الجمعة، 1 فبراير 2019

إنما يعلمه بشر (بعض صادر الإسلام)



الإنطباع الغالب عند أكثر المسلمين أن تلك الدعوة نشأت فجأة في فراغ صحراوي، كأنها انفجار كبير جاء من عدم..

ولكن نعرف أنه لا شيء يأتي من العدم، فمن يلقي نظرة على المتاح من المصادر يجد أن التواجد الديني -اليهودي والمسيحي وغيره- كان قويا في شبه الجزيرة العربية، ولدينا في المصادر الإسلامية ذاتها شواهد كثيرة على أن الإسلام هو دعوة لها جذور متشعبة، بدأت بذرتها قبل محمد، واستمر تبلور فروعها بعد موته بقرون..

في مرحلة ما أدركت- مصدوما- أن كل ما ورد بالقرآن تقريبا له جذور في الديانات السابقة، خاصة اليهودية ثم المسيحية، وقد تطور بأشكال مختلفة- بشرية تماما- حتى وصل إلى صورته في كتاب محمد: فالآلهة هي رموز سلطة نشأت عن عبادة الأجداد والملوك، والله - إيل- هو إله سامي صار ربا لليهود، والتوحيد هو اختراع شرق أوسطي مرتبط بمركزية الحكم، والروح هي الرياح التي وجدوا تنقطع عن الميت، والحساب الأخروي هو إسقاط للنظام القضائي في مصر، والجنة هي حلم الفلاحين بالإستمرار في زراعة حقولهم بعد الموت، وجهنم هي وادي بالقدس كانت تحرق فيه القمامة ثم تم استخدامه لتخويف العصاة والكفار..إلخ

وكل ما ذكره محمد كان موجودا لدى أهل زمنه، خاصة اليهود، والذين تبدو علاقتهم المشبوهة به من أول لحظة، فبينما نجد أن أقدم مصادر مسيحية تحدثت عن ظهور نبي عربي ذكرت أنه تحالف مع اليهود وتعلم منهم، نجد أن أقدم سيرة إسلامية تحكي أن أهل يثرب- حلفاء اليهود- هم من زاروا محمدا واتفقوا معه على تدشين تلك الدعوة.. ومن الناحية الدينية نجد أن كل عناصر الإسلام يهودية الأصل، من التوحيد ثم أفكار الكتاب والسنة والنبوة والوحي والطهارة والنجاسة والحلال والحرام، ثم التشريع والفقه وأحكام كالرجم وحتى الطلاق وحتى العدة بثلاثة شهور وتحديد الزواج بأربعة هي أحكام تلمودية..

كذلك قصص القرآن مصدرها ليس فقط التوراة، وإنما أيضا ما يسمى الهاجاداه، وهي القصص الواردة في التفاسير الحاخامية، كما نجدها - مثلا- في كاتب "أساطير اليهود" للويس غنزبرج، والذي يكاد يطابق قصص القرآن في كل تفاصيلها، مثل قصة آدم ونوح وإبراهيم ويوسف وسليمان..إلخ..

وأما سيرة يسوع فمنقولة قصصها عن الأناجيل وبعضها متأخر وخرافي تماما، مثل قصص هز النخلة والكلام في المهد وإحياء الطير من الطين، وحتى صلب الشبيه لها وجود في أناجيل غنوصية..

كذلك قصص مثل ذو القرنين وأهل الكهف ويأجوج ومأجوج، هي قصص سريانية ومسيحية تم تدوينها قبل الإسلام، على أيدي أناس مثل يعقوب السروجي وغيره، وكانت متداولة شفهيا حتى وصلت إلى كاتب القرآن..

كيف وصلته تلك القصص؟ ربما من عدة مصادر كما سنرى..
------------------------

1- بحيرى- بشارات الراهب
تتكرر الروايات في المصادر الإسلامية عن سفر محمد إلى الشام منذ صغره، والتقاءه هناك برهبان من النصارى.. إحدى تلك الروايات مفادها أن أبو طالب خرج مع محمد -وهو غلام صغير- في رحلة إلى بلاد الشام، وهناك تقابلا مع راهب وتبادلا معه الحديث، والذي تضمن توقعات بنبوة محمد، كما ورد في الترمذي ودلائل النبوة والمستدرك وتاريخ دمشق والطبقات، بأسانيد متعددة.. وفي رواية لابن إسحاق ذكر أن الراهب اسمه "بحيرى"..

وفي العصر الأموي كتب يوحنا الدمشقي كتابا عن "الهرطقة" تضمن أول نقد مسيحي للإسلام، فبعد أن تحدث عن العرب قال أنه (ظهر بينهم نبي مزيف يدعى محمد. وهذا الرجل، بعد أن اطلع على العهد القديم والعهد الجديد، وبعد أن تحدث مع راهب أريوسي ، قام بإخترع هرطقته الخاصة، وبعد أن تسلل إلى النوايا الطيبه للناس، بإظهار تقوى مزعومه، قام بإدعاء أن كتابا معينا قد أرسل إلية من السماء).. وربما يكون الراهب المقصود هو بحيرى..
------------------------

2- خديجة - مبدأ الوحي
يحكى أنه حين عاد محمد خائفا من الغار، بعد أن رأى الكائن المخيف، حكى لزوجته القصة، فبادرته قائلة (أبشر يا ابن عم، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة)، كما ورد في سيرة ابن هشام وتاريخ الرسل والملوك للطبري والبداية والنهاية لابن كثير.. فما الذي جعل خديجة تتوقع قدوم نبي؟

يبدو أن للقصة خلفية، ففي مصادر أخرى نقرأ ما يبدو تكرارا لقصة بحيرى، ومفادها أن محمدا في شبابه كان قد سافر متاجرا في مال خديجة مع عبد لها اسمه ميسرة، حتى وصلا إلى الشام، وتقابلا مع راهب في صومعته - والذي تنبأ لهم بنبوة محمد (سيرة ابن هشام والطبقات وتاريخ الرسل والملوك للطبري)..

بل نجد روايات عن توقعات خديجة لنبوة محمد حتى قبل زواجهما، بل تفيد الروايات أنها قد تزوجته خصيصا لذلك الغرض، ليس بناءا على بشرى نصراني هذه المرة ولكن بناءا على نصيحة عجيبة من يهودي؛ فيحكى أنه (كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في المسجد، فاجتمعن يومًا فيه، فجاءهن يهودي فقال: يا معشر نساء قريش إنه يوشك أن يكون فيكن نبي، فأيكن استطاعت أن تكون فِراشًا له فلتفعل. فحصبه النساء وقبَّحنه وأغلظن له، وأغضت (سكتت) خديجة على قوله، ولم تعرض فيما عرض فيه النساء، ووقر ذلك في نفسها، فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات، وما رأته هي، قالت: إن كان ما قاله اليهودي حقًّا ما ذلك إلا هذا)، كما ورد في ابن إسحاق في المبتدأ، وفي الطبقات والسيرة الحلبية..
------------------------

3- ورقة بن نوفل - الأستاذ القس
نكمل القصة، في صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، نقرأ ما حدث بعد تشجيع خديجة لمحمد الخائف (فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى).. وتختم الرواية بعبارة مهمة هي (ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحي)..

فمن البخاري نعرف أن ورقة كان ابن عم خديجة، وأنه اعتنق المسيحية وكان يكتب كتابات عبرانية (وفي رواية أخرى كان يقرأ الإنجيل بالعربية).. وفي سيرة ابن هشام، عن ابن إسحاق نقرأ (فأما ورقة بن نوفل فاستحكم فى النصرانية، واتبع الكتب من أهلها، حتى علم علما من أهل الكتاب).. ومن تاريخ الطبري (وكان ورقة قد تنصر، وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل)..

فورقة إذن مسيحي دارس للكتب اليهودية والمسيحية، وربما يقوم بترجمتها، كما أنه هو من أخبر محمدا أن تلك الرؤى التي يراها هي وحي من الله يشبه ما كان يراه النبي موسى.. والأخطر أنه عند موته توقف الوحي لفترة..

علما بأن ورقة مات بعد سنوات من تلك الواقعة (في السنة الرابعة من بدء الوحي، حسب ما ورد في سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية).. وفي السيرة الحلبية نقرأ روايات عن محمد يضع فيها ورقة في مكانة عالية بالجنة، مع تلقيبه بـ"القس"! (لقد رأيت القس في الجنة وعليه ثياب الحرير.. وفي رواية: أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس.. إلخ)..
------------------------

4- زيد ابن نفيل - تحريم الأوثان
يحكى عنه أنه كان من كبار الحنفاء (الموحدين على دين إبراهيم) وأنه زار الشام وتقابل مع علماء اليهود والنصارى وسألهم عن دينهم (كما ورد في صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار)..كما كان عم عمر ابن الخطاب، ووالد أحد العشرة المبشرين بالجنة سعيد ابن زيد..

وفي صحيح البخاري أيضا نجد حكاية مشوقة تجمع زيدا بمحمد قبل نبوته، حيث التقيا على مائدة طعام وقدم له محمد لحما مذبوحا للأوثان، ولكن زيد رفض أن يأكل منها، فنقرأ (عن رسول الله أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، وذاك قبل أن ينزل على رسول الله الوحي، فقدم إليه رسول الله سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها ثم قال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه)..

وفي سيرة ابن إسحاق، السير والمغازي، نقرأ القصة بتفصيل أكبر، لنفهم كيف أن زيد هو من نبه محمدا إلى عدم الأكل من طعام الأوثان.. (أن رسول الله قال وهو يحدث عن زيد بن عمرو بن نفيل: إن كان لأول من عاب علي الأوثان، ونهاني عنها، أقبلت من الطائف ومعي زيد بن حارثة حتى مررت بزيد بن عمرو وهو بأعلى مكة وكانت قريش قد شهرته بفراق دينها حتى خرج من بين أظهرهم، وكان بأعلى مكة، فجلست إليه ومعي سفرة لي فيها لحم يحملها زيد بن حارثة من ذبائحنا على أصنامنا، فقربتها له، وأنا غلام شاب، فقلت: كل من هذا الطعام أي عم، قال: فلعلها أي ابن أخي من ذبائحكم هذه التي تذبحون لأوثانكم؟ فقلت: نعم، فقال: أما إنك يا ابن أخي لو سألت بنات عبد المطلب أخبرنك أني لا آكل هذه الذبائح، فلا حاجة لي بها، ثم عاب علي الأوثان ومن يعبدها ويذبح لها، وقال: إنما هي باطل لا تضر ولا تنفع، أو كما قال؛ قال رسول الله : فما تحسست بوثن منها بعد ذلك على معرفة بها، ولا ذبحت لها حتى أكرمني الله عز وجل برسالته)..

وفي رواية أخرى (مر زيد بن نفيل على رسول الله وعلى زيد بن حارثة، فدعواه إلى سفرة لهما، فقال زيد: يا ابن أخي إني لا آكل ما ذبح على النصب، قال: فما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اليوم يأكل شيئاً ذبح على النصب)..

ورغم أن زيدا قد مات قبل نبوة محمد فلم يسلم، فقد قال عنه محمد عبارة عظيمة، هي (أنه يبعث يوم القيامة أمة وحده)، كما ورد في سير أعلام النبلاء..
------------------------

5- الخطباء والشعراء
قس ابن ساعدة الإيادي، من خطاباء وحكماء العرب، ولعله نصراني كما يتضح من لقبه.. اشتهر بأقوال نثرية مسجوعة تشبه أسلوب القرآن، منها (إن في السماء لخبرا ، وإن في الأرض لعبرا ، مهاد موضوع ، وسقف مرفوع ، ونجوم تمور ، وبحار لا تغور)، ومنها (آيات محكمات، مطر ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت. ضوء وظلام، وبر وآثام، ولباس ومركب، ومطعم ومشرب . ونجوم تمور، وبحور لا تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، وليل داج، وسماء ذات أبراج)..

ونجد عدة روايات عن كيف كان محمد منبهرا بقس وخطبه، والتي كان يحفظها، وكان يطلب من الناس أن ينشدوه منها (عن ابن عباس قال: قدم وفد عبد القيس على النبي فقال : أيكم يعرف القس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا: كلنا يعرفه يا رسول الله. قال: فلماذا فعل؟ قالوا: هلك. قال: فما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام وهو على جمل أحمر وهو يخطب الناس وهو يقول: يا أيها الناس اجتمعوا واستمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، وأقسم قس قسما حقا لئن كان في الأمر رضى ليكون بعده سخط، إن لله لدينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا. ثم قال رسول الله: أفيكم من يروي شعره؟ فأنشده بعضهم)، من البداية والنهاية لابن كثير.

وتوجد كتابات كثيرة تعقد المقارنات ما بين نص القرآن وبين بعض أبيات الشعر الجاهلي، المنسوبة لزيد ابن نفيل وأمية ابن أبي الصلت وامرؤ القيس ورؤبة ابن العجاج وزهير ابن أبي سلمى وغيرهم..
------------------------

6- مسيلمة - الرحمان
من التوراة نعرف أن إله اليهود كان يسمى "إيل" وهو الإله سامي الأصل، كما نجده مذكورا بالجمع بإضافة الميم في النهاية ليصبح "إيلوهيم".. وأما اسم الرحمن فنقرأه في بعض المنقوشات القديمة، خاصة في منطقة اليمن..

من المصادر الإسلامية نلاحظ أن الإله المعروف لدى أهل مكة كان اسمه "الله"، وكانوا يبدأون كتاباتهم بعبارة "باسمك اللهم" (إيلوهيم).. وتفيد المصادر بأنهم استنكروا بشدة أن يأتيهم محمد بإسم جديد هو الرحمن، ففي صلح الحديبية قال محمد للكاتب (.. اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا : لا نعرف الرحمن ولا الرحيم ، ولكن اكتب كما كنت تكتب : باسمك اللهم) (صحيح مسلم)..

ومن القرآن نجد عدة آيات تؤكد أن خصوم محمد لم يكونوا يعرفون الرحمن أو يؤمنوا به، فبينما لم يكونوا يجدون صعوبة في الإقرار بأن الخالق هو الله (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) لقمان 25، نجد أنهم يرفضون الرحمن تماما (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا) الفرقان 60، وأيضا (كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ ۚ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) الرعد 30..

من تفسير القرطبي للآية الأولى نقرأ (قالوا وما الرحمن على جهة الإنكار والتعجب ، أي ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب)، ومن الطبري(وذكر بعضهم أن مُسيلمة كان يُدعى الرحمن, فلما قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم اسجدوا للرحمن, قالوا: أنسجد لما يأمرنا رحمن اليمامة؟)..

وفي السيرة النبوية (ابن هشام) أن الآية الثانية نزلت (في قولهم : إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة، يقال له الرحمن، ولن نؤمن به أبدا)..

فتلك الروايات تفيد أن مسيلمة كان معروفا قبل محمد، وأن نبي الإسلام كان متهما بأنه يتعلم من مسيلمة، ولا سيما إسم الإله "الرحمن" الذي لم تألفه قريش والذي نعرف بالفعل أنه كان معروفا في جنوب الجزيرة العربية..

وفي بعض المصادر (مثل تاريخ الطبري وتاريخ ابن كثير وثمار القلوب) نقرأ عما يسمى "قرآن مسيلمة" وهي آيات منسوبة له تشبه الأسلوب القرآني، وتظل الإحتمالات مفتوحة فيما إذا كان محمد قد تأثر بالفعل بقرآن مسيلمة واقتبس عنه، أم أن تلك النصوص ألفها المسلمون لاحقا بغرض إظهار مسيلمة بشكل مزري وكأنه يقلد محمد..

------------------------
7- أسماء أخرى
في القرآن نقرأ اتهامات قريش لمحمد بأن دعوته هي عمل جماعي، وأنه يوجد وراءه من يحرك الأحداث ويملي عليه ما يكتبه من أساطير القدماء.. (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ۖ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا - وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) الفرقان 4-5..

من الطبري نقرأ أن أولئك الآخرين هم اليهود (ذكر أنهم كانوا يقولون: إنما يعلِّم محمدا هذا الذي يجيئنا به اليهود, فذلك قوله: ( وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ)، يقول: وأعان محمدا على هذا الإفك الذي افتراه يهود.. هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأوّلين, يعنون أحاديثهم التي كانوا يسطرونها في كتبهم, اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم من يهود)..

وفي القرطبي أنهم من اليهود (وأعانه عليه قوم آخرون يعني اليهود)، وفي قول آخر من أهل الكتاب (وقال ابن عباس : المراد بقوله : قوم آخرون أبو فكيهة مولى بني الحضرمي وعداس وجبر ، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب)..

تلك الأسماء - الغامضة- نقرأها في تفسير آية أخرى، يتهم فيها أهل مكة محمدا بأن هناك من يعلمه، ويرد القرآن بأن ذلك المعلم أعجمي اللسان..(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) النحل 103

التفاسير تذكر عدة أسماء تم ربطهم بذلك الإتهام : بلعام، جبر، يعيش، يسار أبو فكيهة، عداس، عابس، كما قيل سلمان الفارسي..

وينقل القرطبي أقوالا أن الكل محتمل، لأن النبي كان ربما يجلس إلى هؤلاء جميعا في أوقات مختلفة..

أما عن طبيعة تلك الشخصيات فهي غير واضحة، أحيانا يتم وصفهم بأنهم يهود، وأحيانا بأنهم نصارى، من العبيد، وربما تحديدا من عبيد بني الحضرمي (قبيلة يمنية)، كما تم وصف بعضهم بأنه أعجمي اللسان أو يقرأ الكتب الأعجمية.. على سبيل المثال جاء في سيرة ابن إسحاق (كان رسول الله - فيما بلغني - كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني - يقال له جبر - عبد لبعض بني الحضرمي، فكانوا يقولون : والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني غلام بني الحضرمي)..

------------------------
8- سلمان الفارسي - الكاهن المجوسي
تحكي السيرة قصصا تشبه الأساطير عن سلمان الفارسي وكيفية إسلامه، مختصرها أنه كان من كهنة الفرس الزرادشتيين المجوس، وبلغ من أهميته أنه كان خادم النار بالمعبد، ثم أنه تركهم والتحق بالرهبان النصارى في الشام ومكث في كنائسهم لفترة، حتى وصل إلى محمد..

ونجد عائشة تصرح بأن محمدا كان يجلس مع سلمان لفترات طويلة (كان لسلمان مجلس من رسول الله بالليل حتى غلبنا على رسول الله)، كما ورد في الإستيعاب في معرفة الأصحاب.. ولا ندري من منهما كان يعلم الآخر، علما بأن اسم سلمان قد ورد في معرض تفاسير الآيات الخاصة باتهامات قريش لمحمد بأن هناك من يعلمه..
------------------------

9- عمر ابن الخطاب - موافقات القرآن له
في العديد من المصادر (مثل تاريخ الخلفاء للسيوطي، ومجمع الزوائد للهيثمي) نقرأ عما يسمى "موافقات عمر"، وملخصها أنه في حالات كثيرة كان عمر يقرر آراءا وأحكاما، فيصدقها القرآن وتصيرآيات تتلى.. ترد روايات كثيرة حول هذا، مثلا (عن مجاهد قال: كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن، وأخرج ابن عساكر عن علي قال: إن في القرآن لرأيا من رأي عمر. وأخرج عن ابن عمر مرفوعاً: ما قال الناس في شيء وقال فيه عمر إلا جاء القرآن بنحو ما يقول عمر)..

وتصل بعض التقديرات إلى أكثر من عشرين موقفا وافق فيه القرآن عمر: منها قوله لمحمد "لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى" فنزلت الآية (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).. وثانيا أنه قال: يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب.. وثالثا ننقل: اجتمع نساء النبي في الغيرة فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن, فنزلت كذلك.. ورابعا فيما جاء عن أسرى بدر وهو مشهور.. وخامسا عن دعاء عمر أن يحسم الله مسألة الخمر فنزلت الآيات تحرمها.. وسادسا قول عمر :نزلت هذه الآية (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ) فقلت أنا : فتبارك الله حسن الخالقين، فنزلت: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).. وسابعا نهيه لمحمد أن يصلي على المنافقين (لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله للصلاة عليه فقام إليه فقمت حتى وقفت في صدره فقلت: يا رسول الله أو على عدو الله ابن أبي القائل يوم كذا كذا، فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا).. وثامنا (لما أكثر رسول الله من الاستغفار لقوم، قال عمر: سواء عليهم، فأنزل الله: سَوَاء عَلَيْهِمْ).. وتاسعا (لما استشار محمد الصحابة في الخروج إلى بدر أشار عمر بالخروج، فنزلت: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ).. عاشرا (لما استشار الصحابة في قصة الإفك قال عمر: سبحانك هذا بهتان عظيم، فنزلت كذلك (سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)).. الحادي عشر يحكى (أن يهوديا لقي عمر فقال: إن جبريل الذي يذكره صاحبكم عدو لنا، فقال له عمر: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين، فنزلت الآية كما قالها عمر.. الثاني عشر آية (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ).. الثالث عشر ، الاستئذان في الدخول (وذلك أنه دخل عليه غلامه وكان نائماً فقال: اللهم حرم الدخول فنزلت آية الاستئذان).. الرابع عشر آية (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين)، وغيره.
------------------------

10- الصحابة - مساهمات أخرى
تنقل لنا الروايات عددا من الموقف حيث قام بعض الصحابة- أو كتاب الوحي- بتعديل بعض آيات القرآن..

وإضافة لأمثلة عمر السابقة، نذكر مثالين : الأول هو ما ورد في تفسير سورة النساء 95 والتي تنص على تفضيل المجاهدين على القاعدين (لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ).. فقد قيل أن عبارة "غير أولي الضرر" مضافة بسبب اعتراض أحد الصحابة حيث لا يستطيع الجهاد لأنه أعمى، فقام محمد بتعديل الآية فورا..

من تفسير ابن كثير نقرأ (لما نزلت : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين ) قال النبي : " ادع فلانا" ، فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف فقال : " اكتب : لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله "، وخلف النبي ابن أم مكتوم ، فقال : يا رسول الله ، أنا ضرير، فنزلت مكانها : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله ))

ونجد رواية أخرى أوضح تفصيلا للتعديل (قال زيد بن ثابت : إني قاعد إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أوحي إليه ، قال : وغشيته السكينة.. ثم سري عنه فقال : " اكتب يا زيد " . فأخذت كتفا فقال : " اكتب : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون ) إلى قوله ( أجرا عظيما ) فكتبت ذاك في كتف ، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - فقام حين سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله ، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى ، وأشباه ذلك ؟ قال زيد : فوالله ما مضى كلامه - أو ما هو إلا أن قضى كلامه - حتى غشيت النبي السكينة ..ثم سري عنه فقال : " اقرأ " . فقرأت عليه : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون " فقال النبي : ( غير أولي الضرر ))

وأما المثال الثاني فهي قصة الصحابي عبد الله ابن أبي سرح، والذي كان من كتاب الوحي، وكان يزيد فيه فيوافقه محمد على زيادته، مما جعله يشك في نبوته ويتركه..
في تفسير القرطبي للآية 93 من الأنعام نقرأ عن عبد الله بن أبي سرح أنه (كان يكتب الوحي لرسول الله ، ثم ارتد ولحق بالمشركين . وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التي في "المؤمنون" (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين..) دعاه النبي فأملاها عليه ; فلما انتهى إلى قوله ثم أنشأناه خلقا آخر عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان فقال : فتبارك الله أحسن الخالقين . فقال رسول الله : وهكذا أنزلت علي. فشك عبد الله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال . فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين)..

وفي فتوح البلدان للبلاذري (وأول من كتب له من قريش عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد بْن أَبِي سرح ، ثُمَّ ارتد ورجع إِلَى مكة ، وقال لقريش : أنا آتي بمثل ما يأتي به مُحَمَّد ، وكان يمل عَلَيْهِ الظالمين ، فيكتب الكافرين ، ويمل عَلَيْهِ سميع عليم ، فيكتب غفور رحيم وأشباه ذلك)..
وفي أسد الغابة أنه كان يقول (إني كنت اصرف محمدا حيث أريد ؛ كان يملي علي " عزيز حكيم " فاقول أو " عليم حكيم " فيقول : نعم كل صواب)..
------------------------

الختام
أعلن محمد دعوته وهو في الأربعين، ونعلم القليل عن حياته السابقة، ولكن الروايات تحكي عن أسفار للشام ومقابلات مع رهبان ورجال دين غامضين..

وحين أعلن دعوته منذ البداية كانت التهمة موجهة لمحمد من معاصريه : أنه يتفاعل ويدرس ويتعلم من "قوم آخرين" يعينونه على ما يفعل، ويملون عليه ما يكتبه من "أساطير الأولين".. وقد وردت عدة أسماء مرشحة لهذا كما رأينا، وغالبا هناك غيرهم ممن لم تصلنا أسماءهم..

بل نقرأ آية أخرى تؤكد مدى جدية ذلك الإتهام (وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ)، ونقرأ من تفسير الطبري ((وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ)، يا محمد, بمعنى: تعلمت من أهل الكتاب.. قالوا: قرأت وتعلمت)..

وذكر القراءة هنا يذكرنا بمسألة "أمية محمد"، والتي نجد آيات تنفيها بوضوح وتبين أنه كان يقرأ ويكتب، فالقرآن يقول عنه في الآية التي ذكرناها أن هناك من يملي عليه وهو يكتب (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، وفي قول آخر أنه يتلو من الصحف المكتوبة (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) البينة 2-3، وفي موضع آخر يصف تلك الصحف بأنها( صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ - مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ - بِأَيْدِي سَفَرَةٍ - كِرَامٍ بَرَرَةٍ) عبس 12-16، فلو تجاوزنا الصورة التقليدية للتاريخ الرسمي، فسنجد القرآن يخبرنا بوضوح بأن الرجل كان يكتب ويقرأ ويتدارس ولديه مخطوطات مكتوبة- ربما بيده.. وأما أين ذهب كل ذلك فهو سؤال آخر..

ونلاحظ أنه حين ذكر القرآن تهمة التعليم (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ).. لم يحاول تفنيد ذلك بالقول أن كلامه معجز أو أنه جاء بجديد، بل كل ما خطر له هو مسألة اللغة، فقال (لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ)، مما يؤكد تواصل محمد مع أعاجم (غالبا يهود، أو نصارى).. مما يذكرنا بما أورده البخاري عن ورقة ابن نوفل أنه كان - على ما يبدو- يترجم الكتاب المقدس..

وفي مرحلة لاحقا طلب محمد من أحد أصحابه- زيد ابن ثابت- أن يتعلم لغة اليهود (السريانية أو العبرية) لأنه تأتيه رسائل يريد مساعدة في ترجمتها ، ففي سنن أبي داود (قال زيد بن ثابت : أمرني رسول الله فتعلمت له كتاب يهود، وقال: إني والله ما آمن يهود على كتابي، فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إذا كتب، وأقرأ له إذا كتب إليه)..

ونجد رواية أخرى تفيد أن زيد نفسه كان يهوديا منذ الطفولة، فحين تولى مسئولية جمع القرآن، اعترض ابن مسعود على ذلك قائلا (والذي لا إله غيره لقد أخذت من في رسول الله بضعاً وسبعين سورة وزيد بن ثابت غلام له ذؤابتان يلعب مع الغلمان)، وفي رواية (وإن زيْدَ بن ثابت ليهودي له ذؤابتان)، كما ورد في تاريخ الذهبي وسير أعلام النبلاء وتاريخ ابن شبة وطبقات ابن سعد وغيره..

وحين نراجع ما ذكرناه في المقدمة من تشابه النص القرآني مع نصوص اليهود والمسيحيين، ليس فقط متن الكتاب المقدس (التوراة) وإنما أيضا كتابات الحاخامات والأناجيل المنحولة التي كانت منتشرة في الجزيرة العربية، حينها تبدو المسألة واضحة كشمس الظهيرة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق