الجمعة، 1 فبراير 2019

اليقين النظري والثقة العملية



هل هناك حقيقة مطلقة أم كل الأمور نسبية؟
وإن كانت عقولنا نتاج التطور العشوائي فكيف يمكننا أن نثق بدقتها؟
وهل المنهج العلمي نفسه نتائجه يقينية، أم هي أيضا قابلة للشك؟
ماذا عن السرديات التاريخية الإنسانية، هل تمثل حقائق، أم كلها تكهنات لا يمكن إثباتها؟

وعن قضية الألوهية: كيف يجرؤ الملحد على نفي وجود الإله بلا دليل؟ ألا يجعله ذلك بمثابة الوجه الآخر للمؤمن المتعصب؟ وأليست اللاأدرية الحيادية هي الموقف الأكثر حكمة هنا؟

تلك أسئلة تطرح، وما يجمع بينها هو الموقف من اليقين، والذي يتباين فيه الناس ما بين يمين الثقة المصدقة، وما بين يسار الشك الكامل بكل شيء..

يميل أصحاب العقول الفلسفية إلى الشك، فيقللون من إمكانية المعرفة ويحلو لهم التأكيد على أن كل شيء نسبي متغير، فالبشر عقولهم وحواسهم وقدراتهم محدودة ناقصة يمكن أن تتوهم وتخدعهم بسهولة، ونحن مسجونون تماما داخل تلك العقول والحواس، ولا أمل في اليقين هنا، وبالتالي فالفلاسفة والمتفلسفون يميلون دائما إلى اللاأدرية، ويرون التأكد وكأنه حماقة أو قصور نظر..

هذه وجهة نظر مفهومة، ولكنها تفتح الباب لمزيد من الأسئلة غير المريحة:

فإن كان كل شيء نسبي، فما الفارق بين الجاهل والعالم؟ وبتلك الحالة ما فائدة محاولة التفكير والبحث أصلا، إن كان أي علم سأصل إليه لا يختلف كثيرا عن الجهل الذي بدأت منه؟ وإن كنت سألتزم اللاأدرية تجاه قضية معينة، مثل وجود الإله، فما الذي يمنع أن ألتزم اللاأدرية تجاه وجود زيوس وآمون رع وكريشنا وبعل ومثرا، بالإضافة إلى العفاريت والسنافر والغيلان، والذين لا يمكن نفي وجودهم قطعا؟ بل ولماذا لا نلتزم اللاأدرية تجاه قضية وجود الكون والبشر أنفسهم، والذين لا يمكن إثبات وجودهم يقينا؟

وإن قلنا أن المعرفة تساوي الجهل، ملتزمين اللاأدرية المطلقة والمحايدة تجاه كل شيء، فكيف يمكننا أن نتخذ قرارات حياتنا؟ ولنأخذ مثالا: إن أصبت بمرض، فهل أذهب إلى الطبيب أم إلى الساحر؟ حسب العقلية النسبية فلا فرق، إذ كلاهما يمتلك معرفة نسبية قاصرة متغيرة غير يقينية..

هذا السؤال الأخير يقودني إلى الموقف المناسب من تلك القضية، وهو التفرقة بين اليقين النظري والثقة العملية، مع نبذ المفهوم الأول باعتباره سفسطة فارغة، وتبني الثاني بالأساس..

أما اليقين الذي يبحث عنه الفلاسفة- وينفون وجوده- فأعترف أنني لم أفهمه أبدا، فاليقين بمعناه المباشر هو شعور نفسي بالتأكد والثقة داخل الجوارح، وفي تلك الحالة نسأل: هل اليقين له قيمة موضوعية حقا؟ ولو تذكرنا أن الشخص الجاهل المتعصب الأحمق مغسول الدماغ لديه من اليقين بداخله أضعاف ما لدى الفيلسوف العالم المفكر الحكيم، فسنخرج باستنتاج أن اليقين هو أشبه ببضاعة رخيصة، تنال أكثر مما تستحق من الإهتمام..

قد يقول قائل: ولكن ما يبحث عنه الفلاسفة- ويفتقدوه آسفين- ليس يقين الجاهل المتعصب المخدوع هذا، وإنما يقين المعرفة الموضوعية القائمة على أساس علمي حقيقي..

ونسألهم: كيف تتصورون أن يكون شكل هذا اليقين الموضوعي؟ كيف يأتي وما طبيعته؟ ولو قلنا - جدلا- أننا قد توصلنا إلى معرفة يقينية كاملة بشيء ما، فكيف سنعلم أن هذا قد حدث؟

لنقرب الفكرة بمثال جدلي: لنفترض وجود الإله، صاحب العلم الكامل المحيط، ولنسأل: هل يمكن للإله نفسه أن يتأكد من أن معرفته كاملة يقينية بالفعل؟ هل يستطيع الله إثبات أنه ليس هناك شيء يجهله مختبئا في مكان ما، خارج بصره وعلمه؟ الجواب أنه لن يمكنه ذلك أبدا، ليس لنقص في هذا الكائن المتخيل، وإنما لغموض معنى اليقين والإثبات الكاملين، مما يوضح أن المسألة كلها سفسطائية محضة, وأننا أمام كلمات مبهمة ليس لها معاني محددة تستحق النقاش..

وبسبب ما سبق لا أفضل وصف نفسي باللاأدري، فالكلمة لها جانب إيجابي أنها توحي بتحري الدقة والنزاهة الفكرية، ولكن لها جانب سلبي خطير أنها توحي بالحياد المائع ما بين العلم والجهل، فتقلل من قيمة المعرفة الإنسانية، وترفع بالتالي من قيمة الخرافات..

وقضية الألوهية ليس لها خصوصية عن أي قضية أخرى تحتمل تفسيرات غيبية، وإن كنت سأقف محايدا من الله والخلق، فعلي أن أقف محايدا من قضية أن الشياطين تسبب المرض، أو أن زيوس يسبب الصواعق، وحينها نكون أمام عبث يهدد البناء العقلي والعلمي كله..

وإن كان اليقين كله وهم، فالسؤال للاأدري يكون: لماذا تعرف نفسك فكريا من خلال الوهم؟ وهل من المنطقي أن نحشر بكل كلامنا أننا غير متأكدين، أم أن الأكثر حكمة هو تجاوز هذا الوهم لغويا، واستخدام الكلمات بشكل أكثر كفاءة يهتم بالتفرقة ما بين الصواب والخطأ كلاهما على أرضية بشرية نسبية، دون أن تضع الكل في سلة واحدة هي سلة عدم اليقين..

على الجانب الآخر حين أصف نفسي كملحد فلا أقصد أنني قد تفحصت الوجود كله وتأكدت بنفسي من عدم وجود الله أو زيوس أو بعل، هذا عبث، وإنما أقصد أنني أمتلك من المعرفة الإنسانية ما يجعلني أختار أن أعيش حياتي على فرضية أن تلك الكائنات لا وجود لها..

وهذا يرجعني إلى الثقة العملية التي أتحدث عنها، فهي تستند إلى الأفعال والسلوكيات الواقعية التي تثبت نتيجة إيجابية، بعكس اليقين النظري الذي ينتسب إلى الشعور النفسي والموضوعية الفلسفية المتخيلة..

ولمن يسأل: كيف نثق بعقولنا وهي نتاج التطور؟ نقول: ومن قال أننا يجب أن نثق بكل ما تنتجه عقولنا؟ فالعقول تنتج الصواب والخطأ على السواء، ولكن ما نثق فيه هو المنهج الذي يستند - انتقائيا- إلى العقل والتجربة الحسية، ويتفاعل مع الواقع ليعيد تصحيح نفسه باستمرار..

فأنا أصدق بالمنهج العلمي بشكل يجعلني أذهب إلى الطبيب لا إلى الساحر، وأنت كذلك، لأن التجارب والخبرة الحسية المتاحة تجعلنا نرى نجاح هذا المنهج وفشل الآخر، وهذا- حتما- لا يعني أن الطب علم إلهي كامل ثابت، وإنما هو فقط أكثر نجاحا في معالجة البشر من المناهج الأخرى، وبالتالي أجدر بالثقة العملية..

هذا النجاح بالطبع لم يأت مصادفة أو عبثا، وإنما بفضل المنهج العلمي الذي يتعامل بشكل منظم تفاعلي مستمر مع الواقع، ولا يستند على خيالات أو أمنيات أو سلطة أو وحي أو مشاعر داخلية..

ومن أهم أدوات قياس نجاح المنهج هو قدرته على التوقع، فحين يقوم أينشتاين بحساباته الرياضية ويستنتج وجود الثقب الأسود، ثم يتم اكتشاف هذا الثقب بعد سنوات طويلة، فهذا لا يدل فقط على أن حسابات أينشتاين صحيحة، وإنما على أن المنهج الرياضي والفيزيائي كله منهج "صحيح"، بالمعنى العملي..

فكلمات مثل الحقيقة المطلقة واليقين الكامل هي بنظري كلمات ليس لها أي معنى واقعي، وإنما المتاح أمامنا هو المناهج الناجحة التي تحقق توقعات صائبة وتزيد من قدرات من يطبقها، وبالتالي تستحق الثقة العملية، خاصة إذا ما قارناها بالمناهج الفاشلة، وبغض النظر عن أي سفسطات فلسفية، فإن كلنا ننزع بالضرورة العملية إلى اللجوء إلى المناهج التي نعرف- بالتجربة المتكررة - أنها تنجح، وهذا فقط هو ما يهم..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق