي العقاب الأبدي في الجحيم -  هكذا اكتملت الدائرة الجهنمية للعقوبات الإلهية للبشر.

يكمل بطرس كذبته عن المسيح قائلا أنه (الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا.. وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ) بطرس الأولى 2-23.

و هذا لا علاقة له بالحقيقة ؛ فالمسيح، الذي لم يكن لديه قدرة استخدام السلاح بشكل فعّال واسع، لم يتورع عن استخدام الشتم كما رأينا؛ و معه لم يتورع عن استخدام جميع أنواع التخويف الذي طالته يداه و لسانه تجاه المخالفين الذين رفضوا رسالته ؛ و يتنوع هذا التهديد بين الأشكال الثلاثة التي ذكرناها : المعاناة الدنيوية (بالمرض أو الموت..إلخ) ، و الهلاك الأخروي (الدينونة أو القيامة) ، و عذاب الآخرة الأبدي (نار جهنم)؛ إذ سنجد أن يسوع يستغل كل شيء سيء للترويج لأفكاره، بدءا من المتاعب الصحية لبعض المساكين ، وصولا إلى كوارث طبيعية بشعة، ينسبها وقت اللزوم إلى إلهه الغاضب دوما و المهدد بالعقاب أبدا.

الإرهاب الأول: العذاب الدنيوي بالمرض و الموت
هكذا نجده يرى مريضا بالشلل يفترش السرير (إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثلاَثِينَ سَنَةً) يوحنا 5-5، و بعد أن شفاه رب المجد حذره من العودة إلى الذنوب مرة أخرى حتى لا يصيبه ما هو أسوأ (بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَهُ يَسُوعُ فِي الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ: "هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ فلاَ تُخْطِئْ أَيْضاً لِئَلَّا يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ") يوحنا 5-14.

و لم يخبرنا يسوع أو كاتب الإنجيل المؤيد بالروح القدس ما هي تلك الأخطاء المريعة التي استحق صاحبها عقوبة أربعة عقود من الشلل و المعاناة اليومية، كما لم يخبرنا بوضوح ما هو ذلك الأسوأ و الأشر الذي ينتظر الرجل، بالإضافة لكل من يرتكب الذنوب.

و لكن المهم أننا أمام تعاليم تربط المرض بالذنوب الشخصية للمريض- و كأن كل مريض لابد أن نستنتج أنه خاطئ، و إلا لما عاقبه الله بذلك المرض!

و ذلك رغم أنه في مناسبة أخرى (يوحنا 9-1،3) سيرى
المسيح شخصا أعمى، و سيؤكد بأن ما أصابه ليس بسبب الذنوب، و إنما (لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللَّهِ فِيهِ)- سبب آخر وجيه للغاية أليس كذلك؟!

ثم إن المرض ليس هو الجزاء الوحيد للذنوب، بل الموت أيضا؛ ففي مناسبة أخرى يخبره قومه عن أناس تم قتلهم دون جرم، فإذا به يستغل الموقف كالعادة للترويج لتعاليمه، فيخبرهم أن أولئك الضحايا (من منطقة الجليل) لابد أنهم كانوا خاطئين؛ ليس هم فقط و لكن جميع الجليليين خاطئون مثلهم؛ و يتلو ذلك بذكر مجموعة أخرى قتلت في حادث آخر - و من ثم يحذر الناس في كل مكان من هلاك مماثل إن لم يتوبوا (وَكَانَ حَاضِراً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عَنِ الْجَلِيلِيِّينَ الَّذِينَ خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ. فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمْ: "أَتَظُنُّونَ أَنَّ هَؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هَذَا؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ. أَوْ أُولَئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَهُمْ أَتَظُنُّونَ أَنَّ هَؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ") لوقا 13-1،5.

"إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون"؛ يكررها رسول المحبة مرتين.

الإرهاب الثاني: الدينونة و دمار العالم
- ((حين يعود (يسوع) ليحكم بالدينونة على العالم في أرماغدون، سيقوم بتدمير الجميع ما عدا شهود يهوه المخلصين؛ (هنا يظهر يسوع قاذفا كرات من اللهب التي تدمر المدن و تكسر السدود و تسبب الحرائق و تقتل كثير من الناس بمن فيهم الأطفال))) – من فيلم كارتون عن يسوع، من صنع شهود يهوه.

هذا هو السلاح المعنوي الآخر الذي يلجأ له المسيح، و هو تهديد الناس بدمار الأرض و هلاك البشرية بأكملها بصورة لم يسبق لها مثيل، و لا يمكن مقارنتها إلا بطوفان نوح أو هلاك سدوم و عمورة- مع كون الهلاك المسيحي أعم و أشمل و أسوأ بكثير؛ و الويل لكل من لم يؤمن بيسوع حينها.

هكذا نجد المسيح يهتم كثيرا بالمقارنة من ناحية بين قصص العهد القديم اليهودي عن دمار الحياة كلها، كبارها و صغارها مع حتى الحيوانات و النباتات، زمن نوح، ثم لوط، و بين ما سيحدث آخر الزمان لكل من يرفض اتباعه هو من ناحية أخرى- حيث يقول (وَكَمَا كَانَتْ أَيَّامُ نُوحٍ كَذَلِكَ يَكُونُ أَيْضاً مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ. لأَنَّهُ كَمَا كَانُوا فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلَ الطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ الْفُلْكَ وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ الطُّوفَانُ وَأَخَذَ الْجَمِيعَ كَذَلِكَ يَكُونُ أَيْضاً مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ) متى 24-37،39 (و أيضا لوقا 17-26)؛ و في موضع آخر يقول (وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي فِيهِ خَرَجَ لُوطٌ مِنْ سَدُومَ أَمْطَرَ نَاراً وَكِبْرِيتاً مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ. هَكَذَا يَكُونُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يُظْهَرُ ابْنُ الإِنْسَانِ) لوقا 17-29،30.

بديهي أن هذا يرينا ضمنيا إقرار يسوع بتلك العقوبات الجماعية البشعة التي نالتها شعوب بأكملها، حسب ما رددت الأساطير اليهودية، و أنه لا يجد فيها أية مشكلة أخلاقية تحتاج إلى التبرير أو الدفاع؛ بل لا يهمه هنا سوى استغلال تلك المجازر الجماعية المزعومة لخدمة مشروعه الديني الحالي، حتى لو بشر الجميع بتكرار تلك المآسي، و هدد كل من يرفض دعوته بأنه سوف يلاقي نفس مصير القوم الهالكين.

هكذا نجد أن المسيح ليس فقط متوافقا تماما مع ما فعله الله تجاه شعوب كاملة، و لكن الأسوأ أنه يعدنا بتكرار تلك الأحداث المرعبة، مقترنة بعودته للإنتقام من كل من رفضه – هل هناك ما هو أكثر قسوة و أكثر جنونا؟!

هذه العودة المنتظرة ستقترن بدمار جميع المدن، و على الأخص تلك المدن التي رفضت الإستجابة ليسوع و تلاميذه النجباء (وَمَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ كَلاَمَكُمْ فَاخْرُجُوا خَارِجاً مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَانْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُمْ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ) متى 10- 14،15.

و لنذكر القارئ بالمصير البائس لسدوم و عمورة ، كما جاء في العهد القديم (فَامْطَرَ الرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُورَةَ كِبْرِيتا وَنَارا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَلَبَ تِلْكَ الْمُدُنَ وَكُلَّ الدَّائِرَةِ وَجَمِيعَ سُكَّانِ الْمُدُنِ وَنَبَاتَِ الارْضِ) تكوين 19- 24،25 ؛ فذلك المصير – بل أسوأ منه- ينتظر كل مدينة لا تقبل ديانة المسيحيين، على حسب ما يهددنا أمير السلام.

و في مناسبة أخرى يتسلى يسوع بالتعبير عن غضبه المكبوت، بأن يلعن جميع تلك المدن "الشرير" واحدة واحدة، و يشفي غليله بذكر مصيرها الأسود الذي يذكره على ما يبدو بأمجاد أبيه الغابرة في إهلاك المدن و الشعوب المارقة بالحريق و الغريق و الدمار (حِينَئِذٍ ابْتَدَأَ يُوَبِّخُ الْمُدُنَ الَّتِي صُنِعَتْ فِيهَا أَكْثَرُ قُوَّاتِهِ لأَنَّهَا لَمْ تَتُبْ: "وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا لَتَابَتَا قَدِيماً فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ تَكُونُ لَهُمَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكُمَا. وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى الْيَوْمِ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكِ") متى 11-20،24.

و في مكان آخر نجد تكرار ذات الوعيد و التحذير و التهديد و اللعن لكل المدن التي لا تقبل دعوة تلاميذه (وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ فَاخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: حَتَّى الْغُبَارُ الَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلَكِنِ اعْلَمُوا هَذَا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ. وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ. وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا لَتَابَتَا قَدِيماً جَالِسَتَيْنِ فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ. وَلَكِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ يَكُونُ لَهُمَا فِي الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لَكُمَا. وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومُ الْمُرْتَفِعَةُ إِلَى السَّمَاءِ سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ) لوقا 10-10،15.

هنا يبدو المسيح صورة طبق الأصل من أنبياء العهد القديم، الذين يعبرون أحيانا عن حقدهم الشديد و غضبهم المكبوت تجاه المدن العامرة بهذا الشكل؛ يمكن رؤية ذلك- كمثال وحيد- في نبوءة خراب مماثلة بشعة و مريعة، موجهة من النبي أشعياء إلى مدينة بابل التي سيحل عليها غضب رب اليهود المنتقم و الساخط، فتذوب قلوب أهلها و يتحطم أطفالهم أمام أعينهم و تنهب بيوتهم و تفضح نساؤهم و تخرب مدينتهم بالكامل (
سفر أشعياء ، أصحاح 13)، مما يبدو شبيها تماما بنبوءات المسيح هنا.

ذلك التدمير اليسوعي أيضا لن يعرف منطقا و لا عدلا، فهو يدمر المدن بأكملها، بذات العقاب الجماعي المميز الذي يستهوي الإله الإبراهيمي؛ و هو يتضمن تحميل أعداء يسوع كل ذنب، حتى و لو لم يرتكبوه بشكل مباشر(!)؛ فجماعة اليهود الذين رفضه بعضهم سوف يتم تحميلهم هم ذنب "كل الدماء التي سفكت على الأرض!" (لِكَيْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ كُلُّ دَمٍ زَكِيٍّ سُفِكَ عَلَى الأَرْضِ مِنْ دَمِ هَابِيلَ الصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَ الْهَيْكَلِ وَالْمَذْبَحِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَأْتِي عَلَى هَذَا الْجِيلِ!) متى 23-35،36 ؛ و هوكلام كله ليس مستغربا تماما لو انتبهنا إلى أهم صفات يسوع الشخصية كما يبدو ، و التي ينبغي أن تكون قد اتضحت الآن : و هي المزايدة و المبالغة اللفظية غير المنطقية و غير المتزنة و غير المبررة و غير المعقولة ، مقترنة مع التعصب الهيستيري تجاه كل من يرفضه.

 لكن المصيبة أن التهديد بالعودة المخيفة لا يقتصر على فئات معينة، بل إن الدمار و الرعب و النواح و العويل يمتد ليشمل الجميع دون استثناء، من أول الشمس و القمر و حتى الأرض بما فيها، و من فيها، و حتى الملائكة غير المطيعة (لأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ ضِيقٌ عَظِيمٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ إِلَى الآنَ وَلَنْ يَكُونَ) متى 24-21، (وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ) متى 24-29 ، (وَلَكِنْ سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي اللَّيْلِ، يَوْمُ الرَّبِّ، الَّذِي فِيهِ تَزُولُ السَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ الْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ الأَرْضُ وَالْمَصْنُوعَاتُ الَّتِي فِيهَا) رسالة بطرس الثانية 3-10، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ) رؤيا يوحنا 1-7 ، (وَالْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ لَمْ يَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ، بَلْ تَرَكُوا مَسْكَنَهُمْ حَفِظَهُمْ إِلَى دَيْنُونَةِ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ بِقُيُودٍ أَبَدِيَّةٍ تَحْتَ الظَّلاَمِ. كَمَا أَنَّ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَالْمُدُنَ الَّتِي حَوْلَهُمَا، إِذْ زَنَتْ عَلَى طَرِيقٍ مِثْلِهِمَا وَمَضَتْ وَرَاءَ جَسَدٍ آخَرَ، جُعِلَتْ عِبْرَةً مُكَابِدَةً عِقَابَ نَارٍ أَبَدِيَّةٍ) رسالة يهوذا 1-6،7 ،

و يضيف لنا يسوع فئة خاصة لا يجد هو أي مشكلة في أن ينالها بالتهديد و الويل: و هن النساء الحوامل و المرضعات (وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ!) متى 24-19، و أيضا في مرقس 13-17.

مع ملاحظة أن هذا التهديد ليس إنذارا من كارثة طبيعية ستأتي بأمر الطبيعة و ليس ليسوع دخل فيها كما يحاول البعض الإيحاء؛ و إنما هو حدث إلهي بامتياز يؤيده يسوع تماما بل هو مشارك فيه : ببساطة رب اليهود ينوي تدمير العالم بأسوأ طريقة ممكنة، و قد أرسل ابنه المتجسد و أقنومه لليهود، لكي يحذرهم من غضبه القادم.

الدينونة قريبة؟!
- ((لا بد أن المسيح اعتقد أن قدومه الثاني في سحائب النصر سيكون قبل موت معاصريه؛ هناك العديد من المقاطع التي تثبت هذا الظن: على سبيل المثال قال المسيح: "لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان" (متى 10/ 23) و قال أيضا: "الحق اقول لكم ان من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الانسان آتيا في ملكوته" (متى16 / 28). و هناك الكثير من المواضع (في الأناجيل) التي يظهر واضحا منها ان المسيح كان يعتقد أنه سيعود خلال حياة بعض معاصريه؛ هذا كان إيمان اتباعه الأوائل و أساس تعاليمه الأخلاقية؛ عندما يقول المسيح: "فلا تهتموا للغد.لأن الغد يهتم بما لنفسه" (متى 6 / 34) و ما شابه ذلك فإنه يقول ذلك لأنه كان يعتقد أن قدومه الثاني سيكون قريبا و لذلك فإن الأمور الأرضية تصبح بلا معنى.  لقد عرفت حقا بعض المسيحيين الذين يعتقدون أن قدومه قريب جدا؛ أحد الكهنة الذين كنت أعرفهم كان يرعب الناس بأن يقول لهم بأن قدوم المسيح الثاني أصبح قريباً جدا حقا، و لكن عندما رأى الناس أن هذا الكاهن كان يزرع الأشجار في حديقته هدأ روعهم. صدّق المسيحيون الأوائل هذه الأشياء و تخلوا عن أشياء عادية كزراعة الأشجار في الحديقة لأنهم أخذوا من المسيح إيمانه بعودته الوشيكة - في هذا الأمر لم يكن المسيح ذكيا كغيره و لم يكن حاملا للحكمة العليا)) - الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، "لماذا لست مسيحيا؟".

يخبرنا أحد كتّاب الأناجيل أن يسوع كان يطوف مبشرا باقتراب نهاية العالم (ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ : "تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ") متى 4-17 ؛ و كذلك أمر أتباعه (.. وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ) متى 10-7.

و من الواضح أن المسيح كان يؤمن أن هذه الدينونة قريبة فعلا، و جدا ؛ فبعد أن يسرد لأتباعه "علامات الساعة" كإظلام الشمس و القمر و سقوط النجوم و تزعزع السماوات، و عودته هو آتيا على السحاب ، يختم كلامه قائلا (اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ) متى 24-34؛ و في متى 23-36 يقول (اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَأْتِي عَلَى هَذَا الْجِيلِ!)؛ و نفس المعنى في مرقس 13-30 و لوقا 21-32.

و يؤكد للجميع أن بين الحضور من سيكون حيا حين ينتهي العالم و يقوم الموتى و يأتي هو في ملكوته المنتظر (فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ) متى 16-27،28 و مرقس 9-1 و لوقا 9-27.

و في مناسبة أخرى ينصح تلاميذه بنشر الدعوة في المدن اليهودية، مبشرا إياهم أن عودته قريبة جدا (وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ فَاهْرُبُوا إِلَى الأُخْرَى. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَانِ) متى 10-23.

و لاشك أن هذا شجع أتباعه كثيرا على المضي في مهمتهم، متحملين المصاعب و مترقبين النصر القريب على الأبواب.

و قبيل إعدامه، يتوعد يسوع الحاضرين بأنهم سوف يبصرون بأنفسهم قادما من وسط السحاب فيخاطبهم قائلا (وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ) متى 26-64 و مرقس 14-62.

هذه القيامة ستكون أهم علاماتها حدوث تدنيس في المعبد اليهودي، أو ما يطلق عليه "رجسة الخراب" و هو المصطلح الوارد في سفر دانيال ثلاث مرات ؛ فالمسيح ينذر أتباعه بانتظار القيامة فور حدوث هذا التدنيس الغامض (فَمَتَى نَظَرْتُمْ "رِجْسَةَ الْخَرَابِ" الَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ النَّبِيُّ قَائِمَةً فِي الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ - لِيَفْهَمِ الْقَارِئُ -فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ..) متى 24-15،16 ؛ و نفس المعنى في مرقس 13-14، أما في لوقا 21-20،21 فيتحدث عن حصار أورشليم بالجيوش كعلامة على نهاية الزمان ؛ ثم في متى و مرقس أيضا يكمل السياق متحدثا أيضا عن خراب أورشليم يليه مباشرة دمار العالم و إظلام الشمس و القمر تزعزع السماوات، ثم عودة ابن الرب قادما من بين السحاب ليحاسب الموتى الأحياء..إلخ.

و سائر النصوص في العهد الجديد تؤكد أن التلاميذ و الأتباع أيضا كانوا ينتظرون هذه القيامة قريبا جدا و يترقون عودة يسوع الوشيكة في حياتهم؛ كمثال واحد نقرأ في يوحنا الأولى 2-18 (أَيُّهَا الأَوْلاَدُ هِيَ السَّاعَةُ الأَخِيرَةُ. وَكَمَا سَمِعْتُمْ أَنَّ ضِدَّ الْمَسِيحِ يَأْتِي، قَدْ صَارَ الآنَ أَضْدَادٌ لِلْمَسِيحِ كَثِيرُونَ. مِنْ هُنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا السَّاعَةُ الأَخِيرَةُ)؛ و أيضا نجد ذلك في رؤيا يوحنا اللاهوتي و رسائل بولس و بطرس و يعقوب..إلخ ؛ و لا داعي لذكر أن تلك النصوص الواضحة قد وضعت المفسرين و الدفاعيين المؤمنين في مآزق محرجة، استلزمت الكثير من الجهد التأويلي و الترقيعي إياه، بشكل لا يعنينا مناقشته هنا.

المهم أن هذا الإنتظار للنهاية القريبة قد يفسر لنا الكثير جدا من تعاليم يسوع العجيبة، مثل طلبه من أعداءه عدم مقاومة الشر و التخلي عن الأملاك و عدم التفكر في الغد- فما الداعي لكل ذلك و العالم موشك على نهايته؟!

و لحسن حظ البشرية أن تلك العودة المشئومة، الشبيهة بأسوأ كوارث أفلام هولييود، لم تحدث؛ بل و لن تأتي أبدا مهما انتظرها المؤمنون بها لأكثر من ألفين سنة و مازالوا في الإنتظار ؛ ذلك لأنها لا تعدو محض خيال ديني متعصب بائس مهووس و خرافي.

الإرهاب الثالث و الأعظم : جهنم
- ((برأيي الشخصي كان هناك خلل كبير في أخلاق المسيح و هو أنه كان يؤمن بالجحيم. من ناحيتي لا يمكنني أن اعتقد أن الشخص الذي يتحلى بالأخلاق الإنسانية يمكن أن يؤمن بالعقوبة الأبدية. المسيح، كما تشرح لنا الأناجيل، كان يؤمن بالعقوبة الأبدية و كذلك يجد المرء في هذه الأقوال الغضب و الرغبة في الانتقام من البشر الذين رفضوا الإصغاء لمواعظه. و هذا الموقف ليس غريبا لدى المبشرين و هذا الموقف يضع ألوهيته في موضع الشك. على سبيل المثال لن يرى المرء هذا الشيء لدى سقراط الذي كان لطيفا و حكيما تجاه الناس الذين رفضوا الإصغاء له. أنا أعتقد أن هذا الموقف (من سقراط) هو أكثر حكمة و كرامة من الغضب. أنتم تتذكرون أقوال سقراط قبل موته و انتم تتذكرون الأقوال التي كان يوجهها بشكل عام للأشخاص الذين لا يوافقونه الرأي... المسيح يقول في الأناجيل: "أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم؟" (متى 23 / 33) هذا ما قاله المسيح لأناس لم يُعجبوا بمواعظه. في رأيي أن هذا الكلام ليس أحسن تصرف... لا أعتقد أن هناك إنسان يمتلك بعض الخير في نفسه سيوزع هذه الكمية من الخوف و الرعب في العالم... يجب أن أقول أن المعتقد الذي يعتمد على نار الجحيم كعقوبة للخطيئة هو معتقد شديد القسوة. هذا المعتقد جاء بالقسوة إلى العالم و بالتعذيب إلى أجيال كثيرة)) - برتراند راسل، "لماذا لست مسيحيا؟".

- ((إله موسى كان يستدعي القبائل الأخرى، بما فيهم قبيلته المفضلة، كي يعرضها إلى المجازر و الطاعون و حتى الإستئصال، و لكن بعد أن ينغلق القبر على ضحاياه كان أمره ينتهي معهم.. فقط مع مجيء أمير السلام صرنا نسمع تلك الفكرة المروعة عن المزيد من العقوبات و التعذيب للموتى)) – الكاتب الإنغليزي الأمريكي كريستوفر هيتشنز، كتاب "الله ليس عظيما".

من أكثر المفارقات التاريخية غرابة أن المسيحية، ديانة المحبة و السلام، هي أول ديانة تتضمن الإيمان بعقوبة عذاب إلهية أبدية للكفار و العصاة خالدين فيها: الجحيم!

قبل ذلك، و كما مر بنا، لم يكن معظم البشر يؤمنون بشكل واضح بوجود محاكمة و ثواب و عقاب بعد الموت؛ و حتى في الحضارة المصرية القديمة، أول من ابتكرت فكرة الحساب كان جزاء الشخص الشرير أن يتم إلتهامه من قبيل وحش خرافي فيتحول إلى الفناء؛ و ذلك رغم أن البعض تحدث عن وجود إشارات في بعض البرديات و من كتاب الموتى، تتحدث عن "بحيرات نارية" بداخل عالم الموتى تحت الأرض، مما يتشابه مع الفكرة المسيحية عن جهنم.

في العهد القديم يوجد ذكر لـ"الهاوية"، و هي حفرة القبر حيث يهبط الموتى و ليست مكان لتعذيب البشر؛ و لكن العهد القديم- كما قلنا- لا يتضمن عقوبات أخروية أبدية- إن مت فقد تخلصت من سلطة الدين و الكهنة.

فقط حين جاء أمير السلام و المحبة إلى الدنيا صار الناس مطاردون من الدين حتى بعد موتهم، و مدانون بعقوبات لن تنتهي أبدا.

الجحيم المسيحي
رأينا يسوع يقترح بتر الأعضاء و فقء الأعين لمنع الشهوات، بحجة أن ذلك أفضل من أن يتم طرحك في جهنم حيث النار التي لا تُطفأ و الدود الذي لا يموت، كررها عدة مرات؛ و سنجد نصوصا أخرى كثيرة تشرح طبيعة جهنم المرعبة هذه، و تهدد كل من تسول له نفسه أن يرتكب أيا من الذنوب المؤدية لها في نظر المسيحية (كأن تقول لأحد يا أحمق أو تقسم بالله أو تنظر إلى امرأة)، وصولا إلى أكبر ذنب و هو- طبعا- رفض الإيمان بيسوع.

و تخبرنا الأناجيل أنه منذ البداية، قام يوحنا المعمدان بالتنبؤ عن يسوع, قائلا عنه أنه "يحرق بنار لا تُطفأ" (الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ وَيَجْمَعُ الْقَمْحَ إِلَى مَخْزَنِهِ وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ) لوقا 3-17.

و حين جاء يسوع أكد لنا بنفسه أنه جاء ليلقي على الأرض نارا (جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟) لوقا 12-49.

مجرد تعبيرات مجازية؟ ربما؛ و لكن كلما تأملنا في النصوص سنجد أن مسألة الحرق هذه تبدو حقيقية تماما.

في موضع آخر يخبرنا المسيح أن النار عليها أن تصيب كل ما هو ليس صالحا (من وجهة نظره طبعا)؛ (كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ) متى 7-19، و أيضا في لوقا 3-9؛ و سنرى أن محاكم التفتيش لاحقا في اوروبا القرون الوسطى سوف تستخدم مثل تلك النصوص المقدسة لإحراق معارضيها.

و بما أن "من ليس معه فهو ضده" كما سمعنا من قبل، فمن الطبيعي أن كل من ليس معه فسيتم إلقاؤه في النار؛ و هذا ما يقوله مباشرة (أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجاً كَالْغُصْنِ فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ فَيَحْتَرِقُ) يوحنا 15-5،6.

و يبدو أن ذلك الطرح في النار – لجميع المخالفين- سيحدث فعلا بعد عودة يسوع الدرامية مرة أخرى في نهاية الزمان من أجل عقد محاكمة كبرى (دينونة) لمحاسبة البشر، حيث سيختار الصالحين من أتباعه فيجعلهم على يمينه و يبشرهم بأنهم سيرثوا الملكوت، بينما (يَقُولُ أَيْضاً لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ) متى 25-41.

و تتكرر الصورة بشكل أكثر وضوحا في مواضع أخرى عديدة، إذ نرى الملائكة تجر العصاة إلى النار حيث العويل و المعاناة الأليمة (يُرْسِلُ ابْنُ الإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ) متى 13- 41،42.

و ذلك التعبير "البكاء و صرير الأسنان" هو من تعبيرات يسوع المفضلّة، و يُذكر في العهد الجديد عدة مرات مقترنا بعذاب النار.

نار أبدية معدة لإبليس- حريق و بكاء و عويل و صرير أسنان و دود لا يموت؛ لا تبدو صورة مبهجة تماما!

جهنم: تعبير رمزي؟
"جي هنوم" أو "وادي هنوم" هو في الأصل اسم لوادي حقيقي يقع جنوب القدس، كان في الماضي مكانا مقدسا للوثنيين، حيث يحوي معبد لإله عتيق هو "مولوك"، و الذي كان يتم إلقاء القرابين البشرية من الأطفال الحية في فم تمثاله المشتعل- على ما ورد في العهد القديم (يشوع 15-8 و يشوع 18-16 و الملوك الثاني 23-10 و أخبار الأيام الثاني 28-3 و نحميا 11-30 و إرميا 7-31 و إرميا 32-35 و غيرها)

و مع زوال الوثنية، تحول المكان سيء الذكر إلى موضع للقمامة (مزبلة)، تحرق فيها المخلفات.

ثم حين جاء المسيح استخدم ذلك الإسم (جهنم) بمعنى مبتكر، للإشارة إلى المكان الذي سوف يتم فيه تعذيب الكفار بعد الموت.

منذ فجر الإنسانية و القدماء يرون البراكين تقذف حمما مشتعلة، فلعلهم استنتجوا من ذلك أن باطن الأرض يحوي بداخله بحيرات من هذا السائل الملتهب و المهلك – ثم لاحقا تكفّل الخيال الإنساني، مع رغبة الكهنة الدائمة في تخويف الأتباع، بجعل ذلك المكان تحت الأرضي أشبه بمعتقل تعذيب مروع، لكل متوفي لا يطيعنا و يتبع تعليماتنا- و هي وسيلة عبقرية للتحكم في الناس حتى بعد الموت.

و منذ القدم، وجد بين المسيحيين عدة آراء خلافية حول جهنم، طبيعتها و مكانها و حال من بداخلها.

ضمن تلك الآراء نجد رأيا يحاول التخفيف من بشاعة المسألة، بالقول أن حالة ما بعد الموت هي حالة روحانية صرفة؛ و بالتالي فإن جهنم الموصوفة في الكتاب المقدس هي مجرد "تعبير مجازي رمزي" لحالة الحزن و الأسى الروحانية التي تصيب غير المؤمن كنتيجة طبيعية لاختياره الحر بالإنفصال عن الله، و أنه بالحقيقة لا يوجد عذاب مادي، فالله أرحم من أن يعذب البشر، و لا يوجد نار فعلية تلتهم الأجساد كالنار التي نعرفها في دنيانا، بل كل ما هنالك هو معاناة روحانية لا يعدو كونه نتيجة أوتوماتيكية لاختيارك بالبعد عن الله.

هكذا يظن صاحب هذا الكلام أنه قد تخلص من الصورة التقليدية الهمجية، عن الإله الغاضب الذي يقرر تعذيب كل من لا يؤمن به بالنار و الحريق.

لكن المشكلة الأولى أن هذا التفسير غير منصوص عليه في الكتاب المقدس من قريب أو بعيد، بل هو تأويل متأخر مخترع من قبل تيارات مسيحية معينة؛ بينما على الجانب الآخر يوجد كهنة و رجال دين آخرون يختلفون مع تلك النظرة و يؤمنون بأن جهنم الأخروية هي- كما يتضح من نصوص الكتاب المقدس- عبارة عن نار حقيقية تحرق جلدك و لحمك و أعصابك و عظامك، إلا أنها لن تميتك أو تفنيك، حتى يستمر عذابك- حتى أن بعض آباء الكنيسة القدامى أعلنوها صراحة بأن مكان جهنم موجود تحت الأرض ينزل إليها الكفار بعد الموت و الدينونة.

و ببساطة لو أراد المسيح أن يقول أن جهنم رمزية لا وجود فعلي لها لقالها مباشرة : (يا شباب انتبهوا، جهنم التي أتحدث عنها رمزية لا وجود فعلي لها)؛ سهلة أليس كذلك؟ و لم تكن تكلف سطرا واحدا من الكتاب يريح به الجميع من الجدل و الخلاف.

 لكنه لم يفعل؛ بل على العكس، فقد وصفها بوضوح بأنها بحيرة نار لهيب، تأكل، أبدية لا تُطفأ، و تحتوي على الدخان، و على قيود، و أنها مكان عذاب، في مرقس 9- 43 و 44 و 45 و 46 و 47 و 48، و لوقا 16- 24 ، و تسالونيكي الثانية 1-8،و  رسالة العبرانيين 10-27، و يهوذا 1-6 و 7، و رؤيا يوحنا اللاهوتي 14-11، 20-10،20-14،20-15،21-8، و غيرها.

في المقابل ليس هناك أي نص يقول بأن الأرواح فقط هي التي تتعذب؛ بل على العكس، هناك تأكيد على أن الأجساد هي التي تعاني و تحترق؛ منها ما جاء بإشارات غير مباشرة، كحديثه عن "صرير الأسنان" (و حسب علمي لم نسمع عن روحا تصر أسنانها من قبل!)، و منها تعبيرات أكثر صراحة تتحدث عن حريق الأجساد، كالقول الذي مر بنا في متى 5-28،30 (فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ) متى 5- 27،30.... يُلقى جسدك- جسدك- في جهنم.

ثم في موضع آخر يخوفنا المسيح من الله الذي يحرق الأجساد في جهنم (وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلَكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ) متى 10-28.... يُهلك الجسد- الجسد- في جهنم.

و في الآيات الأخرى (..خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمَ النَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ) متى 18-8،9 ؛ و كذلك لم نسمع عن روحا لها يدان و رجلان و عينان، فالحديث الواضح هو عن "إلقاء في النار" و عن عذاب جسدي- لا مجاز و لا رمزية و لا روحانيات.

أما وجود الدود، و الذي يرى الرمزيون أنه يتنافى مع مادية النار (كيف يتواجد دود في النار؟) ، فمردود عليه بتأكيد يسوع أن الدود "لا يموت" مما يؤكد أن له خاصية مختلفة عن الدود الدنيوي الذي يموت في كل الأحوال ؛ و هذا مع تذكر أن الكتاب المقدس تحدث أيضا عن وجود نار مشتعلة في شجرة (و هي شجرة العليقة التي كلم الرب موسى عندها) و لم يقل أحد أن النار هنا رمزية لا وجود لها؛ مع ملاحظة أن وجود الدود دليل أن المسرح كله مادي - لم نسمع عن دود روحاني، كما لم نسمع عن أسنان روحانية.

أما وجود الظلمة في جهنم، فهو - و على العكس مما يقوله الرمزيون أيضا عن استحالته مع النار المادية- ليس مستغربا بالمرة مع الحريق بالكبريت ، و هو التعبير المُستخدم في الكتاب لوصف جهنم؛ فالنار الكبريتية بالفعل لا تنتج سوى ضوءا خافتا يميل إلى اللون الأزرق؛ و من يرى بركانا من الكبريت مشتعلا في الليل فسيجد مشهدا واضحا لنار تشتعل وسط الظلمة- هذا ما رآه القدماء و نقلوا تلك الصورة في تصوراتهم الدينية.

و في مناسبة ما يحكي يسوع قصة عن شخص يُدعى لعازر، و هو رجل مسكين فقير يتسول باستمرار لدى شخص غني؛ و حين مات الإثنان ذهب لعازر إلى الجنة، بينما الغني ذهب إلى جهنم (فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ فَنَادَى: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ ارْحَمْنِي وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَِعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هَذَا اللهِيبِ) لوقا 16-23.

هاوية عذاب، و لهيب معذب يجعله يطالب بماء ليبرد لسانه، لسانه ؛ لا تبدو كحالة معاناة روحانية، بل تبدو – ببساطة- كهاوية نار!

و لا أدري لو كان يريد إخبارنا بأنها نار حقيقية مادية ذات لهيب يحرق و يعذب، فما الذي كان مطلوبا منه أن يقول أكثر من ذلك؟!

أما عن الفهم الرمزي للنصوص، فيفتح الباب لفهم كل شيء على أنه مجرد رمز لم يحدث؛ من أول خلق الله لآدم مرورا بالطوفان ثم قصص الآباء و خروج اليهود من مصر وصولا إلى حياة يسوع نفسه و معجزاته و صلبه و قيامته- إذ يمكن القول أن الكتاب المقدس لا يقصد أن أيا من تلك الأمور حدثت فعلا بل هي مجرد رموز، مما سينتهي بنا إلى العبث الكامل و سقوط الديانة من أساسها.

الواضح أن المسيح هنا كان يؤمن بالحقيقة الحرفية لتلك الأحداث مثل الطوفان و هلاك سدوم و عمورة، كما يؤمن بالحقيقة الحرفية للدينونة و لجهنم، حتى أنه قارن بين الإثنين في مواضع مختلفة.


رأي اللاهوتيين
ننقل إلى موسوعة الكنيسة الكاثوليكية Catholic Encyclopedia

و 
تحت عنوان "الجحيم"، نقرأ: "ألم الحواس، هو عذاب النار الذي يُذكر كثيرا في الكتاب المقدس.  حسب العدد الأكبر من علماء اللاهوت فمصطلح "النار" يدل على نار مادية، و بالتالي نار حقيقية؛ و نحن نتمسك بذلك التعليم على أنه صحيح و حقيقي".

و بعدها يقول "قلة من الآباء أيضا فكروا في تفسير مجازي؛ رغم ذلك فالكتاب المقدس و التراث يتكلمان مرارا و تكرارا حول نار الجحيم، و لا يوجد سبب كافي لنأخذ المصطلح على أنه تعبير مجازي".

و مع الخلاف حول مكان جهنم، يشير النص إلى أن الكتاب المقدس يُفهم منه أن الجحيم هو عبارة عن هاوية داخل الأرض، يهبط إليها العصاة "فاللاهوتيون بشكل عام يقبلون الرأي القائل بأن الجحيم تقع بداخل الأرض"؛ و يقتبس مقولة عن القديس أوغسطينوس يقول فيها أن جهنم تحت الأرض

أما مسألة انفصال العصاة عن الله، فسيمكننا فهمه ببساطة لو تذكرنا أن الله- حسب الكتاب المقدس- يسكن في السماء؛ هكذا يكون ابتعاد العصاة ابتعادا حقيقيا حين يكونون هم تحت في أعماق الأرض؛ و بذلك يكتمل المعنى بوضوح و سلاسة دون داعي لافتعال معاني مجازية لنصوص الكتاب المقدس.

و يستمر السياق ليتحدث عن أنواع العذاب المختلفة- المادية و النفسية- في جهنم حسب ما ورد في نصوص الكتاب المقدس ؛ مؤكدا في نفس الوقت أنه هذا يعد عذابا حقيقيا أبديا لن ينقطع و لن ينتهي.

الإله المسيحي يعذب البشر
على عكس ما يوحي الجدل المعتاد حول طبيعة الجحيم ، ففي الحقيقة ليس هناك فارق جوهري بين أن يكون الألم ماديا أو معنويا؛ في كل الأحوال يمكن الإتفاق على أن جهنم هي مكان، مخيف سيء جدا يمتلئ بالمعاناة و الألم ، حتى أن الكتاب يمتلئ بنصوص التخويف و الإرهاب منها، إلى درجة أن المسيح يخبرنا أن العيش بذراع و أرجل مبتورة أوأعين مقلوعة أو أعضاء تناسلية منزوعة هو أهون كثيرا من التواجد في عذابها (المادي أو الروحاني، لا فرق؛ في كل الأحوال يكون الدين هنا قائما على التهديد و الإرهاب و التخويف للمخالفين).

و يمكن الإتفاق أيضا على أن الله هو من قرر أن تكون جهنم البشعة هذه هي مكان (أو حالة) ليس فقط القتلة و المجرمين و المغتصبين، و إنما كل من لا يؤمن بالمسيح، حتى لو كان أكثر الناس صدقا و إخلاصا و أمانة و كرما و عفة و سماحة و حبا للآخرين – كل ذلك لا يهم طالما لم تقبل يسوع كمخلّص.

"نتيجة طبيعية" أم "عقوبة"؟
 و من العبث هنا- حتى في رأي كثير من المسيحيين- أن نحاول تبرئة الله من ذلك العقاب القاسي، و القول بأن دخول غير المسيحي إلى جهنم سيكون من قبيل "النتيجة الأوتوماتيكية" لاختياره الحر ؛ فحتى ذلك القول- إن صح- لن يعفي الله من المسألة، بصفته الخالق المفترض و المسبب الأول لكل شيء و المقرر لطبيعة الوجود و آلياته و أسبابه و نتائجه و المحدد لعلاقات الأشياء ببعضها البعض، فهو بالأساس مخترع تلك الآلية المزعومة و منظمها؛ هو من قرر أن من لم يؤمن به فسوف يعاني و يتألم إلى الأبد، و هو من قرر اختزال العلاقة معه في شخص واحد بعينه- مما لا يعد امتحانا له علاقة بالعدل أو الحكمة أو الرحمة أو حتى المنطق السوي السليم.

و حين يقول أحدهم أن دخول غير المؤمن إلى جهنم هو من قبيل "النتيجة الطبيعية لاختياره الحر"، و يشبه المسألة بشخص متهور يقوم بنفسه بوضع يده في النار فيحترق، أو بمعتوه يقفز من الطابق العاشر فيموت، فهو هنا يخدع نفسه أو يحاول خداع المستمع.

و الخدعة تكمن في الخلط- بخفة يد- بين "النتيجة الطبيعية للأشياء" من ناحية، و بين "أفعال الله" من ناحية أخرى؛ و الفارق الكبير أن الأولى لا تحتوي عدلا و لا يتوقع منها أصلا منطقا أو حكمة : لا أحد يصف الطبيعة بالعدل، و لا أحد يزعم أن الحريق و الموت هو "جزاء عادل" لمن يضع يده في النار أو يقفز من مرتفع.

أما أفعال الله، فطالما وصفه المؤمنون بالعدل و الرحمة و الحكمة و أنه مسئول عن خلق الكون على ما هو عليه، فينبغي و يتوقع أن تكون نتائج الفعل متناسب مع الجرم: و ذلك هو العدل – و هو ما لا نتوقعه من الطبيعة العمياء.

هنا صاحب تلك المقولة يحاول عبثا تبرئة الله من العقاب الظالم البشع- عذاب أبدي في جهنم- غير المتناسب بالمرة مع "الجرم" (و هو عدم الإقتناع بدعوة نجار يهودي عاش في فلسطين منذ ألفين سنة، أو اتباع دعوة شخص آخر غيره)، و يحاول إحالة الأمر إلى "طبيعة ما"- و يتناسى أن إلهه هو خالق تلك الطبيعة و محدد شروطها و قوانينها، و بالتالي لا يمكن إعفاؤه من المسئولية المباشرة عن عدم عدالة ذلك الحكم.

و المسيح حين يحذرنا من المرض أو الدينونة أو الجحيم، فهو لا يحذرنا من كوارث طبيعية لا دخل له بها، و إنما هو يحذرنا- يهددنا- بكوارث عمدية و مقصودة تماما يقر هو بها و لا يرى ظلما فيها، بل لعله شارك شخصيا في تنسيقها ووضع أسسها حين كان في السماء، مع الأقنومين الآخرين.

الدفاعيون يقولون أنه يحبك فوضع لك طريق النجاة و الخلاص، و بالتالي فلو لم تختر أن تكون في علاقة معه فأنت ترفضه و بالتالي فعليك أن تتحمل ألم المعاناة كنتيجة طبيعية لاختيارك الحر - لأول وهلة هي تبدو تخريجة لطيفة جدا تمنحهم مهربا من فكرة أن الإله هو كائن سادي أناني نرجسي يعاقب من يرفض الإيمان به بأن يلقيه في حفرة نارية كبيرة ، و هو الواضح أنه يفعله في كتابهم المقدس.
ثمه هل هذه التخريجة الدفاعية - أنه يحبك فوضع لك طريق النجاة و الخلاص، و بالتالي فلو لم تختر أن تكون في علاقة معه فأنت ترفضه و بالتالي فعليك أن تتحمل ألم المعاناة كنتيجة طبيعية لاختيارك الحر-  لو سلمنا بها، هل تحل المشكلة؟

لا
.

حتى طبقا لهذا السيناريو فإله المسيحية هنا لن ينجو من تهم الظلم و السادية و النرجسية؛ فهو منذ البداية ربط المحبة و العلاقة معه بالنجاة من عذاب أليم أبدي؛ هو خلق الإنسان بحيث يحتاج إليه و لا يشعر بالراحة إلا معه
!
هل هذا كان بديله الوحيد و هو يخلقنا؟ حتما لا، فقد كان بإمكانه أن يخلقنا بحيث نشعر بالراحة معه، و لا نشعر بشيء بعيدا عنه، فيكون الإختيار منطقيا لأنه بين نعيم القرب من الحبيب مقابل حياد البعد عنه - وهنا من يرفض المسيح سيكون مصيره الفناء مثلا أو البقاء في حالة مشابهة لما كان فيها في الدنيا حيث لم يكن في علاقة مع الإله و لم يكن يشعر بالمعاناة أيضا
.
لكن إله المسيحية، حسب ذلك السيناريو الدفاعي، اختار أن يخلق الإنسان معرضا لجميع أنواع الألم و العذاب بمجرد أن يبتعد عنه؛ و هو يبدو سلوكا غريبا جدا لإله يفترض أنه يحب الكل
!
هذا الإله ربط المحبة معه بالنجاة من معاناة- جسدية أو روحانية لا فرق - و هذا يتنافى مع المحبة الحقيقية بل و مع الإختيار الحقيقي.
هو هنا يشبه طبيبا يمتلك المستشفى الوحيد في المدينة و يزعم أنه طبيب للجميع، ثم هو يشترط على كل مريضة أن تتزوجه و تعيش معه إلى الأبد حتى يقبل علاجها ، و لو رفضت المرأة أن تتزوجه - لأي سبب- فهو يهز كتفيه و يقول لها لن أعالجك إذن، و لا يمكنك لومي لأنك قد اخترت بإرادتك الحرة أن لا تحبيني و تمنحيني عقلك و نفسك و جسدك، و عليك تحمل نتيجة اختيارك
.
هل هذا الطبيب سنعتبره شخصا يمتلك أي نوع من المحبة أو العدل أو النزاهة أو حتى النضوج؟ لا أعتقد، بل هو شخص ضيق العقل مستغل أناني و حبه ناقص و مشوه و محدود جدا.
بعد ذلك، نكرر أن هذا السيناريو الدفاعي نسمعه من المسيحيين و لكن لا نقرأه في كتابهم المقدس، بل إن قراءة بسيطة في العهد الجديد لا نجد حديثا عن عذاب روحاني فقط أو معاناة نتيجة طبيعية أوتوماتيكية للإنفصال عن الله أو أن الإنسان "هو الذي يختار دخول جهنم"..إلخ، بل يوجد حديث واضح أن العذاب جسدي أيضا نتيجة الإحتراق في بحيرة نارية تقوم الملائكة بإلقاء كل من رفض الإيمان بيسوعهم فيها إلقاءا (مثلا متى 13-42) – و هو مشهد لا يبدو أوتوماتيكيا بحال، كما لا يبدو روحانيا.

لماذا كل تلك التهديدات؟
الأديان غالبا تسعى إلى حماية نفسها أولا، ثم الإنتشار ثانيا عن طريق ضم المزيد و المزيد من البشر؛ و هي لتحقيق ذلك لا تدخر وسعا في استخدام القوة المادية لفعل ذلك، بالإستعانة بالسلطة أو القمع أو الإرهاب بالسلاح.

و لكن يسوع لم يتمكن من امتلاك القوة المادية المناسبة؛ لا شريعة و لا قانون و لا شرطة يجبر بها الناس على اتباعه و طاعته و الإلتزام بتعاليمه؛ و لم يكن الرومان ليسمحوا بظهور مراكز قوة سياسية في تلك المنطقة تحديدا؛ فكان البديل الوحيد أمامه هو الإرهاب المعنوي بالتهديد المؤجل، منذرا – في نوبات غضبه العصبية- جميع المخالفين، بالمعاناة الدنيوية بالمرض و الموت و بالهلاك الأخروي بالدينونة و بالعذاب الأبدي في بحيرة نار و كبريت.

هنا المسيح لا يبدو مختلفا كثيرا عن طفل في مدرسة يتشاجر مع زملاؤه، و لأنه لا يمتلك القوة الكافية لهزيمتهم فهو يهددهم قائلا إن أبي سيأتي غدا ليضربكم.

و بالتالي فهو يحرص دوما على زرع الخوف- أكثر من أي شيء آخر- في قلوب أتباعه (وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلَكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ) متى 10-28.

(وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ يَا أَحِبَّائِي: لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَبَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ. بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّنْ تَخَافُونَ: خَافُوا مِنَ الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هَذَا خَافُوا!) لوقا 12-4،5.

يكرر أمير المحبة ذكر الخوف من أبيه السماوي أربعة مرات في سطرين؛ و ينصح: "خافوا يا أحبائي.. خافوا".

هكذا فالمسيحية تضعنا أمام إله محب جدا، إلى درجة أنه مستعد لتعذيبنا إن لم نحبه! – و هو حب يبدو إجباريا و عجيبا و شاذا بشكل أشبه بالإغتصاب.


لمن الخلاص تحديدا؟
قلنا أن الهلاك و العذاب سيكون على كل من لا يؤمن بالمسيح؛ و هذا يتركنا مع القلة المختارة للنجاة،و هم أتباع يسوع المخلصين و فقط.

النصوص واضحة تماما في هذا الإطار، أنه لا خلاص إلا عن طريق يسوع (
وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ) أعمال الرسل 4-12، و هو يقول عن نفسه أنه الكل في الكل (أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي) يوحنا 14-6، و يقرن نفسه بالله (اَلَّذِي يُبْغِضُنِي يُبْغِضُ أَبِي أَيْضاً) يوحنا 15-23، و يؤكد أن من ينكره فسيتم إنكاره أمام الله (فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ وَلَكِنْ مَنْ يُنْكِرُنِي قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضاً قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ) متى 10-32،33؛ فالمسألة كلها تدور حول ذاته هو.

ثم يهدد الكتاب بصراحة كل من لا يؤمن بالمسيح و يتعمّد، بالإدانة و غضب الله (اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ) يوحنا 3-18، (مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ) مرقس 16-16،(اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ) يوحنا 3-36.

و تمتد سلطة الخلاص الحصري تلك من الله إلى يسوع ثم إلى التلاميذ، الذين يصفهم بأنهم صفوة البشر (مِلْحُ الأَرْضِ) متى 5-13، حيث يقول لهم (اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي وَالَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي وَالَّذِي يُرْذِلُنِي يُرْذِلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي) لوقا 10؛ فمن يرفض سماع الرسل فهو معرض أيضا للهلاك.

هذا و قد رأينا سابقا مصير كل مدينة ترفض طاعة تلاميذ يسوع، حيث يطلب منهم أن ينفضوا أرجلهم من غبارها، لأن مصير تلك المدينة سيكون أسوأ من مصير سدوم و عمورة (متى 10- 14،15 و لوقا 10-10،15).

و يبدو أن خطيئة إنكار يسوع هي  في نظر يسوع أكبر خطيئة يمكن أن يرتكبها إنسان ، حتى أن كل خطيئة قبلها لا وزن لها (لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيَّتِهِمْ) يوحنا 15-22 (و لنا أن نتساءل: لماذا جئت و كلمتهم إذن؟ أما كان الأفضل أن تتركهم بلا خطيئة؟!).

أما و أنهم لم يؤمنوا به، فقد تم وصمهم بالخطيئة إلى الأبد (
إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ) يوحنا 8-24.

هكذا لا مفر لك إلا الإيمان بالمسيح، و الذي أكد مرارا إنه إن لم تكن معه فأنت ضده؛ و بالتالي فأنت هالك.

أما المحظوظون الذين قبلوا يسوع، فهم وحدهم الذين يطلب لهم الحياة الأبدية (
مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ الْعَالَمِ بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ) يوحنا 17-9.

و لكن ألا يعد ذلك إعلانا بالإدانة و الهلاك لأكثرية البشر: الذين لم يؤمنوا بالمسيح أو آمنوا بدين آخر أو آمنوا بالمسيحية و لكن على مذهب خاطئ..إلخ؟ و ألا يترك ذلك فرصة النجاة لقلة قليلة من البشر؟!

حتما ؛ و هذا ما يؤكده يسوع بتعبير صريح (ادْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!) متى 7- 13،14.

إذن يبدو أن الخلاص المسيحي المزعوم له وجه آخر لا يجب إغفاله: و هو إعلان الهلاك و الإدانة لجميع البشر الآخرين.


فكيف يكون الخلاص لأولئك المحظوظين؟
لو أردنا تلخيصها في كلمة واحدة فهي : بالدم!

منذ القدم و البشر يرون أنه حين يسيل دم الكائن بغزارة يموت، و بالتالي اعتقدوا أن الحياة في الدم؛ و نجد هذا المعتقد في اليهودية (لانَّ نَفْسَ الْجَسَدِ هِيَ فِي الدَّمِ) لاويين 17-11 و 17-14؛ و نفس المعنى نجده في تكوين 9-4.

و منذ القدم أيضا و البشر يستخدمون التضحية بالدم لغفران الذنوب و الوقاية من الشر؛ فكانوا يذبحون حيوانا- و أحيانا إنسانا – ظنا منهم أن دمه المسال سيمنح الحياة و المغفرة للآخرين؛ و هذه ببساطة هي فكرة القرابين.

و هذا أيضا نجده عند اليهود، فذبح ثور أو ماعز و تقديمه للكهنة ضروري لغفران الذنوب و إزالة النجاسات (لِكَيْ يَاتِيَ بَنُو اسْرَائِيلَ بِذَبَائِحِهِمِ الَّتِي يَذْبَحُونَهَا عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ وَيُقَدِّمُوهَا لِلرَّبِّ الَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ الَى الْكَاهِنِ وَيَذْبَحُوهَا ذَبَائِحَ سَلامَةٍ لِلرَّبِّ. وَيَرُشُّ الْكَاهِنُ الدَّمَ عَلَى مَذْبَحِ الرَّبِّ لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ وَيُوقِدُ الشَّحْمَ لِرَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ) لاويين 17-5،6.

و يقرن ذبح الخطيئة بطقوس تتضمن رش دم الأضحية و مسحه و صبه (وَانْ سَهَا كُلُّ جَمَاعَةِ اسْرَائِيلَ وَاخْفِيَ امْرٌ عَنْ اعْيُنِ الْمَجْمَعِ وَعَمِلُوا وَاحِدَةً مِنْ جَمِيعِ مَنَاهِي الرَّبِّ الَّتِي لا يَنْبَغِي عَمَلُهَا وَاثِمُوا ثُمَّ عُرِفَتِ الْخَطِيَّةُ الَّتِي اخْطَاوا بِهَا يُقَرِّبُ الْمَجْمَعُ ثَوْرا ابْنَ بَقَرٍ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ. يَاتُونَ بِهِ الَى قُدَّامِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ وَيَضَعُ شُيُوخُ الْجَمَاعَةِ ايْدِيَهُمْ عَلَى رَاسِ الثَّوْرِ امَامَ الرَّبِّ وَيَذْبَحُوا الثَّوْرَ امَامَ الرَّبِّ. وَيُدْخِلُ الْكَاهِنُ الْمَمْسُوحُ مِنْ دَمِ الثَّوْرِ الَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. وَيَغْمِسُ الْكَاهِنُ اصْبِعَهُ فِي الدَّمِ وَيَنْضِحُ سَبْعَ مَرَّاتٍ امَامَ الرَّبِّ لَدَى الْحِجَابِ. وَيَجْعَلُ مِنَ الدَّمِ عَلَى قُرُونِ الْمَذْبَحِ الَّذِي امَامَ الرَّبِّ فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. وَسَائِرَ الدَّمِ يَصُبُّهُ الَى اسْفَلِ مَذْبَحِ الْمُحْرَقَةِ الَّذِي لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ) لاويين 4-13,18.

و بغض النظر عن أن الذبائح و القرابين في معظم الحضارات كانت وسيلة ممتازة و مضمونة ليحصل الكهنة النهمين على إمداد مستمر من اللحم المشوي و المملح دون مقابل ، إلا أن فكرة القرابين عموما، حتى البشرية، أي مفهوم "التضحية بالفرد لإنقاذ المجموع"، ربما تعود إلى أصول نفسية عتيقة نابعة من خبرات الإنسان الأول ؛ فقد لاحظوا مثلا أن الحيوان المفترس الذي يطارد مجموعة من البشر حين يمسك بأحدهم سيكتفي به و يترك الباقين، مما يجعل مقتل الواحد نجاة لغيره، و الجندي الذي يبذل نفسه في الحرب طوعا سيموت فداءا للمجموع ؛ بل و حين يكون هناك نزاع ثأري بين قبيلتين يهدد بحرب إبادة شاملة، قد يقوم الطرف الأضعف بتقديم بعض شبابه للتضحية أمام الطرف الأقوى، معلنا بذلك إذعانه لذلك الأخير و اعترافه بسلطته، مما يعد مقتل ذلك "القربان البشري" مجلبة للسلم العام و نجاة لباقي القبيلة من الهلاك.

من هنا ترسخت في الضمير الجمعي الإنساني فكرة أن التضحية عموما – بالدم- قد تكون لازمة لإنقاذ حياة الآخرين.

و بما أن الآلهة البدائية في أصولها هي رموز سياسية لملوك تحكم العالم و تحاكم البشر و تطلب منهم الطاعة و الخضوع..إلخ، فكان من الطبيعي أن يتم قياس التعامل مع الآلهة إلى التعامل البشري؛ فلو أردت تجنب غضب الآلهة و استحضار رضاها فعليك دفع الثمن و التضحية بما عندك، فلا شيء مجانا حتى في عالم الآلهة.

و قد وجدت منذ القدم أشكال متباينة من التضحية، بالبشر (و أشهرها ما كان يحدث في حضارة الأزتيك مثلا في أمريكا الجنوبية)، و بالحيوانات كالماعز و الكباش (كما كان يحدث في مصر القديمة) ؛ و من يتأمل قصة النبي إبراهيم و أمر الله له بذبح ابنه، ثم عدوله عن ذلك في آخر لحظة و استبداله بكبش، يجد أن القصة تعبر بوضوح عن انتقال رمزي للمجتمع الإسرائيلي القديم من التضحية بالأبناء (التي كانت شائعة في كنعان و ذكرتها التوراة مرارا) إلى طقس التضحية بالحيوانات- فالقصة المكتوبة تعطي شرعية لهذا الإنتقال و تفسره.

و إلى جوار القرابين البشرية و الحيوانات، وُجدت -قبل يسوع أيضا- الآلهة التي تموت فيكون موتها حياة للشعب؛ و تجلى ذلك في آلهة الخصب و الحصاد و المزروعات، كأوزوريس و تموز و أتيس و ديونيسيس-  و هو كذلك تعبير رمزي عن موت الأرض ثم عودتها إلى الحياة مرة أخرى بالحياة  و الحبوب و الثمار.

القربان المسيحي
- ((هي الإيمان بأن زومبي يهودي، كان أبا لنفسه، يمكنه أن يجعلك تعيش إلى الأبد، إذا أكلت لحمه رمزيا، و تخاطرت معه ذهنيا لتخبره إنك تقبله كسيدك و مخلصك، حتى يستطيع أن يزيل عن روحك لعنة شريرة، وُجدت في الإنسانية نتيجة أن امرأة مخلوقة من ضلع أقنعتها حية متكلمة أن تأكل من شجرة سحرية)) – جويل غروس، مُعرفّا المسيحية، في كتاب "دينك كاذب".

- ((قول شهير للمعلم هو الآتي: "إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي فليس لكم حياة فيكم"؛ هذا القول ليس فقط وحشي و عبثي، و إنما هو أكثر عبثية من العبثية ذاتها، و أكثر وحشية من أي وحش؛ أن يتوجب على إنسان أكل لحم بشر أو شرب دماء، و أن يتحصل من ذلك على الحياة الأبدية!- قولوا لنا، في الترويج لهذا النوع من الطقوس، ألا تقلصون الوجود الإنساني إلى بربرية غير مُتخيّلة؟!)) – الفيلسوف الوثني فرفريوس الصوري، في معرض نقده للمسيحية.

- ((لا يوجد خلاص إلا بدم المسيح، جميع الأعمال الصالحة مهما سمت، مهما علت، مهما كملت، لا يمكن أن تخلص الإنسان بدون دم المسيح)) – البابا شنودة الثالث، من كتاب "الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي".

- ((يسوع المسيح، الذي يظهر أنه ولد من عذراء، خدع الموت، و صعد بجسده إلى السماوات، يمكن أكله الآن في شكل بسكويتة)) – الفيلسوف و عالم الأعصاب الأمريكي سام هاريس، في "نهاية الإيمان".

المسيحية أخذت تلك الفكرة (الخلاص عن طريق التضحية) و أعادت صياغتها بشكل ينطبق على يسوع نفسه، الذي يأخذ شكل إله متجسد تم قتله\ذبحه من أجل فداء خطية البشر.

أي خطية؟ ليس بالأساس ذنوبنا الإنسانية (مثل القسم بالله و النظر إلى النساء) ؛ و إنما المقصود هو حالة الخطيئة التي دخل إليها البشر قديما منذ أكل آدم من الشجرة.

حسب التفسير المسيحي للتوراة، فأكل آدم و حواء من الشجرة أدخل الموت و الخطيئة إلى النسل الإنساني؛ و الوسيلة الوحيدة لإزالة تلك اللعنة هي – خمن- إقامة ذبيحة كبرى و إسالة دماء؛ فكما يقول العهد الجديد (وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيباً يَتَطَهَّرُ حَسَبَ النَّامُوسِ بِالدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!) عبرانيين 9-22.

و تبعا لحكم الخطيئة الهائل الذي يشمل الجميع، فالذبيحة هذه المرة يشرف عليها الله نفسه، فيترك ابنه يتم قتله، قربانا لنفسه، لكي تتحقق المغفرة.

و في مواضع كثيرة من الكتاب المقدس نجد تأكيدا لتلك المقارنة، بين ذبائح غفران الذنوب في الفكر الوثني و اليهودي، و بين التضحية التي قام بها المسيح باعتباره القربان الأكبر، حين لا تكفي ذبائح الثيران و التيوس كل سنة لمحو جميع الخطايا (العبرانيين 10-1،14).

و في مواضع كثيرة يتكرر تشبيه المسيح بالحمل أو الخروف المذبوح، فهو (حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ) يوحنا 1-29، و هو رمزيا (حَمَلٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ) 5-6، (فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا) كورنثوس الأولى 5-7 ، فيكون الفداء قد اكتمل لأنه تم (بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ) بطرس 1-19؛ و بذلك يتم غفران الخطايا (بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا) أفسس 1-7.

و يقول بولس (وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلَّهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً) أفسس 5-2؛ و هو هنا يشير إلى وصف توراتي للذبائح الحيوانية ، أنها تمثل "رائحة سرور للرب".

و في التوراة- كما رأينا- نجد أيضا نصوصا عن النجاة بالدم، و التطهر بالدم، غسل الثياب بالدم، و أخيرا شرب الدم من أجل الحياة؛ و يؤكد الكتاب المقدس على كل تلك المقارنات؛ فيشير مثلا إلى أن "رش الدماء" على بيوت الإسرائيليين في حادثة الخروج الموسوي كانت ضرورية، لكي يقوم الله بقتل أبناء المصريين فقط، و يرتد غضبه عن أبناء اليهود (العبرانيين 11-28 ؛ و يبشر المؤمنين بأنهم قد أتوا إلى العهد الجديد: إلى (يَسُوعَ، وَإِلَى دَمِ رَشٍّ) العبرانيين 12-24.

(لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى الْمُنَجَّسِينَ يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ الْجَسَدِ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ! وَلأَجْلِ هَذَا هُوَ وَسِيطُ عَهْدٍ جَدِيدٍ، لِكَيْ يَكُونَ الْمَدْعُّوُونَ - إِذْ صَارَ مَوْتٌ لِفِدَاءِ التَّعَدِّيَاتِ الَّتِي فِي الْعَهْدِ الأَوَّلِ - يَنَالُونَ وَعْدَ الْمِيرَاثِ الأَبَدِيِّ) العبرانيين 9- 13،15.

و كما بات واضحا لنا الآن، فيبدو أن ذلك  القتل و الدم ضروريان للغاية لكي يهدأ غضب الله المحتدم، و تتم المصالحة معه (قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ) رومية 5-10- و يصعب أن يفكر الإنسان في عبارة دينية أسخف من هذه العبارة الأخيرة، أو أكثر عبثية و لامعقولية بل و انحطاطا.

و كل ما عليك هو أن تقبل ذلك الخلاص – تؤمن بذلك الإبن المقتول- حتى تنجو من مصير الهلاك؛ هذا هو لب العقيدة المسيحية (لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ) يوحنا 3-16.

و لعل ذلك "لإنتحار المرتّب" للمسيح في إطار خطة كونية مزعومة يفسر لنا لماذا يسوع، و إن بدا أحيانا – خاصة في البداية- كداعية حصيف مراوغ حريص على سلامة نفسه و جماعته، فهو يبدو في أحيان أخرى- ربما لاحقا، و في واحدة من تناقضاته العديدة - و كأنه يسوق نفسه إلى الموت في مهمة انتحارية عمدية ؛ فهو يخرق القوانين و يحرض الجموع و يقاوم السلطة و يوحي بالعنف، ثم في محاكمته لا يكاد يدافع عن نفسه إلا بشكل ملتوي مراوغ، حتى ينتهي الأمر بإعدامه.

بالطبع لو أراد التضحية فكان بإمكانه أن يمسك سكينا و يذبح نفسه فيتحقق الفداء، و لكن هذا الفعل يفسد الحكاية كما أنه يعد انتحارا؛ و بالتالي كان الحل البديل هو الإستمرار في استفزاز السلطات حتى تقوم هي بالمهمة.

و هكذا يحتفل المسيحيون بشكل منتظم بتلك الأضحية و ذلك القربان، عن طريق طقس "كانيبالي" عجيب، هو أكل جسد المسيح في هيئة خبز و شرب دمه في هيئة خمر بداخل الكنائس، بناءا على أوامره هو و هو يعطي أتباعه خبزا (فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِلأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي") يوحنا 6-53،57.

و هكذا يتقمص يسوع دور القربان (الخروف) إلى أقصى الحدود؛ و
هكذا يتم إعادة إحياء و ترسيخ و الإحتفاء و الإحتفال بمبدأ شديد السخافة و الهمجية للعدل الإلهي، مستمد من الفكر الوثني في عصور بائدة ، و هو أن الغفران لا يتحقق إلا بدفع الثمن و هو القتل و إسالة الدماء: سواء كانت دماء الحيوانات أم دماء البشر أم دماء أبناء الآلهة.


تضحية سامية عظيمة أم ظلم و عبث؟
- ((لو كنت مدينا بالمال لشخص ما، و لا يمكنني الدفع له، و هو يهددني بأن يضعني في السجن، فهنا بإمكان شخص آخر أن يأخذ الدين على نفسه و يدفعه عني؛ و لكن لو أنني ارتكبت جريمة، فكل ظروف القضية قد تبدلت؛ العدالة الأخلاقية لا يمكنها أن تأخذ البريء مكان المتهم حتى لو البريء قدّم نفسه لذلك؛ و تصور أن العدالة قد تقوم بذلك يدمر مبدأ وجودها، فهي ليست عدالة إذن و إنما انتقام أعمى)) – الفيلسوف و السياسي الإنغليزي توماس بين، في كتاب "عصر العقلانية".

- ((..المسيحيون، مثلا، يعلنون أنه قد تم افتدائي بفضل تضحية بشرية تمت قبل آلاف السنين من ولادتي؛ أنا لم أطلب ذلك، و لكنت تنازلت عنه، و لكن ها هو: لقد تم إنقاذي سواء أردت أم لم أرد!.. و إن رفضت الهدية غير المطلوبة؟ حسن، يظل هناك بعض الحديث عن عقوبة أبدية من العذاب بسبب جحودي؛ هذا يعد أسوأ من دولة أخ أكبر (دكتاتورية)، لأنه لن يكون هناك أمل في انقضاءها في النهاية... في كل الأحوال، أجد شيئا منفرا في فكرة الفداء بالنيابة؛ و لا أقبل أن ألقي أخطائي الكثيرة على كبش فداء و أتوقعها أن تزول عني؛  نحن نسخر بحق من المجتمعات الهمجية التي تمارس تلك البشاعات في شكلها الحرفي؛ لا يوجد قيمة أخلاقية في تلك البادرة بالوكالة ؛ كما أشار توماس بين، يمكنك لو شئت أن تأخذ ديون شخص آخر عنه، أو حتى تأخذ مكانه في السجن؛ ذلك سيكون تضحية ذاتية؛ و لكن لا يمكنك أن تتحمل جرائمه و كأنها من صنعك أنت؛ فأولا أنت لم ترتكب تلك الجرائم و قد تكون تفضل الموت على القيام بها، و ثانيا فهذا الفعل المستحيل سوف ينزع عنه مسئوليته الفردية؛ و هكذا فمسألة الغفران و الصفح هذه تصدمني كونها غير أخلاقية و سيئة)) – الكاتب الإنغليزي الأمريكي كريستوفر هيتشنز، كتاب "الله ليس عظيما".


لا شك أن من أول مبادئ العدل تقتضي أن يتحمل الإنسان نتيجة أفعاله و لا يحملها شخص آخر ؛ و ربما ثاني مبدأ للعدل هو أن تكون العقوبة متناسبة مع حجم الجرم.

و لا شك أن المسيحية تضرب المبدأين في مقتل؛ فهي من ناحية تجعل المسيح –البرئ- يتحمل عنك ذنوبك بمقتله، و هو ما يعتبر، رغم النبل الظاهر، ظلما فادحا يخل بأبسط مبادئ العدل؛ ثم المسيحية من ناحية ثانية تجعل عقوبة رفضك الإيمان به هو عذاب الخلود في الجحيم، و هو حتما عقاب لا يتناسب مع حجم جرم رفض تلك الهدية، إن اعتبرناه جرما أصلا- و هو قسوة فادحة تخل بأبسط مبادئ الرحمة.

ذلك السيناريو المركّب يستدعي العديد من التساؤلات، ليس فقط عن عدل و رحمة الله، و لكن عن سبب وضعه لتلك القواعد العجيبة منذ البداية (أو قبوله بها)، فمن الذي جعل أجرة الخطية موت؟ و من الذي جعل سفك الدم لازما للغفران و الحياة؟ و لماذا يخلق الإنسان و هو يعلم طباعه الخاطئة ثم يحاسبه بهذه الشدة؟ و لماذا يستدرجه منذ البداية إلى الخطيئة بهذا الشكل؟ (لماذا مثلا لم يضع الشجرة بعيدا عن متناول آدم فيريحنا؟!)

ثم بخصوص القربان المسيحي، فيمكننا التساؤل مرة أخرى: هل من العدل أن يتحمل شخص بريء (المسيح) ذنوب الآخرين؟ و إن كان الله رحيما محبا بهذا الشكل فلماذا لم يغفر مباشرة بدون دم و تضحية؟

لماذا يضع الله لنفسه القواعد العجيبة ليضيق على نفسه ثم يدخل نفسه في متاهات و سيناريوهات هوليوودية لكي يدفع الثمن لنفسه؟!

بل إن هذا الوضع العجيب لتضحية يسوع يستدعي العديد من المعضلات المنطقية التي لا تخلو من طرافة: مثل هل يتوجب علينا كراهية الذين ساهموا في قتل المسيح، أم بالعكس يجب علينا شكرهم على إتمام الخطة التي ما كانت لتتم بدون مشاركتهم؟

و مثل سؤال خيالي قد يوجه لأي مسيحي: لو فرضا كنت موجودا بنفسك في زمان و مكان محاكمة يسوع و كان بإمكانك أن تنقذه، هل كنت ستفعل؟ البديهة الدينية لحب المسيح تجيب بنعم، و لكن التسليم بالعقيدة المسيحية يقول لا؛ بل كان عليك أن تضمن مقتله، تحقيقا للخطة الإلهية التي ستغفر بها ذنوبك!

و ما أكثر المعضلات المنطقية و الأخلاقية المحيّرة التي يمكن أن تنتج من وضع شاذ كهذا يعتبر تعريض النفس للقتل (التضحية\الإنتحار) وسيلة مجيدة و عظيمة لخلاص البشر.

و لذلك فمن الطبيعي أن يتكبد الكهنة و اللاهوتيون جهودا ثقيلة لشرح و تبرير ذلك السيناريو المفبرك بأشكال عديدة ،فأحيانا يبدو الإله اليهودي كأنه – كعادته- غاضب جدا، و المسيح ليس أكثر من قربان ضروري لتهدئة ذلك الغضب ، و كأن الله ضحى بنفسه كي يهدئ غضبه نفسه!؛ و أحيانا يبدو و كأن خطة الخلق قد خرجت عن سيطرة الله من البداية، و التضحية بالمسيح كانت وسيلته الوحيدة لإعادة الأمور إلى نصابها، و كأن الله مضطر للعمل بداخل القوانين تحكمه!

في كل الحالات فالمسألة تحتاج إلى جهد هائل لتحقيق بعض التماسك لتلك القصة و ذلك أولا لأنها في الأصل مستمدة من قصص وثنية حيث الآلهة هي كائنات متصارعة تولد و تعاني و تموت، و يصعب تطبيقها على مفهوم الإله الواحد مطلق القدرة، و ثانيا لأن قصد مؤلف القصة لم يكن أن يجعلها منطقية و إنما قصد منها أن تكون مؤثرة نفسيا، و ذلك لهدف واحد دنيوي تماما : جمع المزيد من الأتباع بأي شكل.


مع غياب القوة المادية اللازمة لفرض الدين كما أشرنا، فالبديل إذن كان استخدام قوة الفرض المعنوية؛ و الأسلوب هنا بسيط نوعا لكنه فعال للغاية : المسيحية تخترع لك خطرا كبيرا محدقا قريبا: لعنة ثقيلة و دينونة مخيفة و جحيم وشيك؛ و من ثم تفتح لك ثغرة صغيرة وحيدة ضيقة للفرار من المصير الأسود ، و هي أن تؤمن بديننا و رمزنا المقدس و تنضم إلى جماعتنا- ذلك هو أملك الوحيد في النجاة من الخطر؛ ذلك الخطر الذي لا يوجد أي دليل عليه أصلا سوى ادعاءنا نحن!

و كذا يخبرنا بولس أن (
يَسُوعَ، الَّذِي يُنْقِذُنَا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي) تسالونيكي الأولى 1-10، و أنه (بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْغَضَبِ) رومية 5-9.

في الأفلام الكوميدية مشهد يتكرر:  شخص يعجب بفتاة و لا يجد وسيلة للفت نظرها إليه ، فيتفق مع آخر أن يذهب إليها و يعترض طريقها متظاهرا بأنه لص أو متحرش، و في ذورة الخطر يتدخل بطلنا ليضرب المعتدي علقة ساخنة و يظهر في صورة المنقذ الشهم - و لا أجد أن السيناريو المسيحي عن الخطيئة و الفداء يختلف عن هذا كثيرا.
هو سيناريو ماكر جدا و مصمم عمدا لملء الأنفس بشعورين قويين جدا : الخوف و الإمتنان، و هما من أكثر المشاعر التي تؤثر في الإنسان.

فهذه العقيدة تملأك بالرعب أولا، حتى تشعر بالإمتنان الشديد و تتنفس الصعداء حين تمنحك الملاذ الآمن للخلاص من ذلك الرعب؛ تدينك بذنب لم ترتكبه و تخلصك بتضحية لم تطلبها؛ تمرضك ثم تبيع لك الدواء!

و هكذا يقال : أن المسيح مات لكي يغفر لك خطيئة لم تفعلها، و سيلقي بك في النار إن لم تشكره على ذلك!

من هنا نفهم سر تضخيم التعاليم المسيحية لبعض الهفوات اليومية الصغيرة التي لا مفر منها و التي نرتكبها كل يوم و تحويلها إلى خطايا كارثية تستحق الإدانة؛ حتى يصل التطرف إلى مساواة الفكر السيء بالعمل السيء- فذلك كله يصب في نفس الخطة: إشعارك بأكبر قدر من الذنب و أكبر قدر من الرعب، حتى تهرب سريعا إلى الباب الضيق الذي لا أمل لك في سواه؛ و كلما تم تضخيم ذنوبك، كلما شعرت أكثر بحاجتك إلى الخلاص.

و رغم تأثر المسيحية بالأديان و المعتقدات السابقة عليها، سواء اليهودية أو الوثنيات المختلفة ، إلا أنه ربما لأول مرة في تاريخ الإنسانية، تقول عقيدة بتعرض البشر كلهم إلى خطر كوني هائل بهذا الحجم، مع وضع الخلاص في يد معتقد ديني واحد فقط، و الهلاك لمن رفضه أو عصاه أو تجاهله – لم تعرف البشرية شيئا بهذا الجنون و هذا القسوة من قبل.

و إلى جانب التخويف، فالواضح أن فكرة "التضحية من أجلك" هي من أكثر الأفكار المصممة بخبث خصيصا لابتزازك عاطفيا و تأجيج مشاعر الإمتنان بالعرفان بالجميل؛ و رغم ابتعادها عن مفهوم العدل و لامنطقيتها، و رغم ارتباطها بمفاهيم وثنية بدائية، إلا أنها وسيلة فعالة جدا للتأثير في نفوس البسطاء، و بالتالي الحصول على ما تريده كل الأديان منذ البداية: الأتباع و الولاء و الطاعة المطلقة-  يقول يسوع (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ)  يوحنا 14-15، (إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي) يوحنا 14-23.

و قد جاء ذلك السيناريو الماكر بثماره بفعالية، و حقق نجاحا باهرا ؛ ففي القرن الأول و الثاني بعد وفاة يسوع انتشرت المسيحية بشكل هائل و سريع في القارات الثلاثة دون أن تمتلك قوة مادية سياسية أو عسكرية تُذكر ؛ ثم لاحقا حين تمتلكها ستستخدمها أيضا لتحقيق المزيد من السيطرة.

و هنا يجدر عدم نسيان أن فكرة الحياة الدينية لما بعد الموت – الملكوت أو الجنة- قد تجلب بعض التعزية للمؤمنين الذين يعتقدون بأن أحباءهم و ذويهم سيلاقون مصيرا أفضل لاحقا؛ و لكن المسألة سلاح ذو حدين، و لها جانب مظلم آخر القسوة، بالنسبة للمؤمنين الذين لهم أهل أو أقارب أو أصدقاء موتى لم يؤمنوا بذلك الدين، فستظل المعاناة النفسية تطاردهم و هم موقنون أن أحبابهم- بل و أحيانا أطفالهم- يتعذبون الآن في الجحيم، بيد ذلك الرب النرجسي الغيور غريب الأطوار.



قليل من العنف المادي
مع إرهاب الكلمة و التخويف المستمر للمخالفين، يشيع القول أن المسيح لم يستخدم القوة المادية أبدا و لم يقتل أحدا؛ و هذا في المجمل صحيح، فالرجل لم يكوّن جيشا و لم يشن غزوات و لم يأمر أتباعه بخوض حروب مادية.

و لكن هل سبب ذلك هو أن المسيح مناهض للعنف و القتل؟

لا يبدو الأمر كذلك ، فلم نسمع يسوع – اليهودي- يدين حروب أنبياء إسرائيل من قبله: لم نجده يعترض على معارك موسى أو يشوع أو داود، جده، و غيرهم مما تمتلئ به الصفحات الدموية للعهد القديم ؛ و لم يبد أقل استياء تجاه الأنفس التي أزهقها الله في الطوفان و هلاك سدوم و عمورة، وإنما لقد أقر تلك الأحداث و استشهد بها، بل ووعد بحماس بتكرارها على نحو أسوأ كما رأينا – و ذلك الإستخدام للإرهاب اللفظي يؤكد أن المسيح من حيث المبدأ لم يكن يجد مشكلة جذرية في الصدام و قتل المخالفين.

هذا يجعلنا نقترح أسبابا أخرى لتجنبه خوض الحرب و القتال حسب ما هو معتاد في فكر و تاريخ قومه؛ و هما السببان الذين أشرنا إليهما: تخوّفه من شر السلطة الرومانية خاصة، و انتظاره لنهاية العالم القادمة، و التي ستحقق الإنتصار للمؤمنين دون قتال.

و هذا هو لب التحول الديني\السياسي الذي حملته المسيحية على الفكر اليهودي كما مر بنا ؛ ففي الأصل كان اليهود ينتظرون مسيحا بشريا مقاتل طموحه محلّي و مملكته أرضية ، و مع تغير الظروف السياسية تتغير الرؤى الدينية، فتحول المنتظر إلى مسيح إلهي لا يقاتل و إنما ينتظر مجد الله القادم و مملكته سماوية عالمية غير محدودة.

و قد لُقب المسيح بلقب "ملك اليهود" في مواضع كثيرة من العهد الجديد؛ و لكنه في مواضع أخرى أكد أن مملكته ليست من هذا العالم (يوحنا 18-36)، و إنما هي بالأحرى ستأتي على أنقاض ذلك العالم بعد الدينونة - و هذه الدينونة، كما رأينا، يُتوقع أن تحمل معها دمارا و خرابا و موتا أسوأ من أي قتال دنيوي.

فالعنف إذن موجود في المسيحية و معترف به، و لكنه أساسا يتم بيد الله كما رأينا و ليس بيد المسيح، الذي تخصصه العنف اللفظي فقط مع ترك الأفعال للأقنوم الأبوي – فهو انتقال بالعنف من الأرض إلى السماء لا أكثر، و هو فقط الفارق بين عبارة "أنا سأضربك" و عبارة "أبي سيأتي غدا ليضربك"!

مع هذا فسنرى يسوع في مرات يتحدث عن السيف و العنف الأرضي كما تحدث عن النار و العنف الأخروي؛  و إن كانت تلك الأقوال تؤكد مرة أخرى أن الرجل لا يجد مانعا مبدئيا من استخدام القوة المادية، و لكن ما يبدو من السياق أن هدفه منها ليس تحقيق نصرا سياسيا فعليا في إطار خطة واضحة، بقدر ما هو السير وراء نصوص معينة في العهد القديم اعتقدوا أنها نبوءات تتحدث عن مجيء المسيح – فيسوع بتلك الأفعال المطابقة لمشاهد من الكتاب المقدس اليهودي كان حريصا على أن يصدق الناس أنه هو المسيح و أن العهد القديم يتحدث عنه.

فهو قبل إعدامه بقليل أمر أتباعه بشراء سيوف لأنفسهم (مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذَلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً) لوقا 22-36؛ و هو نص يستخدمه البعض للقول بأن الرجل كان يريد القتال؛ و لكن حين نكمل النص نجد أن أتباعه أحضروا سيفين فقط، فقال لهم أن هذا يكفي (لوقا 22-38)؛ و البديهي أن سيفين فقط لن يكونا كافيين لشن أي قتال فعّال؛ و مما قاله يسوع حينها يبدو أن الهدف من طلبه كان تحقيق نبوءة من العهد القديم تتحدث عن شخص يُقتل ظلما و يُحصى مع الآثمين و يُجعل قبره مع الأشرار – فكأن يسوع بطلبه هذا أراد جعل نفسه يبدو كزعيم عصابة، تحقيقا للنبوءة(!)

و لاحقا حين سيستخدم أحد أصحابه سيفه ليقاوم الجموع التي جاءت تلقي القبض على المسيح، فيضرب أحدهم و يقطع أذنه، سنجد أن يسوع ينهره عن القتال ، كما ورد في لوقا و في يوحنا، بينما لا يرد في مرقس أنه حاول منعه ؛ أما متى فيخبرنا أنه قال له (رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ! تَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ؟ فَكَيْفَ تُكَمَّلُ الْكُتُبُ: أَنَّهُ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؟) متى 26-52،54 ؛ فهو -على ما يبدو من العديد من المواقف- لم يكن حريصا على القتال السياسي المنظّم بقدر ما كان حريصا على تحقيق النبوءات التوراتية المزعومة، في إطار مهمته الإنتحارية، تمهيدا لدمار العالم الوشيك.

و هذه المقولة (التي تشبه عبارة "من عاش بالسيف مات به") لا تلخص فقط نظرة يسوع النفعية للسلوك، و الذي لاحظناه في نصيحته للتلاميذ أن "يكونوا مراضين سريعا لخصمهم"، و التي يكملها قائلا (... لِئَلَّا يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ) متى 5-25؛ و إنما هذه المقولة تلخص أيضا الموقف العملي لتيارات كبيرة من اليهود في ذلك الزمن، في تعبيرهم عن عدم جدوى الصدام العسكري مع اليونانيين و الرومان و لم ينتج لهم سوى الهلاك و الهزيمة.

رغم ذلك، فقبل ذلك القبض عليه بفترة قصيرة، و مع احتدام المواجهات ، سنجد يسوع للمرة المليون يناقض تعاليمه هو نفسه، فيستخدم القوة المادية، حين يدخل إلى المعبد غاضبا في حماية الجموع من أتباعه و يطرد منه الباعة و التجار المساكين و يقلب موائدهم و أموالهم على الأرض، في مشهد يعد أبرز حادثة عنف مادي تمت على يد المسيح و أتباعه، و التي سبقت إعدامه بقليل.


 حادثة المعبد
(وَجَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ الْهَيْكَلَ ابْتَدَأَ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ. وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَجْتَازُ الْهَيْكَلَ بِمَتَاعٍ. وَكَانَ يُعَلِّمُ قَائِلاً لَهُمْ: "أَلَيْسَ مَكْتُوباً: بَيْتِي بَيْتَ صَلاَةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ") مرقس 11- 15،17.

(وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيباً فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً وَالصَّيَارِفَ جُلُوساً. فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: "ارْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ") يوحنا 2-13،16.

و تستمر الرواية من الأناجيل لتخبرنا أن رؤساء الكهنة و اليهود تقدموا إليه بعد الحادثة، و سألوه "بأي سلطة فعلت ما فعلت؟"؛ فيلف و يدور كعادته، متهربا من الجواب و مجيبا السؤال بسؤال آخر، ملمحا بأن ما قام به إنما فعله بسلطة سماوية من الله.

ما فعله المسيح بالمفردات المعاصرة هو الآتي: اقتحام دار عبادة و ممارسة أعمال شغب و بلطجة و استخدام سلاح (سوط) و ضرب و ترهيب مواطنين مسالمين و إفساد ممتلكات و قطع طريق؛ و هي جرائم تكفي لوضع رب المجد في السجن لعدة سنوات لو كان يعيش في عصرنا- و من المؤكد أنها في ذلك العصر أيضا تعد جرائم خطيرة و خروقات للقوانين.

يُضاف لذلك أنه فعل تلك الأمور بإسم الله؛ و بالطبع من لا يصدق فبإمكانه الصعود إلى الله ليتأكد منه!

و لكن ألا يذكرنا هذا بشيء؟

هو ذاته سلوك كل إرهابي متطرف ارتكب عنفا فقتل أو سرق أو أفسد بذريعة أنها إرادة الله؛ لا فرق.

مع ملاحظة أن المواجهة لم تسفر عن قتل أحد ؛ و ذلك لسبب وحيد ، و هو أن التجار لم يقاوموه، خوفا من الأعداد الكبيرة التي كانت مصاحبة له (مرقس 11-18، لوقا 19-48) - أما لو فرضا حاول أحدهم المقاومة دفاعا عن أمواله و ممتلكاته، فبإمكننا أن نتخيل كيف كانت ستتطور الأمور.

و لا ندري هل الرجل بهذا الإجراء أراد استعراض القوة و لفت الإنتباه و تأكيد استحقاقه للقب"ملك اليهود"، أم أنه أراد تصنيف نفسه مع المجرمين و الإرهابيين كما تقول النبوءات، أم هي مجرد شحنة غضب أخرى فاقت غضباته السابقة المعتادة (و التي اقتصرت في العادة على التعبير العنيف باللسان فقط) فتحولت هذه المرة إلى عنف يدوي، ساعد عليه الإغترار بجموع الغوغاء المؤيدة له؟

في كل الأحوال، الحادثة دليل حي على ما ذكرنا من قبل من أن المسيح، مثل أي شخص يستخدم العنف اللفظي، لم يكن يجد أي مشكلة مبدئية في العنف العملي أيضا و استخدام القوة لإرهاب الناس، سواء كان ذلك لتنفيذ أوامر الله المباشرة أو لتحقيق نبوءات توراتية قديمة.

و بعد جداله مع الكهنة و الكتبة الغاضبين، وقف ليخطب حاكيا مثلا عن صاحب ضيعة سلم أرضه إلى مزارعين، ثم عاد بعد فترة ليطالبهم بحقوقه، فرفضوا السداد، فقام بإهلاكهم جميعا؛ و ختم كلامه بإشارة واضحة (الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ) لوقا 20-17،18.

و يكمل النص أن الكهنة فكروا في القبض على المسيح بعد ما فعل، لكن اجتماع الشعب حوله أخافهم، و ما زاد الخوف هو كلامه الذي تضمن تهديدا واضحا (فَطَلَبَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ أَنْ يُلْقُوا الأَيَادِيَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَلَكِنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْمَثَلَ عَلَيْهِمْ) لوقا 20-19.

في النهاية نحن على ما يبدو أمام شخص، بالإضافة لكونه متعصب مهووس دينيا ، فهو أيضا متطرف خبيث مراوغ و متلاعب بالمشاعر و مشاغب و محرض خطير للجموع؛ و لا شك أن هذا السلوك الإجرامي سيكون له يد في إعدامه في نهاية الأمر، بعد أن سيتخلى عنه أقرب أتباعه! (حِينَئِذٍ تَرَكَهُ التَّلاَمِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا) متى 26-56 -  مما يذكرنا بموقف يسوع نفسه المماثل حين سمع أن يوحنا المعمدان قد تم القبض عليه، فما كان منه إلا أن انسحب إلى الجليل (متى 4-12).


الجزء الأول
الجزء الثاني


الجزء الرابع
الجزء الخامس
الجزء السادس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق