لم يكن العرب قبلها منعزلين عن ذلك الصراع العالمي السياسي\الديني، ففي الشام كان الغساسنة التابعون للروم، وفي العراق كان المناذرة التابعون للفرس، وكلا المملكتين كانتا مسيحيتين على مذاهب مخالفة للمذهب الرسمي البيزنطي، وبينهما قامت معارك كثيرة- غالبا بالوكالة لصالح الإمبراطوريتين..
ولاحقا تم تفكيك المملكتين، ونتيجة ذلك انهار الفاصل العربي بين الروم والفرس، فقام الفرس بشن هجوم واسع غربي واحتلوا الكثير من الأراضي البيزنطية في سوريا وفلسطين ومصر، حتى حاصروا القسطنطينية التي نجت بأعجوبة، وفي فلسطين كانت هناك كتائب يهودية تصاحب الفرس، وبعد الغزو شرع اليهود في بناء هيكلهم بالقدس تمهيدا لظهور مسيحهم، إلا أن الظروف لم تمهلهم..
وعلى الجانب الآخر قام هرقل بقيادة حملة مضادة داخل عمق الأراضي الفارسية، وانتهى الصدام بقيام معاهدة صلح بين الإمبراطوريتين المنهكتين، واستعاد الروم الأراضي التي كانوا يحكمونها بالشرق الأوسط، وبعدها بقليل بدأت الغزوات العربية..
وأما جنوبا فكانت هناك بوارد استقلال، يميل إلى التوحيد اليهودي أو الحميري (الحنيفية؟)، وحين تصاعدت القوة اليمنية وبدأت تهدد المسيحيين قامت بيزنطة بتسليط الأحباش المسيحيين لغزوها، ولاحقا استعان اليمنيون بالفرس الذين قاموا باحتلال في سبعينات القرن السادس (عام الفيل؟)، وحتى مجيء الإسلام..
--------------------------
ولو تتبعنا سيرة محمد، فسنجد بعض التوازيات (التقريبية) بين صراع المؤمنين والكفار على الحرم المقدس من ناحية، وبين صراعات الروم والفرس من ناحية أخرى، يشكل يصعب نسبته إلى الصدف..
ففي 610 تم تولية هرقل ملكا، وهو عام بعثة محمد..
وفي 622 انطلق هرقل في حملته ضد الفرس محققا أهم انتصاراته، وهو عام الهجرة وبدء المصادمات بين محمد وأهل مكة..
وفي 626\627 قام الفرس ومعهم جماعات أخرى كالسلاف والأفاريين بمحاصرة القسطنطينية والتي نجت بأعجوبة إلهية حسب ما رأى المسيحيون، وهو نفس توقيت حصار مدينة محمد من قبل الأحزاب (غزوة الخندق)..
وفي 628 تم الصلح بين الروم والفرس، وهو نفس عام صلح الحديبية..
وفي 629\630 استعاد الروم أراضيهم ومنها القدس (المدينة المقدسة)، وهو نفس عام فتح مكة..
--------------------------
حتى أن القرآن يحتوي إشارات يمكن ربطها بصراع الروم والفرس، خاصة الجانب الديني الذي يخص اليهود، حلفاء الفرس والذين دخلوا فلسطين وحاولوا إقامة معبدهم الذي هدمه الرومان عام 70 للميلاد، إلا أن السكان المسيحيون لم يمهلوهم..
ففي سورة البقرة 113 - 115 يتحدث القرآن عن تكفير متبادل ما بين اليهود والنصارى، وعن جهة ما تخرب مساجد الله وتمنع الصلاة فيها، ويلي ذلك بقوله للمؤمنين: أينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله، وبعدها بعدة آيات سيأتي قرار تحويل القبلة..
وفي الإسراء 4 - 7 يحكي عن هزيمة إسرائيل واحتلال أرضهم من جهة ما تدخل عليهم المسجد، ثم انتصارهم على خصومهم، ثم هزيمتهم مرة ثانية على أيدي الأعداء الذين يدخلون إلى المسجد ليهدموه مرة ثانية، ويقرن ذلك بما يسمى وعد الآخرة -و الذي يرد في موضع آخر من نفس السورة (آية 104) يخاطب فيه إسرائيل أنهم أن الله سيأتي بهم لفيفا، حين يأتي هذا الوعد..
أما أوضح إشارة فهي التي في أول سورة الروم 2 - 4 حيث يتحدث عن هزيمة الروم من جهة ما، ثم يتنبأ بعودتهم للغلبة مرة ثانية، ويقرن ذلك بفرح المؤمنين..
--------------------------
أما عن الربط بين تلك الأحداث فيحتمل عدة سيناريوهات متداخلة:
منها أن المسلمين الأوائل لم يكونوا سوى جماعة يهودية\نصرانية، تعادي الروم وتسعى لاستعادة القدس- هذا قد يفسر عدة أمور منها التشابه والتداخل اللافت بين الديانتين الإسلامية واليهودية، وصلاة أتباع محمد أولا نحو القدس، حيث لم يتحولوا إلى كعبة العرب إلا متأخرا (ربما بعد فساد الحلف، وهو ما يتبين فعلا من سياق سورة البقرة) - هذا قد يدعمه حقيقة أن عمر ابن الخطاب حين فتح القدس دخلها في هيئة مسيانية واضحة (راكب الحمار، الفاروق أي المخلص) وشرع في بناء الهيكل مرة أخرى بإرشاد من كعب الأحبار اليهودي..
رابط آخر مهم قد نجده في احتمالية أن صراع السيطرة على البيت المقدس العربي (بغض النظر عن مكانه، وأرجح أنه بصحراء الشام لا مكة الحالية)، ربما كان ذلك هو أحد أوجه الصراع بين الروم والفرس وتابعيهم من العرب، حيث من الطبيعي جدا أن يسعى كل طرف لبسط سيطرته على الحرم الذي يحتوي كعبة العرب، فيحتمل أن محمد وجماعته مروا ببعض التقلبات في التحالفات، من معاداة الروم (لصالح الفكرة المسيانية اليهودية) إلى موالاتهم (بعد رفض اليهود لمحمد وحدوث الشقاق بينهما) إلى الإستقلال العربي (بدء الفتوحات) - هذا قد يفسر العديد من المواقف القرآنية المتقلبة، ففي الآيات المذكورة مثلا، نجد آيات سورة البقرة متعاطفة نوعا ما مع اليهود (رغم العتاب)، بينما سورة الإسراء تحتوي لغة أكثر برودة تجاههم، وأخيرا نجد أن آيات سورة الروم متعاطفة مع الروم المسيحيين، تربط انتصارهم بفرح المؤمنين..
إشارة أخرى قد تظهر في آيات الجهاد، حيث يمكن الربط ما بين آية قتال أهل الكتاب حتى يدفعوا الجزية (التوبة 29) وبين انقطاع المال البيزنطي عن العرب بعد تفكيك مملكتي المناذرة والغساسنة وقيام معاهدة الصلح بين الروم والفرس - فلعل ذلك السلام أدى إلى كساد صناعة الحرب لدى العرب، فكان لابد من الحصول على بديل..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق