الجمعة، 1 فبراير 2019

بين المبادئ والأطماع



أعترف أنني لا أخاف من أصحاب الأطماع بقدر ما أخاف من أصحاب المبادئ..


بـ"أخاف" لا أعني خوفا على نفسي وإنما على المجتمعات والأوطان والبشرية.

وبـ"أصحاب المبادئ" لا أعني الذين يتحلّون بالأخلاق، فالجميع لديه أخلاقه الخاصة به والتي تخدم تصوره الخاص عما هو حق أو عدل أو خير، لا جديد هنا؛ وإنما أعني هؤلاء، أصحاب المعتقدات العميقة الراسخة التي تعلو على كل شيء وتحيط بكل شيء وتشمل كل شيء، وتتحدى كل شيء وتسحق كل شيء إن لزم الأمر..

لا أقصد المتظاهرين بالمبادئ أدعياء القيم المزورين رافعي الشعارات تجار الفضيلة، وإنما أقصد أصحاب المبادئ الحقيقية الصادقين في دعواهم..

أتحدث عن الحالمين والمجاهدين والمناضلين والشهداء، الذين يريدون تغيير العالم بأي ثمن ولا يعرفون حدودا..

أقصد أولئك الذين يؤمنون فقط.. لا يترددون ولا يتشككون ولا يحتارون ولا يتفكرون..

ومجمل إيمانهم أن المبادئ (مبدأهم هم) أهم من الواقع، حتى واقعهم، وأن الشعارات (بالذات شعارهم) أهم من البشر، حتى أهلهم، وأن العقائد (تحديدا عقائدهم) أهم من الحياة، حتى حياتهم..

لعلك بدأت تفهم - قليلا- لم أخاف منهم..

ولتفهم لماذا قرنتهم بأصحاب الأطماع فدعنا نقارن بين الإثنين:

صاحب الطمع حيوان حريص على مصالحه الأنانية، قد يكون وغدا انتهازيا ولا شك، مُغرض ونهم حتى النخاع، تقوده غرائزه الخنزيرية إلى ابتلاع ما أمكنه من مكاسب الحياة: مال سلطة جنس.. ولأنه عديم المبادئ فهو مستعد لأن يسلبك أشياءك بالمكر واللين أوبالقوة إن استطاع؛ وإن وقفت أمام أطماعه فهو مستعد لأن يطأك بقدميه ليعبر فوقك.

ولكن بالمقابل فإن صاحب الطمع حيوان عاقل، يعرف كيف يحسب الأمور ويخضع للمساومة..

ولأنه حريص على مصالحه الأنانية فهو يخاف ويتردد ويوازن المصالح والمفاسد، ولذلك فقد يقبل بوجودك أو يجد سبيلا للتعامل معك إن هو عجز عن التخلص منك، أو إن كانت منفعته في وجودك أكبر من منفعته في فنائك..

ولأنه عديم المبادئ فهو يتمتع بمرونة وواقعية كافية لأن تتمكن من التعامل معه إن فهمته وأدركت رغباته، وحينها قد تصلان إلى صيغة من السلام - بل والتعاون- الحذر..

على الجانب الآخر فإن صاحب المبادئ هو شبه ملاك منكر لذاته غير حريص على مصالحه وإنما هو صاحب رساله، وبالتالي فغالبا سيكون زاهدا متعففا عن كل متاع الدنيا، بل وكارها لها، ومن المؤكد أنه لن ينافس أحد فيها.

بالمقابل فإن صاحب المبدأ - شبه الملاك- لديه طموحات أكبر من المال والجنس وربما حتى السلطة، فهو يسعى لقلب عالمك كله، ليوافق فكرته المقدسة العائشة برأسه..

ولأنه غير حريص على مصالحه، فهو لا يهتم بالتفاهم أو الوصول معك إلى منطقة وسط، فالتفكير عنده هرطقة، والتنازل عنده كفر، والمساومة عنده خيانة..

ولأنه صاحب رسالة فهو لا يعرف حدودا وإنما هو يغمض عيناه ويسير وراء قلب لا يعرف الخوف مستمرا في الطريق إلى نهايته؛ وهو في ذلك مستعد (كالطماع) لأن يطأك بقدميه، ولكن (بعكس الطماع) فلا يشترط أن تقف أمام أطماعه ليفعلها، وإنما يكفيك أن تختلف معه أو تنطق أو تفكر بشكل لا يتماشى مع عقيدته وثورته وأحلامه..

صاحب الأطماع مثلنا، إنسان حقيقي، فكلنا حيوانات عاقلة تسعى لمصالحها بدرجات مختلفة، نطمع ونخاف؛ من هنا تحديدا نرتكب الشرور، ومن هنا أيضا نسمو بأنفسنا، فحين اكتشف إنسان ما أن الآخر لديه مصلحة مثله يحاول تحقيقها ها هنا ولدت الأخلاق، وتعريفها ببساطة هو "العاطفة التي تجعلنا نشعر بالآخرين، والقواعد السلوكية التي تراعي المصالح المتبادلة بين البشر"..

وبناءا عليه فأصحاب الأطماع يمكن احتواءهم، ومن هنا ننجح في ترويض بعضنا البعض باستخدام المنطق والعقل..

أما صاحب المبادئ فلا يؤمن بالآخر، وإنما هو أشبه بكائن آلي متطرف مبرمج موجّه، يخدم فكرة معينة لا يرى سواها، وهو يكاد يكون منزها عن الطمع والخوف، مما يجعله منزها عن الشخصية، وهو لا يعرف التعاطف إلا مع رفاق جهاده، منزها عن المساومة والحساب وموازنة المصالح، وهو غير قابل للإحتواء لأن رسالته تعلو على أي منطق أو عقل..

من هنا فصاحب الطمع قد يكون حاكما متسلطا أو رأسماليا انتهازيا، يمكن ترويضه بضغط الغير ليكون حاكما يقبل بالديمقراطية أو رأسماليا يفيد المجتمع ويسدد الضرائب..

وأما صاحب المبدأ فهو عاشق مجنون وثائر، ومثل كل العاشقين والمجانين والثائرين فهو مهموم بحلمه مستعصي على الترويض، فلا يؤمن إلا بالصراع المقدس ولا يعرف إلا إحدى الحسنيين: إما ينتصر عليك فتكون مقتولا أو مقموعا، وإما تنتصر عليه فتكون قاتلا أو قامعا..

باختصار صاحب الطمع صديق للواقع، رغم أنه يريد استغلاله لصالحه، فهو يريد الحفاظ عليه.. أما صاحب المبدأ فلا يهمه الحفاظ على الواقع وإنما لا يمانع في نسفه من أجل هدف سامي جدا وهو خلق واقع جديد يطابق صورة مثالية في خياله..

صاحب الطمع يسعى للإستفادة منك وليس القضاء عليك.. صاحب المبدأ يريد تطويعك، إعادة خلقك لتطابق صورة خياله إياها..

ولهذا لا أخاف من الإنتهازي الطماع بقدر ما أخاف من الملاك المثالي الذي قد يضحي بحياته ولا يضحي بحلمه، ثم أنه يقاتلك وهو يعتقد أن جميع المقدسات والشعارات الشعبية تقف إلى جواره وتؤازر كل ما يقوم به : الله والدين والوطن والثورة والشعب والهوية والحق والخير والعدل والأخلاق..إلخ.

لهذا لا أرتجف حين أرى صاحب مصلحة أو مطمع، بقدر ما أرتجف حين أسمع شعارا مقدسا جميلا.. لن أنفر منك كثيرا لو سمعتك تتحدث فقط عن المال أو تصرخ للمطالبة بنصيب أكبر لنفسك، وإنما سأقفز فزعا لو سمعتك تتحدث فقط عن الحق وتصرخ دفاعا عن الدين والوطن والأخلاق والشعوب والثوار والشهداء.

لتفهم موقفي أكثر قارن بين تاجر الدين ومجاهد الدين، أيهما أشد خطرا؟ الأول متلوّن متزلف زئبقي، يمكن أن يخدعك أو يبتزك أو يتجمّل أمامك أو ينافقك إن كان يحسب حساب رد فعلك، وأما الثاني فهو إرهابي صادق مؤمن لا يعرف الحلول الوسط ولا يهتم لمصالحك أو مصالحه، ولا يقيم وزنا لحياتك أوحياته، فهو منتصر أو مهزوم، قاتل أو مقتول..

وبشكل أعم فأسوأ مجرمي وقتلة التاريخ بنظري لم يكونوا من الإنتهازيين النفعيين تجار المبادئ عديمي الإيمان (فهؤلاء الأوغاد يتشكّل منهم أهل السياسة النفعيين حتى في الأحوال الجيدة)، وإنما أخطر القتلة كانوا من المخلصين أصحاب المبادئ: قادة الثورات وزعماء الحركات والمناضلين المرحبين بالموت تضحية بأنفسهم وبالآخرين..

صاحبنا ذاك إن حالفه الحظ فهو زعيم راديكالي نافذ من النوع السفاح الذي يضحي بشعبه والشعوب المجاورة لأجل قضية مقدسة، وإن جانبه الحظ فهو مشروع سفاح فاشل- شهيد ترفع صوره كرمز للمقاومة والنضال وإلهاما لكل الشباب الذين سيكبرون ربما ليصبحوا.. أصحاب مبادئ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق