الجمعة، 1 فبراير 2019

نشأة الإسلام- نظرة مختلفة


يقال أن هرقل البيزنطي حين قرر بدء حملته العسكرية المضادة ضد الفرس، استهل ذلك بأن منح - مضطرا- عرب الشام (المسيحيين) حكما مستقلا، وكان ذلك في عام 622 م، والذي سيتم الإشارة إليه في المدونات بتاريخ "حكم العرب" - لاحقا "الهجرة"..

أما في الجنوب فقد كانت الأحداث تتطور بشكل كبير، فقد كانت يثرب وما حولها موطنا لهجرات من عدة أماكن، يأتيها أشخاص من خلفيات دينية مختلفة (المهاجرين) ويستوطنون إلى جوار اليهود المقيمين هناك..

وفي مرحلة ما قامت بعض الطوائف هناك باستحضار مدعي نبوة من "أم القرى"، لينتقل إليهم ويتزعم حركتهم (بيعة العقبة الأولى والثانية)..

"أم القرى" هنا هي مستوطنة حول بيت مقدس (كعبة) يقع في مكان ما شمال غرب الجزيرة العربية، تقام عنده طقوس وثنية للحج وذبح الأضاحي لعرب الشمال، وكانت تسمى "الكعبة الشامية" في مقابل الكعبات الأخرى (اليمانية) بجنوب الجزيرة..

وحسب القرآن والروايات المتاحة فلم يكن محمدا يعمل بمفرده وإنما هو تلميذ لمجموعات من أهل الكتاب، الذين وصفوا بأنهم يهود أو نصارى، ولعلها جماعة الإيبونيين التي تؤمن بيسوع وتقدس التوراة وتطبق الختان والشريعة اليهودية..

وبدأ المناخ الديني يتبلور في يثرب، في شكل جدالات أساسا بين اليهود والعرب الوثنيين (المشركين) والعرب الموحدين (الحنفاء) وجماعة محمد، بدأت بمحاولة التبشير بالتوحيد بين الوثنيين، ثم انتقلت إلى عقيدة اليهود الذين كانوا ينتظرون مجيء المخلص المنتظر (المسيح) الذي سيقودهم إلى القدس منتصرين، وحاول محمد أن يقدم نفسه إلى اليهود باعتباره نبيا مبشرا بقدوم ذلك المسيح..

وهكذا نجد أن أقدم نص تاريخي يتحدث عن محمد (قبل سيرته العربية بأكثر من مائة سنة) يقول أنه نبي ظهر بين العرب ليبشر بقدوم الممسوح اليهودي..

ويبدو أنه في البدء لاقى نجاحا جزئيا حيث أقام حلفا سياسيا مع اليهود وتأثر بعقيدتهم وشريعتهم، بل واتبعه بعضهم، ثم يبدو أن الشكوك اليهودية تجاه محمد بدأت في التصاعد، وزادت حدة الجدل حتى وصلت إلى مرحلة الصدام..

وهنا بدأ التحول الديني التالي لدعوة محمد، فتراجعت قصص موسى - البطل اليهودي الأهم - وحل محلها قصص إبراهيم، الأب المشترك للعرب، وكذلك تم تحويل القبلة من القدس إلى بيت العرب، الذي كان مايزال مكانا مهما للحج..

وبدلا من الحوار الديني مع "أهل الكتاب" والذي لم يؤت ثماره، صارت الدعوة قتالية موجهة لشباب القبائل العربية، تغريهم بالغنائم والنساء، مما كان له نتائج أكثر عملية..

ومع وقوع عدة مواجهات عسكرية بين أتباع محمد وخصومهم من المشركين أو اليهود، ورغم تحقيقه لعدد محدود من الإنتصارات جعلت له مكانة محلية لا بأس بها، إلا أن نتيجة الحروب كانت ماتزال غير حاسمة، ولم تتمكن جماعة محمد من السيطرة على البيت المقدس العربي..

في ذلك الحين كان عرب الشام (سنسميهم الأمويين) يبحثون عن طريقة لتدعيم حكمهم وتعميقه وحمايته من غدر الروم، ويبدو أنهم كانوا يحتفظون بعلاقات تحالف مع العرب الوثنيين عند الكعبة (حلف قريش، الإيلاف)، ولكنهم - بحنكتهم السياسية لاحظوا أن الدفة تتغير، وأن دعوة التوحيد اليهودية\العربية أقدر على مساعدتهم على تحقيق أهدافهم..

وهكذا تبدلت التحالفات، ووجد كل فريق ضالته عند الآخر..

ما وفره محمد لعرب الشام: ظهيرا داخل الجزيرة العربية، وحافزا دينيا قادرا على اجتذاب العرب لقتال الروم لو لزم الأمر..

وما وفره عرب الشام لمحمد: اعترافا معنويا من قبل الشام المهيبة، رفع اسم النبي الجديد بين العرب، وغطاءا سياسيا لقراراته ومعاهداته..

وبعد عقد المعاهدة بين الطرفين (صلح الحديبية) انضم اثنان من قادة الشام المحنكين إلى جيش محمد (خالد ابن الوليد وعمرو ابن العاص)، وبدأت الإستعدادات الطموحة لإخضاع العرب في الجنوب..

ومع ذيوع الخبر بدأت القبائل العربية تتوافد على محمد لإعلان الولاء له ولداعميه بالشام (عام الوفود)، وكانت النتيجة الطبيعية هي زوال الدعم الشامي عن أم القرى، وبالتالي سقوط البيت المقدس تحت حكم الحلف الصاعد، مما مثل انتصارا زاهيا لمحمد..

ولأن الدين يتبع السياسة، فقد شهدت تلك المرحلة تحولا آخر في الخطاب القرآني، الذي أعلن يأسه من اليهود وبدأ يمدح النصارى ورهبانهم الذين هم أقرب مودة للمؤمنين، وصار يذكر عيسى ويمدحه وأمه، مع عدم التمادي إلى درجة تجعله يخسر أتباعه من أصحاب الخلفيات العربية واليهودية..

أما فكرة "المسيح اليهودي المنتظر"، فقد قدمت المسيحية بديلا ألطف لها وأقل راديكالية وأنسب للمرحلة، وهو عودة يسوع\عيسى آخر الزمان، وهكذا تراجعت الجوانب اليهودية لصالح المد المسيحي..

لكن ذلك التحول لم يعجب البعض، نلمح ظلالا من هذا في اعتراضات الصحابة (عمر ابن الخطاب تحديدا) على صلح الحديبية، كما نقرأ عن احتجاجات توجهت ضد محمد نفسه في أواخر حياته، حتى وصل الأمر إلى أن وصفه عمر بالخرف ومنعه من التوصية (رزية الخميس)..

بل حتى مقتل محمد نفسه تدور حوله ظلال من الشك، وتم ربطه بامرأة يهودية دست له السم..

ولما مات تم استكمال مسيرة إخضاع القبائل العربية بدعم الشام، وتم القضاء على الزعامات\النبوات المنافسة (فيما سيسمى لاحقا "حروب الردة")..

وحين انطلقت الفتوحات العربية التوسعية والمصادمة مع الحاميات البيزنطية بالمنطقة، لم يكن الغزاة مسلمين بالمعنى المعاصر، وإنما كانوا حلفا عربيا تقوده الشام سياسيا ويثرب دينيا، ولم يكن الدين آنذاك سوى خليط من الخلفيات العقائدية المختلفة للسكان، وبين أقوال محمد وتعاليمه، وهي أقوال متناقضة في مناحي كثيرة، ساهمت فيها جماعات عديدة دينية أثرت بمحمد، حيث بدأت بسجع كهنة عن إله نجمي غامض، ثم أخذت منحى يهوديا موسويا في يثرب، ثم منحى إبراهيمي حنفي، وأخيرا عربي موال للمسيحية - وربما لهذا لم يتم جمع المصحف آنذاك، لأن التناقضات كانت غير قابلة للحسم بين الفرق (الذين يسميهم القرآن الأحزاب أو المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين)..

وكان "المهاغرايا" (المهاجرين) آنذاك يتوجهون بالصلاة نحو الكعبة العربية في شمال غرب الجزيرة، كذلك تخبرنا المدونات القديمة (مسيحية وعربية)، وكذلك تدل بقايا المساجد القديمة في العراق ومصر والأردن..

وبعد فتح القدس، توجهت جماعة إلى إعادة بناء الهيكل، تمهيدا لمجيء المسيح، تحقيقا للحلم اليهودي القديم، وكان قائد البناء هو عمر الذي حاول لعب دور المسيح اليهودي الذي بشر به محمد، بأن حمل لقب "الفاروق" (بالسريانية: المخلّص)، وبأن دخل القدس راكبا على حمار..

ولاحقا تنامت سيطرة الأمويين على يثرب، بعد فترات من الإستقلال النسبي تحت حكم عمر، مما أدى إلى غضب البعض وهروب البعض الآخر من الصحابة..

ومع نجاح الفتوحات كان لابد من حل مشكلة الجدالات الدينية تحت السلطة الأموية، فكان جمع المصحف العثماني وتنقيحه وحرق النسخ المخالفة، وسط اعتراضات من الصحابة تم طمسها..

وتفجرت الإحتجاجات السياسية\الدينية ضد الأمويين، بداية من مقتل عثمان ثم ثورة أسرة محمد (علي وشيعته) بالعراق، حتى نجاح ابن الزبير مؤقتا في حكم الكعبة وأجزاء كبيرة من الجزيرة العربية..

وأخطر ما فعله ابن الزبير هو الإنسحاب جنوبا، مع نقل الكعبة، أو بمعنى أدق هدم كعبة الشام وإعادة توطين أهم عناصرها (الحجر الأسود) في مكان آخر أكثر جنوبا (مكة الحالية)، وكان الهدف السياسي هو الإبتعاد عن النفوذ الأموي بالشام واللجوء إلى مكان أكثر أمنا بقلب الجزيرة..

ثم إن ابن الزبير هو أول من سك عملات تعلن عن نبوة محمد، مستغلا الدعوة ومعيدا إحياءها مرة أخرى في شكل هوية عربية مستقلة تعادي الروم وحلفاءهم القدامى..

وربما في تلك الفترة تمت إضافة آيات أخرى للمصحف، تعلن محمدا نبيا للعالمين، والإسلام دينا جديدا للعرب يقف بشكل مستقل بمعزل عن عقائد اليهود أو النصارى، وهكذا سيصبح "الدين عند الله الإسلام"..

أما المنافس الشامي لابن الزبير- عبد الملك ابن مروان - فقد لجأ، مع وزيره الحجاج، إلى سياسة ذكية تتمثل، لا في مقاومة الصحوة المحمدية وإنما في امتصاصها وإعادة توظيفها لصالح غرضه السياسي وهو توحيد العرب..

ويخبرنا علماء الآثار أن اسم محمد قد ظهر على عملات تحتوي علامات مسيحية ويهودية، مما يوحي وجود عدة جماعات تحاول استخدام الشعار، وبعد ظهور شهادة التوحيد نجد أن "عملات محمد" قد انتقلت تدريجيا من شرق الإمبراطورية الإسلامية إلى غربها..

أما عن موضع الحج وقبلة الصلاة، والتي كانت لفترة موضع نزاعات سجلها القرآن، فقد جرت محاولة لإعادتها إلى القدس، حيث تم بناء قبة الصخرة، والتي تحمل أقدم نصوص قرآنية متاحة، معلنة أن الدين عند الله الإسلام وأن محمد رسول الله وعيسى مجرد بشر، ولكن يبدو أن المسألة لم تلاق نجاحا، فجرى الإستسلام للقبلة العربية في زمن الوليد - ابن عبد الملك- حيث جرى تعديل بالمساجد الكبرى لتواجد قبلاتها مكة الحالية، وليس القديمة الشمالية..

أما أقدم مخطوطات قرآنية (صنعاء) فتعود أيضا إلى حقبة الوليد ابن عبد الملك، وليس لدينا قرآن قبل زمن الأسرة المروانية، وأما الروايات المتاحة فتتحدث عن دور للحجاج في صياغة وتنقيح - وربما تعريب- المصحف..

وهكذا نجح الأمويون - بعد شد وجذب- في صناعة الإسلام، عن طريق استغلال إحياء دعوة محمد وإعادة بلورتها لتخدم السلطة، ولاحقا سيتم تنقيح الأحاديث وولادة الفقه في العصر العباسي، مما سيشكل ما نعرفه اليوم بـ"الإسلام السنّي"..

لكن ستبقى ملامح من الإسلام الأقدم والأقرب لمحمد في صورة "الإسلام الشيعي"، الذي يحتوي حاخامية ويؤمن بحكم القضاة الدينيين من سلالة حاكمة مقدسة، على الطريقة الداودية، ويتطلع بشوق إلى عودة المسيح اليهودي (المهدي)..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق