الخميس، 1 يناير 2015

المسيح: رسول من الجحيم (4)





خامسا: من ثماره تعرفه

عدو السلام
يحذرنا المسيح من الأنبياء الكذبة، و يخبرنا عن الطريقة التي نميّز بها الصادق من الكاذب (احْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلاَنِ وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَباً أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِيناً؟ هَكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً) متى 7-15،17.

و هو مقياس منطقي و مقبول لمعرفة الناس، يضعه لنا أشهر من جاء في ثياب حمل وديع.

و مع أن المسيحيين يلقبون المسيح بـ"أمير السلام" (حسب إشعياء 9-6)، و مع أنه مدح صانعي السلام (متى 5-9)، إلا أنه هو نفسه يؤكد مرارا أنه لم يأت لكي يلقي سلاما على الأرض، بل ليلقي سيفا، و انقساما، و نارا مشتعلة (
لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَماً بَلْ سَيْفاً) متى 10-34 ، (أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً) لوقا 12-51 ،(جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟) لوقا 12-49.

بعيدا عن السياق (الذي لا يغير المعنى) فتلك هي ثمار المسيح من فمه ؛ و هكذا نعرفه و نحكم عليه من فمه أيضا، و حسب القواعد التي وضعها هو (مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ) ؛ و (مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ) لوقا 19-22.

و بعيدا عن محاولات التأويل و التبريرات الدفاعية، فالنصوص الأخرى من العهد الجديد، جنبا إلى جنب مع الواقع العملي لتاريخ المسيحية، تؤكد لنا أن تعاليم المسيح تسببت بالفعل في حدوث انقسامات و حروب و سيطرة دينية، ناتجة بالأساس عن فكرة الدين الواحد و الحق الواحد الذي ينذر بالهلاك كل من لا يعتنقه؛ ذلك الفكر الذي لم يكن مطروحا على الساحة الوثنية من قبل؛ كما روّجت بحرارة لخراب العالم الوشيك و لعذاب النار الأبدي لجميع المخالفين؛ و هي أمور لم تكن على خريطة الفكر الديني بشكل حقيقي قبل مجيئة هو – مما يؤكد لنا أن الرجل كان محقا تماما في النصوص السابقة.

و قد تناولنا الدينونة و النار فيما سبق؛ و الآن لنلقي نظرة على حرص المسيح على تقسيم العائلات و تدمير القرابات.

عدو الأسرة
في كل العهد الجديد لا نجد ضمن تعاليم المسيح كلمة واحدة له تمدح مؤسسة الأسرة أو تحث على التقارب العائلي؛ مع تذكر أنه هو نفسه لم يكوّن أسرة.

على الجانب الآخر حين نكمل كلامه عن السيف- الذي جاء ليلقيه على الأرض- نجد أن سيفه موجه مباشرة لعلاقات القرابة و الرحم بين البشر (لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَماً بَلْ سَيْفاً
. فَإِنِّي جِئْتُ لِأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ وَالاِبْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ) متى 10-34،36.

و نفس الشيء في حديثه الآخر عن الإنقسام (أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً. لأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنْقَسِمِينَ: ثَلاَثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ وَاثْنَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ. يَنْقَسِمُ الأَبُ عَلَى الاِبْنِ وَالاِبْنُ عَلَى الأَبِ وَالأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ وَالْبِنْتُ عَلَى الأُمِّ وَالْحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا وَالْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِهَا) لوقا 12-51،53.

فهو يبشّر بأن تعاليمه ستهدم الأسر؛ و هذا ليس من قبيل "النتيجة الطبيعية" كما يحلو للإخوة المؤمنين القول، و ليس فقط ضمن التنبؤات المعتادة بحدوث الحروب و الكوراث و المصائب السوداء في إطار الدينونة القادمة، و إنما هو أيضا نتيجة متعمدة و مترتّبة على أوامر المسيح المباشرة، كما سنرى.

يكلم يسوع أتباعه قائلا لهم (مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي وَمَنْ أَحَبَّ ابْناً أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي) متى 10-37 ؛ فبطبيعته النرجسية المتشددة، يحمّل الناس أكثر من طاقتهم، و يطالبهم بأن يفضلوه على والديهم و على أبنائهم و إلا فهم من الهالكين.

و بطبيعته المتطرفة يتمادى أكثر و أكثر فيطالب بكراهية الأسرة
(إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً) لوقا 14-26.

إذن، حسب تعاليم يسوع فالمطلوب من الإنسان أن يبغض أباه و أمه و زوجته و أولادته و إخوته و نفسه، و لكن في نفس الوقت يحب أعداءه و مبغضيه! (متى 5-44).

و الطريف أن هذا هو نفس الشخص الذي كان يلوم اليهود لأنهم لا يطبقون أحكام التوراة بقتل كل من يتمرد على والديه (متى 15-4،6)؛ فإذا به هنا يأمر الناس بكراهية والديهم، و تركهم من أجل اتباعه هو.

و التفسير الواضح لهذا التناقض- ضمن سلسلة تناقضات المسيح- أنه ينسى كل شيء حين يتعلق الأمر به شخصيا؛ فحتى نفسك لا تهم، بل المهم الوحيد هو أن تتبعه هو و تسير وراءه و تترك كل شيء.

و هو كالعادة يتمادى في ذلك بعيدا عن أي حلول وسط، فيطلب من الناس كما يبغضوا أقاربهم أن يبغضوا أنفسهم، و يهدد من يحب نفسه بالهلاك (مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ) يوحنا 12-25 ؛ بل و يصل إلى الطلب من الناس أن يهلكوا أنفسهم من أجله، لأن في ذلك نجاتهم؛ أما من يرفض ذلك فهو الهالك (فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا) مرقس8-35.

و حين سيطلب من أحدهم أن يتبعه، فيستأذنه الرجل في أن يدفن والده المتوفي أولا، سيقوم المسيح برفض رجاءه (وَقَالَ لِآخَرَ: "اتْبَعْنِي". فَقَالَ: "يَا سَيِّدُ ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي". فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ") لوقا 9-59،60.

هذا الرفض جاء ممن يسمونه واحد من أهم رموز المحبة و الرحمة في التاريخ الإنساني!؛ و لنتصور لو أن رب عمل عادي، مدير في شركة، قام بتلك الفعلة فلم يسمح لموظف بالذهاب لدفن والده، كيف كنا سنحكم عليه؟

و بعدها سيستأذنه آخر في توديع أهل بيته قبل أن يلحق به، فيرفض أيضا و يتذمر عليه قائلا أن أمثال هذا لا يصلحون لملكوت الله (لوقا 9-61،62).

بالطبع هم لا يصلحون لملكوت الإله المسيحي، لأن هؤلاء الأوغاد بدا عليهم للحظة و كأنهم يفضلون آبائهم و أمهاتهم و زوجاتهم و أبنائهم على اتّباع داعية يهودي متجول.

و يخبرنا الكتاب أن البعض بالفعل تركوا كل شيء - بما في ذلك عائلاتهم- و تبعوا يسوع (لوقا 5 – 11) ؛ و في موضع آخر يقول له أحد التلاميذ (هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ) مرقس 10-28 (و أيضا في لوقا 18-28)- فيعده المسيح بمكافآت أخروية كبيرة له و لكل من ترك والديه و إخوته و أولاده من أجله.

أما النرجسية و التعصب المتطرف لنفسه فمررنا بها؛ و أما تلك الكراهية غير المفهومة ضد الأقارب يبدو أنها تعود بيسوع إلى سنوات الطفولة، و تمتد إلى علاقته بأمه شخصيا؛ ففي مراهقته المبكرة تاه من والديه في المعبد في القدس و عادا يبحثان عنه ليجداه بعد ثلاثة أيام؛ و حين حاولت أمه معاتبته رد عليها بفظاظة غريبة (فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: "يَا بُنَيَّ لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هَكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!" فَقَالَ لَهُمَا: "لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟". فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا) لوقا 2-48،50.

هل هي مجرد جفوة مراهق عادية؟ أم هي مجرد طباع يسوع النرجسية المتعالية؟ لا يبدو الأمر كذلك ؛ فالجفوة و التعالي و البرود و الفظاظة تجاه أمه بالذات استمرت حتى في سنوات النضوج، و تجلت في كل مرة كانت تحاول مخاطبته، فكان يرد و كأنه لا يعرفها و لا تربطهما أية صلة:

مرة حين ستقوم امرأة بمدح أمه مريم بشكل غير مباشر، سيحرص هو على رد المديح عن أمه (وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَوْتَهَا مِنَ الْجَمْعِ وَقَالَتْ لَهُ: "طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ وَالثَّدْيَيْنِ اللَّذَيْنِ رَضَعْتَهُمَا". أَمَّا هُوَ فَقَالَ: "بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ وَيَحْفَظُونَهُ") لوقا 11-27،28.

و مرة في إحدى المناسبات (حفل عرس) (وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: "لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ". قَالَ لَهَا يَسُوعُ: "مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ!") يوحنا 2-3،4.

و مرة و هو وسط الجموع (وَجَاءَ إِلَيْهِ أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ لِسَبَبِ الْجَمْعِ
. فَأَخْبَرُوهُ: "أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً يُرِيدُونَ أَنْ يَرَوْكَ". فَأَجَابَ: "أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا") لوقا 8-19،21 ؛ (فَجَاءَتْ حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجاً وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَدْعُونَهُ. وَكَانَ الْجَمْعُ جَالِساً حَوْلَهُ فَقَالُوا لَهُ: "هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ خَارِجاً يَطْلُبُونَكَ". فَأَجَابَهُمْ: "مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟" ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى الْجَالِسِينَ وَقَالَ: "هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللَّهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي") مرقس 3-31،35؛ و نفس المشهد في متى 12-46،50.

أهكذا تعامل أمك يا يسوع بعد إنجازها المتميز في أن حملت بك و أنجبتك دون أن تفقد عذريتها؟!

أم أن سوء العلاقة ذلك بين الإبن و أمه، و الذي يبدو كعقدة نفسية متأصلة تجاهها امتد إلى العداوة تجاه مفهوم الأسرة ذاته ، له يا ترى صلة ما بتلك الولادة المريبة نفسها؟

عدو العلم
من أبرز سمات المسيح هي معجزاته الوافرة؛ فالأناجيل تخبرنا أن الرجل شفى الأعمى و الأبرص و المشلول و أخرج الشياطين و أحيا الموتى و قام بتحويل الماء إلى نبيذ و مشى على الماء..إلخ.

لا داعي للتأكيد على أن تصديق المعجزات و السحر كان منتشرا في ذلك الزمن و تلك البيئة كانتشار الماء و الهواء ؛ فالآلهة و أبناء الآلهة و الأنبياء و المسحاء قاموا بعجائب لا حصر لها هرقليس و إسكليبيوس و أبولونيوس و فيسباسيان شفوا المرضى و تغلبوا على الموت حسب إيمان أتباعهم, و يخبرنا العهد القديم أن النبيين إيليا و إليسع قاما أيضا – أحدهما أو كلاهما- بإحياء الموتى و إنزال نار من السماء و شفاء المرضى و حتى إمراض الأصحاء..إلخ، و الأمثلة لا تنتهي ؛ و لا بأس في ذلك؛ فمعظم الأنبياء مارسوا الأعاجيب السحرية حسب زعم أتباعهم، بدءا من شق البحر و حتى شق القمر.

ليس الأنبياء فقط بل الدجالين أيضا و بنفس الكفاءة ؛ حتى أن يسوع لا ينسى تحذير أتباعه من الأنبياء الكذبة و المسحاء (جمع مسيح) الكذبة، و الذين سيقومون بآيات و معجزات عظيمة (لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضاً. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ) متى 24-24،25.

و ذلك النص التحذيري - وحده- ينسف الزعم بأن المعجزة، حتى إن كانت حقيقية، تثبت صحة أي دين؛ فطالما الكاذب قادر أيضا على الإتيان بخوارق مبهرة، ألا يصبح من العبث محاولة الإستشهاد بنفس تلك الخوارق لإثبات الصدق؟!

(و الطريف أنه رغم تأكيد المسيح هنا أن المسحاء الكذبة قادرون على فعل الأعاجيب، فقد رأيناه في مشهد آخر يلعن و يتوعد بالهلاك المدن التي لم تصدقه و لم تؤمن به حين قام بالأعاجيب!، تناقض صارخ آخر يضاف إلى القائمة التي لا تنتهي).

و دينيا بشكل أعم، فالمؤمنون يعتقدون في السحر و في تأثير الشياطين..إلخ، مما يجعل الخوارق ممكنة من قوى الشر أيضا، و بالتالي فلا تصلح دليلا على صلة بالرب؛ لأنه ببساطة سيستحيل على الناس التفرقة بين ما هو معجزة إلهية فعلا، و بين ما هو سحر، أو قوى شيطانية، أو ألاعيب مسحاء كذبة.

ثم منطقيا و علميا، فإن القيام بشيء مبهر لا يعد دليلا على صدق أي ادعاء يزعمه صاحبه، و حتما لا يعد دليلا على أن مصدره هو الخالق ؛ كأني أشير إلى مبنى عظيم و أدعي أنني من بناه، ثم حين تسألني عن دليل صحة كلامي أخرج أرنبا من قبعتي كالسحرة و أدعي أن هذا يثبت ذاك!

مع كل ذلك، فنحن لسنا ملزمين بتصديق شهادة المؤمنين عن نبيهم أو ربهم المتجسد أو عن كهنتهم و قساوستهم؛ خاصة حين نتحدث عن جموع من المؤمنين العوام الذين يصدقون أي شيء؛ و الدليل أننا نسمع كل يوم عن معجزات مزعومة لكل دجال في كل دين و كل طائفة تقريبا، و لم يثبت منها أي شيء بشكل علمي حقيقي -  رغم أن هناك مؤسسات علمية ضخمة تطالب أدعياء المعجزات بأن يأتوا لها ليثبتوا قدراتهم المزعومة تحت مجهر العلم، بل و البعض أعلن تحديات شهيرة، و عرض مكافآت مالية ضخمة (مليون دولار) لأي شخص يثبت قيامه بمعجزة أو خارقة، بشرط أن يتم فحص ادعاءه تحت شروط علمية صارمة، و حتى الآن لم يقم أحد بذلك؛ فخداع العوام أسهل و ربما أكثر ربحا أيضا.

و الحقيقة أن إيمان المؤمنين يقينا بمعجزات دينهم- دونا عن معجزات الأديان الأخرى- إنما يأتي نتيجة لإيمانهم المسبق بذلك الدين بالذات، بدلا من أن تكون مصدرا لذلك الإيمان.

أما معجزات المسيح، من أول شفاءه للمرضى و حتى قيامته هو شخصيا من الموت بعد صلبه، فهي كما يُتوقع، لا تستند إلى أي مصدر تاريخي إلا الأناجيل ذاتها و التي لا تعد مصدرا تاريخيا موثوقا، كما أنها ليست شهادات شهود كما يرى الباحثون بل هي كتابات منقولة عن روايات شعبية شفوية شائعة بين أتباع المسيح ؛ و بالتالي فلا يوجد ما يمنعنا من وضع خوارق يسوع في نفس خانة الإدعاءات و المزاعم الأخرى عن الشخصيات المقدسة في كل الأديان، بما فيهم المسحاء اليهود الآخرين الذين حذر هو منهم ؛ تلك المعجزات التي قد لا تعدو بعضها تأليفات أو مبالغات من كتبة الأناجيل (فيلاحظ البعض مثلا أن مرقس- أقدم الأناجيل- هو أقلهم احتواءا على خوارق، بينما يوحنا- الأخير- هو الأكثر تأكيدا على العجائب و المعجزات اليسوعية؛ و لهذا دلالة لا يجب الإستهانة بها) ؛ بينما لا نستبعد أن بعض المعجزات قد يكون خدعا مرتبة منه و من أتباعه، على طريقة خدع الحواة التي كانت شائعة بين اليهود آنذاك تمارس في الأعياد و الأسواق و الإحتفالات، بهدف إبهار العوام.

على سبيل المثال، يحدثنا الكتاب المقدس عن (..رَجُلٌ اسْمُهُ سِيمُونُ يَسْتَعْمِلُ السِّحْرَ وَيُدْهِشُ شَعْبَ السَّامِرَةِ قَائِلاً: "إِنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ!". وَكَانَ الْجَمِيعُ يَتْبَعُونَهُ مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ قَائِلِينَ: "هَذَا هُوَ قُوَّةُ اللهِ الْعَظِيمَةُ") أعمال الرسل 8-9،10 ؛ فالمعجزات المزعومة التي تبهر الناس كانت مسألة شائعة على ما يبدو – و الدليل على ذلك هو تحذير يسوع نفسه لأتباعه، و كأنما يحصنهم من تصديق أي لاعب آخر غيره، و إن جاء بنفس ما جاء به!

فلا عجب إذن أن المتعلمين من اليهود لم ينبهروا بعجائب المسيح، و إنما أكثر المنبهرون بمعجزاته كانوا هم المنبهرون بالمعجزات في كل زمان  ومكان: العوام الجهلاء و خاصة من الأغيار.



مع ملاحظة أنه حتى حسب الأناجيل، فيسوع في موطنه و مسقط رأسه- مدينة الناصرة- لم يؤمن به الناس؛ بل لم تُنسب له معجزات معتبرة هناك (متى 13-54،58)- بل إن إخوته أنفسهم (أبناء العذراء؟) لم يكونوا يؤمنون به! (يوحنا 7-5) بل و قال أقرباؤه عنه أنه مختل (مرقس 7-21).

مذبحة الخنازير

- ((ليس من الصائب أبدا حرمان الحيوانات من حياة جيدة، فقط لأنها لا تظهر بأنها ذات أهمية للإنسان ؛ النباتات ذاتها لديها حياة، و الحياة قد تجلب الخير أو الشر، فالنباتات قد تزدهر أو تذبل، تثمر أو تكون جرداء ؛ و من ينكر منح حياة سعيدة للنباتات على الأرض، بحجة أنهم يفتقرون إلى الشعور، إنما ينكر ذلك لجميع الكائنات الحية)) – الفيلسوف الوثني أفلوطين.

((أنتم تتذكرون بلا شك الحكاية العجيبة لشجرة التين، هذه الحكاية التي لا أعرف حقا ما أقول بها.. هذه حكاية غريبة؛ فالمرء لا يستطيع أن يلوم شجرة التين لأنه لم يكن موسم التين .. هناك أشياء أخرى و لكنها أقل أهمية؛ كحكاية الخنازير و هذه القصة ليست لطيفة بالنسبة للخنازير التي تلبستها الشياطين حتى أنها سقطت من أعلى الجرف إلى البحر و ماتت. يجب أن تفكروا أنه (المسيح) كان كلي القدرة و أنه كان يستطيع أن يرسل الشياطين بعيدا و لكنه وافق أن تذهب الشياطين إلى الخنازير)) -
برتراند راسل، "لماذا لست مسيحيا؟".

في واحدة من أشهر معجزات المسيح في الأناجيل، أنه وجد رجلا تسكنه جماعة كبيرة من الشياطين؛ فتكلم يسوع مع الشياطين و دخل معهم في مفاوضات مضنية، انتهت باتفاق أن يخرجوا من الرجل و يسمح لهم بأن يدخلوا في قطيع من الخنازير؛ و الذين سرعان ما انتحروا بإلقاء أنفسهم من حافة جبل (متى 8-28،32 و لوقا 8-26،37 ؛ و في مرقس 5-13 نجد أن عدد الخنازير النافقة كان ألفين.

هكذا يبدو أن الرب - القادر على كل شيء- لم يجد وسيلة لتخليص الرجل من الشياطين إلا أن يقتل ذلك الجمع من الحيوانات غرقا - تُرى ما رأي جمعيات حقوق الحيوان في هذا التصرف؟.

و هكذا لا يبدو أن المسيح اهتم كثيرا بحال أصحاب أولئك القطيع  والذي تم تدمير مورد رزقهم دون تعويض ؛ و لا عجب أن سكان المدينة أخذوا يرجون يسوع بعد الحادثة أن يتركهم و يرحل عن مدينتهم.

مروّج الخرافات
المعجزة- بالتعريف- هي النقيض الصريح للعلم؛ فالأخير هو التعامل مع قواعد الوجود، بينما الأولى هي الإدعاء بخرق تلك القواعد – و من يؤمن بواحدة منهما فيصعب عليه كثيرا أن يتعامل مع الأخرى.

و لهذا فلا يغيب عن أحد التأثير السلبي للإيمان بالسحر و انتشار الدجل و الشعوذة في مجتمع من المجتمعات؛ فالإيمان بالخوارق يعني إهمال قوانين الطبيعة و الإستعاضة عنها بالخرافة، و بالتالي بدلا من اللجوء إلى العلم و الطب سيلجأ الناس، خاصة البسطاء و الجهلة، إلى المشعوذين و الدجالين و السحرة و يصبحون فريسة سائغة لهم ؛ و هذا ما نراه في كل المجتمعات المتأخرة و المتخلفة، و المؤمنة.

صحيح أن جميع الأنبياء تقريبا مارسوا المعجزات حسب إيمان أتباعهم، و الإيمان بالسحر كان ضمن ثقافة القدماء؛ و لكن الجريمة الكبرى للمسيح أنه قام بترسيخ ذلك الفكر الخرافي و الترويج له بإصرار، مستبدلا العلم و المنطق بالخزعبلات البدائية، فاتحا الباب أمام الدجالين و المشعوذين.

فهو- عن جهل أو خبث أو مزيج من الإثنين- يصر على تخويف الناس و إحاطتهم بالذعر من الأشباح و العفاريت؛ لنستمع له (إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ. ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ) متى 12-43،45..إلخ.

و قد رأيناه من قبل يتجاهل غسل يديه قبل الطعام هو و أتباعه (متى 15-2 و مرقس 7-2 و لوقا 11-38) ؛ ثم يدافع عن تلك القذارة بحجة أن المهم هو ما نتكلم به لا ما يدخل إلى بطوننا (متى 15-11)، و مؤكدا أنه لو تصدقنا بالمال فسيكون كل شيء نقيا لنا (لوقا 11-41)؛ و مما يؤكد تجاهله (أو جهله) لكل ما يخص الأسباب الطبيعية كالباكتيريا و الفيروسات أننا نراه يقرن المرض بالذنوب و المعاصي (يوحنا 5-14) و يتصور أن الإيمان يشفي (متى 9-22).

صحيح أن الحالة النفسية للإنسان تؤثر على الجسد سلبا و إيجابا، و لعل القدماء لاحظوا ذلك ؛ و لكن هذا شيء، و المبالغة الساذجة التي تصل إلى تجاهل العلم و الوقوع في نطاق الفكر الأسطوري و البدائي -كما سنرى- هي شيء آخر تماما.

فالمسيح يصل في رفعه للإيمان فوق الواقع، أنه يعد أتباعه المؤمنين مرارا بأن كل ما يطلبونه- بإسمه- سوف يتحقق!

(اسْأَلُوا تُعْطَوْا. اطْلُبُوا تَجِدُوا. اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ) متى 7-7،8 و لوقا 11-9،10 ، (إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ) يوحنا 15-7، (أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي) يوحنا 15-16.

و يؤكد أن اجتماع اثنين أو ثلاثة مؤمنين كفيل بتحقيق جميع مطالبهم (وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَات لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ) متى 18-19،20.

و ذلك يتضمن التحكم في الطبيعة و تحريك الجبال؛ فحين خاف التلاميذ المبحرون في سفينة من الرياح و الأمواج العالية، سيؤنبهم قائلا (مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟) متى 8-26 ؛ ثم يقوم – حسب كاتب الإنجيل- بمخاطبة الرياح فتهدأ فورا ؛ و في مناسبة أخرى (متى 14-26،31) تخبرنا الأناجيل أنه سيؤنب تلميذه بطرس لأنه فشل في أن يمشي مثله على الماء، و اتهمه بقلة الإيمان حين أوشك على الغرق (يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ؟).

و حين أخبره التلاميذ مندهشين أن شجرة التين التي قام بلعنها قد يبست، يرد عليهم بأن الفضل في ذلك يعود لقوة إيمانه التي تجعله يتحكم في الأشياء، و ينصحهم بأن يكونوا مثله و حينها سيمكنهم تحريك الجبال و عمل كل ما يريدونه (فَأَجَابَ يَسُوعُ: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ وَلاَ تَشُكُّونَ فَلاَ تَفْعَلُونَ أَمْرَ التِّينَةِ فَقَطْ بَلْ إِنْ قُلْتُمْ أَيْضاً لِهَذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ وَانْطَرِحْ فِي الْبَحْرِ فَيَكُونُ. وَكُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي الصَّلاَةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونَهُ") متى 21-21،22 و مرقس 11-23،24.

بل لا حاجة لإيمان مساوي للمسيح للقيام بالعجائب و الخوارق و تحريك الجبال ؛ و إنما يكفي فقط مثل حبة خردل من إيمان (فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ) متى 17-20.

بل و يعد أتباعه بأن كل من يؤمن به و بمعجزاته سيكون بإمكانه القيام بمثلها بإسمه (اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي. وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِاسْمِي فَذَلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالاِبْنِ. إِنْ سَأَلْتُمْ شَيْئاً بِاسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ) يوحنا 14-12،14.

و سيتضمن ذلك إخراج الشياطين و شفاء المرضى و حمل الثعابين و شرب السم و الدوس على العقارب! (وَهَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ. يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ) مرقس16-17،18، (هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُّوِ وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ) لوقا 10-19.

الكهنة المسيحيون بالفعل يزعمون شفاء المرضى و إخراج الأرواح (رغم أن ذلك لا يتم تحت رقابة طبية حقيقية، بل يتم وسط الجهلاء و الغوغاء كما كان يفعل يسوع تماما، و رغم أن أحد أولئك الكهنة حين يصاب بصداع في رأسه يهرع فورا إلى الطب دون أن يقوم بشفاء نفسه كما قد نتوقع) ؛ و لكن ماذا بشأن تحريك الجبال من أماكنها أو شرب السم مثلا ؛ هل أحد من المؤمنين المسيحيين مستعدون للقيام بتلك الأمور؟

لا أتحدث عن خرافات إعجازية قديمة أخرى متنكرة في ثياب تاريخ، و إنما أتساءل لم لا يفعلونها الآن؟ لم لا يظهر رجل دين واحد مسيحي و ينقل لنا جبال الألب من مكانها، فتثبت مصداقية كلام المسيح للجميع؟!

ثم، إن كان كل من يؤمن يكون قادرا على تلك الأمور و أكثر حسب كلام المسيح ، فما الذي يجعله هو مميزا عن غيره؟!

هذه النصوص السابقة، و بالإضافة لكونها ترويجا للجهل و الشعوذة و الخرافة على حساب العلم، بشكل يتجعل المسيح يتحمل وزر آلاف الأبرياء الذين ينخدعون بالدجالين كل يوم، إلا أنها أيضا تعد أكاذيب واضحة: فالمسيحيون لا يمكنهم عمل أي شيء بإسم ربهم كما وعدهم يسوع- ببساطة صاحبنا لم يكن فقط يبالغ كعادته دون حسب؛ بل كان يكذب.

و هذا ليس الوعد الكاذب الوحيد للمسيح، فقد رأيناه من قبل يكذب على أتباعه حين ادعى بوضوح أن نهاية العالم قريبة جدا، حتى أنها ستأتي في حياة جيله و جيل تلاميذه مقرونة بعودته المزعومة من وسط السحاب (متى 24-34 و متى 23-36 و مرقس 13-30 و لوقا 21-32 و متى 16-27،28 و مرقس 9-1 و لوقا 9-27 و متى 10-23 و متى 26-64 و مرقس 14-62 و غيرها) ؛ و مازالوا ينتظرون.

و هذا المقياس تحديدا: تحقق النبوءات، هو المقياس الذي وُضع على لسان نبي اليهود موسى في التوراة للتحقق من صدق الأنبياء و تمييز النبي الحقيقي من المزيف (وَأَمَّا النَّبِيُّ الذِي يُطْغِي فَيَتَكَلمُ بِاسْمِي كَلاماً لمْ أُوصِهِ أَنْ يَتَكَلمَ بِهِ أَوِ الذِي يَتَكَلمُ بِاسْمِ آلِهَةٍ أُخْرَى فَيَمُوتُ ذَلِكَ النَّبِيُّ. وَإِنْ قُلتَ فِي قَلبِكَ: كَيْفَ نَعْرِفُ الكَلامَ الذِي لمْ يَتَكَلمْ بِهِ الرَّبُّ؟ فَمَا تَكَلمَ بِهِ النَّبِيُّ بِاسْمِ الرَّبِّ وَلمْ يَحْدُثْ وَلمْ يَصِرْ فَهُوَ الكَلامُ الذِي لمْ يَتَكَلمْ بِهِ الرَّبُّ بَل بِطُغْيَانٍ تَكَلمَ بِهِ النَّبِيُّ فَلا تَخَفْ مِنْهُ) تثنية 18-20،22.

و الواضح أن توقعات المسيح، و على الأخص ادعاءه بقرب القيامة، و بقدرة أتباعه على القيام بجميع معجزاته، هي توقعات كاذبة تماما إذ لم تتحقق – والمفارقة هنا أن المسيح أيضا تم قتله، كما يتوقع النص!

بالإضافة لتلك الكذبتين الكبيرتين، فإننا نجد العديد من الأكاذيب و التناقضات الأخرى في كلمات المسيح حسب ما وصلتنا من الأناجيل؛ فكأن المراوغة و التلاعب بالألفاظ هي صفات ملازمة لذلك الرب المتجسد من عذراء.


أكاذيب و مراوغات و تناقضات أخرى
يقول بطرس عن المسيح أنه (الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ) بطرس الأولى 2-22.

و لكن ما يقدمه لنا الأناجيل عن يسوع يرينا العكس: أن الرجل ناقض نفسه مرارا، و لجأ إلى التحايل و المراوغة، بل و الكذب الصريح، في أمور كبيرة و صغيرة.

فذات مرة أراد أن يتسلل إلى المعبد خفية؛ فأخبر تلاميذه أن يذهبوا هم و قال أنه لن يذهب في هذا العيد (أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ إِلَى هَذَا الْعِيدِ لأَنَّ وَقْتِي لَمْ يُكْمَلْ بَعْدُ) يوحنا 7-8 ؛ و لكن فور أن انصرفوا سارع هو بالذهاب متسللا في الخفاء! (وَلَمَّا كَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ صَعِدُوا حِينَئِذٍ صَعِدَ هُوَ أَيْضاً إِلَى الْعِيدِ لاَ ظَاهِراً بَلْ كَأَنَّهُ فِي الْخَفَاءِ) يوحنا 7-10.

و حين أراد دخول القدس راكبا على جحش (تحقيقا لنبوءة متصورة في العهد القديم، حول ملك اليهود القادم) ؛ أرسل اثنين من تلاميذه ليحضرا جحشا، و أمرهما بالكذب إن حاول أحد إيقافهما (وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا: "اذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا فَلِلْوَقْتِ وَأَنْتُمَا دَاخِلاَنِ إِلَيْهَا تَجِدَانِ جَحْشاً مَرْبُوطاً لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. فَحُلاَّهُ وَأْتِيَا بِهِ. وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَفْعَلاَنِ هَذَا؟ فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُ إِلَى هُنَا". فَمَضَيَا وَوَجَدَا الْجَحْشَ مَرْبُوطاً عِنْدَ الْبَابِ خَارِجاً عَلَى الطَّرِيقِ فَحَلاَّهُ. فَقَالَ لَهُمَا قَوْمٌ مِنَ الْقِيَامِ هُنَاكَ: "مَاذَا تَفْعَلاَنِ تَحُلاَّنِ الْجَحْشَ؟" فَقَالاَ لَهُمْ كَمَا أَوْصَى يَسُوعُ. فَتَرَكُوهُمَا. فَأَتَيَا بِالْجَحْشِ إِلَى يَسُوعَ وَأَلْقَيَا عَلَيْهِ ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِ) مرقس 11-1،7.

الحادثة الأخيرة، و كذلك التي قبلها، تتضمن نوعا من الكذب المتخفّي لعبا بالألفاظ، على طريقة "التورية" و "المعاريض" الذي يتبناه الفقه الإسلامي لمن يريد الكذب؛ و تعريفه هو قول عبارة تحمل معنيين، يفهم منها السامع المعنى الأوضح، بينما عند الضرورة يمكنك التحجج بأنك إنما أردت المعنى الآخر و بالتالي فأنت لم تكذب!.

لكن الحادثة بالإضافة لتضمنها الكذب فهي تتضمن أيضا التعدي على الأملاك-  و هو أمر من الواضح أن المسيح لا يحترمه كثيرا، كما رأينا في إفساده لشجرة التين دون اعتبار لصاحبها، و كما رأينا في قتله لقطيع من الخنازير و التي حتما كانت مملوكة و مورد رزق للبعض- و لكن حادثة الجحش هذه تتضمن جريمة ثالثة و هي اللصوصية المباشرة ؛ فبسهولة يمكن القول أن المسيح هنا أمر تلميذيه بسرقة الجحش الذي ربطه مالكه، و الكذب على من يحاول إيقافهما.

و مع الكذب، نجد من المسيح تكرارا لذلك التلاعب المستمر بالألفاظ و المراوغة في أكثر المشاهد التي يتمر بها.

و كمثال وحيد، ففي محاكمته تخبرنا الأناجيل أن شهود الإدانة تقدموا ليزعموا- زورا حسب الكاتب- أن المسيح طلب منهم هدم الهيكل و ادعى أنه سوف يعيد بناءه مرة أخرى (مرقس 14-57،58) ؛ بينما في موضع آخر نجد أن يسوع قال هذا الكلام فعلا! (يوحنا 2-19).

و رغم ادعاء يوحنا أن المسيح لم يكن يقصد الهيكل و إنما كان يقصد جسده (يوحنا 2-21)، إلا أن هذا الإدعاء يظل افتراضا دون دليل من كلام المسيح نفسه، مما يجعل شهادة الشهود ليست شهادة زور كما ادعى كاتب الإنجيل، و مما يجعل يسوع في النهاية ضحية مراوغاته و ألغازه المجازية التي يستحيل فهمها بشكل حقيقي.

و حين يلح عليه رئيس الكهنة أن يصارحهم بحقيقة ادعاءه (أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؟) متى 26-63، كالعادة لا يرد بوضوح و إنما يراوغ (قَالَ لَهُ يَسُوعُ: "أَنْتَ قُلْتَ!") متى 26-64 ؛ و هكذا يفعل في معظم ردوده، عبر كل ما ورد لنا من سيرته.

و مع المراوغة و الكذب في الكبير و الصغير، يأتي التناقض أيضا في الكبير و الصغير؛ فقد رأينا المسيح يتشدد في تطبيق التوراة حرفيا ثم ينقلب عليها مائة و ثمانون درجة و ينقضها تماما، و رأيناه يأمر بمحبة حتى الأعداء ثم يأمر ببغض و كراهية حتى الأقارب، و هو يعظم نفسه و يتمادى في النرجسية إلى درجة ترك امرأة تغسل قدميه بالعطر و تقبلهما (لوقا 7-38) ثم يتمادى في التذلل إلى درجة قيامه هو بغسل أقدام التلاميذ (يوحنا 13-5)، و نراه يزعم أن مملكته ليست من هذ العالم (يوحنا 18-36) و يأمر بمنح ما لقيصر لقيصر (متى 22-21) ثم يمنح بطرس سلطة الحل و الربط في الأرض كما سنرى،  و رأيناه يهدد من يشتم أحدا ثم يشتم هو الناس، و رأيناه يمدح صانعي السلام ثم يؤكد بأنه لم يأت ليلقي على الأرض سلاما بل لتقسيم البشر، و رأيناه يدين السيف ثم يؤكد أنه جاء لكي يلقي سيفا، و رأيناه يمارس السلبية إلى درجة الأمر بإدارة الخد الآخر للاطمين، ثم يستخدم العنف و التهديد تجاه المخالفين.

هذه المواقف المتضاربة و غيرها تشكك البعض تماما في مصدقية العهد الجديد، و لكن لو أرغمنا أنفسنا على تصديقها جميعا، فهي تؤكد أن تعاليم المسيح لا تعبر عن فلسفة أخلاقية ذات نسق متماسك، و إنما هي تركيبات لفظية تخرج بشكل عفوي حسب السياق و تهدف غالبا إلى لفت الأنظار أو دغدغة مشاعر الجموع أو الصدام العمدي مع رجال الدين النافذين ؛ باختصار الرجل يبدو ككتلة متناقضات تمشي على قدمين- و هو لديه وعظة مختلفة لكل مناسبة حسب الظروف و حسب المزاج.

و نرى التناقضات أيضا تطال حتى كلامه العادي البسيط؛ فهو على سبيل المثال مرة يؤكد أنه لو شهد لصالح نفسه فلا تعد شهادته حقا (إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً) يوحنا 5-31، و مرة يؤكد العكس تماما! (وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ) يوحنا 8-14.

ثم هو يؤكد أنه و الأب واحد (أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ) يوحنا 10-30، ثم هو عند صلبه يصرخ هاتفا (إِيلِي إِيلِي لَمَا شَبَقْتَنِي - أَيْ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) متى 27-46!

و هو مرات يؤكد أنه لم يأت لإدانة العالم (وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كلاَمِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لاَ أَدِينُهُ لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِأُخَلِّصَ الْعَالَمَ) يوحنا 12-47، (أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً) يوحنا 8-15 ؛ بينما مرات يؤكد أنه قد جاء لإدانة العالم (لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ) يوحنا 9-39، (وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ) يوحنا 8-16.

و بينما تؤكد نصوص الكتاب المقدس أن الله وحده هو من يدين الناس (فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يَدِينُ اللهُ سَرَائِرَ النَّاسِ) رومية 2-16، (نَشْهَدَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعَيَّنُ مِنَ اللهِ دَيَّاناً لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ) أعمال الرسل 10-42، و ليس الإبن هو من يدين (لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ) يوحنا 3-17؛ إلا أنه في مواضع أخرى يؤكد أن الآب لا يدين أحدا بل الإبن هو الذي يحاسب البشر! (الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ) يوحنا 5-22 ،(وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ) يوحنا 5-27، (الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْعَتِيدِ أَنْ يَدِينَ الأَحْيَاءَ وَالأَمْوَاتَ، عِنْدَ ظُهُورِهِ وَمَلَكُوتِهِ) تيموثاوس الثانية 4-1، (لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً) كورنثوس الثانية 5-10.

و لأن الأب و الإبن واحد، و لكنهما في نفس الوقت ليسا واحد؛ فهكذا صار من السهل في الفكر المسيحي أن يكون الشيء كذا و يكون عكسه معا، و أن يتحقق الشيء و لا يتحقق معا؛ حتى أن هذه البهلوانيات اللغوية صارت إحدى أهم مميزات الفكر المسيحي سيرا على نهج المراوغ الأكبر يسوع المسيح- و الذي حتى في تعاليمه و حديثه إلى تلاميذه يلجأ دائما إلى التكلم بالأمثلة، و التي كثيرا ما تضلل أكثر مما توضح.


هذيان و ألغاز و أمثلة سخيفة لاإنسانية
من السمات المهمة لتعاليم المسيح أنه عادة ما يتكلم بالأمثلة، فيحكي قصصا تهدف لإيصال المعاني التي يريد إيصالها للسامعين.

هو أسلوب لطيف و ربما يكون جميلا من الناحية التربوية؛ كما أننا بالفعل قد نجد بعض الجوانب الأخلاقية السامية في تلك الأمثال، و نخص تحديدا قصة السامري الصالح لوقا 10-29،37 التي تؤكد على قيمة الرحمة و تُعليها على فكر العنصرية و التعصب للأقرباء.

لكن على الجانب الآخر فكثير من تلك الأمثال توحي بالركاكة و السطحية و السخافة، كما تحتوي على معاني منافية تماما للمفاهيم الإنسانية.

في متى 18-23،35 يحكي لنا يسوع قصة رمزية عن الدينونة و الملكوت السماوي، يشبّه فيها الله بإنسان ملك أراد أن يحاسب عبيده، فيستدعي أحدهم، و هو مدين له بمبلغ من المال و عاجز عن الدفع، و يهدده السيد بأنه سوف يبيعه هو و زوجته و أولاده و جميع أملاكه حتى يوفي الدين؛ و حين يسجد العبد متوسلا العفو و طالبا فرصة للسداد يحنّ قلب السيد و يتركه يرحل؛ ثم لما غادر العبد حدث أن وجد رفيقا آخر له كان مدينا له هو بمال فتشدد في طلبه منه بإصرار؛ و فور أن اكتشف السيد قسوة عبده تجاه رفيقه استدعاه مرة أخرى و قرر أن يعاقبه على غلظته بأن يسلمه إلى المعذبين يعذبونه حتى يوفي ما عليه للسيد؛ و يختم المسيح القصة بالقول أن هذا هو نفس ما يفعله الله مع عبيده الذين لا يتسامحون مع الغير.

إذن، لنتغاضى عن العبرة العامة من القصة و التي قد لا تكون سيئة (التسامح يُقابل بتسامح و القسوة تُقابل بقسوة)، و لنترك أمر ذلك العبد جانبا فهو على الأرجح لا يستحق الكثير من الشفقة التي لم يبدها بدوره تجاه رفيقه الآخر، و لنتأمل قليلا في عناصر المثل نفسه كما اختارها المسيح، ففيها ما يستدعي التأمل.

من عناصر المثل لا يبدو لنا أن يسوع لديه أدنى مشكلة مبدئية مع العبودية و امتلاك البشر للبشر، و كذلك لا يجد سوءا في بيع الأطفال وفاءا للديون كما كان السيد (الله) ينوي أن يفعل، و أخيرا لا نرى أنه استنكر مبدأ تعذيب البشر على أيدي الجلادين كما فعل السيد مع عبده في نهاية القصة.

و لا تكمن المشكلة فقط في تشبيه الله بمستعبد يمتلك البشر و يبيعهم و يمارس التهديد و التعذيب، فذلك نعرف أنه ينطبق بالفعل على صورة الله في اليهودية و المسيحية كما رأينا، لكن الجديد هنا أن المسيح و هو يحكي لم نسمعه يبدي اعتراضا مبدئيا على البشر الذين يقومون بتلك الممارسات، التي و إن وردت في قصة رمزية إلا أنها كانت تحدث في زمنه بالفعل بين العبيد و المدينين، و لم نره يظهر أقل استنكار ضدها ، بل هو يؤيدها ضمنا.

و كما أشرنا سابقا، فعبر جميع أقوال المسيح التي وردت عنه في الأناجيل، لن نجد كلمة واحدة ضد العبودية؛ لم يتفوه المسيح بأي إدانة لمبدأ استرقاق البشر و بيعهم في الأسواق؛ و هي العادة الموجودة في نصوص العهد القديم اليهودي، و ممارسات اليهود، و المنتشرة أيضا في زمان يسوع و بيئته، دون أن نجده يظهر أقل استنكارا لتلك الممارسة.

 و في أمثلة أخرى نجد المسيح يستخدم نفس التشبيه لله بالسيد الذي يعذب البشر(وَأَمَّا ذَلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ فَيُضْرَبُ كَثِيراً) لوقا 12-47؛ مما يؤكد أن الرجل لا يجد تمثيلا أفضل لصورة العدل الإلهي إلا بما يجري بين مالك عبيد و عبيده، حيث يجلد بالسياط العصاة منهم و يقوم بتعذيبهم.

و في مثال ثالث عن الملكوت (متى 25-14،30) يشبّه الله بسيد آخر غني سافر و ترك مع كل واحد من عبيده مبلغا مختلفا من المال؛ و بعد عودته وجد أن أصحاب الأنصبة الكبيرة قد تاجروا في مالهم و زادوه، و سلموه ما ترك لهم مضاعفا، بينما وجد أن صاحب المال القليل مازال محتفظا بنصيبه كما هو، و ينوي ردّه لصاحبه دون زيادة؛ فيشتمه السيد (أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ وَالْكَسْلاَنُ)، و يؤكد أنه كان ينتظر أرباحا لماله الذي تركه (فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِباً)؛ ثم يختم المسيح قصته بنفس النهاية المعتادة: السيد يأمر بتعذيب العبد! (وَالْعَبْدُ الْبَطَّالُ اطْرَحُوهُ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ).

و في صياغة أخرى لقصة مشابهة (لوقا 19-12،27) نجد السيد\الملك\الله يتفاخر بأنه ملك ظالم و طماع، و يؤكد بأن هذا سبب أدعى كان يجب أن يدفع العبد لاستثمار المال! (مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ. عَرَفْتَ أَنِّي إِنْسَانٌ صَارِمٌ آخُذُ مَا لَمْ أَضَعْ وَأَحْصُدُ مَا لَمْ أَزْرَعْ فَلِمَاذَا لَمْ تَضَعْ فِضَّتِي عَلَى مَائِدَةِ الصَّيَارِفَةِ فَكُنْتُ مَتَى جِئْتُ أَسْتَوْفِيهَا مَعَ رِباً؟) ؛ ثم يختم القصة بقرار الملك أن يعاقبه و كل من لا يعترف به ملكا (أَمَّا أَعْدَائِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي).

هذا النص الأخير كثيرا ما يتناقله البعض على أنه من كلام المسيح؛ و لكن الحقيقة أنه من كلام بطل القصة التي قيلت على لسان المسيح – ذلك البطل الذي يمثل رمزيا الله نفسه!

و في مثال آخر (لوقا 16-1،9) نجد المسيح يمدح الكذب و التزوير!، إذ يحكي عن موظف (وكيل) يعمل لدى إنسان غني، و حين أوشك الغني على طرده بسبب تبذيره، قرر الوكيل أن يبحث عن خطة تضمن له عملا جديدا عند آخرين (فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ) ؛ و هؤلاء الذي كان يتمنى أن يقبلوه هم الدائنون لدى سيده ؛ فما كان منه إلا أن تآمر معهم على التزوير لتقليص ديونهم  (..فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ..)؛ و هكذا ضمن الرجل عملا جديدا بعد أن يترك عمله – و الكارثة أن المسيح يمتدح ذلك الغش و ينصح أتباعه أن يقوموا بالمثل (فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ)،( أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ).

مع اللاأخلاق و اللاإنسانية و تشبيه الله بمالك عبيد صارم يضرب و يعذب عبيده، مما يعد إقرارا مباشرا بتلك الممارسات حين تمارس من قبل الله، و إقرارا غير مباشر بها حين تمارس من قبل البشر ، نجد أيضا أن أمثلة يسوع في معظمها سطحية ساذجة و لا تخلو من سخافة و ركاكة، حيث يمكن تلخيصها في عبارتين: "من يسمع الكلام ينجو، و من يعصي فليس له إلا الضرب و التعذيب"؛ بالإضافة لذلك فكثيرا ما تبدو الأمثال مختلطة المعنى و غير واضحة حتى أن التلاميذ في الأناجيل يبدون دائما كالمغفلين غير مدركين لمعظم ما يحاول يسوع قوله لهم.

أما سبب حديث المسيح بالأمثال الغامضة أحيانا فهو سبب وجيه جدا: حتى لا يفهمها الجميع فينجون من النار!- و ذلك كما صارح تلاميذه سرا في إحدى الخلوات (وَلَمَّا كَانَ وَحْدَهُ سَأَلَهُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ عَنِ الْمَثَلِ فَقَالَ لَهُمْ: "قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللَّهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ") مرقس 4-10،12.

و يؤكد نفس المعني- الجنوني- نصوص أخرى، كقوله (لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ) يوحنا 9-39؛ فمن العبارة الأخيرة الإضلال على ما يبدو هو أحد أهداف يسوع المسيح.

بالطبع ربما يكون لهذه المراوغات و الأمثال أسباب أخرى، منها هدف أدبي: فالمسيح و كتاب الأناجيل كانوا حتما متصلين بفنون القصص و الأساطير اليوناني و اليهودي المنتشر و الذي يوصل المعاني بشكل غير مباشر و من خلال الحكايات كما كان يحاول المسيح فعله ، و ربما كان هناك هدف سياسي آخر للغموض و هو تجنب بطش السلطات في فترة معينة؛ فبشكل عام فإن أهل الطوائف الدينية السرية في العالم القديم- قبل المسيحية و بعدها- كانوا كثيرا ما يلجأون إلى التكلم بالرموز بشكل لا يفهمه الجميع ؛ و نجد أن هذا الأسلوب الغامض في الكلام سيمهد بشكل غير مباشر لظهور سلطة الكنيسة و تسهيل سيطرتها على الجموع عن طريق حقها الحصري في احتكار فهم و تأويل كلام الرب الغامض حسبما ترى.

الثمار الرسولية الأولى
تطبيقا للقاعدة التي وضعها يسوع نفسه بالحكم على الأشخاص من خلال نتائج دعوتهم على الأرض (مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ)، فيمكن القول أن نتائج دعوة المسيح العملية لم تكن أفضل من تعاليمه النظرية - و بعضها مثّل كوارث إنسانية باعتراف المسيحيين أنفسهم.

مبدئيا، يبدو لنا أن المسيحيين الأوائل كانوا أقرب إلى طائفة من اليهود الذين يمارسون الشعائر و يقدسون التوراة و يؤمنون بالمسيح و بالقيامة الوشيكة، و يتجولون لنشر إيمانهم في المنطقة باجتهادات فردية، لن تأخذ شكلا منتظما إلا بعد أكثر من ثلاثة قرون من زمن يسوع.

و كما قد نتوقع بعد ما مر بنا، فلابد أنهم بدوا آنذاك كجماعة أخرى من جماعات الصعاليك الفقراء المهووسين دينيا ، و الهائمين على وجوههم بين الناس يبشرون بقرب نهاية العالم و يفسرون التوراة بشكل شاذ خاص بهم و يزعمون أنهم يشاهدون رؤى و يسمعون أصواتا تكلمهم ليل نهار؛ و هي عناصر معروفة مكررة في العديد من الطوائف القديمة و الحديثة ؛ و بمقاييس اليوم يمكن مقارنة المسيحيين الأوائل بالرائيليين مثلا، الذين يزعمون بأن زعيمهم و مؤسس الديانة يتلقى تعاليم و إرشادات كالوحي من الكائنات الفضائية، التي – كما يؤمنون- خلقت الحياة على الأرض ؛ و المقارنة فقط في سلامة المنطق و مدى القدرة على إثبات الإدعاءات، إلا أن الرائيليين- دينيا و اجتماعيا- أقل تعصبا و تطرفا من المسيحيين كثيرا.

و من الثمار اليسوعية سنتناول حالتين فقط- كعينتين ممثلتين- هما بطرس و بولس، ثم سنمر على بعض ممارسات الكنيسة التي أسس لها المسيح، و التي مثّلت تعاليمه و حكمت بإسمه الدول و البشر لأكثر من ألف سنة في الغرب و الشرق.


بطرس
اسمه الأصلي "سمعان ابن يونا"، و لقّبه المسيح بـ"بطرس" و الكلمة تعني "الصخرة"؛ و هو واحد من أهم التلاميذ الإثنى عشر فيذكر دائما كأول اسم في القائمة.

و بطرس نفسه هو الذي استل سيفه و قطع الأذن اليمنى لأحد العبيد في أثناء عملية القبض على المسيح (يوحنا 18-10)؛ و بالتالي يعتبر أول من ارتكب حادثة عنف و سفك دماء مباشرة في تاريخ المسيحية (لو استثنينا ما فعله يسوع نفسه في حادثة المعبد).

 ثم إن بطرس لاحقا ترك المسيح و هرب مع باقي التلاميذ (متى 26-56).

و بعد الهرب و أثناء محاكمة يسوع ، سيتم استجواب بطرس حول علاقته بالمسيح، و سينكر تماما معرفته به- و لن يحدث هذا مرة واحدة، بل ثلاث مرات! (متى 26- 69،75 و مرقس 14- 66،72 و لوقا 22-55،61 و يوحنا 18- 16،27).

على الجانب الآخر رأينا المسيح عبر فترة دعوته يدين بطرس و يؤنبه عدة مرات : فمرة يناديه غاضبا بـ"يا شيطان" و يتهمه (أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ) متى 16-23؛ و مرة يؤنبه قائلا (يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ) متى 14-31.

لكن الغريب أن هذا الشخص- الموصوف بقلة الإيمان و بالجبن و النذالة و بالكذب و بالتسرع و العنف- سيعتبر قديسا عند المسيحيين و الأب الأول للكنيسة الكاثوليكية و ممثّلها حسب لائحة الفاتيكان، فلقد اختاره المسيح ليقلّده مفاتيح الأرض و السماء و يمنحه سلطة مطلقة للحكم (..فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:"طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ") متى 16-17،19.

و في مناسبات أخرى أوصاه يسوع قائلا (ارْعَ خِرَافِي) يوحنا 21-15، و كررها (ارْعَ غَنَمِي) يوحنا 21-16 و 21-17 ؛ و ألقاب "الخراف" و "الأغنام" التي استخدمها المسيح أكثر من مرة لوصف المؤمنين هي ألقاب ماتزال تتفاخر الكنائس بإطلاقها على رعاياها الطائعين المنقادين.

و كما أن بطرس هو أول صاحب حادثة عنف، فلعله أيضا أول محرّض على القتل، بل و ربما يكون أول قاتل محتمل فعلي.

في أقواله يشير إلى عبارة منسوبة للنبي موسى في التوراة تهدد كل من يرفض طاعة الأنبياء (فَإِنَّ مُوسَى قَالَ لِلآبَاءِ: إِنَّ نَبِيّاً مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لاَ تَسْمَعُ لِذَلِكَ النَّبِيِّ تُبَادُ مِنَ الشَّعْبِ) أعمال الرسل 3-22،23، و هي طبعا من بطرس تهديد واضح لكل من يرفض طاعة المسيح.

أما مصطلح "الإبادة من الشعب" فهو تعبير غامض يرد كثيرا في التوراة ، و قد يقصد به عقوبة دنيوية (القتل على يد السلطة) أو عقوبة إلهية غير محددة (كاللعن و النفي).

لكن الطريف هنا أن اقتباس بطرس غير دقيق، فموسى لم يستخدم هذا المصطلح في العبارة المنقولة، و الواردة في سفر التثنية (أُقِيمُ لهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلكَ وَأَجْعَلُ كَلامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الذِي لا يَسْمَعُ لِكَلامِي الذِي يَتَكَلمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ) تثنية 18-18،19؛ موسى في النص لم يطالب بقتل من لا يسمع لكلام النبي، و إنما اكتفى بقوله "أنا أطالبه"! ؛ لكن يبدو أن بطرس إما كان ضعيف الذاكرة، و إما أنه وجد الإبادة تمثل تهديدا أنسب للموقف الذي يحاول الترويج له، و هو قتل كل من لا يؤمن بالمسيح.

و لاحقا سنرى بطرس يرهب رجلا حتى الموت (بمساعدة بسيطة من الله)، لأن الرجل باع حقلا يملكه و أعطى جميع النقود للرسل – لكن ظهر بعد ذلك أن الرجل احتفظ بجزء من المال لنفسه سرا!؛ لنسمع القصة:

(وَرَجُلٌ اسْمُهُ حَنَانِيَّا وَامْرَأَتُهُ سَفِّيرَةُ بَاعَ مُلْكاً وَاخْتَلَسَ مِنَ الثَّمَنِ وَامْرَأَتُهُ لَهَا خَبَرُ ذَلِكَ وَأَتَى بِجُزْءٍ وَوَضَعَهُ عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ. فَقَالَ بُطْرُسُ: "يَا حَنَانِيَّا لِمَاذَا مَلأَ الشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ وَتَخْتَلِسَ مِنْ ثَمَنِ الْحَقْلِ؟ أَلَيْسَ وَهُوَ بَاقٍ كَانَ يَبْقَى لَكَ؟ وَلَمَّا بِيعَ أَلَمْ يَكُنْ فِي سُلْطَانِكَ؟ فَمَا بَالُكَ وَضَعْتَ فِي قَلْبِكَ هَذَا الأَمْرَ؟ أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى النَّاسِ بَلْ عَلَى اللهِ". فَلَمَّا سَمِعَ حَنَانِيَّا هَذَا الْكَلاَمَ وَقَعَ وَمَاتَ. وَصَارَ خَوْفٌ عَظِيمٌ عَلَى جَمِيعِ الَّذِينَ سَمِعُوا بِذَلِكَ. فَنَهَضَ الأَحْدَاثُ وَلَفُّوهُ وَحَمَلُوهُ خَارِجاً وَدَفَنُوهُ..) أعمال الرسل 5- 1،6.

و بعدها مباشرة سيتكرر نفس الشيء مع زوجة (أرملة) حنانيا، فبدلا من أن يعزيها بطرس في وفاة زوجها (بسبب الروح القدس، أو رعبا منه)، إذا به يؤنبها و يبشرها بأنها سوف تموت- فتموت بالفعل! (..ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ مُدَّةِ نَحْوِ ثَلاَثِ سَاعَاتٍ أَنَّ امْرَأَتَهُ دَخَلَتْ وَلَيْسَ لَهَا خَبَرُ مَا جَرَى. فَسَأَلَهَا بُطْرُسُ: "قُولِي لِي أَبِهَذَا الْمِقْدَارِ بِعْتُمَا الْحَقْلَ؟" فَقَالَتْ: "نَعَمْ بِهَذَا الْمِقْدَارِ". فَقَالَ لَهَا بُطْرُسُ: "مَا بَالُكُمَا اتَّفَقْتُمَا عَلَى تَجْرِبَةِ رُوحِ الرَّبِّ؟ هُوَذَا أَرْجُلُ الَّذِينَ دَفَنُوا رَجُلَكِ عَلَى الْبَابِ وَسَيَحْمِلُونَكِ خَارِجاً". فَوَقَعَتْ فِي الْحَالِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَمَاتَتْ. فَدَخَلَ الشَّبَابُ وَوَجَدُوهَا مَيْتَةً فَحَمَلُوهَا خَارِجاً وَدَفَنُوهَا بِجَانِبِ رَجُلِهَا. فَصَارَ خَوْفٌ عَظِيمٌ عَلَى جَمِيعِ الْكَنِيسَةِ وَعَلَى جَمِيعِ الَّذِينَ سَمِعُوا بِذَلِكَ) أعمال الرسل 5- 7،11.

عند قراءة القصة لا يمكننا تفويت، ليس فقط عنصر الغلظة و القسوة الواضحة في أسلوب بطرس، أول من استخدم السيف في المسيحية، و إنما من الملفت أيضا أسلوب التجرؤ و البلطجة الواضحة في جمع المال و مطالبة الناس به، لدرجة اضطرار الرجل لإخفاء ماله عنهم!، بشكل يجعلنا نتساءل إن كنا نتحدث عن تبرعات طوعية بدافع الإيمان المسيحي، ربما تنفيذا لوصايا ربهم المتجسد بأن يتخلوا عن جميع أملاكهم، أم عن نوع من الجباية أو الإتاوات المالية الإجبارية يتم ممارستها على الناس قسرا بإسم الله- و ذلك كما ستسير سنّة الكنيسة بعد ذلك لقرون طويلة حتى مجيء عصر التنوير في أوروبا؟

فماذا عن الوفاة الغريبة- و المريبة- للزوجين؟!

مبدئيا، ترى من الذي حكى القصة للناس على هذا النحو الذي قرأناه؟ هو حتما بطرس، فمن السياق يبدو أنه كان الشاهد الوحيد على الواقعة (خاصة في حادثة الزوجة) ؛ كان وحده في المكان فيدخل الشباب و يحملون الجثة إلى الخارج- و من ثم يصدقون ما يدعيه بطرس أن الموت كان وفاة طبيعية، أو إلهية!

هذا كله يجعلنا نتسائل: لو كانت هناك شرطة و قضاء في ذلك الزمن، فمن سيكون أول مشتبه به كمتهم في الجريمة؟ ثم، لو كان لديهم تحقيقات و طب شرعي متقدم يشرح الجثث و يحلل أسباب الوفاة، فترى ما الذي كان يمكن أن يتكشف أيضا؟

كاذب قليل الإيمان منكر لسيده، و نذل جبان أمام السلطة ، و بلطجي غليظ القلب يستخدم العنف و يمارس الجباية المالية و ربما القتل أيضا تجاه الأضعف منه - تلك هي صفات أبرز تلاميذ المسيح، لا كما نتصورها و لكن كما يخبرنا بها العهد الجديد.


بولس

هو – حسب ما يؤمن المسيحيون- يهودي ولد في طرسوس (في تركيا)؛ و كان مهتما بدراسة التوراة، و في نفس الوقت مواطن روماني؛ و اسمه الآخر شاول.



بولس لم يلتق بالمسيح و لم يره وجها لوجه طوال حياته؛ و يحكى عنه العهد الجديد أنه في البداية كان يحارب المسيحية بصفتها طائفة مهرطقة؛ إلا أنه ذات يوم، و هو في طريقه إلى دمشق، شاهد "رؤيا روحانية" غيرت حياته حيث تجلّى له المسيح، فاعتنق المسيحية و ذهب ليلتقي بالتلاميذ، ثم تحول ليصير واحدا من أهم المبشرين باسم يسوع- هكذا تسير القصة.


من الناحية الزمنية و السردية فالقصة يحوطها الكثير من الغموض و الخلط و التناقض ؛ فعلي سبيل المثال في أعمال الرسل، و الذي يفترض أن كاتبه هو لوقا تلميذ بولس، نقرأ أن بولس قبل اعتناقه المسيحية كان في القدس و معروف
ا بأنه يضطهد المسيحيين (أعمال الرسل 8-1،3 و 9-1،2) ، بينما في رسالة بولس نفسه إلى غلاطية، نجده يؤكد أنه حتى دخوله في المسيحية لم يكن قد ذهب إلى أورشليم أو التقى بالرسل أبدا! (غلاطية 1 -16،24) – و لسبب ما يحرص على تأكيد أنه صادق في كلامه هذا (..وَالَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ).



أما من الناحية اللاهوتية ، فلا أحد يضاهي بولس في التأثير على صياغة الديانة التي اعتنقها دون أن يلتقي مؤسسها، حتى أن البعض يرون أن بولس، و ليس يسوع، هو المؤسس الحقيقي للعقيدة المسيحية الحالية بعناصرها الرئيسية : أن الله أرسل ابنه ليموت فداءا للبشر، و بعد أن مات لثلاثة أيام قام مرة أخرى هازما الموت، و أنه سوف يعود قريبا ليحيي المؤمنين معه إلى الأبد ؛ و ذلك مع ملاحظة أن رسائل بولس – التي تأتي في الترتيب الكتابي لاحقا بعد أناجيل مرقس و متى و لوقا و يوحنا- هي زمنيا سابقة على تلك الكتابات، فهي أقدم ما كتب في العهد الجديد.



لكن التأثير الأخطر لبولس، كان إعلانه- ربما بالتعاون مع آخرين- أن الإلتزام بالتوراة و بالشريعة اليهودية و بالختان اليهودي لا تعدان أمورا ضرورية لنيل الخلاص، و إنما المهم فقط هو الإيمان بالمسيح و قيامته ؛ هذا التغيير الهائل و الجذري بإسقاط الشريعة التوراتية سمح – لأول مرة- بانتشار الديانة المسيحية بين الأمم أو الأغيار (غير اليهود و خاصة اليونانيين) ، بينما أعلن القطيعة الدينية إلى الأبد بين أتباع المسيح ،اليهود أصلا، و بين التيار الرئيسي من باقي اليهود التقليديين.

ذلك التأثير اللاهوتي و الإجتماعي بل و السياسي للرجل- على ضخامته - لا يعنينا هنا كثيرا ؛ و أيضا لا مجال للدخول في كيفية تناقض العقيدة البولسية مع تعاليم المسيح نفسه في مواضع عديدة ؛ و إنما ما سيهمنا بالأساس هو الجوانب الأخلاقية لتعاليم بولس، و التي سنرى أنها في مجملها لا تقل سوءا عما جاء به المسيح.

فوبيا الجنس مرة أخرى
كما وجدنا تعاليم المسيح- البتول و ابن العذراء- تحتقر الجنس بأشكال مختلفة، نجد أن بولس يحذو حذوه، فيتكلم في رسالته الأولى إلى كورنثوس، الأصحاح السابع، عن الزواج و كأنه شر لابد منه؛ لماذا شر؟ لأنه يتضمن الجنس، بينما الأفضل أن لا يمس الرجل المرأة مطلقا (وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الأُمُورِ الَّتِي كَتَبْتُمْ لِي عَنْهَا فَحَسَنٌ لِلرَّجُلِ أَنْ لاَ يَمَسَّ امْرَأَةً. وَلَكِنْ لِسَبَبِ الزِّنَا لِيَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ امْرَأَتُهُ وَلْيَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ رَجُلُهَا) 1،2.

و هو ينصح الناس أن لا يتزوجوا، بل يلبثوا مثله ؛ و لكن لا بأس بأن يتزوجوا مضطرين لحاجتهم إلى الجنس (لأَنِّي أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النَّاسِ كَمَا أَنَا... وَلَكِنْ أَقُولُ لِغَيْرِ الْمُتَزَوِّجِينَ وَلِلأَرَامِلِ إِنَّهُ حَسَنٌ لَهُمْ إِذَا لَبِثُوا كَمَا أَنَا. وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَضْبِطُوا أَنْفُسَهُمْ فَلْيَتَزَوَّجُوا لأَنَّ التَّزَوُّجَ أَصْلَحُ مِنَ التَّحَرُّقِ) 7،9.

هكذا السبب الأهم للزواج في وجهة نظر بولس ليس تكوين أسرة أو الإرتباط بمن نحب، و إنما فقط تجنبا للزنا.

على الجانب الآخر هو يطيع أمر الرب بمنع الطلاق؛ و من ثم فمجمل رأيه هو كالآتي (أَنْتَ مُرْتَبِطٌ بِامْرَأَةٍ فَلاَ تَطْلُبْ الِانْفِصَالَ. أَنْتَ مُنْفَصِلٌ عَنِ امْرَأَةٍ فَلاَ تَطْلُبِ امْرَأَةً) 27 ؛ ففي النهاية عدم الزواج أفضل (إِذاً مَنْ زَوَّجَ فَحَسَناً يَفْعَلُ وَمَنْ لاَ يُزَوِّجُ يَفْعَلُ أَحْسَنَ) 38.

أما سبب هذا العداء للجنس و الزواج، فقد يتراوح بين تعصب ديني (أو شخصي؟)، و بين عقيدة الإيمان بالقيامة؛ فإن كان العالم موشكا على نهايته فلا فائدة من الإهتمام بالأمور الدنيوية؛ و يصبح التركيز على الزواج- أو حتى الطلاق- ليس إلا انشغالا بالتوافه و مضيعة للوقت الثمين؛ و هذا التحليل يرد بوضوح على لسان بولس نفسه (فَأَقُولُ هَذَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ: الْوَقْتُ مُنْذُ الآنَ مُقَصَّرٌ لِكَيْ يَكُونَ الَّذِينَ لَهُمْ نِسَاءٌ كَأَنْ لَيْسَ لَهُمْ وَالَّذِينَ يَبْكُونَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَبْكُونَ وَالَّذِينَ يَفْرَحُونَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَفْرَحُونَ وَالَّذِينَ يَشْتَرُونَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ وَالَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا الْعَالَمَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَعْمِلُونَهُ. لأَنَّ هَيْئَةَ هَذَا الْعَالَمِ تَزُولُ) 29-31.

من هنا نتأكد أن الأخ بولس الذي عاش منذ ألفين سنة كان- كسيدُه- يؤمن أن العالم سيفنى قريبا.

لكن إحدى إضافات بولس، و التي لا نجدها في تعاليم المسيح، هي إدانته الصارمة للمثلية الجنسية (الشذوذ)؛ حيث يؤكد بحسم أن "مضاجعي الذكور لا يرثون ملكوت الله" (كورنثوس الأولى 6-9)؛ و يؤكد أن الناموس لم يوضع لمثل هؤلاء (تيموثاوس الأولى 1-10)؛ كما نجده في موضع آخر يدين المثلية بصفتها فعل غير طبيعي، و يصنفها مع الشر و الطمع و الخبث و سائر الموبقات (رومية 1-27)، و يصل إلى المطالبة بقتل المثليين، مؤكدا (أَنَّ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ يَسْتَوْجِبُونَ الْمَوْتَ) رومية 1-32 – و هو بذلك يسير مع أحكام التوراة بقتل مثليّ الجنس (لاويين 20-13)؛ فهكذا نجد أن الرب الإبراهيمي يخلق البشر بميول جنسية معينة، ثم يهددهم بالنار و يأمر بقتلهم على ذلك السلوك!.

على الجانب الآخر، فبولس يبدو أنه أيضا يخالف المسيح في عداوة الأخير المهووسة للأقرباء و للأسرة؛ حيث نرى بولس يوصي الإنسان أن يعتني بخاصته و أهل بيته (تيموثاوس الأولى 5-8)؛ و هو في هذه، و الحق يُقال، أكثر رحمة و حكمة من يسوع.

و لكن رغم ذلك، نجد أن بولس، كما يزدري الزواج، يزدري النساء أنفسهن و يقلل من مكانتهن، بشكل لم نره بشكل واضح في تعاليم المسيح.

احتقار المرأة
يقرر بولس أن المرأة خلقت من أجل الرجل (..الرَّجُلَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ أَجْلِ الْمَرْأَةِ بَلِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَجْلِ الرَّجُلِ) كورنثوس الأولى 11- 9 ؛ و يؤكد بأن الرجل هو رأس المرأة، كما أن الله هو رأس الرجل (وَلَكِنْ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَأْسَ كُلِّ رَجُلٍ هُوَ الْمَسِيحُ. وَأَمَّا رَأْسُ الْمَرْأَةِ فَهُوَ الرَّجُلُ) كورنثوس الأولى 11-3.

و لذلك فهو يأمر النساء بالخضوع لأزواجهن كما يخضعن لله (أَيُّهَا النِّسَاءُ اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ،لأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ الْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ الْكَنِيسَةِ) أفسس 5-22،23 ؛ و يكرر الأمر في كولوسي 3-18.

و في رسالة أخرى يحث السيدات العجائز على تربية الشابات على أن يكنّ (خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِهِنَّ) تيطس 2-5.

(و أمر خضوع المرأة للرجل نسمعه أيضا في أوامر بطرس (بطرس الأولى 3-1) و الذي يطالب أيضا المرأة بأن تنادي الرجل "سيدها" كما كانت سارة تنادي إبراهيم (بطرس الأولى 3-6).

بولس أيضا يطالب الرجل بأن يحب زوجته، بينما على المرأة أن تخاف من زوجها (فَلْيُحِبَّ كُلُّ وَاحِدٍ امْرَأَتَهُ هَكَذَا كَنَفْسِهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلْتَهَبْ رَجُلَهَا) أفسس 5-33.

أما بداخل الكنائس، فليس من المسموح للنساء أن يتكلمن بل عليهن الصمت التام (لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي الْكَنَائِسِ لأَنَّهُ لَيْسَ مَأْذُوناً لَهُنَّ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ بَلْ يَخْضَعْنَ كَمَا يَقُولُ النَّامُوسُ أَيْضاً. وَلَكِنْ إِنْ كُنَّ يُرِدْنَ أَنْ يَتَعَلَّمْنَ شَيْئاً فَلْيَسْأَلْنَ رِجَالَهُنَّ فِي الْبَيْتِ لأَنَّهُ قَبِيحٌ بِالنِّسَاءِ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي كَنِيسَةٍ) كورنثوس الأولى 14-34،35 ، (لِتَتَعَلَّمِ الْمَرْأَةُ بِسُكُوتٍ فِي كُلِّ خُضُوعٍ. وَلَكِنْ لَسْتُ آذَنُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعَلِّمَ وَلاَ تَتَسَلَّطَ عَلَى الرَّجُلِ، بَلْ تَكُونُ فِي سُكُوتٍ..) تيموثاوس الأولى 2-11،12.

(مع ملاحظة أن كلمة "كنيسة" اليونانية هي ذاتها كلمة "جمع" بشكل عام؛ و هكذا قامت بعض الترجمات للنص بمنع النساء من التكلم وسط أي جمع مطلقا؛ كما نقرأ في نسخة الحياة مثلا لعبارة بولس: عار على المرأة أن تتكلم في جماعة).

أما سبب ذلك الوضع المزري، فهو- صدق أو لا تصدق- خطيئة حواء!؛ و ذلك كما يكمل بولس في النص الأخير (..لأَنَّ آدَمَ جُبِلَ أَوَّلاً ثُمَّ حَوَّاءُ، وَآدَمُ لَمْ يُغْوَ لَكِنَّ الْمَرْأَةَ أُغْوِيَتْ فَحَصَلَتْ فِي التَّعَدِّي) تيموثاوس الأولى 2-13،14.

هكذا، بسبب أن امرأة أكلت من شجرة فالواجب على جميع النساء أن يظللن في وضع أدنى من الرجل (الذي أكل أيضا!) إلى الأبد؛ و هكذا كل امرأة تتكلم وسط كنيسة أو وسط جمع فهي تخالف التعاليم المسيحية.

و في نفس السياق فالمرأة في الكنيسة مطالبة، ليس فقط بالتزام الصمت، و إنما أيضا بتغطية رأسها، مما لا يلزم الرجل بطبيعة الحال (كُلُّ امْرَأَةٍ تُصَلِّي أَوْ تَتَنَبَّأُ وَرَأْسُهَا غَيْرُ مُغَطّىً فَتَشِينُ رَأْسَهَا) كورنثوس الأولى 11-5.

أما من لا تغطي رأسها فعقوبتها هي الحلق الإجباري؛ فإن كانت تخاف هذا الأمر فالأفضل لها إذن أن تسمع الكلام و تضع غطاء الرأس البولسي (إِذِ الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَتْ لاَ تَتَغَطَّى فَلْيُقَصَّ شَعَرُهَا. وَإِنْ كَانَ قَبِيحاً بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُقَصَّ أَوْ تُحْلَقَ فَلْتَتَغَطَّ) كورنثوس الأولى 11-6.

و السبب في تلك التفرقة؟ ليس فقط التحشم أو الحياء..إلخ، و إنما لأن الرجل يمثل مجد الله فلا يحتاج لأن يتغطى، بينما المرأة خلقت من أجل الرجل فلا غرابة في أن تحصل على مكانة أقل منه (فَإِنَّ الرَّجُلَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ لِكَوْنِهِ صُورَةَ اللهِ وَمَجْدَهُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَهِيَ مَجْدُ الرَّجُلِ.لأَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ مِنَ الْمَرْأَةِ بَلِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ. وَلأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ أَجْلِ الْمَرْأَةِ بَلِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَجْلِ الرَّجُلِ) كورنثوس الأولى 11- 7،9.

و بولس هنا لا يتكلم من نفسه، بل هو يكرر ما ورد في التوراة اليهودية (تكوين 2-18) عن أن الله خلق المرأة من أجل الرجل.

فكون الرجل خلق أولا، و كون المرأة خلقت لأجله، و كون المرأة هي التي أخطأت أولا بالأكل من الشجرة و حملت الغواية للرجل؛ هذه كلها أسباب وجيهة جدا في نظر بولس اليهودي لوضع المرأة في مرتبة أدنى من الرجل اجتماعيا؛ و لكن الأدق هو ملاحظة أن هذه العناصر من القصص التوراتية لم توضع خصيصا إلا لتبرير إضطهاد المرأة و رفع مكانة الرجل ؛ ففي عالم الأديان نجد أن المتطلبات الإجتماعية تظهر أولا، ثم بعد ذلك يتم صياغة الأساطير لخدمتها و ترسيخها منحها الشرعية الدينية.

 و سنجد أن هذا الفكر المعادي للمرأة سيبقى حيا عبر تاريخ المسيحية، في كتابات آباء الكنيسة و تعاليم الكهنة و الباباوات، و بعض آثاره ستستمر حتى يومنا هذا.

المزيد من الإرهاب
- ((غير المؤمنين لا يمكن اعتبارهم مواطنين أو وطنيين.. هذه أمة واحدة تحت الله)) - الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن.

يخبرنا الكتاب عن بولس\شاول أنه قبل اعتناقه المسيحية كان يشرف على القتل (أعمال الرسل 7-58 و 8-1) و يمارس السرقة و يسجن المعارضين رجالا و نساءا (أعمال الرسل 8-3) بل و يتوجه إليهم بالتهديد و القتل (أعمال الرسل 9-1،2).

و بعد انضمامه إلى صفوف المسيحيين لن يقل عن السابق في تعصبه و عنفه ضد المخالفين؛ و سيتفوق على تطرف المسيح أحيانا في استخدام جميع أنواع التكفير و التهديد و التحريض ضد من يعتبرهم خطاة أو عصاة أو غير مؤمنين أو غير مؤمنين على طريقته هو.

فهو- كيسوع تماما- يتميز بلهجة الترهيب الصارمة و تخويف الناس و توجيه الإنذارات المتوالية النازلة على رأس كل من لا يتبعه في إيمانه؛ فهو يروّج لـ(مَخَافَةَ الرَّبِّ) كورنثوس الثانية 5-11، و يبشر باللحظة التي فيها (..يَأْتِي غَضَبُ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ) أفسس 5-6 ، و هو يهدد كل من يخالف تعاليمه، فيخطئ أو يشك أو حتى يتذمر، ليس فقط بأنهم لن يرثون ملكوت الله (كورنثوس الأولى 6-9،10)، و لكن أيضا يهددهم بالقتل و الهلاك المخيف على يد إلهه (..وَلاَ نَزْنِ كَمَا زَنَى أُنَاسٌ مِنْهُمْ فَسَقَطَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ثَلاَثَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفاً. وَلاَ نُجَرِّبِ الْمَسِيحَ كَمَا جَرَّبَ أَيْضاً أُنَاسٌ مِنْهُمْ فَأَهْلَكَتْهُمُ الْحَيَّاتُ. وَلاَ تَتَذَمَّرُوا كَمَا تَذَمَّرَ أَيْضاً أُنَاسٌ مِنْهُمْ فَأَهْلَكَهُمُ الْمُهْلِكُ) كورنثوس الأولى 10-8،10.

ثم إن الرجل – كما يُتوقع- يبشر بحماس بنفس السيناريو المنتظر عن دينونة الرب المخيف القادم (..مِنَ السَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ، فِي نَارِ لَهِيبٍ، مُعْطِياً نَقْمَةً لِلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ اللهَ وَالَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِينَ سَيُعَاقَبُونَ بِهَلاَكٍ أَبَدِيٍّ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ وَمِنْ مَجْدِ قُوَّتِهِ) تسالونيكي الثانية 1-8،9.

و مع التهديد يأتي اللعن لهم و لكل من لا يحب يسوعه (إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُحِبُّ الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا)؛ و الكلمة تعني ملعونا و مُقدّر للهلاك.

و اللعن أيضا لليهود و الذين يطبقون الشريعة، لأنهم لا يطبقونها بالكامل! (لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ "مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ") غلاطية 3-10 ؛ و هو هنا يشير إلى تثنية 27-26.

فاللعن إذن لكل من هو ليس مسيحيا؛ و بالطبع في تلك العقيدة فالإنسان بشكل عام ملعون و لا خلاص له إلا- خمن- بالإيمان برب المسيحية الناصري.

و يستمر اللعن البولسي ليطال كل من يحاول التبشير بشيء ما يخالف بولس في أي من جوانب العقيدة، حتى لو كان ملاكا من السماء!
(وَلَكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ "أَنَاثِيمَا".كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ الآنَ أَيْضاً: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ "أَنَاثِيمَا") غلاطية 1-8،9.

و سيرا على نهج سيده، نجد أنه مع اللعن و التهديد للمخالفين، يأتي الشتم.

و رغم تحذيره السابق أن الشتامين لا يرثون الملكون (كورنثوس الأولى 6-10)، نجده مرة يسيء إلى أهل مدينة بالكامل (قَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ - وَهُوَ نَبِيٌّ لَهُمْ خَاصٌّ: "الْكِرِيتِيُّونَ دَائِماً كَذَّابُونَ. وُحُوشٌ رَدِيَّةٌ. بُطُونٌ بَطَّالَةٌ".هَذِهِ الشَّهَادَةُ صَادِقَةٌ) تيطس 1-12،13؛ و مرة يشتم أهل غلاطية بالكامل أيضا و هو يخاطبهم (يُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ.. أَهَكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ!) غلاطية 3-1 و 3.

و هو يحذّر الناس بشدة من "الكلاب" (اُنْظُرُوا الْكِلاَبَ. انْظُرُوا فَعَلَةَ الشَّرِّ) فيلبي 3-2 ؛ و المقصود بالكلاب بالطبع هم البشر الذين يراهم مخطئين أو يخالفونه في المعتقد ؛ و هو يشبه تشبيه المسيح للبعض بأنهم كلاب و خنازير (متى 7-6) ، و يشبه قول بطرس الآخر (قَدْ أَصَابَهُمْ مَا فِي الْمَثَلِ الصَّادِقِ: "كَلْبٌ قَدْ عَادَ إِلَى قَيْئِهِ، وَخِنْزِيرَةٌ مُغْتَسِلَةٌ إِلَى مَرَاغَةِ الْحَمْأَةِ") بطرس الثانية 2-22 ؛ فتلك التشبيهات القذرة و الشتائم المسيئة هي على ما يبدو جزء من لغة و ثقافة رسل المسيحية الأوائل.

بولس أيضا يتمنى لكل الذين ينشرون التعاليم الخاطئة أن يقوموا بـ"القطع" (يَا لَيْتَ الَّذِينَ يُقْلِقُونَكُمْ يَقْطَعُونَ أَيْضاً!) غلاطية 5-12 ؛ و القطع هنا لعله قصد به القتل (سيرا على التعبير التوراتي عن "قطع النفس" من الشعب") أو ربما قصد به قطع العضو الذكري حسب بعض الترجمات الأكثر صراحة مثل العربية: اليسوعية، و الأخبار السارة، و الإنغليزية: النسخة الدولية الجديدة NIV.

ليس فقط الشتم و التهديد بالهلاك الأخروي، و لكن بولس أيضا يحرض ضد مخالفيه، فهو يعد بهدم فكرهم و الإنتقام من عصيانهم (إِذْ أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قَادِرَةٌ بِاللَّهِ عَلَى هَدْمِ حُصُونٍ. هَادِمِينَ ظُنُوناً وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ، وَمُسْتَعِدِّينَ لأَنْ نَنْتَقِمَ عَلَى كُلِّ عِصْيَانٍ، مَتَى كَمِلَتْ طَاعَتُكُمْ) كورنثوش الثانية 10-4،6 ، و يدعو إلى سد أفواه أولئك المعارضين (فَإِنَّهُ يُوجَدُ كَثِيرُونَ مُتَمَرِّدِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْبَاطِلِ، وَيَخْدَعُونَ الْعُقُولَ، وَلاَ سِيَّمَا الَّذِينَ مِنَ الْخِتَانِ -الَّذِينَ يَجِبُ سَدُّ أَفْوَاهِهِمْ) تيطس 1-10،11.

 و هو يصل إلى التصريح بتهديد "المخطئين" بشكل شخصي (أَكْتُبُ لِلَّذِينَ أَخْطَأُوا مِنْ قَبْلُ، وَلِجَمِيعِ الْبَاقِينَ: أَنِّي إِذَا جِئْتُ أَيْضاً لاَ أُشْفِقُ) كورنثوس الثانية 13-2.

و في معرض حديثة عن شخص وقع في الزنا ينصح بتسليمه للشيطان لهلاك الجسد (..أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هَذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ) كورنثوس الأولى 5-5 ؛ و في موضع آخر يتحدث عن شخصين (..هِيمِينَايُسُ وَالإِسْكَنْدَرُ، اللَّذَانِ أَسْلَمْتُهُمَا لِلشَّيْطَانِ لِكَيْ يُؤَدَّبَا حَتَّى لاَ يُجَدِّفَا) تمويثاوس الأولى 1-20.

هذا التعبير "التسليم للشيطان، للإهلاك أو للتأديب" يبدو غامض المعنى، فقد يُفهم على أنه القتل أو الطرد و الحرمان (التكفير)؛ و لكن المؤكد أن ذلك المفهوم عن "إهلاك الجسد من أجل تخليص الروح" سيكون أحد أعمدة محاكم التفتيش الكنسية في ممارستها لحرمان أو قتل كل من تراهم خطاة أو هراطقة.

و ككل زعيم ديني، يبدو بوضوح أن الهدف من إرهاب بولس الديني هو السلطة و السيطرة على الجموع؛ ففي إحدى رسائله يجعل نفسه أبا لمن يخاطبهم (..كَأَوْلاَدِي الأَحِبَّاءِ أُنْذِرُكُمْ. لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ لَكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ. فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي) كورنثوس الأولى 4-15 ؛ مهملا تماما وصية يسوع الواضحة بأن لا ينادوا أحدا على الأرض بالأب، لأن الله فقط هو الأب (متى 23-9).

و ككل متعصب، يطالب بولس أتباعه بأن يبتعدوا عن "الخاطئين" و أصحاب العقائد المختلفة و عدم الإختلاط بهم و عدم سماع وجهات نظرهم (وَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تُلاَحِظُوا الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الشِّقَاقَاتِ وَالْعَثَرَاتِ خِلاَفاً لِلتَّعْلِيمِ الَّذِي تَعَلَّمْتُمُوهُ وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) رومية 16-17 ، (وَأَمَّا الآنَ فَكَتَبْتُ إِلَيْكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ مَدْعُوٌّ أَخاً زَانِياً أَوْ طَمَّاعاً أَوْ عَابِدَ وَثَنٍ أَوْ شَتَّاماً أَوْ سِكِّيراً أَوْ خَاطِفاً أَنْ لاَ تُخَالِطُوا وَلاَ تُؤَاكِلُوا مِثْلَ هَذَا..) كورنثوس الأولى 5-11؛ و ذلك بالمخالفة الصريحة لما فعله يسوع حيث أكل مع الخطاة (مرقس 2-16).

و يختم بولس خطبته بقوله (..فَاعْزِلُوا الْخَبِيثَ مِنْ بَيْنِكُمْ) كورنثوس الأولى 5-13.

و هو في موضع آخر يكرر النصيحة بتجنب غير المسيحيين لأنهم ظلام و نحن نور (لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟ وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ؟ فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ هَيْكَلُ اللهِ الْحَيِّ، كَمَا قَالَ اللهُ: إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. لِذَلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، فَأَقْبَلَكُمْ..) كورنثوس الثانية 6-14،17.

و العبارة الأولى في ذلك النص تستخدمها الكنائس التي تحرم زواج المسيحيين من أهل الأديان الأخرى؛ بل أحيانا من أصحاب الطوائف المسيحية الأخرى ؛ و ذلك رغم وجود نص يقول بالعكس من كلام بولس أيضا في كورنثوس الأولى 7-12،13.

هذه العزلة و القطيعة الدينية تمتد لتشمل المؤمنين أصحاب المذاهب المختلفة أيضا (اَلرَّجُلُ الْمُبْتَدِعُ بَعْدَ الإِنْذَارِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ أَعْرِضْ عَنْهُ. عَالِماً أَنَّ مِثْلَ هَذَا قَدِ انْحَرَفَ، وَهُوَ يُخْطِئُ مَحْكُوماً عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ) تيطس 3-10،11 ؛ و الكلمة اليونانية المستخدمة هنا هي "مهرطق"، و كذلك توردها بعض الترجمات؛ و المهرطق هو المسيحي الذي يتبنى مذهبا مختلفا عن المذهب الرسمي (أو المختلف عن فكر بولس في تلك الحالة)؛ و لاحقا سنرى سلوك الكنيسة الرسمية الدموي تجاه أولئك المبتعدين المهرطقين.

فإن كان خصومك هم اليهود و الوثنيون و أصحاب العقائد الأخرى و أيضا أصحاب المذاهب المختلفة عنك، فالنتيجة الطبيعية أن تنعزل عن الجميع و تصبح- ككل متطرف- كارها للعالم بأسره ؛ و هذا بالضبط ما نسمعه في كلمات تلميذ آخر للمسيح هو يوحنا؛ و هو كاتب الإنجيل الرابع و ثلاثة رسائل في العهد الجديد بالإضافة إلى السفر الأخير "رؤيا يوحنا" حسب تعاليم الكنيسة؛ فنسمعه يشتكي من ضلال العالم (قَدْ دَخَلَ إِلَى الْعَالَمِ مُضِلُّونَ كَثِيرُونَ، لاَ يَعْتَرِفُونَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ آتِياً فِي الْجَسَدِ. هَذَا هُوَ الْمُضِلُّ، وَالضِّدُّ لِلْمَسِيحِ) يوحنا الثانية 1-7 ، حتى أنه يعتبر أن العالم بأسره واقع تحت سيطرة إبليس(!) (لْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي الشِّرِّيرِ) يوحنا الأولى 5-19؛ و من ثم يحث المؤمنين على كراهية العالم و ما فيه لأن كل ما فيه شهوات و شرور لا تُرضي الله (لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ.لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ) يوحنا الأولى 2-15،16 ؛ و هو يتبع ذلك بالتحذير المعتاد من نهاية العالم القريبة، و يؤكد أننا الآن- منذ ألفين سنة!- في الساعة الأخيرة قبل انتهاء العالم (يوحنا الأولى 2-18).

هكذا نجد بولس يحذو حذو المسيح في تطرفه و كذبه و إرهابه ؛ و هكذا نرى في كلام التلاميذ تجسيدا نموذجيا للهوس و الإيمان بالخرافات و التعصب الديني ضد الآخرين.

أما من يرى أن إله العهد الجديد المسيحي قد اكتسب أي رحمة إضافية عن إله العهد القديم اليهودي، فسيجد أن العهد الجديد نفسه يرد عليه؛ فيعقد مقارنة بين عقوبة من يعصى موسى و عقوبة من يعصى المسيح، و يؤكد أن الثانية أكثر قسوة – فالأولى هي القتل فقط أما الثانية فأشد و أكثر رعبا كما قد نتوقع.

نقرأ
(مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ. فَكَمْ عِقَاباً أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقّاً مَنْ دَاسَ ابْنَ اللهِ، وَحَسِبَ دَمَ الْعَهْدِ الَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِساً، وَازْدَرَى بِرُوحِ النِّعْمَةِ؟ فَإِنَّنَا نَعْرِفُ الَّذِي قَالَ: "لِيَ الاِنْتِقَامُ، أَنَا أُجَازِي، يَقُولُ الرَّبُّ". وَأَيْضاً: "الرَّبُّ يَدِينُ شَعْبَهُ"..) العبرانيين 10-28،30 ؛ و يختم قائلا (مُخِيفٌ هُوَ الْوُقُوعُ فِي يَدَيِ اللهِ الْحَيِّ!) العبرانيين 10-31.

حقا، ما أبشع الوقوع في يدي الله لو لم تكن مسيحيا و على المذهب الصحيح أيضا ؛ و حقا، ما أشد عذاب و ما أقسى انتقام إله المحبة مزدوج الشخصية هذا!

شجارات رسل المسيح
- ((المسيحيون، كما هو واضح، يحتقرون بعضهم البعض بشدة، و يشوهون سمعة بعضهم البعض بأحطّ الإساءات، و لا يمكنهم التوصل إلى أي شكل من الإتفاق في تعاليمهم؛ كل طائفة تختلق شعارها، و تملأ أدمغة أتباعها بسخافات كاذبة)) – سيلسوس.

في أثناء وجود يسوع نرى أن التلاميذ يتجادلون فيما بينهم أيهم أعظم من الآخر (وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ أَيْضاً مُشَاجَرَةٌ مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ) لوقا 22-24.

(وَجَاءَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَإِذْ كَانَ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُمْ: "بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِي مَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ؟" فَسَكَتُوا لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ) مرقس 9-33،34.

و حين جائت أم اثنين من التلاميذ تطلب من المسيح أن يكون ابناها في الملكوت جالسين على يمينه و يساره، أدى ذلك إلى غيرة باقي التلاميذ (فَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ اغْتَاظُوا مِنْ أَجْلِ الأَخَوَيْنِ) متى 20-24.

و بعد موت يسوع ستستمر المنافسة و النزاعات فيما بين أتباعه، و أحيانا لأسباب تافهة.

فنجد أن خلافا بسيطا بين بولس و أحد الرسل المهمين و هو برنابا يجعلهما يفترقان إلى الأبد فيذهب كل واحد للتبشير بمفرده (أعمال الرسل 15-26،41)؛ علما بأن برنابا هو الذي قام بتقديم بولس إلى الرسل الآخرين و أقنعهم بقبوله بينهم بعد أن كان يضطهدهم (أعمال الرسل 7-27).

و الواضح أن بولس كان حريصا على عدم منح الرسل أي أفضلية عنه، و تأكيد أنه لا يقل عنهم في شيء؛ حيث يقول مثلا (..وَأَمَّا الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ شَيْءٌ، مَهْمَا كَانُوا، لاَ فَرْقَ عِنْدِي: اللهُ لاَ يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ - فَإِنَّ هَؤُلاَءِ الْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ) غلاطية 2-6 ؛ بل إنه سيطلق على البعض لقب (رُسُلٌ كَذَبَةٌ) كورنثوس الثانية 11-13؛ معلنا أنهم لا ينتمون للمسيح حقا.

و مع الفرقة و المنافسة نجد أحيانا النزاعات و الإتهامات المباشرة ؛ فبولس، عدو التهوّد، يحكي كيف انتقد بطرس بعنف و اتهمه بالرياء و عدم الإستقامة هو و برنابا أمام الناس، لأنه كان يأكل مع الأمم (غير اليهود) فلما رأى جماعة من اليهود قادمين خاف منهم و أظهر انعزاله عن أولئك الأمم (..وَلَكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُوماً. لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ، وَلَكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفاً مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ. وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضاً، حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضاً انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ!  لَكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ: "إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيّاً لاَ يَهُودِيّاً، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟") غلاطية 2-11،14.

و لعل هذا النزاع (حول الأكل مع الأمم) هو أول خلاف ديني بين أتباع يسوع المسيح؛ و لكنه حتما لن يكون الأخير؛  فلاحقا سنرى نفس النزاعات و الشقاقات و الإتهامات المتبادلة، و بشكل أسوأ، بين المؤمنين الأوائل- و بعدها بين الطوائف و المذاهب المسيحية المختلفة عبر التاريخ و إلى اليوم.
الجزء الأول
الجزء الثاني

الجزء الثالث


الجزء الخامس

الجزء السادس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق