السبت، 3 يناير 2015

سـر الأســماء





)وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء (.

أكثر المسلمين سمعوا و قرأوا ذلك الجزء القصير من الآية مرارا في قرآنهم، و لكن ربما قليل منهم من تساءل بالقدر الكافي عن معناه.

ما هي تلك "الأسماء" تحديدا؟ ما أهميتها و دورها في قصة خلق آدم؟ و ما علاقتها بموقف الملائكة و الشيطان من ذلك الخلق؟

و هل المسألة حقا- كما قد تبدو- بسيطة أو لا تستحق الكثير من الإهتمام، أم أن البحث عن معاني تلك الأسماء و أصلها يمكن أن يكشف لنا الكثير عن التصورات و الرموز في قصة الخلق الإبراهيمية، بل و عن كيفية نشأة و تشكّل الفكر الديني بوجه عام؟

هذا ما سنحاول بحثه هنا.

مقدمة
من يدرك أن الأديان هي ظاهرة نفسية و اجتماعية، فهو يدرك بالتالي أن الأفكار الدينية، كلها، تنبع أولا من العقل البشري، متخلّقة من تفاعلات ذلك العقل مع نفسه و مع أقرانه من البشر الآخرين و مع عناصر الطبيعة المتقلبة من حوله، كما أنها تعبّر في النهاية عن احتياجات ذلك العقل  و مخاوفة و تطلّعاته و أحلامه.

ثم إن الأفكار الدينية تتبلور- ثانيا- بأشكال متباينة اجتماعيا حسب الظروف و الأحوال، فتظهر في عدّة نسخ متنوعة في ثقافات الشعوب، و تتشكّل مع تشكّل تلك الثقافات، و تتطور جنبا إلى جنب مع تطورها عبر الزمن.

هذا التصور- لو صح- فسيعني أنه بإمكننا استخدام منهجية بسيطة لفهم أي فكرة دينية، عن طريق أولا ملاحظتها في نصوصها الحالية المتاحة في دين من الأديان، ثم ثانيا بتتبع تطورها العكسي في الأديان و المعتقدات و الأساطير المبكّرة السابقة، بحيث يبدو الأمر و كأننا ننطلق في رحلة زمنية إلى الماضي، حتى نصل إلى أصل تلك الفكرة في صورتها المبكرة الأكثر نقاءا- الأمر الذي سيتيح لنا- ثالثا- فهم مصدر نشأة تلك الفكرة، عن طريق تخليصها من الشوائب المضافة لها لاحقا، مع ربطها بالواقع الإنساني الذي أفرزها ابتداءا.

تلك المنهجية المبسّطة سنسعى إلى تطبيقها هنا على فكرة الأسماء التي قام الله بتعليمها لآدم، لعلنا ننجح في فك شفرتها و فهم المزيد عنها.

"الأسماء" في الإسلام
في سورة البقرة نقرأ عن قرار الله بخلق الإنسان الأول، آدم، و نفاجأ بظهور شيء من الإعتراض في صفوف الملائكة، بحجة أن ذلك الكائن الجديد، الخليفة، سيفسد في الأرض و يسفك الدماء.

هنا يقرر الله أن يقوم بتعليم آدم "الأسماء" مما سيؤدي إلى ظهور تفوّق هذا الإنسان الأول على الملائكة، خاصة حين يبدو جهلهم التام بتلك الأسماء، مع اعترافهم المذعن بذلك الجهل، مما سيستتبعه أمرا مباشرا من الله إليهم بالسجود لآدم.

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ -  وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ - قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَونَ – وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) البقرة 30-34.

فيا ترى ما هي تلك الأسماء – بالغة الأهمية- التي لم يُتح للملائكة تعلّمها؟ و ما علاقة اكتساب آدم لذلك العلم بسجود الملائكة له، باستثناء الشيطان المتمرد؟
لو ألقينا نظرة سريعة على التفاسير القرآنية الكلاسيكية للآية (الطبري، القرطبي، ابن كثير..إلخ) ، فسنجد تباينا مربكا في الآراء و الإجتهادات التي تفسر ماهية تلك الأسماء ، و إن كنا نرى أن أكثر عبارة تتكرر حول هذا أنها "أسماء كل شيء"، مما لا يساعد كثيرا على فهم كامل الصورة، و يؤكد أننا بحاجة إلى المزيد من البحث.

"الأسماء" في اليهودية
فإذا انتقلنا إلى قصة الخلق الإبراهيمية الأقدم، في التوراة، سفر التكوين، فسنجد صورة مختلفة نوعا عن الصورة القرآنية: حيث أول ما نلاحظه أننا لن نجد هنا ذكرا للملائكة أو اعتراضهم على الخلق، و لن نجد حديثا عن السجود أو التمرّد الشيطاني بشأنه.

كل ما سنجده أنه بعد أن خلق الله آدم قام بخلق جميع الحيوانات و الطيور الأخرى، و أحضرها لآدم لكي يمنحها أسماءها.

(.. وَقَالَ الرَّبُّ الالَهُ: "لَيْسَ جَيِّدا انْ يَكُونَ ادَمُ وَحْدَهُ فَاصْنَعَ لَهُ مُعِينا نَظِيرَهُ" - وَجَبَلَ الرَّبُّ الالَهُ مِنَ الارْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ فَاحْضَرَهَا الَى ادَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ ادَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا - فَدَعَا ادَمُ بِاسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ) تكوين- أصحاح 2- 18،20.

هذا يحسم لنا أخيرا معنى تلك "الأسماء" إذن، أنها ببساطة أسماء سائر المخلوقات الحيّة!

و هنا نلاحظا اختلافا آخر جوهريا عن القصة القرآنية، و هو أن الله في التوراة لم يقم بتعليم آدم الأسماء بشكل تلقيني و كأنه مدرّس يحفظ تلميذه درسا، و إنما بالأحرى نجد أن الله منح آدم السلطة و السيادة لكي يختار بنفسه أسماء الكائنات (فَاحْضَرَهَا الَى ادَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا)- مما يقدّم لنا ملمحا جديدا، و إن كان في رواية أقدم.

لنترك هذا الملمح  جانبا الآن، و لنبدأ بالإختلاف الأكبر بين الروايتين، و نتساءل أولا عن سر غياب عناصر المنافسة الملائكية و السجود و التمرد الشيطاني من القصة التوراتية.

هذا ربما نجد الجواب عنه في ثنايا التراث اليهودي، المكتوب بعد التوراة و قبل القرآن.

لنلقي نظرة على الكتاب الشهير "أساطير اليهود" للحاخام و عالم التلمود "لويس غنزبرغ"؛ و الكتاب - المجلّد في عدة أجزاء- هو عبارة عن تجميع لمئات من التفاسير التوراتية (المدراش) و القصص اليهودية (الهاجاداة) التي كتبها الحاخامات عبر القرون، و كان يتم تداولها شفاهة في مجتمعات يهودية عديدة.

في الجزء الأول من كتاب غنزبرغ، الفصل الثاني تحت عنوان "آدم" (1) ، نجد فقرتين مهمّتين لبحثنا.

الفقرة الأولى بعنوان "الرجل المثالي" و نقرأ فيها (تجلّت حكمة آدم في أعظم مميزاتها حين أعطى أسماءا للحيوانات. حينئذ ظهر أن الله، في صراعه مع حجج الملائكة المعارضين لخلق الإنسان، كان قد تكلم بالصواب حين أصر أن الإنسان يمتلك حكمة أكثر منهم. حين كان عمر آدم بالكاد ساعة قام الله بجمع عالم الحيوانات أمامه و أمام الملائكة. الأخيرون طُلب منهم أن ينادوا بأسماء الأنواع المختلفة و لكنهم لم يكونوا على قدر المهمة. آدم، على الجانب الآخر، تكلم دون تردد "يا إله العالم، الإسم الصحيح لهذا الحيوان هو الثور، و لذلك هو الحصان، و لذلك هو الأسد، و لذلك الجمل"، و استمر في مناداتهم بأسمائهم، بشكل متناسق مع كل حيوان).

الفقرة الثانية بعنوان "سقوط الشيطان"، و نقرأ (المميزات غير العادية التي منحها الرب لآدم، جسديا و روحانيا على السواء، أثارت حسد الملائكة حتى حاولوا إهلاكه بالنار، و كاد ليهلك لولا أن يد الله الحامية أحاطت به، و صنع الرب سلاما بينه و بين الملأ السماوي. تحديدا الشيطان كان يغار من الرجل الأول، و أفكاره الشريرة في النهاية أدّت إلى سقوطه. بعدما وهب الله لآدم روحا، دعا الله جميع الملائكة لأن يأتوا و يقدموا له الإحترام و التقدير. الشيطان، الأكثر شرا من بين ملائكة السماء، و له اثنا عشر جناحا بدلا من ستة كالملائكة الآخرين، رفض الإلتفات إلى أمر الله، قائلا "أنت خلقتنا من بهاء الشكينة (أي روح الله، الذي يظهر كنار في مواضع عديدة من التوراة، كما في شجرة سيناء مع موسى)، و الآن تأمرنا أن نذل أنفسنا أمام الكائن الذي صنعته  من تراب الأرض!"؛ فأجابه الله قائلا "مع ذلك فتراب الأرض هذا لديه حكمة و معرفة أكثر منك". هنا قام الشيطان بطلب تحكيم للذكاء بينه و بين آدم، فوافقه الله على طلبه قائلا "لقد خلقت الوحوش و الطيور و الزواحف، و سأقوم بإحضارهم جميعا أمامك و أمام آدم؛ لو كنت قادرا على معرفة أسماءها فسآمر آدم بتقديم الإحترام لك، و سيكون مستقرك إلى جوار شكينة مجدي؛ أما لو لم يحدث ذلك و ناداهم آدم بأسمائهم التي أطلقتها عليهم، فحينئذ ستخضع أنت لآدم، و سيصير له مكانا في جنّتي و يزرعها).

ياللصدف السعيدة! هنا نجد جميع العناصر القصصية التي ستظهر في القرآن لاحقا:  اعتراض الملائكة على استخلاف الإنسان - تعليم الله الأسماء لآدم- المنافسة بين الملائكة و الإنسان، و تفوق الأخير عليهم – تمرد الشيطان، الذي فشل أيضا في معرفة الأسماء
.

و لو عدنا مرة أخرى إلى التفاسير القرآنية، فسنجد تشابها ملفتا بين تفاصيل ما ورد في الفقرة الأولى عن غيرة الملائكة من آدم ؛ أما عن أسماء الحيوانات فنقرأ في الطبري مثلا (عن ابن عبـاس، قال: علـم الله آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التـي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار، وأشبـاه ذلك من الأمـم وغيرها)، و (عن مـجاهد، قال: علـمه اسم الغراب والـحمامة، واسم كل شيء)، و (عن الـحسن وقتادة قالا: علـمه اسم كل شيء: هذه الـخيـل، وهذه البغال، والإبل، والـجنّ، والوحش وجعل يسمي كل شيء بـاسمه) (2) فالتشابه بين القصتين -إلى حد التطابق- واضح.

و لكن هنا، في التراث اليهودي و في القرآن على السواء, يبدو لنا أن الأسماء- أسماء الحيوانات و الطيور- هي مجرد موضوع للتحدي أو "مسابقة معلومات" بين آدم و الملائكة، يقوم الله بإجرائها كحكم، مع قيام ذلك الحكم الماكر بتعليم أحد الطرفين مسبقا الجواب الصحيح، لكي يضمن فوزه على الآخر(!)- و بغض النظر عن التفاصيل فالهدف الواضح من القصة هو إبراز و تأسيس تفوق الإنسان على الملائكة و الشياطين.

فهل هذا هو الهدف و المغزى الوحيد لتعليم آدم الأسماء؟ أم أن المزيد من الغوص في النصوص المقدسة قد يكشف لنا المزيد من المعاني و الأسرار للقصة؟

"الأسماء" في العقيدة المصرية القديمة
تحكي لنا الأساطير المصرية القديمة حكاية ممتعة عن كيفية قيام الماكرة إيزيس بخداع الإله رع، لكي تعرف اسمه السري ذا القوة السحرية العظمى.

نقرأ من كتاب عالم المصريات واليس بدج بعنوان "بردية آني: كتاب الموتى المصري" ، تحت فصل بعنوان "أسطورة رع و إيزيس"(3)، مبتدئا بتساؤل الربّة إيزيس قائلة (أليس بإمكاني، عن طريق معرفة الإسم المقدس للإله، أن أجعل نفسي سيدة الأرض، و أصبح إلهة مثل رع في السماوات و على الأرض؟).

ثم تبدأ القصة بمشهد يظهر كبير الآلهة و جدّهم، رع، الذي بلغ آنذاك الشيخوخة و أصيب بالضعف و الهزال حتى سقط لعابه على الأرض؛ فقامت إيزيس بأخذ بعض ذلك اللعاب الخاص و خلطته بالطين لتخلق منه ثعبانا ساما مقدسا على شكل رمح، و قامت بوضعه على الأرض، في طريق رع مباشرة!

و بينما الإله العجوز يتمشى غير منتبه، إذا بالثعبان يلدغه، فيقع أرضا صارخا مستغيثا من الألم و الصدمة، و تهرع إليه جميع الآلهة، دون أن ينجح أحد في فهم ما أصابه.

ووسط معاناته و رثاءه لنفسه يعلن رع أنه-  لم يشعر بألم مماثل في حياته، و يذكر عظمته و قدراته قائلا (أنا عظيم و ابن عظيم، و قام أبي باختيار اسمي؛ لدي أسماء عديدة و أشكال عديدة، فوجودي في جميع الآلهة... أبي و أمي نطقا بإسمي؛ و لكنه ظل مخفيا بداخلي، حتى أن الكلمات التي ينطق بها أي عرّاف لا يمكنها التسلط عليّ).

هنا تسرع إيزيس إلى الإله المتألم، متصنعة الدهشة و الجزع، سائلة إياه عما أصابه، و حين يحكي لها عما حدث ستتظاهر بأنها تحاول شفاءه، و لكنها ستطلب منه أن يخبرها بإسمه السري المقدس (اخبرني بإسمك أيها الأب المقدس، فمن يخلص بذلك الإسم فسوف يحيا).

في البداية حاول رع أن يمتنع عن البوح باسمه للربة المرأة ، و لكن تحت ضغط الألم استسلم كبير الآلهة للأمر، معلنا أسفه من أن اسمه سوف ينتقل منه إلى إيزيس، و التي صارت منذ ذلك الحين ملكة الآرباب و صاحبة قوى سحرية لا تضاهى، لأنها "تعرف اسم رع"!

و عبر التراث المصري كله ظلت إيزيس رمزا و أيقونة للسحر و التعاويذ المؤثرة، خاصة في مجالي الحماية و الشفاء.

و بشكل أكثر عمومية، يبدو التأثير السحري للأسماء من أهم مميزات الحضارة المصرية القديمة، فحين كان المصريون يسعون لتمجيد شخصا ما كانوا يعنون بتسجيل اسمه كتابة في كل النصوص محاطا بالتبجيل و التقديس، و حين كانوا يريدون لعن شخصا ما كانوا يمحون اسمه من على جدران المعابد إلى الأبد- ذلك المحو كان العقوبة المعنوية و الروحانية القصوى و الأكثر إرعابا لأي شخص.

و في نص كتاب الموتى، الجزء 125- أ (4)، نقرأ ما يُسمّى "الإعتراف الإنكاري" و الذي يأتي في إطار محاكمة الإنسان بعد موته، أمام مجموعة من القضاة\الآلهة الأخرويين ؛ حيث يسعى الشخص لتبرئة نفسه من أية مخالفات أخلاقية، فيردد "أنا لم أقتل، أنا لم أسرق، أنا لم أرتكب الزنا..إلخ".

و في كلام المتوفى نجد أيضا تأكيده على أنه "يعرف اسم الإله"، بشكل يوحي و كأن معرفة ذلك الإسم تمنحه قوة و حصانة من الأذى ؛ و يضيف (أنا أعرف أسماء الإثنين و أربعين إلها، المكوّنين لتلك المحكمة)،  وفي الخاتمة يؤكد أنه (لا شيء شرير يمكنه أن يصيبني في تلك الأرض؛ ذلك لأنني أعرف أسماء الآلهة التي تسكنها).

يقول عالم المصريات واليس بادج، في كتابه "الدين المصري" ص 192 (5) أنه في الحضارات القديمة فإن (اسم الشخص كان واحدا من أهم أجزاءه المكوّنة؛ فالمصريون، بالتشارك مع جميع الشعوب الشرقية، كانوا يولّون الأهمية القصوى لحفظ الإسم، و أي شخص كان يقوم بتلطيخ اسم شخصا آخر فيعتبر أنه قد قام بتدمير الشخص نفسه؛ و مثل الـ"كا" (الروح) كان الإسم كذلك قسما من الهوية الأخص للإنسان؛ و من السهل رؤية لماذا تم منحه الكثير من الأهمية، فكيان بلا اسم يستحيل تقديمه إلى الآلهة؛ و كما أنه لا يتواجد شيء بدون اسم فكذلك الشخص الذي لا اسم له فإن موقفه أمام الآلهة يعتبر أسوأ من أتفه الجمادات؛ و الحفاظ على اسم الأب و ضمان استمراره كان من واجبات الإبن البار؛ أما الحفاظ على مقابر الموتى في حالة جيدة بحيث يتسنّى للجميع قراءة الأسماء المدونة عليها فكان من أجلّ الأعمال؛ على الجانب الآخر فلو كان المتوفى عارفا بأسماء الآلهة، سواء صديقة أو عدوة، و بإمكانه أن ينطقها، فإنه يمتلك فورا سلطة فوق تلك الآلهة، و يجعلها تستجيب لإرادته).

رمزية الإسم و قوته
في التوراة، و ضمن الوصايا العشرة، نجد نهيا صارما عن النطق بإسم الإله باطلا (لا تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلاً لأَنَّ الرَّبَّ لا يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلاً) خروج 20-7 و تثنية 5-11 - و الواضح أن النهي ليس فقط عن الحنث بالقسم و لكن عن تدنيس اسم الله بشكل عام.

و تراثيا نعلم أن اليهود التقليديين يتحفظون عن ذكر "اسم الله" سواء بالكتابة أو شفويا، تنزيها له (6)، بل و يعتبرون أن الأسماء الكثيرة لله في تراثهم ليست أسماءا بالمعنى الحقيقي للأسماء، بل هي أقرب إلى ألقاب أو صفات تعكس بعض خصائص الإله كالعدل أو الرحمة..إلخ (7).

المسلمون أيضا لديهم تصورا مشابها لما يُسمى بأسماء الله الحسنى المُشار لها في القرآن (الأعراف 180، الإسراء 110،طه 8) فهي أيضا ليست أسماءا بالمعنى و إنما هي أقرب إلى صفات متنوعة للإله (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ..إلخ) (الحشر 22،23).

على الجانب الآخر يهتمّ المسلمون كثيرا بذكر "اسم الله" فتلك الصيغة أيضا ترد في القرآن بشكل متكرر (المائدة 4، الأنعام 118،119،121،138، الحج 28،34،36،40، الرحمن 78، المزمل 8، الإنسان 25، الأعلى 1، 15).

و في الحديث نجد روايات عديدة عن "اسم الله الأعظم"، الذي له فيما يبدو تأثيرا خاصا، حيث ورد عن النبي محمد مرارا أنه الإسم "الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى" (8)، مما يوحي بأن معرفة ذلك الإسم تمنح العارف مزية هامة في الدعاء.

أما المسيحيون، و بالإضافة لتبنّيهم بطبيعة الحال لكثير من التراث اليهودي، فهم أيضا يولّون أهمية كبيرة لإسم إلههم ، حيث نجد في العهد الجديد نصوصا عديدة تؤكد على تمجيد اسم الرب أو المسيح (فيلبي 2-10)، و تشير إلى أن كل ما يُطلب بإسم المسيح يتم الإستجابة له (يوحنا 16-23)؛ مع إمكانية القيام بمعجزات عن طريق ذلك الإسم (أعمال الرسل 3-6 و 4-7،11 و 9-34)؛ بل و أيضا يتم إخراج الأرواح الشريرة بإسم يسوع المسيح (أعمال الرسل 16-18) – و هو عين ما يقوم به رجال الدين المسيحيون إلى اليوم.

ما الذي يعنيه كل هذا؟

يعني أنه بشكل عام، و حسب عقلية أجدادنا القدامى ذات الطابع الأسطوري السحري، فإن معرفة الإسم و القدرة على ذكره كانت ميزة عظيمة، توازي منح العارف سلطة خاصة على ذلك الشيء الذي عرف اسمه، كما أشار واليس بدج في اقتباس سابق.

في ذهن القدماء، فإن معرفتك لإسم الشيء تعني هيمنتك عليه و استطاعتك توجيه قدراته كما تشاء – معرفة اسم الآلهة يسخّر قدراتها لصالحك
 (كما رأينا في قصة إيزيس و رع) و معرفة اسم الشياطين يتيح لك تجنب أذاها و تلافي خطرها.

هذا هو المفهوم الذي نراه بشكل متكرر في الأديان و المعتقدات القديمة ؛ و لكن كيف نشأ ذلك المفهوم و ما سبب ترسخه في عقول القدماء؟

ربما بقليل من الملاحظة و التأمل سنستطيع- بسهولة نسبية- الإجابة على ذلك السؤال؛ و سيكون بإمكاننا معرفة كيف ظهر الإعتقاد بقوة الإسم، من خلال واقع الإنسان القديم ، و كيف تبلور من خلال العادات و السلوكيات اليومية له و لمجتمعه.


في الحياة العادية، الإسم هو علامة الشخص (أو الشيء) التي تمنحه خصوصيته و تميزه عن الآخرين؛ اسمي هو رمزي و هويتي و وجودي المعنوي في حياة الآخرين، حتى بعد وفاتي.

و بناءا عليه فمعرفتك لإسم فلان هي دليل على وجود علاقة خاصة بينك و بين فلان هذا، فهو لم يعد غريبا و إنما صار قريبا أو صديقا أو حتى تابعا محتملا ، و ذكرك لإسمه بصوت واضح هو بمثابة تمجيد له و اعتراف به، و عند اللزوم تحكّم فيه و استدعاء لحضوره و استعانة بقدراته و استجلاب لخصائصه ؛ على الجانب الآخر فجهل الإسم هو جفاء و تنافر و غربة جديرة بعدو خطير أو بعيد غامض، أما محو الإسم و نسيانه فهو محو لذكر الإنسان و إهمال و امتهان له.

تلك التأثيرات المعنوية للأسماء لها جانبان: جانب حقيقي واقعي واضح نراه كل يوم في حياتنا اليومية كما رآه القدماء في حياتهم، و جانب آخر خيالي متوّهم مبالغ فيه (تابع للجانب الأول و ناشيء منه و متفرع عنه) نراه في المعتقدات و الأساطير السحرية و الدينية قديما و حديثا، كما ذكرنا- و بالطبع فالإنسان القديم لم يكن قادرا على التمييز بوضوح بين هذين الجانبين بل خلط بينهما.

التسمية = الهيمنة
فإذا عدنا إلى موضوعنا الأصلي، قصة الأسماء المرتبطة بخلق آدم، فأول ما قد نهتم بفعله هو تجاهل "الشوائب" المضافة إليها في أزمنة متأخرة (غيرة الملائكة و مسابقة المعلومات و الأمر بالسجود و التمرد الشيطاني، و التي قد تحتاج إلى تحليل آخر لتفسيرها و تفكيكها)، و التركيز فقط على الهيكل الرئيسي للقصة في صورتها الأقدم زمنيا و الأكثر نقاءا، في التوراة.

فإذا أعدنا تأمل المشهد التوراتي القصير (وَجَبَلَ الرَّبُّ الالَهُ مِنَ الارْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ فَاحْضَرَهَا الَى ادَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ ادَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا - فَدَعَا ادَمُ بِاسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ)، فسنجد أن المغزى الرمزي البسيط و المباشر للقصة صار واضحا الآن: و هو أن الله أراد منح آدم\الإنسان السلطة فوق كل تلك الكائنات!

هذا المفهوم- تسخير الله لجميع الكائنات لصالح البشر- هو معنى موجود و مؤكد عليه بقوة في الكتب المقدسة الثلاثة، من أول سفر التكوين (1-28) و حتى القرآن (لقمان 20، الحج 65، النحل 14،الجاثية 12) ؛ و ما مسألة سماح الله لأدم بإطلاق أسماء على الحيوانات و الطيور إلا تأكيدا إضافيا رمزيا و "شرعنة دينية" لسيطرة الإنسان على الطبيعة و هيمنته على جميع الكائنات فيها – تلك الهيمنة التي ستتطور في التراث اليهودي و العربي اللاحق لتصير تفوقا على الملائكة و الشياطين أيضا، في إطار مسابقة المعلومات إياها!

و لو أردنا ربط تلك الفكرة (أن إطلاق الإسم هو تعبير عن الهيمنة و التسلّط) بالواقع اليومي للناس قديما و حديثا، فلا أوضح من علاقة الوالدين بإبنهما؛ فأول ما يقوم به الأب حين ينجب طفلا هو أن يختار له اسما، فذلك الفعل هو أول ممارسة لسلطة الأب على ابنه، فهو بمثابة إعلان رمزي للهيمنة و الملكية.

الإنسان القديم رأى تلك العادة (إطلاق الأسماء على المواليد) و مارسها بشكل يومي، و تشرب مغزاها في تراثه ليعتقد أن إطلاق الإسم على الشخص – أو على الشيء- هو بمثابة تأكيد للسيطرة عليه و امتلاك أحقية التصرف فيه، كما يمتلك الأب ابنه الصغير، أو حتى كما تمتلك حيوانك الأليف الذي تختار اسمه كما تشاء.

تأكيدا لذلك المعنى، نجد في سفر التكوين أنه بينما الله هو من خلق الرجل و سمّاه (2-7)؛ إلا أن من اختار أن يسمّي المرأة بإسمها لم يكن الله و إنما آدم نفسه! (فَقَالَ ادَمُ: "هَذِهِ الْانَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هَذِهِ تُدْعَى امْرَاةً لانَّهَا مِنِ امْرِءٍ اخِذَتْ" 2-23)- و لابد أن دلالة ذلك رمزيا قد اتضحت لنا الآن: فالرجل يسود على المرأة و يهيمن عليها، و هو ما تأكد بشكل صريح في تكوين 3-16.

و هكذا نجد أن فهم الفكرة الدينية بشكل شامل يمكن أن يتأتى عن طريق تفكيك تلك الفكرة و تتبعها بأشكالها المتنوعة في العقائد المختلفة وصولا إلى مصادرها الأقدم، و من ثم محاولة تخليصها من شوائبها المتأخرة، و محاولة تلمس مغزاها الأصيل في عقل الإنسان القديم الذي أنتجها ابتداءا استلهاما من واقعه البيئي و الإجتماعي.



المراجع:
(2) -  جامع البيان في تفسير القرآن- تفسير الطبري- سورة البقرة - الآية 31.
http://www.altafsir.com/Tafasir.asp?tMadhNo=1&tTafsirNo=1&tSoraNo=2&tAyahNo=31&tDisplay=yes&Page=2&Size=1&LanguageId=1
(5) - Egyptian ideas of the future life; Egyptian religion. ... . Budge, E. A. Wallis Sir, (Ernest Alfred Wallis), 1857-1934. – ص192
(6) - Harris, Stephen L. Understanding the Bible: a reader's introduction, 2nd ed. Palo Alto: Mayfield. 1985.                                         page 21.
(7) – Karesh, Sara E.; Hurvitz, Mitchell M. (2005). "Names of God". Encyclopedia of Judaism. Infobase Publishing. p. 179.
(8) – حديث في ابن ماجة 3856 – و حديث في الترمذي 3544 و أبو داود 1495 و النسائي 1300 و ابن ماجه 3858 – و حديث في الترمذي 3475 و أبو داود 1493 و ابن ماجه 3857 – و حديث في الترمذي 3478 و أبو داود 1496 و ابن ماجه 3855.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق