الجمعة، 1 مارس 2019

عبقرية التطور



عالمنا مليء بالظواهر المعقدة والمركبة والمتداخلة، ولدينا طريقتان رئيسيتان للنظر إلى الأمور: الخلق والتطور..

الخلق يفترض أن الظواهر توجد دفعة واحدة بلا مقدمات، فجأة كالسحر، وهذا لا يمكن تفسيره إلا بالإحالة إلى كائن خالق: إله..

أما التطور فهو يفترض أنه لا شيء يظهر فجأة من العدم، وإنما الأشياء تتحرك وتتلاقى وتتفاعل، فتنشأ بعض التركيبات، تساعدها الظروف على البقاء، ثم إن التركيبات تمر بالمزيد من التفاعلات، فتزيد تعقيدا بشكل تراكمي يتناسب مع محيطها والغرض منها..

الخلق يبدو سهل الفهم، وهو بنفس الوقت كلّي مبهر مستعصي على الفهم العقلاني الحقيقي..

أما التطور فهو صعب معقد تفصيلي، لكنه قابل للفهم بشكل تفكيكي عقلاني..
وفي كل مناحي الحياة، يميل المنهج العلمي نحو اعتناق التطور، ونبذ فكرة الخلق..

لنبدأ بالمثال الأشهر، الذي اقتبست عنه الكلمة: نظرية التطور.. في الماضي وعند أهل الأديان نجد أن الإله، وهو كائن سرمدي خارج نطاق كل فهم، قام بخلق الكائنات دفعة واحدة، فجاء الإنسان الأول من تمثال طيني، وها قد فككنا الشفرة وحلينا اللغز، بالسحر..

لكن داروين لم يقتنع بهذا، وجاءت النظرية المقبولة علميا اليوم، وهي أن الأنواع تشكلت عن طريق تغيرات صغيرة جدا، من الوالد إلى ولده (طفرات)، ثم تكفلت الظروف الطبيعية بغربلة الكائنات، محافظة على السلالات الأقدر على البقاء في ظروف معينة (الإنتخاب الطبيعي).. وهكذا زال السحر..

ولو رجعنا إلى قصة الخلق الدينية، فسنجد أن خلق الكون أيضا تم دفعة واحدة، حيث نسج الله السماوات والأرض بكلمة من فمه.. ولكن الفيزياء الحديثة لها رأي آخر، حيث أن الكون نشأ منذ مليارات السنين، مبتدئا من نقطة، ثم - حسب ميكانيكا الكم- فإن تلك النقطة نفسها يحتمل أنها نشأت عن تفاعلات أخرى، ضمن مجموعة من الأكوان الأخرى.. مرة أخرى لا سحر في المسألة ولا قفزات خارج الطبيعة..

ولو أخذنا مثالا آخر، عن ظاهرة اللغة مثلا، فسنجد الأديان - القرآن مثلا - تخبرنا بأن الله هو من قام بتعليم آدم الكلمات.. ولكن النظريات الحديثة تتعامل مع اللغات كظاهرة نشأت تدريجيا، مبتدئة بالأصوات البسيطة، ثم تعقدت وتفرعت عبر آلاف السنين إلى اللغات المعروفة..

وفي كل الحالات نجد أن للتطور قواعد متكررة: منها اعتماده على النقلات الصغيرة (وإن كان لا مانع من وجود قفزات محدودة، أو حتى فجوات لم تتوصل إليها المعرفة البشرية بعد).. كما نجد دائما أنه يشمل تفريعات كثيرة، لا تعيش كلها، وإنما يفنى بعضها وتبقى أخرى.. هكذا فلدينا أنواع منقرضة، ولغات ميتة..

حتى الأديان نفسها، فهي تحكي عن ذاتها أنها نزلت (فجأة) من السماء، بأمر من الإله، كرسالة إلى الأنبياء.. ولكن دراسة تاريخ الأديان يحكي لنا قصة مختلفة، فالأديان - ككل شيء آخر - بدأت بسيطة جدا، في شكل تقديس مظاهر الطبيعة أو توقير ذكرى الموتى، ثم أنها - ككل شيء آخر - تطورت تدريجيا، فشكلت مفاهيم الآلهة والحياة الآخرة والطقوس والعبادات والنصوص المقدسة.. ومثل كل شيء آخر فقد تفرعت الأديان حسب بيئاتها المختلفة، وانقرض بعضها، ربما لأنه لم يتمكن من التعايش مع بيئته أو المنافسة مع رفاقه الأكثر شبابا، حتى بقيت الأديان المعروفة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق