الخميس، 1 يناير 2015

المسيح: رسول من الجحيم (2)





ثالثا: يسوع المتطرف

لم آت لأخفف بل لأتشدد
نعم، الشائع أن تعاليم المسيح هي دوما أكثر مرونة و تخففا من تعاليم التوراة الضيقة الصعبة ؛ و لكن الحقيقة التي تفاجئ من يقرأ العهد الجديد هي أن الرجل كثيرا ما يميل إلى الصرامة و التعصب ، بحيث أنه يبدو أحيانا أكثر تشددا من أي شيخ وهابي سلفي ستراه في حياتك.

في الموقف السابق مثلا وجدنا من يسوع تمسكا حرفيا بتعاليم التوراة، التي تنص على قتل الإبن العاق ؛ و في مواقف أخرى مماثلة سنجده يتجاوز تعاليم التوراة و ينقضها – ليس بالضرورة إلى الرحابة و المرونة و التخفيف، و إنما أحيانا إلى المزيد من التشدد و التزمّت و التضييق.

و إن كانت تعاليم التوراة  تقليديا تتميز بالتشدد، إلا أنها في النهاية بشرية و قابلة للتطبيق في مجتمعها الضيق و المحافظ ؛ أما التعاليم اليسوعية، و إن بدت لأول وهلة جيدة، و بعضها فعلا كذلك، إلا أنها في معظمها، و كما سنرى، أوامر قاسية مثالية مستحيلة و عبثية غير قابلة للتطبيق، بحيث أنه يمكن تفسيرها على أنها مجرد مزايدات لفظية و محاولة للفت الإنتباه و إظهار التفوق الأخلاقي لا أكثر.

في موعظة الجبل، و بعد أن يؤكد يسوع أنه لم يأت لنقض حرفا من الناموس اليهودي ، يبدأ في تعداد تشريعاته الأخلاقية الجديدة التي ستغير ذلك الناموس(!)، و في بعض الأحيان سيكون التغيير في جهة التمادي في صرامة و تشدد ذلك الناموس، الصارم و المتشدد أصلا.

 فلنستمع معا إلى عينة من تعليمات رب المجد ، من متى، الأصحاح 5:

(قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ) متى 21،22. (و "رقا" هي كلمة أرامية تعني "فارغ"، أي فارغ الرأس\غبي)

(قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ) 27،30.

(أَيْضاً سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ:لاَ تَحْنَثْ بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللَّهِ وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ) 33،37.

إذن، فوداعا للأخلاق التقليدية التي تدين القتل و الزنا و قسم الزور ، و مرحبا بالأخلاق اليسوعية الجديدة التي تدين الفكر السيء، و الكلام السيء، و النظرة الشهوانية، و القسم حتى لو صدقا؛  و توصم تلك الأفعال -التي يرتكبها البشر العاديين كل يوم- على أنها من الشيطان و تستوجب أشد العقوبة، كالمحاكمة، أو بتر الأعضاء، أو جهنم ذاتها.

و لنا أن نتساءل: هل تعتبر هذه التعديلات تخففا من ثقل الشريعة اليهودية، أم أنها تأكيدا لها و مبالغة في تطبيقها؟ هل هذه الأوامر تُصنف كتسامح أم تشدد؟ كتسهيل أم تصعيب؟ توسيع أم تضييق؟

و هل يتكلم المسيح هنا عن بشر عاديين مثلنا قابلين للخطأ، أم عن ملائكة مثالية لا تخطئ و لا تشتهي و لا تغفل
؟

و
نرى يسوع يختم موعظته بقول شديد الغرابة لكنه موحي (..فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ) 48 ؛ و يخطئ من يظن أن هذا تعبير مجازي من باب تأجيج الحماس و الدفع نحو الطموح إلى الكمال؛  لا، بل حين نقرأ النصوص نجد أن المسألة هي تشدد متعمد مهووس بالكمال، وصولا إلى درجة ترويع البشر و المطالبة بقطع الأعضاء تجنبا للوقوع في المعاصي الأخلاقية الكارثية التي ستمنعنا من الدخول إلى الملكوت السماوي، كخطيئة القسم أو وصف أحدهم بالغباء أو التفكير في الجنس!


و في موضع آخر يكرر المسيح ذات أوامره الصارمة عن وجوب التخلص من الأعضاء تجنبا للشهوات (وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْعَثَرَاتِ. فَلاَ بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ. فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمَ النَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ) متى 18-7,9 ؛ (وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلاَنِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ النَّارِ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ) مرقس 9- 43،48.

(فلابد أن تأتي العثرات- و لكن ويل للإنسان الذي تأتي به العثرة) .. بمعنى آخر "لابد أن يحدث الويل للإنسان!".

و لمن يرى أن هذه الأوامر عن قطع الأطراف هي من قبيل المجاز، و لا يجب أخذها بشكل حرفي، نقول أن التشدد قائم في الحالتين.

حين أقول لإبني "أفضل لك أن تموت من أن تنظر إلى فتاة"؛ فالحماقة هنا في كلامي ليست بالضرورة أنني آمر ابني "حرفيا" بالموت؛ بل حتى لو كان كلامي مجازا تظل الحماقة و التشدد في أنني أخيفه بشكل مبالغ فيه من أمر بسيط و عادي (حتى لو كان خطأ) - فالمبالغة قائمة و الهوس بالكمال قائم و إدانة الناس على الأخطاء التافهة قائم.

إلا أننا سنرى مع ذلك أن هناك من فهم تلك الوصايا بشكل حرفي، و طبقها.

و حالا سنرى المزيد من التشدد المهووس، ضد شهوة الجنس تحديدا.

إذن، هل التعاليم التي تدعي المثالية و الكمال و لا تأخذ في الإعتبار الضعف و السهو البشري – بل تتجاهل الطبيعة البشرية ذاتها- هي تعاليم أخلاقية حقا كما قد تبدو لأول وهلة ، أم أنها في الحقيقة تعاليم عبثية و قاسية لحد الجنون، غير إنسانية و غير صالحة؟

و الأهم: ترى هل تلك الأوامر العجيبة، التي تحاكم الهفوات اللفظية و النظرات غير اللائقة بأقسى العقوبات، قصد بها قائلها فعلا التطبيق على أرض الواقع و داخل المجتمعات الإنسانية ، أم أنها مجرد مبالغات لفظية لا هدف لها إلا المزايدة و ادعاء الكمال و الشعور بالتفوق الأخلاقي و الإستعلاء السلوكي تجاه الآخرين؟

المزيد من التشدد : فوبيا الجنس
- ((التبشير بالعفة هو تحريض شعبي على الممارسات غير الطبيعية . إن كل تحقير للحياة الجنسية ،وكل تلطيخ لها بفكرة الدنس هو الجريمة الأساسية ضد الحياة – الخطيئة الحقيقية في حق الروح المقدس للحياة)) – الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة، "هذا الإنسان".

- ((أسوأ سمة في الديانة المسيحية هي موقفها تجاه الجنس؛ هو موقف مريض و غير طبيعي))-  الفيلسوف و المؤرخ البريطاني برتراند راسل، في مقاله "هل قدم الدين إسهامات مفيدة إلى الحضارة؟".

تمتلئ نصوص العهد القديم بأمثلة احتقار المرأة و التضييق عليها، و اعتبار كل ما يخصها- الجنس و الولادة و الدورة الشهرية – بمثابة نجاسات مقززة يجب التطهر منها عن طريق أحكام و قرابين و طقوس مرهقة و صعبة - بل حتى في سفر التكوين يوجد إيحاء بأن "الخطيئة الأولى" لآدم و حواء مرتبطة بالفعل الجنسي.

و في العهد الجديد نجد إقرارا تطبيقيا لتلك الطقوس، فنرى – مثلا- أن مريم تم "تطهيرها" من نجاستها بعد الولادة (لوقا 2 -22)، كما نرى إشارة إلى حصر القداسة في الذكور لا الإناث (لوقا 2- 23).

و لكن لاحقا مع تبلور المسيحية سنرى بعض التخفف من تلك الأحكام الصارمة في بعض الجوانب التي تخص المرأة ، و أيضا سنرى مزيدا من القهر و التضييق في جوانب أخرى – من تلك الأخيرة سنجد مثلا أن العهد الجديد أكثر تركيزا على كراهية الجنس بشكل يبدو و كأنه يعكس فوبيا، أو عقدة نفسية ضخمة و غير مفهومة: تبدأ بجعل المسيح نفسه مولودا من عذراء، ليجنّبوه قذارة ذلك الجنس، و لا تنتهي عند هذا الحد.

في موعظة الجبل قرأنا هذا المقطع، الذي نكرره لأهميته (قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ) متى 5- 27،30.

لا شك أن أكثر الشيوخ الإسلاميين الوهابيين السلفيين الصحراويين تزمتا و انغلاقا سيطرب فرحا لسماع الجزء الأول من كلام المسيح، و الخاص بأن النظرة تعتبر زنا.

و لكن هناك شك كبير أن شيخنا، مهما بلغ تشدده، سيقر بالجزء الثاني الخاص ببتر الأعضاء!؛ بل إنه غالبا سيعتبر هذا الإجراء اليسوعي متطرفا و مبالغا فيه إلى حد الجنون، و سيؤكد لنا أن الله -رغم كل شيء- غفور رحيم تجاه تلك الزلات النابعة من النقص الإنساني و أن البشر جميعا خطائون و خير الخطائين التوابون..إلخ.

لكن الأمر لا يقف هنا ؛ ففي موضع آخر يقترح يسوع على أتباعه اقتراحا لطيفا، بديلا عن الزواج و الجنس، و هو أن يقوموا بإخصاء أنفسهم (يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هَكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ النَّاسُ وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ) متى 19-12.

أما السياق الذي يتفوه فيه باقتراحه الطريف هذا ، فهو أكثر طرافة؛ حيث البداية كانت مع منعه للطلاق بين الزوجين إلا لعلة الزنا، مخالفا أحكام التوراة ، مما أشاع الصدمة و الإستنكار في عقول و قلوب السامعين، و (قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: "إِنْ كَانَ هَكَذَا أَمْرُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ فَلاَ يُوافِقُ أَنْ يَتَزَوَّجَ!" فَقَالَ لَهُمْ: "لَيْسَ الْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هَذَا الْكَلاَمَ بَلِ الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم..") متى 19-10،11؛ بعد ذلك سيتبع كلامه الأول الكارثي -عن حرمان الرجل و المرأة من حق الإنفصال، و إجبارهما على حياة لا يرغبان فيها دون أي اعتبار لحريتهما أو سعادتهما-  بكلام ثاني أكثر كارثية - الحرمان من الأعضاء الجنسية بالمطلق!

و المعنى ببساطة أن من لا يعجبه كلامي فلا يتزوج؛ بل و الأفضل أن يقوم باستئصال أعضاؤه التناسلية حتى لا تزعجه الخواطر الجنسية مرة أخرى و ينسى تلك القاذورات تماما.

حسن يا يسوعنا العزيز، بعد ما قطعنا أيدينا و أرجلنا و فقأنا أعيننا حتى ننسى الشهوات ، يبدو أن ذلك الحل الإستئصالي الحاسم الأخير سيقتلع معضلة الجنس الصعبة و المؤرقة و المعوّقة من جذورها، و يترك المجال مفتوحا للجميع أمام الملكوت السماوي، أليس كذلك؟!

و فعلا، في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي نقرأ كلاما عن مائة و أربعة و أربعين ألف شخص ورثوا الملكوت وحدهم ؛ و ذلك لأن (هَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَنَجَّسُوا مَعَ النِّسَاءِ لأَنَّهُمْ أَطْهَارٌ) رؤيا يوحنا 14-4؛ مما يؤكد نفس المعنى اليسوعي، أن العذرية التامة و مقاطعة الجنس- أي الإقتداء بيسوع و بأمه البتول - هي إحدى أهم مفاتيح الملكوت السماوي.

و في مناسبة أخرى يحرص المسيح على الدفاع عن "طهر" الملكوت السماوي من أي شبهة زواج أو جنس؛ فحين سُئل عن الزواج في الملكوت استنكر الأمر و اتهم السائل بالضلال، و حرص على تأكيد أنهم (فِي الْقِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ) متى 22-30 و أيضا في مرقس 12-25.

(و هو الحكم الذي سيتكفل نبي آخر بعد بضعة قرون، صديق للجنس هذه المرة، بتغييره مائة و ثمانون درجة).

و تشير بعض المصادر التاريخية أن هناك من قام بتطبيق أوامر المسيح بشكل حرفي و قاطع ؛ منهم واحد من أهم آباء الكنيسة القدماء في القرن الثاني،و هو أوريغانوس السكندري، الذي حُكي عنه أنه قام بإخصاء نفسه تنفيذا لهذا الأمر؛ و لن يكون الأول أو الأخير الذي يقوم بذلك.

و هناك أب كنسي آخر
لاتيني معاصر له و لا يقل أهمية هو ترتليان، الذي كتب في مؤلفاته أن المسيح عاش كمخصي و كان يشجع الناس على تبني تلك العادة.

و تشير العديد من النصوص التاريخية إلى انتشار عادة "إخصاء النفس" بين بعض الجماعات المسيحية في القرون الأولى.

يبدو إذن أن الختان ليس أسوأ ما يمكن لخيال أصحاب الديانات الوصول إليه!

أما القديس سمعان الخراز، في القرن العاشر، فقد حكي عنه أنه نظر إلى امرأة فقام بفقء عين نفسه، تنفيذا لوصية المسيح أيضا.

و لاحقا سنمر على بعض أقوال بولس، ثم بعض من آباء الكنيسة، لنجد تكرارا و تأكيدا لنفس تلك النغمة المتطرفة في معاداة الجنس و احتقار الجسد و أيضا الإنتقاص من المرأة و حقوقها.

هل كان المسيح شاذا جنسيا؟
- ((سمعت اقتراحا من البعض أن المسيحيين مهووسون لاشعوريا بالمثلية (الشذوذ الجنسي)، لأنهم في داخلهم يخشون من فكرة أن يسوع نفسه ربما كان مثليا؛ لا يوجد دليل حقيقي على ذلك، و لكن لا يوجد دليل حقيقي على أي شيء يتعلق بالأديان أصلا، و بالتالي فنعم سأوافق على هذا الإحتمال... لو أخذنا الأناجيل كحقيقة فما لدينا هو رجل في الثلاثينات من العمر، غير متزوج في ثقافة لا تكاد تجد فيها رجلا غير متزوجا في الثلاثينات؛ بالإضافة إلى ذلك، هيا، لا يمكننا تجاهل الإثنى عشر رفيقا؛ و خاصة حين تكون هناك فقرة ناقصة من إنجيل مرقس تصف بالفعل يسوع و هو يقضي ليلة مع شاب عاري؛ فقد تم إخبارنا أن الشاب ذهب إلى يسوع لابسا قماشة كتان على جسده، و بقى معه لتلك الليلة "و قام يسوع بتعليمه أسرار مملكة الله"، أراهن أنه فعل، ربما مع أسرار أخرى إضافية.. حسن، لم لا؟ فهو كان مجرد بشر)) – الكاتب و الكوميديان و مدون الفيديو الإنغليزي، بات كونديل.

ليس هناك أي نصوص في الأناجيل تشير بوضوح إلى التوجه الجنسي ليسوع؛ فلا يوجد ما يدل أنه كان لديه رغبات طبيعية تجاه النساء و لا يوجد ما يدل على العكس أيضا – مما ترك المجال مفتوحا للتخمين و الترجيح عن طريق تحليل ما بين السطور.

من اللافت هنا أن المسيحيين دوما شديدو الحساسية تجاه تلك المسألة، و مستنكرون بشدة لأي تلميح جنسي خاص بيسوع، و كأنها نقيصة بل إهانة بل هرطقة دينية لا تُغتفر.

و لكن لو تأملنا المسألة برؤية بسيطة و محايدة، حتى في ضوء النظرة المسيحية أن الرجل هو إله متجسد، فسنجد حينئذ أنه من الطبيعي أن يسري عليه ما يسري على البشر من مظاهر طبيعية و بيولوجية ؛ فقد ولد و تطهرت أمه بعد ولادته، ثم تم ختانه و تعميده، ثم ضرب و أهين و سال دمه و مات، و في مناسبات مختلفة غضب و بكى و أحب و أكل و شرب..إلخ، و في موقف معين شعر بجوع شديد و كان يبحث عن طعام يأكله (مرقس11-12)؛ و هذه كلها سلوكيات بشرية و غرائز بيولوجية مر بها يسوع، و لم نسمع من المسيحيين استنكارا للأمر و لم يقل أحد أن هذه الغرائز انتقصت من ألوهيته - فلماذا الجنس تحديدا هو المشكلة؟!

لا جواب شافي إلا احتقار الفكر المسيحي الكنائسي و الكتابي للجنس ، و اعتباره نقيصة و رذيلة لا تُطاق، كما رأينا ؛ حتى مجرد القول بأن المسيح تزوج هو في نظرهم مصيبة أخلاقية لا تليق بمقامه و طهارته.

أما من الناحية البشرية، فالملفت أولا أن يسوع بالفعل لم يتزوج حتى تجاوز الثلاثين ؛ و هو أمر يرى البعض أنه ليس معتادا بالمرة في مجتمع تقليدي كالذي يعيش فيه؛ بل و لا يوجد أي إشارة واضحة في الأناجيل- المعترف بها على الأقل- أنه كان على علاقة خاصة بأي امرأة.

ثاني أمر ملفت هنا أن يسوع، مع إداناته الكثيرة للزنا و الإنحراف مع شهوة النساء و سائر الهفوات الأخلاقية، لم نجده يتفوه مطلقا بحرف واحد يدين سلوك المثلية الجنسية (الشذوذ) – بل تلك الإدانة سنجدها لاحقا في تعاليم بولس ؛ و هذا جعل البعض يتشكك في المسألة، و قاموا بلفت النظر إلى المزيد من المشاهد الموحية و الغريبة في حياته.

من ذلك مشاهد إنجيلية عن تلميذ غامض من التلاميذ لا يُذكر بالإسم، و إنما يُشار إليه دائما بأنه "التلميذ الذي كان يسوع يحبه"، (وَكَانَ مُتَّكِئاً فِي حِضْنِ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ) يوحنا 13-23 ؛ و (فَالْتَفَتَ بُطْرُسُ وَنَظَرَ التِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ يَتْبَعُهُ وَهُوَ أَيْضاً الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ الْعَشَاءِ) 12-20 ؛ و تتكرر تلك الإشارة في مواضع عديدة في إنجيل يوحنا تحديدا، كما في19-26 و 20-2 و 12-7، و في مواضع أخرى توجد تلميحات أن ذلك التلميذ الغامض هو نفسه يوحنا كاتب الإنجيل.

صحيح أن "الحب" هنا بالطبع يمكن فهمه بحُسن نية في ضوء الصداقة و المعزّة و الود..إلخ ، و لكن يحق لنا التساؤل: ألم يكن يسوع يحب باقي التلاميذ؟ ألم يكن يحب البشر كلهم حتى أعداءه كما نصّت أوامره؟ فما طبيعة الحب الخاص لذلك الفتى و ما هي أسبابه؟ لا جواب واضح في الأناجيل.

ثم في مواضع أخرى من الأناجيل نجد مشهدا آخر : ففي يوحنا 11 يحكي لنا قصة موت شخص يدعى لعازر و مجيء أخته إلى يسوع، و الذي ذهب إليه و أقامه من الموت مرة أخرى ؛ و توجد إشارة على محبة خاصة يكنها يسوع للعازر هذا (و بَكَى يَسُوعُ.  فَقَالَ الْيَهُودُ:"انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ!") يوحنا 11-35،36.

مرة أخرى نجد محبة خاصة يتفرد بها شخص ما من دون البقية؛ من دون ذكر سبب محدد لتلك المحبة.

و اللافت أن ذلك المشهد تفرد به يوحنا و لم يذكر في  الأناجيل الثلاثة الأقدم، فيبدو أن الكتبة الآخرين- لسبب ما- لم يرغبوا بتسجيل تلك المعجزة العظيمة ليسوع(!).

و لكن، في نسخة أخرى أبوكريفية (أي رفضتها الكنيسة) من إنجيل مرقس، و التي تدعى "إنجيل مرقس السري" نجد نصوصا إضافية تقع بين 10-34 و 10-35، تتحدث عن لعازر بمزيد من التفاصيل و تكشف لنا الكثير عن الوضع :

(و جاءوا إلى بيت عنيا. و كانت امرأة هناك مات أخوها. و جاءت و سجدت أمام يسوع و قالت له: يا بن داود ارحمني؛ و لكن التلاميذ وبخوها. و في غضب ذهب يسوع معها إلى الحديقة حيث المقبرة، و فورا سُمع صوت عالي من القبر، و ذهب يسوع و دحرج الحجر من باب القبر. و فورا دخل إلى هناك حيث كان الشاب متواجدا، و مد يده و أقامه، ممسكا يده. و لكن الشاب نظر إليه و أحبه، و بدأ يتوسل إليه أن يبقى معه. و بعد أن خرجا من القبر ذهبا إلى بيت الشاب، فقد كان غنيا. و بعد ستة أيام قام يسوع بتفويضه- و في المساء كان الشاب يأتي إليه، مرتديا فقط قطعة قماش كتان على جسده العاري، و يبقى معه طوال الليل. و كان يسوع يقوم بتعليمه أسرار مملكة الله).

أسرار مملكة الله؛ لابد أن هذا كان ملهما.

و في أواخر الخمسينات ، في بقايا أرشيف دير مار سابا القريب من القدس، تم العثورعلى رسالة كتبها الأب الكنسي و اللاهوتي إكليمندس السكندري لأحد القساوسة ، تتضمن اعترافا بصحة انجيل مرقس السري هذا؛ مع رفض أخلاقي لمشهد الرجل العاري، و إشارات غاضبة يُفهم منها أن ذلك الإنجيل على ما يبدو كان يستخدم من قبل بعض الطوائف لتبرير ممارسات خليعة غامضة، تمزج بين المعارف السرية و شهوات الجسد.

و لو انتقلنا إلى إنجيل مرقس في الإنجيل الحالي المتداول، فسنجد أنه حين حاصرت الجموع يسوع في النهاية للقبض عليه، وجدوا في المكان شابا مجهولا يرتدي إزارا دون شيء تحته، و حين حاولوا الإمساك به ترك الإزار و فر عاريا (..وَتَبِعَهُ شَابٌّ لاَبِساً إِزَاراً عَلَى عُرْيِهِ فَأَمْسَكَهُ الشُّبَّانُ فَتَرَكَ الإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَاناً) مرقس 14-51،52 ؛ هكذا يبدو أن الصورة تتكامل و تتضح إلى حد ما.

هذا يذكرنا بمشهد آخر في الأناجيل، هو مشهد قيام يسوع نفسه- في موقف شديد الغرابة- يغسل أقدام تلاميذه واحدا واحدا، و يصر على هذا الفعل رغم محاولة اعتراض من أحدهم؛ و المهم هنا أن المسيح حرص على أن يقوم ذلك و هو عريان، فقد قام (
وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا. ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا) يوحنا 13-4،5؛ و من الواضح أن هذا لا يبدو مشهدا طبيعيا، كما أنه لم يبد مريحا على الأقل لواحد من التلاميذ.

بالطبع لا نملك سوى التكهن هنا فلا شيء حاسم؛ هذا و قد نشرت عدة كتب تقترح أن يسوع بالفعل كان يميل إلى المثلية الجنسية و تستند إلى بعض المشاهد من الأناجيل.

البديهي أن تلك التحليلات لم تعجب رجال الدين و المؤمنين ؛ مع ذلك فهناك استثناءات لذلك الرفض، ففي عام 1967، قام رجل دين -
أسقف برمنغهام- "هيو مومنتيفيور" بإلقاء محاضرة في اتحاد رجال الكنيسة المعاصرين في أوكسفورد، دافع فيها عن نظرية كون يسوع كان مثلي الجنس.

و ربما ذلك- إن صح- يمكن أن يفسر كراهيته المبالغ فيها للنزعات الجنسية المعتادة بين الرجال و النساء.

الجانب الآخر: أخلاق جيدة أم مزايدات مضادة؟
- ((يمكنك أن تشاهد نفس اللاأخلاقية في النظرة المسيحية إلى الذنب و العقاب؛ فهناك فقط نصان، و الإثنان متناقضان بشدة؛ العهد القديم نصيحته الرئيسية هي "العين بالعين و السن بالسن".. و الثانية من الأناجيل و تقول "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر"؛ الأولى هي الأساس الأخلاقي للعقوبات البدنية الهجمية، و الثانية ترسخ النسبية و الميوعة حتى أنها لن تسمح بإدانة زعيم عصابة)) – الكاتب الإنغليزي الأمريكي كريستوفر هيتشنز، في "رسالة إلى معارض شاب".

إذن، فهل كل مواقف و أقوال المسيح تحض على التشدد و التزمت؟ أليس هناك كلمات و تعاليم أخلاق محبة و تسامح و سلام؟

حتما يوجد و بشدة؛ و ذلك كما نجد الشيء المتطرف و نقيضه المتطرف في تعاليم يسوع  دوما : فمع المبالغة في المطالبة بالتمسك بأحكام التوراة مرات، وجدنا المبالغة في قلب أحكامها رأسا على عقب مرات أخرى، و بالتالي مع المبالغة في التشدد و الصرامة و العنصرية، يتوقع أن نجد أحكاما متسامحة و محبة، تصل أيضا إلى المبالغة وصولا إلى السلبية و الميوعة و التسيّب.

نكمل من موعظة الجبل لنجده يأمر بعدم مواجهة الشر و الظلم، و محبة حتى الأعداء (سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ) 38،41.

(سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ
. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ) 43،44.

و في مواضع أخرى، نجده يأمر أتباعه ببيع جميع ممتلكاتهم و التصدق بثمنها (بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً) لوقا 12-33 ؛ و حين يأتيه شخص يخبره أنه ينفذ جميع الوصايا و يسأله عما يعمل لتكون له الحياة الأبدية، يأمره يسوع بنفس الشيء (يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. اذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ) مرقس 10-21، و حين تردد الرجل في تنفيذ الإقتراح، أعلن يسوع إحباطه مؤكدا أنه من شبه المستحيل أن يدخل الأغنياء في الملكوت -  و بعدها يقول له  أحد تلامذته بطرس (هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ) متى 19-27.

و في متى 6-25،34، نجد نصائح مفصلة لأتباعه بأن يتركوا الإهتمام بملابسهم و طعامهم، بحجة أن الله سوف يتكفل بذلك(!)؛ و من ثم فالأفضل هو التركيز على طلب ملكوت الله أولا  (..لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟) و يختم كلامه بنصيحة عجيبة بأن "لا يهتموا بالغد"! (فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ).

و في موقف شهير (في يوحنا 8-1،11)، سنرى يسوع يدافع عن امرأة زانية، و يمنع اليهود من رجمها حتى الموت حسب ما تنص التوراة (تثنية 22-23،24) ، و يهتف وسطهم بعبارته المدوية التي صارت مثلا (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!).

إذن: لا تقاوم الشر – من لطمك أو حاول سرقتك أو قام بتسخيرك فاستجب له، بل و أعلن قبولك للمزيد من الإيذاء – أحب عدوك و بارك لاعنك– بع كل ممتلكاتك و تصدق بها – لا تهتم بالمستقبل – و لا داعي لتطبيق الشرائع و عقاب المخطئين، لأن الكل يخطئ.

هل يمكن القول أن ما سبق، من أقوال و مواقف يفخر بها المسيحي المؤمن و يرددها كثيرا و يعتبرها قمة الأخلاق اليسوعية العظيمة، هي تعاليم جيدة حقا؟

أم الأدق هو أن يسوع قد أخذ أخلاقا إنسانية إيجابية و رائعة، لم يخترعها هو و ليس له أدنى فضل في وجودها قبل مجيئه هو بآلاف السنين، و من ثم قام بمطّ تلك الأخلاق و المبالغة فيها بشكل متطرف، حتى أخذت صورة كاريكاتورية مشوهة، لا تصلح للحياة الحقيقية؟

أحِب العدو و لا تقاوم الشر
لنبدأ بالحب، و الذي لا يختلف أحد في أنه شيء جميل و مهم؛ و لكن أول ما يلفت النظر في التعاليم الدينية اليهودية و المسيحية هي أن الحب يبدو و كأنه يأتي بالأوامر؛ فالعهد القديم يأمر الإنسان أن يحب الله (تثنية 6-5) و أن يحب قريبه لنفسه (لاويين 19-18) و يحب الغريب (لاويين 19-34)؛ و يتكرر نفس الأمر بحب الله و حب القريب في الأناجيل على لسان المسيح (لوقا 10-27 و غيرها) الذي يضيف إليه حب العدو.

هنا كاتب تلك التعاليم لا يبدو أنه يفهم بوضوح أن الحب هو شعور نفسي تلقائي و فطري لا يتحكم فيه الإنسان كما يشاء ؛ فهو هنا كمن يأمرك مثلا بأن تفرح أو تبكي أو تغضب أو تندهش!، بينما الأصل أن هذه المشاعر تأتي وحدها دون أوامر من أطراف خارجية أو سلطات دينية عُليا.

فلو تغاضينا عن تلك الملحوظة الشكلية، فثاني ما يلفت النظر أن يسوع – كعادته- يبالغ في تعاليمه عمدا؛ فهو لا يكتفي بحب القريب أو الغريب مما سيكون أمرا جيدا ولا شك يُحسب للعهد القديم ؛ و لكن لا لا، هذا صار قديما و مكررا الآن ، بل الجديد أنه يأمر أتباعه بحب العدو – ذلك الذي يؤذيك و يهددك و يسيء إليك و إلى أهلك و قومك.

هل هذا ممكن؟ بل هل هو شيء جيد و مقبول؟

لنفترض – مثلا- أن هناك من يريد غزو بلادك و تدمير منازلك و سرقة مواردك و إهلاك شعبك، فهل المطلوب منك أن تقاومه و تحاربه و تقتله، و أنت في نفس الوقت تحبه من قلبك؟!

وضع غريب و غير منطقي أليس كذلك؟

ولكن لحسن الحظ أن باقي التعاليم اليسوعية تريحك من التناقض تماما، فهي تأمرك بأن لا تقاوم عدوك أصلا بل تستجيب له : لو لطمك فامنحه الحد الآخر، و لو سرق ثوبك فاخلع له الباقي، و لو سخّرك فضاعف من جهدك لتخدمه.

و قد فات يسوعنا العزيز أن يأمر الفتاة التي يتم اغتصابها بأن تستجيب للمجرم بكل سلاسة ، و ربما تحبه أيضا من قلبها و تباركه!

لكن المعلّم الكبير –في أوامره السلمية و السلبية- لم يجبنا على سؤال بسيط : ماذا لو أن الأذى لا يطالني أنا بل يطال الآخرين؛ أهلي و أصدقائي و أحبابي الحقيقيين، أو حتى الضعفاء بوجه عام؟

ماذا لو أن المعتدي لطم ابني الصغير مثلا؟ ما المطلوب أن أفعله في تلك الحالة؛ أن أمسك وجه ابني و أدير خده الآخر لعزيزنا اللاطم كي يكمل المهمة، حتى يرضى المسيح عني؟!

ماذا لو أن المجرم سرق رداء عجوز مسكين، أو أنه قام بتسخير فقير مستضعف لخدمته؟ هل أتخلى عن مساعدة العجوز أو الضغيف، بل حتى أن أمنعه من مساعدة نفسه، و آمره بأن ينفذ تعاليم يسوع بالخضوع للسرقة و التسخير و الإهانة؟! (هذا يذكرنا بشيء آخر ، و هو أن المسيح – طيلة حياته- لم يتفوه بكلمة واحدة ضد العبودية التي كانت سائدة في مجتمعه و تزخر بها نصوص العهد القديم؛ بل أيدها هو و أتباعه بأشكال غير مباشرة و أحيانا مباشرة، كما سنرى).

و من سخرية القدر أن يسوع قد تعرض على الأقل مرة لهذا النوع من المشاكل، و لم يكن سلوكه شهما بشكل لافت ؛ فحين سمع أن يوحنا المعمدان- ابن خالته و الذي قام بتعميده- قد أُلقي القبض عليه (وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ..) ، ماذا فعل يا ترى؟ هل استخدم قدراته الخارقة لمساعدة رفيقه؟

للأسف لا و إنما (..انْصَرَفَ إِلَى الْجَلِيلِ) متى 4-12،(و الكلمة اليونانية المستخدمة معناها الأدق هو: "انسحب" إلى الجليل).

هكذا تنقلب المفاهيم الإيجابية الطبيعية، كالدفاع عن النفس أو عن المظلومين ، رأسا على عقب ؛ و هكذا يصبح أول من يخالفون تعاليم المسيح في عصرنا هم رجال الشرطة، الذين يقاومون اللصوص و المعتدين و المغتصبين و القتلة، متجاهلين نصيحة يسوع الغالية بأن لا نقاوم الشر!

هذه النصائح العجيبة ليسوع
لا تعد فقط استسلاما للشر؛ و إنما تشجيعا له عن طريق مكافأة المعتدي و الشرير.

 و تلك السلبية هي التي دفعت الشاعر- المسيحي- العربي إلى انتقاد المسيح و تعاليمه- مادحا الإسلام في المقابل!- حيث قال :

إذا حاولتَ رفعَ الضيم فاضرب -  بسيف محمدٍ واهجر يسوعا
أحبوا بعضكم بعضًا وُعظنا-  بها ذئبًا فما نجَّت قطيعا
ألا أنزلتَ إنجيلاً جديدًا -  يعلِّمنا إباءً لا خنوعا

و نفس السلبية و اللامعقولية تنطبق على نصيحة "بيع الأملاك" هذه ؛ و التي لا تصلح للتطبيق في مجتمع طبيعي- فحين أبيع أملاكي كيف سأعيش و من أين سأنفق على أسرتي و أبنائي؟

و إن لم أخطط للغد و أهتم لشئون حياتي فكيف أتوقع أن نعيش إذن؟ و هل هذه تعاليم تنتج أناسا صالحين مفيدين لمجتمعهم، أم تنتج شحاذين و صعاليك أشبه بالمجاذيب الحفاة شبه العراة الذين نراهم في الشوارع في بلادنا البائسة - و الذين بالمناسبة يبدو أنهم أقرب إلى تطبيق نصائح يسوع هذه من أي إنسان عادي له أسرة و أملاك و ناجح في حياته و يدافع عن نفسه؟
هذا و نلاحظ أنه على المستوى الشخصي فلا يبدو أن يسوع في فترة دعوته كان يمارس مهنة أو يكسب أموالا من أي عمل؛ و في أحد المواضع نقرأ أن نساء كثيران كن يتكفلن بالإنفاق عليه من أموالهن (لوقا 8-3).

و في قصة الزانية يضع قاعدة أخلاقية جديدة لا تقل غرابة عما سبق، و هي "طالما جميعكم تخطئون، فلا يحق لكم معاقبة المخطئ!"، مما يمكن فهمه أيضا كدعوة مباشرة إلى عدم عقاب أي إنسان؛ و بالتالي كدعوة مباشرة إلى إلغاء الشرطة و القوانين و المحاكم و السجون!

تعاليم عبثية
- ((علينا الإستعداد للتخلي عن الحياة التي خططنا لها، لنحصل على الحياة التي تنتظرنا)) – عالم الميثولوجيا الأمريكي جوزيف كامبل.

ليت المسيح أمر بمعاملة العدو بإنصاف و نزاهة، و عدل رحمه حين يكون ذلك العدو في موقف الأضعف ؛ أما الأمر بعدم مقاومته بإطلاق، و في عز قوته و تجبره، فهو عبث، بل و امتهان لقيمة التسامح الذي ينبغي أن يكون في موضعه؛ و أما الأمر بحبه فهو هراء، و امتهان لقيمة الحب ذاته.

 الثمين و الجميل في الحب أنه ليس للجميع و إنما لمن يستحقه؛ و لو صار الحب للجميع -حتى العدو و الشرير- فما قيمته إذن؟!

و ليته أمر بالكرم و التصدق بشكل معقول متوازن، يدعم الفقراء و يحقظ الحقوق و يشيع الخير بين البشر ؛ أما الأمر بالتخلص من كافة الأملاك -بإسم الزهد- فهو امتهان لقيمة التصدق؛ و أما إضافة إهمال التخطيط للمستقبل للمسألة فهو تطرف أناركي (فوضوي) آخر كفيل بتقويض أركان المجتمع بالكامل.

و ليته أمر بشيء من التسامح و التعاطف تجاه المذنبين، بل و ليته حتى أدان عقوبة الرجم ضد الزناة ذاتها باعتبارها عقوبة قاسية و همجية؛ و لكن ذلك الإيحاء بتعميم عدم معاقبة المذنب بحجة أن الجميع يذنب فهي – بالإضافة لكونها مغالطة منطقية- عبارة عن مزايدة فارغة و ظالمة، و لن تنتج إلا المزيد من الجرائم داخل المجتمع.

مقاومة الشر بالكلمة و بالقوة عند الضرورة- منح المحبة انتقائيا لمن يستحقها-  معاقبة المخطئين، هذه هي الأخلاق التي نسميها "متوازنة"، ببساطة لأنها هي السلوكيات التي اصطلح البشر عليها عبر آلاف السنين، و التي – مع تطويرها بشكل عقلاني علماني- نجحت بشكل عملي في أن تدير حياة البشر بشكل ناجح يكفل لهم البقاء و الإزدهار.

أما الدليل الأكبر على أن الأخلاق اليسوعية السابقة هي غير صالحة، و أنها مجرد تركيبات لفظية فارغة غير واقعية، هو أنه ببساطة لم يوجد مجتمع متكامل نجح في تطبيقها يوما ؛ بل إنك ستجد المسيحي العادي الذي يعيش وسط مجتمع معاصر يتبرأ من كثير من تلك الأخلاق ،عن طريق الهروب إلى تأويل النصوص و القول بأننا أسأنا الفهم و أن المسيح لم يقصد أن نطبق تلك الأمور حرفيا..إلخ.

و المهم أنه في كل الأحوال لن نتوقع أن ترى مسيحيا اليوم يبيع أملاكه، أو آخر يترك الناس يغرقونه بالصفعات على وجهه، أو ثالث يخلع ثيابه في الشارع ليعطيها للمارة، أو رابع يطالب بإلغاء الشرطة و المحاكم و عدم معاقبة المذنبين؛ مما يؤكد أنه حتى هؤلاء لا يرون أن تعاليم يسوع السابقة جديرة بأخذها بجدية.

و لا ننسى أنه حتى تشريع إله المسيحيين، إله التوراة ، عبر آلاف السنين من تاريخ اليهود كان متضمنا لعقوبات جنائية قاسية كالرجم و القتل لأمور تافهة ، و يتضمن كذلك مقاومة للمخالفين تصل إلى الإبادات الجماعية الكاملة لهم، إما بيد الله (كالطوفان و سدوم و عمورة) أو بيد الشعب (حروب يشوع و داود و غيرهما)  - بحيث يبدو في زمن يسوع و كأن الله قد نزلت عليه السكينة فجأة، فاكتشف أن محبة الأعداء شيء رائع، و أن مقاومة الشر أمر لا داعي له، و أن الناس جميعا يخطئون مما لا يعطيهم الحق في معاقبة بعضهم البعض!

هذه التعاليم، بلامعقوليتها أولا، و بتناقضها الواضح مع أخلاق العهد القديم ثانيا، لا يمكن فهمها إلا بالرجوع إلى السياق التاريخي و الديني الذي استدعاها- حينها فقط سيمكن كشف بعض الغموض.

حينها سنلاحظ أولا وجود نزعات عديدة دينية (كالبوذيين) و طوائف يهودية (كالأسينيين) و تيارات فلسفية (كالكلبيين) تروج لنفس قيم اللاعنف و الزهد و التقشف و التخلص من الأملاك و نبذ الإهتمام بالملابس و الطعام و النظافة مما أثر في تعاليم المسيح.

و سنلاحظ ثانيا ضغط اليونانيين ثم الرومان القاهر على اليهود مما جعل المقاومة المادية "للعدو" انتحارا استدعى البحث عن بديل روحاني.

و سنلاحظ ثالثا اهتمام المسيح بالترويج لنفسه أكثر من اهتمامه بالتعاليم و الشرائع ؛ و لأن أهم أهدافه كانت مقاومة سلطة الكهنة و إبراز نفسه كبديل، فإن هذا الطموح جعله يتمادى في الأمر إلى درجة منعهم من تطبيق الشريعة التي أقرها سابقا؛ و كأنه يقول أن سلطانه أعلى من سلطان الكهنة.

و سنلاحظ رابعا أهمية عامل الإيمان القوي بالدينونة القادمة التي تعد بالقضاء على الشر و نصرة الخير، مما يسقط أهمية الكفاح الإنساني- فلنرقد و ننتظر العون الإلهي.

و حين سننتقل لاحقا إلى الحديث بالذات عن عقيدة الدينونة تلك ، نهاية العالم المدوية، و التي كان يؤمن المسيحيون أنها قريبة الحدوث جدا ، حينها سيتضح أن يسوع ببساطة لم يتوقع تطبيق تعاليمه السابقة على مجتمع حقيقي يستمر في العيش بها – إنما هو بالأحرى كان ينسج سلوكيات إلهية مثالية منتقاة لقلة مختارة من الأطهار الأنقياء، و هي جماعته الهائمة من الصعاليك المتطرفين دينيا ، أملا في النجاة من الدينونة المخيفة التي على وشك القدوم لتقضي على الأخضر و اليابس.

هل نجح يسوع نفسه في تطبيق تعاليمه المحبة؟
بالإطلاع على الأناجيل فيبدو أن الجواب للأسف بالنفي؛ ففي مناسبات مختلفة – كما رأينا و سنرى- نجد أن المسيح لم يظهر أدنى قدر من المحبة أو التسامح تجاه مخالفيه، سواء الكتبة أو الفريسيين أو العصاة و المذنبين أو حتى كل من رفض الإيمان به، فهو يغرق الجميع بسيل من الإتهامات و الأهانات و التهديدات بالموت و العذاب الأبدي، وصولا إلى تهديد مدن كاملة بالهلاك لأنها لم تؤمن بدعوته - و في مواقف أخرى سنراه يأمر بكراهية الأقارب و معاداة الأهل، بل و سيستخدم العنف الجسدي حين سيمكنه ذلك.

و لو كان الرب يسوع يريد تطبيق نصائحه الثمينة، فلماذا يعادي الكهنة؟ بل و لماذا يقاوم الشيطان، عدوه؟ لماذا لا يحبه و يتنازل له عن حقوقه كعربون سماحة و سلام؟!

ببساطة لأن الكلام الجميل المنمق سهل التفوه به؛ و لكنه حين يكون كلاما عبثيا غير مدروس و محلق في الخيال فالأسهل بكثير هو الوقوع في مناقضته فورا و عند أول اختبار.

و مع المزيد من التأمل في الأناجيل، سنرى أن أخلاقيات يسوع – التي تتراوح بشكل متطرف بين التشدد و المرونة، و بين الإدانة و التحرر من الإدانة، و بين الإمتثال لأوامر العهد القديم و مخالفته- هي أخلاقيات لا تحمل خطا فكريا أو دينيا معينا، و لا تهتم إلا بلفت الإنتباه لشخص يسوع، كنجم صاعد بين اليهود، و حريص دوما على الصدام مع السلطة الدينية الحالية و الممثلة في الكهنة و إحراجهم أمام الجموع - فلو تساهلوا هم يتشدد هو (كما في حادثة غسل اليدين و مطالبته بقتل الأبناء العصاة)، و لو تشددوا هم يتساهل هو (كما في حادثة المرأة الزانية).

و كأن همّ الرجل كان معاندة الكهنة- بشكل محسوب- و التميز عليهم و جمع المزيد و المزيد من الأتباع البسطاء و الغوغاء المهوسين دينيا و الراغبين في الشعور بالتفوق الأخلاقي و التميز الديني، انتظارا للدينونة القادمة.

و من جهة ثانية، نجد أن محبة يسوع و سماحته كانت انتقائية و متذبذبة ، و لكنها مركّزة تحديدا تجاه الخصوم الأقوياء الذين كان يرهب جانبهم ؛ ففي موعظة الجبل، ووسط تعاليم المحبة و إدارة الخد الأيسر، نجد درسا أخلاقيا جميلا آخر  (كُنْ مُرَاضِياً لِخَصْمِكَ سَرِيعاً مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ..) ثم سرعان ما يفسر لنا يسوع نصيحته (... لِئَلَّا يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ) متى 5-25- هكذا الأمر إذن!

و في موضع آخر سنراه يأمر أتباعه بعدم استخدام السيف... ثم يكمل بأن من يعش بالسيف يموت به؛ مما يرينا أننا نتحدث عن أخلاق لا تخلو من براغماتية (نفعية) تعني بحسابات المصلحة و الضرر.

تطرف آخر: من ليس معه فهو ضده
رأينا عينة من تطرف و مزايدات دينية و أخلاقية من قبيل إقرار قتل الأبناء و تهديد كل من يخطئ أو ينظر بشهوة أو يطلق زوجته..إلخ ؛ و الآن لنشاهد تطرفا يسوعيا من نوع آخر : و هو التطرف العقائدي\السياسي، المتعلق بالإيمان به و اتباعه.

لعل بعضنا يتذكر العبارة الشهيرة التي قالها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش (إما أن تكون معنا، أو تكون مع الإرهاب) و التي بالإضافة لكونها مغالطة منطقية (تخلق ثنائية وهمية) فإنها اُعتبرت أيضا نموذجا للتطرف السياسي و الإستقطاب الحاد المتعصب ؛ و لكن ما لا يعلمه أكثرنا أن تلك العبارة- التي نسبت أيضا إلى آخرين مرتبطين بأنظمة دكتاتورية فاشية مثل لينين و موسوليني- كان أول من قالها هو يسوع الناصري (مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ) متى 12-30 و أيضا في لوقا 11-23.

هكذا إن لم تكن مع الرجل فأنت ضده، و إن لم تندرج تحت دعوته فأنت تفرق بين البشر- و بالتالي فلا مفر لك إلا أن تتبعه!

و في مناسبات عديدة سيقوم بتحذير من يرفض دعوته بالهلاك ، مستخدما طريقته الرمزية المراوغة ، حيث يقول (وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ) متى 21-44 ؛ و من تتبع سياق النص فالواضح أنه يتحدث عن نفسه هنا، فهو الحجر، و خصومه هم من سيتم سحقهم (وَلَمَّا سَمِعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ أَمْثَالَهُ عَرَفُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ) متى 21-45.

و لاحقا سنرى المزيد من التهديدات تّوجه لكل من يرفض المسيح؛ و في كل مناسبة سنرى دوما أن تعاليم الرجل حادة متطرفة تدور حوله بشكل لا يقبل الحلول الوسط؛ و حين يتعلق الأمر به فلا مجال لك إلا أن تتبعه دون جدال، و إلا...!

في أحد المواقف نجده يتوعد بشدة كل من يتفوه بكلمة ضد الروح القدس، و يؤكد أن هذه الخطيئة- دونا عن سائر الخطايا- يستحيل غفرانها (لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ وَأَمَّا التَّجْدِيفُ عَلَى الرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاسِ. وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتِي) متى 12-31،32 - لا غفران له مطلقا؛ ياله من تهديد مخيف!

و لكن يا ترى ما سر ذلك الحرص العنيف على عدم شتم الروح القدس؟

نجد السر في التتمة في موضع آخر يحكي نفس الموقف
("اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ جَمِيعَ الْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي الْبَشَرِ وَالتَّجَادِيفَ الَّتِي يُجَدِّفُونَهَا. وَلَكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً". لأَنَّهُمْ قَالُوا: "إِنَّ مَعَهُ رُوحاً نَجِساً") مرقس 3-28،30.

فالتجديف مسموح، إلا أن يكون على الروح القدس؛ لماذا؟ السر في العبارة الأخيرة من النص: ببساطة لأن التجديف هنا يتعلق به هو، أي بالتشكيك فيه و في ادعاءه للوحي.

فالرجل بتلك القاعدة كان يدافع عن نفسه فقط، عن طريق إرهاب من يجرؤ على قول كلمة سوء عنه.

يسوع النرجسي
يحكي لنا الكتاب عن امرأة جاءت إلى يسوع و هو وسط أصحابه، و سكبت عليه قارورة من العطر الثمين؛ فلما اعترض التلاميذ على ذلك السفه مشيرين- بحق- أنه كان بإمكانها بيع ذلك العطر و التصدق بثمنه للفقراء عاتبهم المسيح بحدة مؤكدا أن الإهتمام به هو مسألة عظيمة جدا و أولى من الإهتمام بالفقراء (وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ فَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ. فَلَمَّا رَأَى تَلاَمِيذُهُ ذَلِكَ اغْتَاظُوا قَائِلِينَ: "لِمَاذَا هَذَا الإِتْلاَفُ؟ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هَذَا الطِّيبُ بِكَثِيرٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ". فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: "لِمَاذَا تُزْعِجُونَ الْمَرْأَةَ؟ فَإِنَّهَا قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَناً! لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ") متى 26-6،11.

و لكن الفقراء يحتاجون إلى الطعام و الشراب يا يسوع، بينما أنت لا تحتاج إلى هذا العطر؛ هل فكرت في ذلك؟!


في الكتاب المقدس نجد على الأقل عشرات الألقاب التعظيمية التي أطلقها يسوع على نفسه، أو أطلقها عليه أتباعه؛ فهو
المُخلّص (متى 1-21) و السيد (متى 8-2) و المعّلم و المعلّم الوحيد (متى 23-10) و الطبيب (مرقس 2-17) و رب السبت (مرقس 2-22) و ابن العلي (مرقس 5-7) و العظيم (لوقا 1-32) و الكلمة (يوحنا 1-1) و ابن الله (يوحنا 3-18) و خبز الحياة (يوحنا 6-35) و نور العالم (يوحنا 8-12) و الباب (يوحنا 10-9) و الراعي الصالح (يوحنا 10-11) و القيامة والحق والحياة (يوحنا 14-6) و القدوس البار (أعمال الرسل 3-14) و واهب الحياة الأبدية (أعمال الرسل 3-15) و الفادي (كورنثس الأولى 1-30) و سيد المجد (كورنثس الأولى 2-8) و بكر كل الخليقة (كولوسي 1-15) و الديّان (أعمال الرسل 10-42) و رأس الكنيسة (كولوسي 1-15) و حجر الزاوية (أفسس 2-20) و ملك الملوك و رب الأرباب (تيموثاوس الأولى 6-15) و  الكائن في صورة الله (فيلمون 2-6) و الذي به خلق العالم (العبرانيين 1-2) و ضياء مجد الله (العبرانيين 1-3) و الكاهن الأعظم (العبرانيين 2-17) و الحي إلى الأبد (العبرانيين 7-24) و الألف و الياء(رؤيا يوحنا 1-8) و الأول والأخير (رؤيا يوحنا 1-17) و الأمين الصادق (رؤيا يوحنا 3-15) و الأسد (رؤيا يوحنا 5-5) و القادر (رؤيا يوحنا 15-3).

و قد قال يسوع (المتواضع جدا) عن نفسه أنه أعظم من الهيكل (المعبد) (متى 12-6) و أعظم من يونان\يونس (متى 12-41) و أعظم من سليمان (متى 12-41).

و مع التعظيم و التقديس و النرجسية- إلى درجة ادعاء الألوهية و محاسبة البشر- سنرى تركيزا مطلقا من يسوع على شخصه بشكل يرفعه فوق أي مبدأ أو منطق أو أخلاق و يجعل الكون يدور حوله ، فهو مركز الخير و الحق و الجمال، و هو الطريق الوحيد للنجاة حيث لا خلاص بدونه؛ و سنسمعه يأمر الناس بطاعته دون نقاش و التخلي عن أموالهم و ممتلكاتهم و حتى كراهية أهلهم و أقرباءهم، بل و إهلاك أنفسهم من أجله – أما من يرفض ذلك فمصيره الهلاك و العذاب كما سنرى.

و بناءا عليه، و من ناحية أخرى، فلن نجد أدنى تقبل أو احترام من يسوع تجاه المختلفين معه ؛ بل لن نرى إلا البغض و الكراهية و المزيد من الشتم و اللعنات التي تُرمى و التهديدات المروعة التي تطال كل من يعارضه في الرأي أو لا يؤمن بدعوته.

يسوع الشتّام
رأينا سابقا تهديد يسوع المخيف لذلك الذي يشتم الآخرين أو يغضب عليهم (إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا (أي: يا فارغ الرأس) يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ) متى 5- 22.

و لاحقا سيصف بطرس (أحد التلاميذ) معلمه يسوع بأنه لم يكن يشتم (الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا) بطرس الأولى 2-23.

و لكن في موضع آخر رأينا شتم يسوع للرجل الفريسي ووصفه له و لجماعته جميعا بنفس الوصف الذي حذر منه (يَا أَغْبِيَاءُ) لوقا 11-40 حين تجرأ الرجل و سأل يسوع عن سبب امتناعه عن غسل يديه قبل الأكل؛ و في موضع آخر وصف معارضيه بأنهم (عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ) متى 15- 14، لنفس السبب.

 و سنجد مثل تلك الشتائم يتكرر في مواضع أخرى من كلامه ، حيث يتكلم مع شخصين قائلا("أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ") لوقا 24-25؛ و في موضع آخر يحكي أن الله نفسه يشتم شخصا (فَقَالَ لَهُ اللهُ: يَا غَبِيُّ) (لوقا 12-20).

و رأينا أيضا تشبيه يسوع للمرأة الكنعانية- و قومها و سائر الشعوب- بالكلاب؛ و نجد ذات الوصف يتكرر في قوله (لاَ تُعْطُوا الْمُقَدَّسَ لِلْكِلاَبِ وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ لِئَلَّا تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا) متى 7-6؛ و لا يمكننا التيقن إن كان يقصد بالكلاب و الخنازير الأمم غير اليهودية أيضا، أم أن التشبيه المسيء يمكن تعميمه ليشمل بشرا آخرين (كل من لا يؤمن به مثلا)؟ هذا مع ملاحظة أن عادة تشبيه البشر بالكلاب ستتكرر في مواضع أخرى من العهد الجديد، على لسان يوحنا (رؤيا 22-15)، و بطرس (بطرس الثانية 2-22)، و بولس (رسالة فيلبي 3-2).

و لمن يرى أن تلك الأقوال السابقة هي مجرد "أوصاف" و "تشبيهات" و ليست "شتائم"، عليه ببساطة أن يلاحظ أن الشتيمة بأشكالها ليست أكثر من أوصاف سلبية و تشبيهات مسيئة؛  فحين يصفك أحدهم بالكلب فهو بالطبع لا يعني بشكل حرفي إنك ذلك الحيوان، و إنما هو يقصد التشبيه أو المقارنة بينك و بين الكلب في صقات معينة سلبية مشينة – هذا بالضبط هو السباب، و هذا هو ما تفوه به يسوع و أصحابه.

و في مواقف مختلفة ، نجد أن يسوع (الذي كان يمتاز بالعصبية على ما يبدو) يلعن و يشتم و يتوعد بسبب و بدون سبب ؛ ففي أحد شجاراته مع اليهود يعيّرهم بذنوب آباءهم و أنهم (أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ) متى 23-31 ، و يصفهم بأنهم أولاد إبليس (يوحنا 8-44)، و يشتمهم و يهددهم بحرارة قائلا (أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ)23-17 ، (أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟) متى 23-33.

يبدو أن المعلم السمح الذي يأمر تلاميذه بأن لا يدينوا الآخرين (لوقا 6-37) لا يستطيع هو منع نفسه من إدانة البشر في كل صغيرة و كبيرة، مع شتمهم و تهديدهم بالويل.

و يبدو أن تلك العبارة (أولاد الأفاعي) هي شتيمته المفضلة، حيث نجد أنه كررها في مناسبات عديدة (متى 3-7، متى 12-34، متى 23-33، لوقا 3-7)؛
أما التهديد بعبارة "الويل لكم" فتتكرر كثيرا أيضا في مواضع عديدة ، حتى أن بعض علماء الشريعة احتج بأدب من "طولة لسانه" (فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ النَّامُوسِيِّينَ: "يَا مُعَلِّمُ حِينَ تَقُولُ هَذَا تَشْتِمُنَا نَحْنُ أَيْضاً") لوقا 11-45 ؛ و لكن الإعتراض لم يُجدِ فقد استمر في الشتم (فَقَالَ: "وَوَيْلٌ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ..إلخ) لوقا 11-46.

و قد اشتاط غضبا و سب من حوله أيضا حين طلبوا منه آية (معجزة)، فوصفهم بأنهم (جِيلٌ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ يَلْتَمِسُ آيَةً) متى16-4 ؛ و في نسخة الملك جيمس فالترجمة الأقرب هي "جيل شرير زاني".

حتى تلاميذه لم يسلموا من نوبات غضبه، فهو كثيرا ما يكلمهم بأسلوب عنيف و حاد (..أَلاَ تَشْعُرُونَ بَعْدُ وَلاَ تَفْهَمُونَ؟ أَحَتَّى الآنَ قُلُوبُكُمْ غَلِيظَةٌ؟ أَلَكُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُونَ وَلَكُمْ آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَذْكُرُونَ؟) مرقس 8-17،18.

بل إن أقربهم إليه لم ينج من الاتهام، فهو مرة ينهر بطرس قائلا له (اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ. أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ) متى 16-23؛ و يؤنبه قائلا (..يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ) متى 14-31.

و هناك ما يوحي بأن هذا السلوك إنما هو ناجم عن طبع انفعالي حاد، يبدو أنه كان ملازما ليسوع دوما؛ ففي نص عجيب حيّر المفسرين، يبدو و كأنه يسب جميع الأنبياء قبله و يصفهم جميعا بأنهم "حرامية" (جَمِيعُ الَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ وَلَكِنَّ الْخِرَافَ لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ) يوحنا 10-8.

و في مناسبة أخرى، يصل به الإنفعال إلى أن يلعن شجرة: شجرة تين؛ لأنه لم يجد فيها ثمرا يسد به جوعه، و ذلك رغم أنه لم يكن أوان التين!

(وَفِي الْغَدِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ عَنْيَا جَاعَ فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ مِنْ بَعِيدٍ عَلَيْهَا وَرَقٌ وَجَاءَ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا شَيْئاً. فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهَا لَمْ يَجِدْ شَيْئاً إلاَّ وَرَقاً لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ التِّينِ. فَقَالَ يَسُوعُ لَهَا: "لاَ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْكِ ثَمَراً بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ". وَكَانَ تَلاَمِيذُهُ يَسْمَعُونَ) مرقس 11-12،14؛ و لاحقا تخبرنا الأناجيل أن الشجرة ذبلت و ماتت، نتيجة لعنة الرب المتجسّد الجائع عصبي المزاج، الذي لم يجد سوى شجرة كي يخرج فيها غضبه المكبوت.

و يمكن طبعا لكهنة الأديان أن يحاولوا- كالعادة- تبرير مثل تلك المواقف، أو يحاولوا منح تلك الأقوال و غيرها معاني رمزية أخرى، مخترعة وليدة خيالهم، مع اتهام المعترضين بالسطحية و عدم الفهم الكافي للأبعاد العميقة لكلام يسوع..إلخ ؛  و لكن كل ما يمكننا التأكيد عليه أن النصوص تُفهم في مجملها و ظروفها و بيئتها، و بثقافة قائليها دون تأويل ؛ أما الحيل التبريرية فيمكن استخدامها لتبرير أي شيء، بشكل معتاد يقوم به كهنة كل الأديان و في كل زمان و مكان، و لكنه بكل أسف لا يقنع سوى المؤمنين بتلك الأديان و أولئك الكهنة.

و حتى مجرد غموض الأقوال و النصوص الدينية بحيث لا يكون هناك مجال لفهمهما سوى للكهنة، فهي نقيصة أخرى تُحسب ضد تلك التعاليم و ليس لها، بشكل سنتطرق له في حينه.

و الخلاصة أنه حسب تعاليم المسيح فلو قلت لأحدهم يا أحمق تصبح مستحقا لنار جهنم ، و لكن لا بأس مطلقا بأن تقول له يا غبي، و يا ابن إبليس، و ابن الأفعى، و يا كلب، و يا جاهل، و يا أعمى، و يا شرير، و يا فاسق، و يا لص، و يا سارق..إلخ ؛ كل ذلك مسموح فقط بشرط واحد، هو أن تكون إلها متجسدا مولودا من عذراء - حينها ستجد آلاف التابعين و الكهنة يبررون أفعالك بكل حماس.

الجزء الأول


الجزء الثالث
الجزء الرابع

الجزء الخامس
الجزء السادس

هناك 4 تعليقات:

  1. صاحب المقاله شيطان .. والصوره غير لائقه لسيد الكون .. ليجازيك الرب .. أن لم تفهم جيدا بتعاليم سيدنا يسوع المسيح لا تكتب بما اشتهدت من دلائل خاطئه

    ردحذف
  2. أيها البائس المسكين الفاقد لنعمة الروح القدس بالكلية...
    يسوع هو المسيح إبن الله الذي شفى المرضى وأعاد النظر للعميان وأوقف نزف المرأة وأقام إبن الأرملة وشفى المخلع وعبد قائد المئة وأقام لعازر هن بين الأموات بعد رقاد دام ٤ أيام...
    أيها المريض بجملتك إذ إنك ترى الخير شر والشر تجد فيه خيرا يا إبن إبليس الذي يحارب الله... تُب وإرجع إلى الرب يسوع المسيح إلى الله فتغفر خطاياك قبل يوم الدينونة... تُب قبل فوات الأوان لكي تنجو من فخ إبليس ومن الجحيم والنار الأبدية ولا تكن عدوا للصلاح... الله يمهلك فعُد عن إثمك قبل فوات الأوان !!!

    ردحذف
    الردود
    1. لم يتخذ الله ولد و المسيح رسول الله

      حذف
  3. الله لا اله الا هو لم يتخذ ولد و المسيح رسول الله

    ردحذف