الجمعة، 2 يناير 2015

"المحاكاة الشيطانية"






بين المسيحية و الديانات الوثنية

تطرح كثيرا قضية تشابه عقائد و أصول و طقوس المسيحية مع تلك التي تخص الأديان القديمة (الوثنية), و أيضا تشابه سيرة المسيح مع سير الآلهة الخرافية المصرية و اليونانية و الفارسية و الهندية - بما يؤكد أن المسيحيين قد اقتبسوا دينهم عن من سبقهم من الوثنيين..

و كما هو متوقع يسعى المسيحيون بشدة لنفي هذا التشابه و يؤكدون على أصالة دينهم و مسيحهم..

مبدئيا يجب الإعتراف أنه ليس كل ما يقال في هذا الموضوع دقيق أو محقق تاريخيا- هناك الكثير من المبالغات الملفقة (مثل ما نجده في بعض فيديوهات مثل زيتجايست و مواقع أخرى).

ما عدا ذلك فالمسألة لا يمكن إنكارها: المسيحية بالفعل هي إعادة تجميع لعناصر وثنية تم صياغتها لتشكل دينا جديدا..


هنا يبدو أن البعض لديه مشكلة في فهم معنى الإقتباس, فيظن أن النقل يستلزم التطابق الكامل بين قصتين- فإن وجدت أية خلافات فلا علاقة بينهما إذن!

مثال: تقول السيرة الأسطورية الخاصة بسرجون الأكادي (القرن 23 ق.م) أن أمه وضعته في سلة و تركته يسير مع النهر فوصل إلى قصر ملك من الملوك, و ربي هناك, حتى إذا كبر صار منافسا لهذا الملك و هزمه.. و يرى الباحثون أن سيرة موسى أخذت عن سيرة سرجون.. و لكن هذا بالطبع لا يمنع وجود اختلافات بين القصتين, فقصة الأول تتضمن عناصرا أسطورية غير موجودة في قصة الثاني, مثل شق البحر و العصا الثعبانية و الكوارث التي حلت بمصر..إلخ (و هي عناصر مأخوذة أيضا من أساطير أخرى مصرية و عراقية)..

كذلك الحال في سيرة المسيح : لا أحد يقول أنها منقولة بالكامل بحذافيرها و بشكل مطابق عن سيرة حورس أو كريشنا أو ميثرا أو ديونيسيس- و لكن أيضا لا أحد يمكنه إنكار التشابهات الكبيرة بين تلك القصص جميعا..

الأدق إذن هو القول أن قصة المسيح هي أسطورة أخرى ضمن تلك الأساطير, استعان مؤلفوها بنفس العناصر "و التيمات" التي كانت شائعة في عصرهم و بيئتهم, مثل عنصر الولادة الإعجازية دون جنس, و التعرض للخطر صغيرا ثم الهروب مع الأم, ثم الخوارق و المعجزات كالسير على الماء و شفاء المرضى و إحياء الموتى , و أخيرا الموت ثم البعث مرة أخرى.. تلك العناصر كلها- مع عقائد مثل بنوة الله و التضحية لفداء البشر, و مع مفاهيم مثل عالمية الإله و التسامح مع الأعداء, و مع ممارسات و طقوس دينية مثل الرهبنة و المناولة, كلها عناصر موجودة في أديان سابقة على المسيحية و مأخوذة عن الوثنيين- تم إعادة دمج كل ذلك بهدف اختراع دين رسمي جديد تبلور على مدى قرون و تحت إشراف الأباطرة الرومان شخصيا..

و للمس مدى قوة التشابهات بين المسيحية و الوثنية فالمسألة ليست بحاجة إلى الخوض في تفاصيل تاريخية و تأويلات جدلية, و إنما يمكننا فقط الرجوع إلى مصطلح قديم أطلق عليه:

diabolical mimicry
أو "المحاكاة الشيطانية",

جاء في كتاب "أسرار يسوع",
Freke & Gandy, The Jesus Mysteries, Thorsons, 2000
((انزعج- بشكل مفهوم- آباء الكنيسة المبكرين, مثل جاستين مارتر, و ترتوليان, و إيرانيوس, و لجأوا إلى الإدعاء بأن تلك التشابهات هي نتيجة "محاكاة شيطانية"..
باستخدام واحدة من أكثر الحجج المخترعة عبثية, اتهموا الشيطان "بالمحاكاة الإستباقية", بنقل القصة الحقيقية للمسيح قبل أن تحدث على أرض الواقع, و ذلك ليضل العوام!)) 


أنطلق من واحد من أقدم و أبرز الفلاسفة المدافعين عن المسيحية : جاستن مارتر , أو القديس يوستينوس الشهيد 100- 165 م في كتابه "الدفاع الأول", المكتوب تحت وطأة تهجم الوثنيين على المسيحيين. يقول يوستينوس مدافعا عن إيمانه في الجزء 21:


((و حين نقول أن الكلمة, و هو المولود الأول لله, قد ولد بدون اتحاد جنسي, و أنه- يسوع المسيح معلمنا- قد صلب و مات و قام من الموت مرة أخرى و صعد إلى السماء, فأننا لا نعتقد في شيء يختلف عما تؤمنون به بشأن (أبناء الله الوثنيين),))


و يكمل:
((- ميركوري (عطارد) , الكلمة و معلم الكل..
- إسكولابيوس , الطبيب العظيم, ضرب بصاعقة و صعد إلى السماء..
- باخوس, أيضا بعث و صعد إلى السماء, بعد أن تم تمزيق جسده عضوا عضوا..
- هرقل, حين قدم نفسه إلى النار ليهرب من معاناته..
- أبناء ليدا و ديوسكوري, و بيرسيوس ابن داناي, و بيلوروفون, الذين أيضا قاموا من الموت و أخذوا مكانهم بين النجوم..
- أريادن, و مثيلاتها, أيضا أخذن مكانهن بين النجوم..
- أما حجم المنجزات المسجلة لأبناء جوبيتور المعروفين, فهو مما لا يحتاج إلى إخبار لمن يعلم به..))

و في الفصل 22 يحدد المسألة أكثر:
((يسوع كان ابن الله- و كذلك كان ميركوري,
يسوع تحمل موتا قاسيا- و كذلك أبناء جوبيتر,
يسوع ولد من عذراء- و كذلك كان بيرسيوس,
يسوع شفى الأعرج و الأعمى- و كذلك فعل إسكولابيوس))

ثم يعود ليؤكد تلك النقاط في الفصل 28 حيث يكتب:
((.. بإعلان الكلمة (اللوجوس), المولود الأول لله, معلمنا يسوع المسيح, لأن يكون مولودا من عذراء بدون علاقة جنسية, و يكون مصلوبا و يموت, ثم يقوم من الموت و يصعد إلى السماء, فإننا بذلك لا نقول أكثر مما تقولون به بشأن نمط أبناء جوف (جوبيتور))


لكن جاستن هنا أدرك أنه قد وضع نفسه في مأزق عميق , إذ كان عليه شرح هذا التشابه بين الدين "الحقيقي" و الأديان الوثنية الخاطئة!

فإذا به يأتي في الفصل 31 و يخترع مسألة المحاكاة الشيطانية هذه ليبرر المسألة: الشيطان علم أن المسيح قادم, فاستبق مجيئة بخطوة خبيثة هي الترويج لتلك المعتقدات الوثنية الشبيهة بالمسيحية بين الناس , حتى يظهر المسيحيين على أنهم مجرد ناقلين!

((حين سمعوا النبوءات الواردة في كتب الأنبياء أن المسيح قادم و أن الكفار سيبعذبون بالنار, فإن هذه الأرواح الشريرة قد جعلت الكثيرين يلقبون بأبناء الله- و ذلك حتى يروجوا لفكرة أن ما يقال عن المسيح هو مجرد روايات بديعة شبيهة بما يقوله الشعراء))

و في فقرات أخرى يشرح أكثر تفاصيل تلك الخطة الجهنمية للشيطان الملعون - و ذلك حتى يقنع نفسه و يقنعنا بأن السابق حتما نقل عن اللاحق(!):

من الفصل 69

((.. و اعلم أنني على علم و إيمان بالكتب المقدسة و تلك التزييفات التي يقال أن الشيطان قد قام بها في وسط الإغريق, كما نفذ بعضها كهنة المجوس في مصر, و آخرون على يد أنبياء مزيفين في زمن إلياس..

فحين يقولون أن باخوس, ابن جوبيتر, ولد من معاشرته لسيميل, و أنه مكتشف الكرمة, و حين يذكرون أنه قد تم تمزيقه قطعا و أنه مات ثم عاد إلى الحياة و صعد إلى السماوات, و حين يقدمون الخمور ضمن أسراره الطقوسية, أفلا أتصور أن الشيطان قام بتقليد النبوءة الواردة في كلام الأب يعقوب, و المسجلة من قبل موسى؟

و حين يقولون أن هرقل كان قويا و أنه جاب العالم بأسره, و أنه ابن جوف (جوبيتر), و أنه صعد إلى السماوات بعد موته, أفلا أتصور أن النص الكتابي الذي يتحدث عن قوة المسيح و أنه كعملاق قد تم تقليده و مشاكلته؟

و حين يأتي الشيطان بإسكولابيوس على أنه محيي الموتى و شافي الأمراض كلها, أفلا أقول أنه قد قام بتقليد النبوءات الواردة عن المسيح؟))

من الفصل 70
((.. و حين يقول مسجلو معجزات ميثرا بأنه ولد من صخرة, و سمى الموضع الذي بدأ منه أتباعه كهفا, أفلا أتصور هنا أن كلمات دانييل- أن صخرة بلا يدين ستقطع من جبل عظيم- قد تم تقليدها بواسطتهم, و أنهم حاولوا تقليد كلمات أشعيا؟

و حين أسمع أن بيرسيوس قد ولد من عذراء, أفهم أن الحية المخادعة (الشيطان) قد زيف ذلك أيضا))

ننتقل إلى مفكر مسيحي آخر هو ترتوليان 160- 225 م حيث يبرر بدوره التشابه بين المسيحية و المثرائية بأن الثانية هي ديانة شيطانية اخترعها الشيطان لكي تشبه المسيحية (التي لم تكن قد ظهرت بعد!)

((الشيطان, و هو من وظيفته تشويه الحقيقة, قام بتقليد نفس ظروف الأسرار الإلهية.. قام بتعميد أتباعه و وعدهم بغفران ذنوبهم من النبع المقدس, و بذلك قدم إليهم الديانة الميثرائية.. لذا هو يحتفل بقرابين الخبز, و يقومون بإحضار رموزا للقيامة.. دعونا إذن نعترف بمهارة الشيطان الذي ينقل من الأشياء الإلهية))


إذن, المحاكاة الشيطانية هي محاولة مسيحية مبكرة جدا لتبرير التشابهات بين المسيحية و أديان الوثنية.. و من البديهي القول أنها في نفس الوقت أكبر اعتراف ضمني بوجود تلك التشابهات- ذلك مع ترك السؤال مفتوحا حول من الذي اقتبس عن من!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق