نعرف أن اللغة هي أداة اخترعها البشر، بغرض نقل المعاني في شكل أصوات منطوقة.. ولكن تلك الأداة، مثل كل شيء، هي أداة ناقصة لا تخلو من عيوب..
هب أنك سمعت العبارة التالية: "يا أخي، ناولني بعض الماء، وتخلص من هذا الذباب"..
كيف ستفهمها؟
كيف ستفهمها؟
لأول وهلة العبارة تبدو واضحة، فهناك شخص ما يطلب بعض الماء، ويريد التخلص من الذباب..
ولكن هل هذا هو المعنى الوحيد المحتمل للعبارة؟ لنحاول إجابة السؤال عن طريق المزيد من الأسئلة:
لنبدأ كلمة "أخي"، فهل المقصود هنا أخوة حرفية (ابن أبي أو أمي) أم أخوة مجازية كناية عن الود والصداقة؟
وأي ماء هو المقصود، هل هو ماء للشرب أم ماء مالح؟ وهل المطلوب مجرد كوب أم أكثر من ذلك؟
ولو جئنا للذباب فالمسألة أكثر صعوبة، فهل المقصود ذباب حرفي (تلك الحشرة المزعجة) أم أن الذباب كناية عن شيء آخر يزعج المتكلم؟
وهل التخلص من الذباب يتضمن قتله أم هناك وسيلة أخرى يقصدها القائل للتخلص من ذلك الذباب؟
وهل العبارة خاصة أم عامة؟ هل هو يكلم شخصا محددا ويطلب منه شيئا بسيطا، أم أن تلك العبارة عامة موجهة لعدد أكبر من المستمعين، في شكل نصيحة أو خطاب واسع؟
لو تعاملنا بجدية مع كل الإحتمالات السابقة، فربما يمكننا الخروج بعشرات المعاني لتلك الجملة..
والآن لنقل أنني أردت إراحتك من الحيرة، وأخبرتك أن قائل تلك العبارة هو أخي الأكبر، وأنه قالها أمس حين كان جالسا يقرأ كتابا في شرفة منزل الأسرة، وكان الجو شديد الحرارة، فطلب مني أن أحضر له كوبا من الماء ليشرب، وأن أتناول المبيد وأرش بضعة ذبابات كانت تزعجه.. هنا يتضح المعنى البسيط المباشر..
ولكن تخيل لو ظهر لنا شخص آخر بنظارات سميكة، مكذبا كلامي، وطارحا معلومات جديدة : بل إن قائل تلك الجملة هو عالم أحياء متخصص بالحشرات كان يجري تجاربه في المعمل، وكتب لمساعده (الذي كان مقربا منه إلى درجة أنه كان يدانيه بقوله "أخي") كتب له رسالة يطلب منه أن يأتي له بأنابيب من مادة الماء المقطر، وأن ينقل له عينات الذباب إلى قاعة مختلفة من المختبر..
وبينما نحن نتجادل إذا بشخص ثالث يرتدي جلبابا بسيطا يظهر، نافيا المعنيين السابقين، ومؤكدا: أن قائل تلك الجملة هو مزارع يبدأ بفلاحة أرضه، وكان يطلب من أخيه أن يباشر بتوصيل مواسير المياه إلى الأرض، وأن يرش المبيدات للتخلص من جميع أنواع الحشرات في الأرض (مطلقا عليها تسمية جامعة "ذباب")..
وبينما غرقنا في الحيرة وجدنا رابعا جاء يسعى، مقدما نفسه أنه مؤرخ، قائلا لنا : بل إن تلك العبارة وردت على لسان جندي إنجليزي تمت إصابته في إحدى معارك الحرب العالمية الثانية، فهو كان يطلب من زميله أن يناوله بعض الماء، ثم يذهب فيقتل جنود الأعداء الألمان، والذين وصفهم كناية بالذباب على سبيل الإحتقار..
وما أن كدنا نصاب بالجلطة من التخبط، حتى دخل علينا شخص خامس بلحية بيضاء وقورة، مؤكدا : أن العبارة ليست سوى بيت شعر كتبه صوفي شهير ومليء بالمعاني العميقة، فالأخوة هنا هي أخوة التصوف الوجداني، والماء هنا ليس ماءا ماديا وإنما هي السكينة الروحية التي تروي الأنفس، وأما الذباب فهو يرمز إلى جميع الماديات المزعجة للروح..
وختاما، وبينما نحن على شفا الجنون، وجدنا شخصا سادسا تبدو علامات التعصب على وجهه، وأخبرنا أن قائل تلك العبارة هو زعيم ديني عظيم، لا يأتيه الباطل، وأنه كان يقصد بالماء أي الدين والشريعة التي يحملها إخوان الدين، وأما الذباب فهم جميع الكفار برسالته في كل زمان ومكان، والذين يجب التخلص منهم بقتلهم.. قالها المتعصب وقد لمحنا بيده سلاحا ما، يبدو أنه كان يفكر في رفعه تجاهنا!
أظن وضحت الفكرة، رغم أنه يمكنني الإستمرار في سرد المعاني المتخيلة لتلك العبارة البسيطة: يا أخي، ناولني بعض الماء، وتخلص من هذا الذباب..
وربما الدرس المستفاد هنا أن اللغة عموما أداة قاصرة، فهي لا تحمل المعنى وإنما تعبر عنه، وأما المعنى فكامن في عقل المتكلم وضميره..
هذا يعني أن النص، خصوصا النصوص العامة الأدبية المختصرة المنقطعة عن سياقها، يمكن فهمه ليس بشكل واحد وإنما على ألف وجه مختلفين، لا يمكن أن تكون كلها صحيحة..
والأخطر أنه وليس أمامنا وسيلة قاطعة لحسم الخلاف بين أولئك المتجادلين، اللهم إلا لو جاء لنا صاحب العبارة بنفسه ليصرح أمامنا جميعا بالمعاني التي قصدها..
أما لو أن المؤلف مات واندثر، فقد انقطع الأمل بإيجاد معنى قاطع للعبارات المذكورة..
وأما أقصى ما يمكن للمتابعين فعله، فهو أن نحاول الإطلاع على السياق الذي كان يعيش فيه المتكلم، والظروف التي نطق فيها بهذا النص، فلو اكتشفنا - مثلا- أن القائل بالفعل كان جنديا في الحرب، فهذا يجعلنا نرجح الإحتمال الخاص بأن الذباب هم جنود الأعداء المطلوب قتلهم.. وهو معنى لم يكن باستطاعتنا معرفته بدون اطلاعنا على السياق..
بالتالي ففهم السياق وشخص المتكلم والغرض من كلامه هو أقوى وسيلة لفهم النصوص..
وأما لو أن السياق ضائع، أو مشكوك في المعلومات المحيطة به، فهذا يفقدنا الأمل في فهم النص..
ختاما، فإن تلك المشكلة تخص جميع النصوص، خاصة ذات الطابع الأدبي، بما في ذلك الدساتير والقوانين..
ولكن أليس هناك وسيلة لتجنب تلك المشكلة؟
بالطبع هناك وسيلة: هي أن يكون النص تحت أيدي البشر، وليس حاكما عليهم، بمعنى أن دستور البلاد- مثلا- لا يكون مقدسا، وإنما نتفق أنه كتبه بشر من أجل البشر، وبالتالي صارت معانيه ملكا لنا نحن، نعيد تفسيرها، بل وربما تغييرها، إذا تغيرت الظروف واحتجنا إلى هذا التغيير
..
نزع القداسة هذا ربما لا يساعدنا على فهم قاطع للنص، ولكنه سيحررنا من التبعية لتلك النصوص، بمعنى آخر لن يكون هناك خطرا من سوء الفهم..
وأما لو كانت النصوص فوق البشر، حكما عليهم، متسلطة على أمورهم، غير قابلة للتغيير، فهذا يعد كارثة حقيقية، لأنه يعني أن إدارة حياتنا ستظل مرهونة بأفهام للكلام وليس للواقع، وسيظل السعي ليس تطوير النصوص والأفكار لتلائم المتغيرات، وإنما السعي هو لي عنق الواقع نفسه ليلائم نصوصا ربما عفا عليها الزمن والأخلاق والإنسانية..
فلا سبيل إلى تجنب ضرر النصوص، إلا أن نتوقف عن عبادة تلك النصوص..
ولكن هل هذا هو المعنى الوحيد المحتمل للعبارة؟ لنحاول إجابة السؤال عن طريق المزيد من الأسئلة:
لنبدأ كلمة "أخي"، فهل المقصود هنا أخوة حرفية (ابن أبي أو أمي) أم أخوة مجازية كناية عن الود والصداقة؟
وأي ماء هو المقصود، هل هو ماء للشرب أم ماء مالح؟ وهل المطلوب مجرد كوب أم أكثر من ذلك؟
ولو جئنا للذباب فالمسألة أكثر صعوبة، فهل المقصود ذباب حرفي (تلك الحشرة المزعجة) أم أن الذباب كناية عن شيء آخر يزعج المتكلم؟
وهل التخلص من الذباب يتضمن قتله أم هناك وسيلة أخرى يقصدها القائل للتخلص من ذلك الذباب؟
وهل العبارة خاصة أم عامة؟ هل هو يكلم شخصا محددا ويطلب منه شيئا بسيطا، أم أن تلك العبارة عامة موجهة لعدد أكبر من المستمعين، في شكل نصيحة أو خطاب واسع؟
لو تعاملنا بجدية مع كل الإحتمالات السابقة، فربما يمكننا الخروج بعشرات المعاني لتلك الجملة..
والآن لنقل أنني أردت إراحتك من الحيرة، وأخبرتك أن قائل تلك العبارة هو أخي الأكبر، وأنه قالها أمس حين كان جالسا يقرأ كتابا في شرفة منزل الأسرة، وكان الجو شديد الحرارة، فطلب مني أن أحضر له كوبا من الماء ليشرب، وأن أتناول المبيد وأرش بضعة ذبابات كانت تزعجه.. هنا يتضح المعنى البسيط المباشر..
ولكن تخيل لو ظهر لنا شخص آخر بنظارات سميكة، مكذبا كلامي، وطارحا معلومات جديدة : بل إن قائل تلك الجملة هو عالم أحياء متخصص بالحشرات كان يجري تجاربه في المعمل، وكتب لمساعده (الذي كان مقربا منه إلى درجة أنه كان يدانيه بقوله "أخي") كتب له رسالة يطلب منه أن يأتي له بأنابيب من مادة الماء المقطر، وأن ينقل له عينات الذباب إلى قاعة مختلفة من المختبر..
وبينما نحن نتجادل إذا بشخص ثالث يرتدي جلبابا بسيطا يظهر، نافيا المعنيين السابقين، ومؤكدا: أن قائل تلك الجملة هو مزارع يبدأ بفلاحة أرضه، وكان يطلب من أخيه أن يباشر بتوصيل مواسير المياه إلى الأرض، وأن يرش المبيدات للتخلص من جميع أنواع الحشرات في الأرض (مطلقا عليها تسمية جامعة "ذباب")..
وبينما غرقنا في الحيرة وجدنا رابعا جاء يسعى، مقدما نفسه أنه مؤرخ، قائلا لنا : بل إن تلك العبارة وردت على لسان جندي إنجليزي تمت إصابته في إحدى معارك الحرب العالمية الثانية، فهو كان يطلب من زميله أن يناوله بعض الماء، ثم يذهب فيقتل جنود الأعداء الألمان، والذين وصفهم كناية بالذباب على سبيل الإحتقار..
وما أن كدنا نصاب بالجلطة من التخبط، حتى دخل علينا شخص خامس بلحية بيضاء وقورة، مؤكدا : أن العبارة ليست سوى بيت شعر كتبه صوفي شهير ومليء بالمعاني العميقة، فالأخوة هنا هي أخوة التصوف الوجداني، والماء هنا ليس ماءا ماديا وإنما هي السكينة الروحية التي تروي الأنفس، وأما الذباب فهو يرمز إلى جميع الماديات المزعجة للروح..
وختاما، وبينما نحن على شفا الجنون، وجدنا شخصا سادسا تبدو علامات التعصب على وجهه، وأخبرنا أن قائل تلك العبارة هو زعيم ديني عظيم، لا يأتيه الباطل، وأنه كان يقصد بالماء أي الدين والشريعة التي يحملها إخوان الدين، وأما الذباب فهم جميع الكفار برسالته في كل زمان ومكان، والذين يجب التخلص منهم بقتلهم.. قالها المتعصب وقد لمحنا بيده سلاحا ما، يبدو أنه كان يفكر في رفعه تجاهنا!
أظن وضحت الفكرة، رغم أنه يمكنني الإستمرار في سرد المعاني المتخيلة لتلك العبارة البسيطة: يا أخي، ناولني بعض الماء، وتخلص من هذا الذباب..
وربما الدرس المستفاد هنا أن اللغة عموما أداة قاصرة، فهي لا تحمل المعنى وإنما تعبر عنه، وأما المعنى فكامن في عقل المتكلم وضميره..
هذا يعني أن النص، خصوصا النصوص العامة الأدبية المختصرة المنقطعة عن سياقها، يمكن فهمه ليس بشكل واحد وإنما على ألف وجه مختلفين، لا يمكن أن تكون كلها صحيحة..
والأخطر أنه وليس أمامنا وسيلة قاطعة لحسم الخلاف بين أولئك المتجادلين، اللهم إلا لو جاء لنا صاحب العبارة بنفسه ليصرح أمامنا جميعا بالمعاني التي قصدها..
أما لو أن المؤلف مات واندثر، فقد انقطع الأمل بإيجاد معنى قاطع للعبارات المذكورة..
وأما أقصى ما يمكن للمتابعين فعله، فهو أن نحاول الإطلاع على السياق الذي كان يعيش فيه المتكلم، والظروف التي نطق فيها بهذا النص، فلو اكتشفنا - مثلا- أن القائل بالفعل كان جنديا في الحرب، فهذا يجعلنا نرجح الإحتمال الخاص بأن الذباب هم جنود الأعداء المطلوب قتلهم.. وهو معنى لم يكن باستطاعتنا معرفته بدون اطلاعنا على السياق..
بالتالي ففهم السياق وشخص المتكلم والغرض من كلامه هو أقوى وسيلة لفهم النصوص..
وأما لو أن السياق ضائع، أو مشكوك في المعلومات المحيطة به، فهذا يفقدنا الأمل في فهم النص..
ختاما، فإن تلك المشكلة تخص جميع النصوص، خاصة ذات الطابع الأدبي، بما في ذلك الدساتير والقوانين..
ولكن أليس هناك وسيلة لتجنب تلك المشكلة؟
بالطبع هناك وسيلة: هي أن يكون النص تحت أيدي البشر، وليس حاكما عليهم، بمعنى أن دستور البلاد- مثلا- لا يكون مقدسا، وإنما نتفق أنه كتبه بشر من أجل البشر، وبالتالي صارت معانيه ملكا لنا نحن، نعيد تفسيرها، بل وربما تغييرها، إذا تغيرت الظروف واحتجنا إلى هذا التغيير
..
نزع القداسة هذا ربما لا يساعدنا على فهم قاطع للنص، ولكنه سيحررنا من التبعية لتلك النصوص، بمعنى آخر لن يكون هناك خطرا من سوء الفهم..
وأما لو كانت النصوص فوق البشر، حكما عليهم، متسلطة على أمورهم، غير قابلة للتغيير، فهذا يعد كارثة حقيقية، لأنه يعني أن إدارة حياتنا ستظل مرهونة بأفهام للكلام وليس للواقع، وسيظل السعي ليس تطوير النصوص والأفكار لتلائم المتغيرات، وإنما السعي هو لي عنق الواقع نفسه ليلائم نصوصا ربما عفا عليها الزمن والأخلاق والإنسانية..
فلا سبيل إلى تجنب ضرر النصوص، إلا أن نتوقف عن عبادة تلك النصوص..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق