الجمعة، 1 فبراير 2019

رب الجهل






يحكى - في نكتة قديمة - أن حيوانات الغابة اجتمعت يوما وخطب فيهم الأسد قائلا: يا رفاق نريد تطوير الغابة.. فهتف الضفدع: نحضر بنات.. فاسترسل الأسد: سنقوم بحفر آبار في الغابة.. رد الضفدع: ثم نحضر بنات؟.. تجاهله الأسد وأكمل: سنبني سورا حول الغابة.. قال الضفدع: ونحضر بنات؟.. تعصب الأسد وقال بغضب: هناك حيوان أخضر وعيونه واسعة أعتقد أنني سأقوم بذبحه اليوم.. قال الضفدع: وبعد أن تقتل التمساح نحضر بنات؟؟؟

لا أدري لماذا أتذكرها حين أجد المؤمن يركز مرة بعد مرة على إثبات وجود إلهه حتى أنه يربط كل شيء به..

ولنأخذ مثالا آخر أكثر جدية: لنقل أننا نعيش في قرية يؤمن أهلها بعفريت خفي اسمه شمهورش ويتبادلون القصص عنه ليلا ونهارا، مع وجود عدد قليل ممن ينكرون وجود شمهورش، وبين الفريقين يدور جدل بهذا الشأن.. ثم ذات يوم استيقظ أهل القرية ليجدوا رجلا مقتولا بالشارع، وفشلت كل محاولات التعرف إلى كيفية مقتله أو الجاني..

السؤال الآن: هل تلك الواقعة تعتبر دليلا لا يدحض على وجود العفريت شمهورش؟

بنظر أهل القرية فالجواب بنعم: طالما أننا لم نستدل على كيفية مقتل الرجل، وطالما لم نجد السبب الذي أدى لمقتله، وطالما الجثة موجودة أمام أعيننا لا سبيل لإنكارها، فالنتيجة الوحيدة المنطقية هي أن شمهورش موجود وأنه هو من قتل الرجل.. والآن يكون السؤال لكل من ينكر شمهورش: إن لم يكن له وجود فمن قتل الرجل؟

وأما بنظر الفريق الآخر فهذا منطق مغلوط تماما: حيث أن وجود قضية غامضة عجزنا عن حلها (مقتل الرجل) لا يجعلنا نصدق وجود العفريت المذكور، حيث أن هناك ألف سبب آخر محتمل لمقتله (ربما انتحر، ربما قتله شخص مجهول، ربما أصيب بمرض غامض لم يكتشف بعد، أو ربما حتى قتلته كائنات فضائية لا تنتسب لفصيلة الجن، بل ربما قتله عفريت آخر غير شمهورش..إلخ) ببساطة لا ندري يقينا.. وبالتالي فالموقف الحكيم هنا أن نعلن عجزنا عن معرفة سر مقتل الرجل، ونضع عدة احتمالات منطقية، ونواصل البحث ضمن الأسباب الواقعية وباستخدام الأدلة المتاحة أمامنا، ونترك الفرضيات المسبقة، ونسعى لحل اللغز بشكل عقلاني واقعي.. فسواء نجحنا أم لا فسيظل بحثنا أكثر موثوقية وأكثر شرفا من الهلوسة والخرافة.. وأما افتراض سبب غيبي خارج الحواس وخارج العقل وخارج قوانين الطبيعة (شمهورش أو غيره) فهو تخمين كسول خرافي لا يمكن إثباته.. وفي تلك الحالة لا يوجد سبب يجعل المرء يظن أن وجود جثة هو دليل وجود شمهورش، اللهم إلا أن أهل القرية مهووسون بذلك الكائن بالذات، ولهذا لا يخطر لهم فاعل غيره، ولو صدف أنهم كانوا يؤمنون بكائن آخر لاعتبروا وجود الجثة دليلا على وجود ذلك الكائن، وليس شمهورش..

وهكذا حال المؤمن، فالكون هو الجثة، والله هو شمهورش.. والواضح أن الهوس الديني يجعل المؤمن يرى الله في كل شيء؛ كما تكون مهووسا بحب فتاة، فتجد أن كل شيء يذكرك بها: ترى النجوم فتتذكرها، ترى الأنهار فتتذكرها، تقرأ خبرا عن تفجير حافلة في فرنسا فتتذكر فورا أنها حدثتك يوما عن رغبتها في زيارة باريس..

هنا لا نتحدث عن استنباط منطقي محكم، وإنما بكل بساطة عن هوس.. وأما البديل الوحيد فهو البحث الحسي والعقلاني: المنهج العلمي..

وهذا يفسر بعض ما نقرأه من كتابات بعض المؤمنين في محاولة الإستدلال على وجود شيخ قبيلة خفي يجلس على كرسي في السماء.. فتسمع مثلا أن الجهل بشيء ما هو بنظرهم دليل أكيد على وجود الشيخ الخفي الجالس على عرش : لا نعرف سبب نشأة الكون إذن الله موجود.. لا نعرف كيف تعمل الجينات إذن الله موجود.. لا نعرف كيف تكونت الخلية الأولى إذن الله موجود.. والخلاصة: نحن جهلاء جدا وهذا دليل قطعي على أن هناك شيخ قبيلة خفي يسكن السماء..

كما يرون أن عجز البشر عن فعل شيء ما، هو أيضا دليل على وجود شيخهم الخفي : أنت لا تستطيع أن تخلق ذبابة إذن الله موجود.. لا تستطيع أن تعلم مكان موتك إذن الله موجود..إلخ.

بينما أبسط بديهيات المنطق تخبرنا أن الجهل والعجز لا يكفيان لإثبات وجود أي شيء.. كما أن الملحد لم يدع القدرة المطلقة أو العلم بأسرار الوجود، وإنما هو ادعى فقط أن السيناريو الذي تقدمه له هو سيناريو غيرمقنع ومليء بالمتناقضات..

ثم إن أصحابنا يؤكدون أن شعورهم الشخصي -الديني- هو دليل لا يدحض على صحة ما يشعرون به، وكأنهم يقولون: الله موجود لأنني أشعر بذلك، ويتناسون أن هناك آلاف الآلهة والتي كان لها كهنة وأتباع مخلصين ينحنون خضوعا ويبكون شوقا من أجلهم، كما يتناسون أن الخيال لا يصنع حقيقة، وأن المجنون قد يتخيل أمورا لا وجود لها، بل إن الطفل قد يقع في حب فتاة من فيلم كارتون، دون أن يعني ذلك أن حبيبته لها وجود واقعي حقيقي، وإنما هي مجرد رسمة خرجت من خيال مؤلف بارع..

يرون أيضا أن أي شعور بأي روعة أو جمال في الكون هو دليل إضافي على وجود شيخ القبيلة المختبئ خلف السحب: الزهرة جميلة إذن الله موجود.. الغروب ساحر إذن الله موجود..الحب موجود إذن الله موجود.. إلخ، وكأنهم تيقنوا أن الجمال والحب والشعور بالعمق والرهبة هي أمور لا يمكن أن تخرج إلا من كائنهم المزعوم..

وحين تسد أمامهم السبل لإثبات شيخهم، يسعون إلى محاولة إثبات وجود أي كائن خفي آخر، بنفس المنهج المستند إلى الجهل والعجز والجمال: نحن لا نعرف ما سر الوعي إذن الروح موجودة، وطالما الروح موجودة إذن الله موجود.. أمس سمعت صوتا تحت سريري ولم أعرف مصدره، إذن الجن موجود، وطالما الجن موجود إذن الله موجود..

والحق أن جزئي الإستدلال يحتويان على مغالطة : فجهلنا لسر الوعي لا يثبت أن الروح موجودة، ثم إن وجود الروح -إن صح- لا يثبت وجود الله، فلا يوجد ما يمنع أننا نعيش في كون روحاني تماما ومع ذلك لا يوجد له خالق.. ولا يوجد ما يثبت أن العالم الروحاني ليس بأكثر جدارة بأن يكون مخلوقا من العالم المادي..

ونفس الشيء ينطبق على المعجزة: فإن حدوث أمر "غريب" أو حتى "خارج للطبيعة" لا يكفي لإثبات أن تلك الأمور مصدرها شيخ قبيلة خفي يجلس على عرش في السماء، وإنما حدوث أمر خارق للطبيعة سيثبت أمرا واحدا لا غير وهو : حدوث أمر خارق للطبيعة! وذلك حتى يثبت ما هو مصدر ذلك الشيء..

لكن المؤمنون يرون شيخ قبيلتهم في كل شيء، حتى أنهم يعتبرون شعور الخوف -الغريزي والموجود عند الجميع- هو دليل آخر على وجوده، فيجتهدون في وعظك بأنك ستموت قريبا وتسكن قبرك ويتحلل جسدك، وربما يتم إلقاءك في النار..إلخ، ولا أدري كيف يكون الغوص في تخيل أفلام الزومبي والرعب السادي هذه يمكن أن يعتبرها أحدهم دليلا على وجود كائن خفي يسكن السماء..

وحين تنفد بهم السبل تماما يلجأون إلى تشويه كل من لا يؤمن بشيخ القبيلة السماوي، حتى لو بشكل متناقض، فالملحد بنظرهم ترك الدين من أجل أن يتبع شهواته ويستمتع بالحياة ويتحرر من قيود الدين، لكن هذا لا يمنع أنهم كائنات تعيسة ينتحرون بالجملة لأنه مفتقدون لروعة وسعادة الدين، ثم أن الملحد كائن مغرور متعالي (وليس كالمؤمن الذي يعتقد- بكل تواضع- أن الكون بأسره خلق من أجل اختباره هو، وأن الخالق سوف يكافئه ويعاقب خصومه بعد الموت)، ثم أن الملحد كائن شرير لا يوجد لديه أي رادع أخلاقي علوي مما يجعله مستعدا لإبادة البشر بكل سهولة (كما فعل ربهم نفسه في الطوفان، ربما لأنه لم يكن يؤمن بمرجع أخلاقي علوي يردعه؟)..

لكن المشكلة أنه لو صحت كل تلك الإتهامات وكان الملحد هو أسوأ البشر، فإن ذلك للأسف لن يكفي لإثبات وجود شيخ القبيلة الجالس على عرش..

الخلاصة إذن أنه لو أردت أن تثبت وجود كائن ما، فلا يكفي أن تشوه خصمك أخلاقيا، أو تخيفه، أو تسأله عن أمور تعجيزية لا تستطع أنت نفسك الإجابة عليها، كما أن جهلك وشعورك وأمنياتك لا تكفي، وإنما هناك سبيل واحد لتثبت وجود شيء ما، وهو أن تقدم دليلا مناسبا..

ولو كنت تسأل "وكيف نثبت وجود الإله؟"، أو "ما الذي سيقنع الملحد بوجود الإله؟"، فالجواب يكمن في أي شيء نقتنع كلنا بوجوده ولا نتجادل حوله؛ متى كانت آخر مرة وجدت شخصا ينكر وجود الشمس؟ أو كوكب عطارد؟ أو البطاريق؟ أو الحديد؟ أوالهواء؟ أو الكهرباء؟ أو الجاذبية؟ فبعض تلك الأشياء نعلم وجوده بالحواس (نراه أو نسمعه) وبعضها لا نراه ولا نسمعه وإنما نشاهد تأثيراته ونرصدها بشكل ثابت ومتكرر.. وأخيرا هناك أمور نصدق وجودها لأنها أفضل- وأبسط- تفسير للظواهر التي تحدث حولنا.. ولكن لا يوجد عاقل يؤمن بوجود شيء لأنه يسمع عنه كثيرا، خاصة إن جاء الحديث عن الشيء متناقضا متضاربا ومن أشخاص جهلاء أومغرضين لديهم مصالح تتحقق مع تلك الإدعاءات، وفي الحالتين تظهر لنا التجارب المتكررة أنهم لا يعرفون ما الذي يتحدثون عنه..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق