الجمعة، 1 فبراير 2019

عن التعددية





لماذا نعتبر غالبا أن الأحادية هي الشكل الأمثل للعلاقة، بينما نميل إلى رفض الأشكال الأخرى كتعدد الزوجات وتعدد الأزواج والمثلية باعتبارها ممارسات غير أخلاقية؟

نعم أدرك أن بعض النظم الدينية الإجتماعية تقبل بعض الأشكال المغايرة وترفض البعض ؛ فمثلا الإسلام واليهودية يقبلان تعدد الزوجات، الذي ترفضه المسيحية، ويشترك أهل الديانات الثلاثة في رفض تعدد الأزواج وفي العداء للمثلية (الشذوذ) سواء بين الذكور أو الإناث (ويتضاعف غضبهم عند الحديث عن زواج مثلي).. وكذلك بينما بعض أصحاب الفكر اللاديني أو العلماني يقبلون المثلية باعتبارها حرية شخصية، نجدهم لا يتسامحون بنفس القدر مع تعدد الزوجات مثلا فيطالبون بتجريمه..إلخ،ولكن هكذا في المحصلة يمكن القول أن العلاقة الأحادية التقليدية (رجل واحد وامرأة واحدة) هي الشكل الأمثل في عصرنا، والوحيد الذي لا يبدو أن أحدا يختلف حوله، فلماذا؟

حين طرحت السؤال جاءت إجابات وتحليلات رائعة من الزملاء؛ بعضها يركز على الجانب البيولوجي التطوري للمسألة، وبعضها يركز على الجانب الإجتماعي والنفسي؛ بعضها يميل إلى الأحادية لأسباب خاصة، وبعضها يشير إلى ضرر الأشكال المغايرة على المجتمع، وبعضها لا يجد مانعا من تنوع العلاقات طالما لا ضرر ولا اعتداء.

هنا يبدو السؤال منقسما لشقين:
الأول هو لماذا صارت الأحادية هي الأكثر قبولا اليوم؟
والثاني هو هل الأشكال الأخرى غير أخلاقية حقا؟
-----------------------------

بخصوص السؤال الأول فلا يبدو لي أن الأحادية "فطرة" كما رأى البعض (بمعنى نزعة بديهية عند الجميع)، حيث أن أكثر المجتمعات قديما كانت تمارس التعددية..
كما لم أقتنع أن الأحادية هي الشكل الأمثل من الناحية التطورية: من هذا الجانب يبدو أن الطبيعي أن الذكر يرغب في ممارسة الجنس مع أكبر عدد من الإناث (وهو ما يبدو أننا نراه في أغلب الذكور في كل زمان ومكان على أي حال)، وذلك للحصول على أكبر عدد من الأبناء، خاصة مع كثرة نسب وفيات الأطفال في المجتمعات القديمة- فالطمع الجنسي هو آلية تطورية لا بأس بها أبدا.

أما لو تركنا مسألة "تمرير الجينات" و"زيادة النسل عدديا" السابقة، فقد تكون هناك فائدة تطورية أبعد لمؤسسة الزواج والإستقرار الأسري، وهي أن الذكر يكون عالما بأولاده ومسئولا عن حمايتهم ورعايتهم، بدلا من أنجابهم وتركهم للموت..
بالتالي لو جمعنا بين الجانبين فيبدو أن الشكل الأمثل للعلاقة المفيدة تطوريا ليس الأحادية وليس الفوضى الجنسية، وإنما هو تعدد الزوجات على النمط اليهودي والإسلامي مثلا، وهو ما نجده في أكثر المجتمعات القديمة بالفعل.. فيه سنجمع بين مزية أن الرجل سيتمكن من تخصيب أكبر عدد من الإناث، وبنفس الوقت يكون مسئولا عن رعاية أطفاله (ويكون هذا خاصة لأصحاب الثروة والنفوذ، أما الأفقر والأضعف فسيكتفي بواحدة، وهو نوع خاص من الإنتخاب الطبيعي\الإجتماعي).

هذا لا يمنع أن هناك أسباب أخرى تطورية واجتماعية تصب في صالح الأحادية وربما ساهمت في انتشارها: منها تركيز رعاية الأب فيها على أطفال امرأة واحدة، فمع تقدم الرعاية الطبية ازداد عدد الأطفال الذين يستمرون في الحياة، وبالتالي قلت الحاجة إلى زيادة العدد، زادت الحاجة إلى تركيز الرعاية (الكيف حل محل الكم).. ولكن الأرجح أن هذه الأسباب لا تكفي لسيادة الأحادية تماما.. وكما أشرنا فعلى ما يبدو فالسائد في المجتمعات القديمة كان التعدد، أما الأحادية فأكثر حداثة.

هذا ينقلنا إلى الأسباب الأخرى الإجتماعية لسيادة الأحادية في عصرنا، وأظنها تتلخص في أمرين: تطور مفاهيم المساواة وحقوق الإنسان، وسيادة الحضارة الغربية ذات الأصل المسيحي.

في أكثر الحضارات القديمة لم يكن هناك مجال حقيقي للمقارنة بين الرجل والمرأة، فكانت العلاقة بين الجنسين أشبه بعلاقة السيد بالعبد، ويتجلى ذلك أكثر في الثقافة الإبراهيمية حيث الرجل سيد المرأة، والمرأة خلقت منه ومن أجله؛ وحتى علاقة الزواج هي أشبه بعلاقة تملك، والنتيجة الطبيعية هي السماح للرجل بأن "يمتلك" أكثر من امرأة بتحديد العدد أو من دونه.

أما في العصور الحديثة، وبعد مرور قطارات النهضة والتنوير والعقلانية والحداثة الأوروبية، تغير الوضع وصارت المرأة إنسانا كامل الأهلية، على الأقل في النصف الشمالي، أو الغربي، من الكرة الأرضية.. وهنا صارت العلاقة "الطبيعية" هي العلاقة المتكافئة والندية، بين ذكر وأنثى.

على الجانب الآخر فالغرب منذ قرون تحول إلى المسيحية المترومة (نسبة لروما)، وهي الديانة الإبراهيمية الوحيدة التي لا تجيز التعددية في أكثر مذاهبها، وبناءا عليه انتشرت العديد من القيم المسيحية وتغلغلت في الجسد الأوروبي، ومن تلك القيم أن الزواج "الصحيح" هو الأحادي.

هذا يعني أن أسباب انتشار الأحادية تبدو أنها أسباب اجتماعية وثقافية في المقام الأول، وليست بيولوجية أو تطورية أو غريزية\فطرية.

-----------------------------
مما ينقلنا إلى السؤال الآخر: هل هذا هو الشكل السليم من العلاقة فعلا؟ وهل الأشكال الأخرى سيئة أو غير أخلاقية؟

هذا يطرح سؤالا أعمق وهو: ما معنى الأخلاقي وغير الأخلاقي؟

لعل المشكلة أن أكثرنا يميل إلى تعريف الأمور من منظور ثقافته الذاتية، فالشيء الذي يرتاح إليه يسرف في إطلاق الألقاب الإيجابية عليه، فهو "منطقي" و"فطري" و"أخلاقي".. متناسيا أن مفاهيمه عن المنطق والفطرة والأخلاق ليست سوى نتاج تربيته وتنشئته على ثقافة خاصة، وربما لو نشأ في غيرها لاختلفت عنده تلك المفاهيم تماما.

بالتالي هنا سنتجاهل الأطر الثقافية المعتادة (كالأديان والأعراف والتيارات الإجتماعية كالنسوية) وسنتبنى تعريفا عمليا مبسطا للأخلاق يربطها بالنفع والضرر: السلوك الأخلاقي هو الذي يعود على المجتمعات والأفراد عادة بالخير والسعادة والإزدهار، بينما السلوك غير الأخلاقي هو الذي يضر البشر ويتعسهم ويهدد أمنهم.

محتفظين بهذا التعريف نسأل: ما مصلحة المجتمع من العلاقات أصلا؟ ولا أظن الجواب يخرج عن أمرين: استقرار البشر وسعادتهم، وأمن وصحة ورعاية الأطفال.. فأي شكل من العلاقة يحافظ على هذين الشرطين لا يمكن إدانته من منظور أخلاقي.

هذا - في نظري- يشمل ارتباط رجل واحد بامرأة واحدة، أو ارتباط رجل بعدة نساء، أو ارتباط امرأة واحدة بعدة رجال، أو اختيار شخص أن لا يرتبط سوى بعلاقات سريعة عابرة، أو يكون لاجنسيا، ويشمل كذلك العلاقات المثلية بين رجلين، أو بين امرأتين، ويشمل أي شكل من التعددية التخيلية (كرجلين يتزوجان بثلاث نساء..إلخ)،

كل ذلك لا يجب أن يدان أخلاقيا بحجة أن الفطرة ترفضه (وما الفطرة إلا خلفيتك الثقافية والدينية، استغرقت فيها فحسبتها قانونا كونيا)، أو بحجة أنه غير طبيعي (فالطبيعة ليست ربا نأتمر بأمره، والجدير بالذكر أن القتل والسرقة والإغتصاب هي أمور طبيعية تماما تمارسها الحيوانات كما مارسها أجدادنا، وهذا لا يجعلها أخلاقية).

أما المرفوض في العلاقات بنظري فهو أمرين: لو شملت اعتداءا، أو لو شملت أطفالا لن يتلقوا الرعاية الملائمة.

أما عن الإعتداء، فقد اخترت تلك التسمية بدلا من الضرر- وهنا يجب التفرقة بين علاقات اجتماعية وجنسية تسبب ضررا لأصحابها (هذا قد يجعلها غير أخلاقية، ولكنه لا يجعلها بالضرورة مجرمة قانونا) مثل شريك يسيء معاملة شريكه أو يستغل مشاعره..إلخ، فهذه أمور غير أخلاقية لكنها تظل محصورة بين الشريكين ومسئولية متبادلة بينهما..

أما ما يستدعي تدخل القانون فهو حصول اعتداء من طرف على حقوق طرف آخر أو إجباره على شيء لا يرضاه. فقط.

(للتوضيح بمثال: شخص يخدع شريكه ويوهمه بالحب لكي يجعله ينفق عليه بسخاء - هذا فعل غير أخلاقي بالمرة، ولكنه قانوني تماما طالما لم يتضمن سرقة أو إجبارا.. كذلك الحال مع شخص يضرب شريكه وهو راضي بذلك أو يستمتع به، فالقانون لا يتدخل إلا عند حدوث اعتداء أو إجبار، ولا يتدخل بالضرورة عند حدوث ضرر طالما الشخص لا يشتكي، لذا وجبت التفرقة).

أما عن الأطفال، ففي نظري يجب على الدولة التدخل لتمنع من الإنجاب كل ما لا تتوفر فيه شروط الرعاية المناسبة للأطفال، وهذا لا يشمل أشكالا معينة من العلاقات بقدر ما يشمل أشكالا معينة من الخلل: فالوالد- ذكر أم أنثى- الذي لديه خلل نفسي أو ميول عدوانية حادة أو يفتقر إلى الإستقرار أو لا يتملك أساسيات الحياة، يجب النظر في منحه حق إنجاب إنسان يعيش في معاناة، ومواطن يسبب المعاناة للمجتمع.

فيما عدا ذلك فالطبيعي أن يعيش الإنسان وفقا لاختياراته الخاصة، دون أن تفرض عليه مفاهيم دينية أو ثقافية من آخرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق