الجمعة، 1 فبراير 2019

الروح والريح




ويسألونك عن الروح،
قل الروح هو اسم مبهم يتفق أهل الأديان على الإيمان بوجوده، ولكنهم يختلفون بشدة حول تعريفه ومعناه ودوره: هل يا ترى هو مسئول عن الحياة أم الوعي أم الشعور؟ وهل له مكان معين في الجسد أم ينتشر فيه كله؟ وهل هو موجود عند الحيوانات أم لا؟ وهل يخلق مع تشكل الجنين أم يقذفه الملاك في مرحلة ما من الحمل؟..إلخ ؛ وسبب الإختلاف بين أهل الأديان هو أن مصادرهم الرئيسية للإيمان بالروح (الكتب المقدسة) لا تقدم أي توضيح محدد عن كنه ذلك الكيان الغامض..

لكن مع قليل من التأمل في أصول الأديان واللغة يمكن أن يتكشف لنا اللغز:

في بداية سفر التكوين التوراتي نقرأ أنه قبل الخلق كان "روح الله يرف على وجه المياه"، علما بأن كلمة "روح" العبرية هنا هي ذات الكلمة التي تستخدم لوصف الرياح الهوائية العادية..

وبشكل أوسع نجد أن كلمة الروح - لغة- فعلا مشتقة من الرياح، أي الهواء، كما أن كلمة النفس مشتقة من فعل التنفس- وبالعبرية أيضا يقال عن الروح نشمة أو نسمة..

هذا التداخل (بين الروح والهواء) لا يقتصر على اللغات السامية فقط بل يمتد إلى كثير من اللغات المرتبطة بالأديان الإبراهيمية، فكلمة روح spirit أصلها سبيريتوس وهو التنفس باللاتينية، وباليوناني الروح psyche تعني فعل النفخ أو التنفس..

فما علاقة الروح بالهواء والتنفس؟

لإجابة السؤال علينا وضع أنفسنا موضع الإنسان البدائي، والذي حتما لاحظ - بكل جوارحه- ظاهرتي الحياة والموت، والفارق الصادم بينهما، ولابد أنه لاحظ أن النائم يقوم بعد برهة، وذلك بعكس الميت الذي لا يقوم بل يتحلل ويفنى.. ولابد أنه اكتشف أن الفارق الأساسي بينهما يكمن في فعل التنفس: فالميت هو الذي لم يعد في فمه وأنفه هواء..

من هنا استنتج القدماء أن سر الحياة يكمن في ذلك الكيان الخفي (الهواء) الذي يملأ جسد الأحياء..

ثم إنهم جعلوا الله الخالق هو مصدر تلك الرياح حيث وضعها بداخلنا؛ فلو رجعنا إلى سفر التكوين سنجد أن الله حين خلق آدم قام بنفخ "نسمة الحياة" في أنفه، وهو يشبه ما قاله القرآن عن نفخ الله من روحه في الطين ليخلق الإنسان الأول آدم، وكذلك نفخه في فرج مريم ليخلق عيسى.. علما بأن بعض العلماء يرون أن اسم الله في التوراة (يهوه) مشتق من لفظ الهواء، وأما روح الله فهي الرياح التي ترف على المياه كما رأينا..

وبشأن المصطلحات اليهودية العديدة للروح نقرأ في واحدة من تفسيرات الحاخامات لكتابهم المقدس يشبهون المسألة بصانع الزجاج وهو يستخدم الهواء على ثلاث مراحل: فأولا يكون الهواء بداخل صدر الصانع (نسمة)، ثم ينطلق منفوخا في الأنبوب (ريح) وأخيرا يستقر في الزجاجة فيصير (نفس).. كذلك الحال مع نسمة الحياة التي ينفخها الله روحا فتصبح نفسا بداخل البشر..

وذلك هو سر إيمان القدماء بكيان خفي يسكن أجساد الأحياء ويغادرها عند الموت، وهو ليس سوى الهواء أو الريح الذي لاحظوا أنه يسكن فم الحي وحده.. وبالطبع فإن معنى الروح تطور لاحقا على أيدي كهنة الأديان واكتسب أبعادا ميتافيزيقة غامضة ومعقدة، إلا أن جذور اللغة والأديان تكشف لنا عن الأصل البدائي لذلك المعتقد ومصدره..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق