الجمعة، 1 فبراير 2019

الدين كهوية




حين نناقش الأديان فالواجب أن نحاول فهمها أولا، وعلى الأخص فهم سبب تمسك الناس بها.. يرى البعض أن الإيمان فطرة إنسانية، ويرى آخرون أنه حقيقة كونية يمكن إثباتها للدليل والبرهان، ويخالفهم من يعتقد أن الدين مجرد قناع للجهل الإنساني وعجزنا عن تفسير الظواهر الكونية، بينما لاحظ البعض أن الدين ينتصر لأنه يقوم على التخويف من بطش الإله في الدنيا والآخرة، وبالطبع لا ننسى دور السلطات السياسية التي تستخدم الدين للسيطرة على العوام وإخضاعهم للدولة.

ولكن نخطئ ونفشل في فهم الدين لو أهملنا السبب الأهم لانتشاره وسيادته، وهو الإنتماء الجماعي، أو القومية.

في عصرنا يوجد فصل ما بين الدين والقومية، فالمسلم مثلا قد يكون غير عربي (إذ أن العرب لا يشكلون أكثر من خُمس عدد المسلمين)، بينما العربي قد يكون غير مسلم..

ولكن الحال لم يكن كذلك في أصل نشأة الدين، فالأديان الأولى كانت جميعها قومية بامتياز، فكان لكل شعب آلهته الخاصة، مثل آمون رع للمصريين ومردوخ للبابليين وأهورا مزدا للفرس وبراهما للهنود وهكذا،
وكانت تلك الآلهة لا تقوم فقط على الخلق واستجابة الدعاء وتلقي القرابين والنذوروتأييد شرعية الحكام، وإنما الأهم أنها تمثل رموزا محلية تجسد هوية الشعب وتميزه عن الشعوب الأخرى.


غريزة الإنتماء إلى جماعة هي من أقوى الفطر البشرية، بل والحيوانية، فنحن نرى كثير من الحيوانات تعيش في قطيع أي جماعة، ينتمي الفرد لها فتحميه من المخاطر وتساعده على إيجاد أساسيات حياته، وبدون الجماعة يكون الفرد في عزلة وخطر.. ذلك الإنتماء تجسد منذ القدم في عناصر عديدة أهمها الدين، فالدين هوية جماعية قبل أي شيء.

نرى هذا الإنتماء القومي في "الطوطم"، والذي هو حيوان تختاره القبيلة ليكون رمزا مميزا لها، وتعتقد أن الجد الأكبر للقبيلة يتجسد في ذلك الحيوان.. وإن كنت تظن أن ذلك الإله البدائي قد انقرض فما عليك إلا أن تلقي نظرة على أعلام الدول التي تحتوي حيوانات كالنسر أو الصقر أو شجرة.. ومن يلقي نظرة على الأديان البدائية فإن أول ما يقابله هو تكرار كلمة "الأجداد"، والذين أرواحهم تلعب دور الآلهة الأولى.

نرى هذا أيضا واضحا في أقدم دين كتابي (سماوي) وهو اليهودية، فمن ينظر في التوراة يجد أن الإله، رغم كونه خالق الكون، إلا أنه إله قومي بامتياز، ينتمي لليهود ولا يكاد يعرف شعبا غيرهم.. وإلى اليوم نجد أن اليهودية دين وقومية بنفس الوقت، فهي تنتمي إلى ذلك العصر الذي لم يكن فيه الفصل بين الإثنين قد حدث بعد.

ولكن منذ عصر الإمبراطوريات القديمة وتداخل الشعوب، والذي بلغ ذروته مع الإسكندر المقدوني، بدأت فكرة "الدين العالمي" الذي ينتشر بين جميع الشعوب، وتجلى هذا في البوذية (وهي هندوسية عالمية) ثم المسيحية (وهي يهودية عالمية بنكهة رومانية)، ولاحقا في الإسلام (والذي هو يهودية عالمية في نكهة عربية).

هذا التطور قلب الأوضاع، فصار هناك دين يعلو على القومية، وإن ظلت محاولات تأكيد القومية مرتبطة بالهوية الدينية، وتجلى ذلك في "المذاهب"، فحين حاول الغرب الكاثوليكي فرض المسيحية على الشرق، استجاب الشرق بمسيحية مختلفة في العقيدة (مثل النسطورية واليعقوبية في العراق والشام)، وحين انتشر الإسلام بين أصحاب الهويات غير العربية، استقبلوه أحيانا بمذاهب مختلفة (مثل الشيعية لدى الفرس).. وحتى في مرحلة الإصلاح المسيحي (القرن 16) نعرف أن من استقبل التغيير البروتستانتي كانوا أصحاب هويات قوميات مختلفة منافسة لروما.


الخلاصة أن الدين يستمر لأنه (ضمن أسباب أخرى) مرتبط بواحدة من أقوى العواطف البشرية وهي غريزة الإنتماء، أو القطيع..

الدين لأصحابه ليس فقط حقيقة وجودية (فلا تصدق أن أغلب الناس تعبأ كثيرا بالحقائق الوجودية) وليس فقط عصا وجزرة كونية (فلا تصدق أن الثواب والعقاب المؤجلان يؤثران كثيرا، خاصة مع آلهة غفورة رحيمة وأديان تحاسب على الإيمان وليس الأعمال)، وإنما الدين قبل هذا هو تذكرة الفرد للإنتماء إلى الجماعة، فيه يشعر بالأمن والحماية وبالتواصل مع الآخرين- وهذه رغبة بيولوجية عاطفية أقوى من أي فلسفة أو مبادئ أخلاقية.

يمكنك أن تتذكر هذا حين ترى مؤمنا يؤمن بلا منطق، فأي منطق في حب الوطن؟ كما تراه يغضب بشدة لإهانة دينه ويكون مستعدا للقتل أو الموت في سبيل الدفاع عنه ، فهنا صاحبنا لا يغضب دفاعا عن إله مطلق غامض يفترض أن لديه القدرة على الدفاع عن نفسه ودينه، وإنما هو يغضب لنفسه أولا، لجماعته وأجداده، ومن يتابع يسمع كثيرا تشبيهات المؤمن لدينه بأنه مثل أبيه وأمه ووطنه وكل مقدساته التي لا يطيق سماع كلمة ضدها، وصدقني هو محق تماما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق