الجمعة، 1 مارس 2019

تأملات في سورة البقرة






محاولة لقراءة تاريخية جديدة بمعزل عن السيرة الرسمية..
----------------------------------------

1- البقرة لها مكانة خاصة: هي أطول سورة بالمصحف، وربما الأولى لو استبعدنا الفاتحة..

واللافت أن ثمة مصدر مسيحي قديم (راهب بيت حلة، نقلا عن كتاب الهاجرية) يميز بين القرآن وسورة البقرة وكأنهما مصدران مختلفان للشريعة الإسلامية، فلو سلمنا أنه يتحدث عن نفس السورة التي بأيدينا، فإن هذا يعكس (على الأقل) أهمية السورة وقدمها وأصالتها..

حسب التاريخ الرسمي فهي أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، ومكمن أهميتها بنظري أنها تعكس بداية العلاقة بين محمد واليهود، وتطور تلك العلاقة دينيا وسياسيا، من التماهي والمديح إلى الإنفصال والعتاب ثم العداء والحرب..

----------------------------------------
2- تبدأ السورة بحديث يبدو عاما عن "ذلك الكتاب" وعن الإيمان والكفر والمنافقين والجنة والنار، وقصة آدم والشجرة، مما يحتل الآيات الأولى الأربعين..

ومنذ الآية 40 يبدأ توجيه الخطاب لليهود لأول مرة بشكل واضح..

مما يستدعي سؤالا: هل الآيات السابقة تخاطب مشركين أم يهود؟

يبدو لي أنها الثانية، حيث نجده يتهمهم بأنهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه (27)، مما لا يبدو أنه يتماشى مع المشركين وإنما ينطبق على اليهود المشهورين بالعهد الإلهي، كما ورد في التوراة، وكما سيتم الإشارة كثيرا إلى عهد اليهود وميثاقهم مع الله في سورة البقرة نفسها، في الآيات 40 و63 و80 و83 و84 و93..

ونلاحظ أيضىا أن سرد قصة آدم وحواء جاء هنا موافقا للنسخة اليهودية المطابقة ليس فقط للتوراة وإنما للأدب الحاخامي، مما يرجح أننا داخل سياق يهودي..

ولو تذكرنا أن سورة البقرة- حسب السرد الإسلامي الرسمي- نزلت في المدينة (عند اليهود) وليس في مكة (عند المشركين) فسيتأكد لنا أن اليهود هم المقصودون منذ بداية السورة..

وحتى في ذكر المنافقين بأول السورة، فلا يوجد ما يمنع أنه يقصد يهودا أيضا، خاصة أن هناك مقابلة مماثلة بين الآية 14، والتي تتحدث عن المنافقين المتظاهرين بالإيمان، والآية 76 التي تتحدث عن اليهود بنفس الألفاظ، مما يرجح أن الحديث في الحالين عن نفس الفئة..

لو صح أن السورة تخاطب اليهود من أولها، فيمكن تأويل اتهام القرآن للخصوم بأنهم "يجعلون لله أندادا" (شركاء) (22)، وبأنهم لا يؤمنون بالله أصلا (28) يمكن تأويلها بشكل مشابه لتكفير القرآن لخصومه بوجه عام، واتهامه في موضع آخر لأهل الكتاب بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله (سورة التوبة 31) ، مما شرحته أحد الأحاديث النبوية بأنهم يسمحون لرجال الدين عندهم بالتحليل والتحريم، فذلك هو اتخاذ الأنداد..
----------------------------------------

3- في الآيات التالية (40 وما بعدها) سيتوجه بالخطاب المباشر إلى بني إسرائيل بشكل مباشر وطويل، يذكرهم بعهد الله ونعمه عليهم، ويطالبهم بالإيمان والتزام العبادات، ويذكرهم بتاريخهم الديني من كتبهم، ويعاتبهم على ظلمهم ويطالبهم بالتوبة وبالإيمان بالنبي الجديد القادم..

نلاحظ عدة أمور في تلك الآيات، فبعد أن يذكرهم بعهد الله يطالبهم بالإيمان بما أنزل الله "مصدقا لما معهم" (41) وقطعا يقصد التوراة وربما بقية كتبهم أيضا..

هنا يظهر محمد باعتباره مجددا للعهد الإسرائيلي مع الله ومكملا له، كما نلاحظ أنه يربط وحيه الخاص بالكتب الموجودة بين أيدي اليهود خاصة التوراة - علما بأن وصف الوحي المحمدي بأنه جاء "مصدقا للتوراة" سيتكرر عدة مرات في آيات تالية 89 و91 و97 و101..


وبنفس الآية (41) ترد إشارة أراها خطيرة، هي أنه يكمل العبارة قائلا ".. ولا تكونوا أول كافر به".. هذه العبارة تبدو شديدة الغرابة لو تذكرنا ما تقدمه لنا السيرة الرسمية أن محمدا في الأصل أرسل إلى عرب مكة، فالآية تشير إلى أن محمدا ذهب أولا إلى اليهود!

وهي ليست الآية الوحيدة التي يمكن فهمها على هذا النحو، حيث سنقرأ لاحقا في الآية 89 (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)..

لاحظ "جاءهم" - "مصدق لما معهم" - "كانوا من قبل يستفتحون به"، وبخصوص التعبير الأخير فمجمل التفاسير الإسلامية تشير أن اليهود كانوا يهددون جيرانهم العرب بظهور نبي مقاتل يقودهم ويساندهم..


فهل قدم محمد نفسه لليهود باعتباره ذلك النبي الذي سيقاتل معهم؟

هذا لا يبدو مستغربا تماما لو تذكرنا مدى تأثر محمد باليهودية ومدى التشابه بين الدينين خاصة في تلك المرحلة الأولى من الهجرة، حيث كان الشعار هو التوحيد مع استلهام قصة موسى وأنبياء التاناخ (الكتاب المقدس العبري)، بل وحسب السيرة فقد كانت صلاة محمد وجماعته تتجه ليس إلى كعبة مكة، وإنما نحو ساحة الهيكل بالقدس..

لدينا أيضا أدلة من خارج السردية الإسلامية، حيث أن أقدم مصدر خارجي أجنبي يذكر اسم محمد (تعاليم يعقوب، الذي كتب بعد وفاة محمد بعامين فقط، أي قبل كتابة السيرة الإسلامية بأكثر من قرن)، يتحدث عنه باعتباره "نبي ظهر بين السراسنة (العرب) يقاتل بالسيف، وأنه أعلن أنه جاء ليبشر بقدوم المسيح (اليهودي)"..

ومن أقدم النصوص أيضا ما كتبه سيبيوس الأرمني بالقرن السابع، والذي تحدث عن حلف سياسي عسكري عقد بين محمد واليهود، وهو ما نجده في التراث الإسلامي بداية مما يسمى حلف المدينة بعد الهجرة مباشرة، ولكن الفارق الأخطر بين المصادر الإسلامية وبعض المصادر المسيحية أن الأخيرة تتكلم وكأن ذلك الحلف استمر إلى ما بعد غزو فلسطين!
----------------------------------------

4- عودا للبقرة، نلاحظ أن المتكلم يكرر الأمر لليهود بالصلاة والزكاة والتي يقول أنها جزء من الميثاق الإلهي (الآيات 43 و45 و83 و110)، مما يوحي بتداخل ديني بين جماعة محمد واليهود بأكثر مما نتصور..

ثم إنه يستمر في تذكيرهم بتاريخهم، وكأنما يحاول إظهار علمه بأحوالهم، مبرزا مواطن الخيانة والظلم والكفر التي قاموا بها، مستغلا ذلك لمطالبتهم بالتوبة والعودة إلى الإيمان المستقيم..

ولا يبدو هنا أن محمدا يقدم نفسه باعتباره صاحب دين جديد، وإنما هو نبي مجدد داخل السياق اليهودي، مذكرا بالعهد التوراتي ومعتمد على كتاب اليهود الذي يتنبأ به، والذي يقوم هو بالتصديق عليه، بل ويمكن القول أنه لا يمكن القطع بذكر القرآن نفسه في سورة البقرة..

بل نلاحظ أن ذكر "الكتاب" بالسورة يأتي بصيغة المفرد نحو 24 مرة، وفي الغالبية العظمى منها يتضح أن الحديث تحديدا عن التوراة، حيث يكون الحديث عن "أهل الكتاب" أو "الذين أوتوا الكتاب" أو "الذين آتيناهم الكتاب" أو يقول أن الله قد آتى موسى الكتاب، أو أن اليهود يكتمون الكتاب، أو أن بعضهم يتلوه حق تلاوته..إلخ، إضافة إلى مرات يبدو فيها الحديث ليس عن كتاب مقدس أصلا..

ولا يوجد ذكر أبدا لأكثر من كتاب (كتابين أو كتب)، كما لا يوجد نص صريح يؤكد لنا أن الحديث عن القرآن، ربما باستثناء الآية 4 التي تتحدث عن وحي أنزل على محمد إلى جوار الوحي الذي أنزل من قبله، وأما الآية الأولى (بعد الأحرف) التي تتحدث عن الكتاب الذي لا ريب فيه، فيصعب تحديد إن كان المقصود هو القرآن أم الكتاب الآخر الغالب على السورة: التوراة..

بل من سياق بعض الآيات يمكن القول أن دور محمد الرئيسي لم تكن الإتيان بكتاب جديد، بقدر ما كانت إظهار معاني الكتاب الأصلي (التوراة) وشرح معانيها للناس..

حيث لاحقا سنجد أن إبراهيم يدعو الله أن يرسل في ذريته رسولا "يعلمهم الكتاب" (129، ويتكرر التعبير في 151)، وفي موضع آخر نجد القرآن يعاتب الذين يكتمون الكتاب (174) ويدين الذين يختلفون في الكتاب (176) ولا يعقل أنه يتحدث عن القرآن، بل يمكن تخمين هنا أن "ما أنزل على محمد" ليس سوى ترجمة للتوراة أوبيان لما خفي من نصها أو من معانيها..

ويبدو أن التوراة كانت محور اهتمام جماعة محمد، حيث نقرأ في الآيات 75 حتى 79 لمحات مثيرة عن الجدالات الدينية بين المؤمنين واليهود، حيث يتهم القرآن اليهود بأنهم يحرفون كلام الله، ويخفونه عن المؤمنين متظاهرين بالإيمان، ومن ثم يشير إلى أن بعض اليهود أميون لا يعلمون الكتاب "إلا أماني" (تلاوة شفهية)، ثم يهدد الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم ينسبونه لله ليتكسبوا منه المال..

فما القصة هنا؟ ما الذي يجعل المؤمنين أصحاب محمد - وهو منبع الوحي وخاتم الأنبياء- أن يتركوا الكتاب المهيمن الذي بين أيديهم ويتسولوا نصوصا من التوراة من عند اليهود، إلى درجة استعدادهم لمنح المال من أجلها؟

هنا يبدو أننا أمام جماعتان متداخلتان دينيا : الأولى متبوعة، هم "أهل الكتاب" الإسرائيليون، أصحاب الرسالة التوحيدية الأصلية والعارفون بالدين والتدوين، والثانية أتباع، هم "الأميون" الذين ليس لهم كتاب وإنما يستلهمون الدين والنصوص شفاهة من جيرانهم، وينافسوهم في تعلم الكتاب المشترك بينهم ومحاولة تفسيره..

في ظل تلك العلاقة غير المتكافئة علما ودينا - بين الأميين وأهل الكتاب- يبرز أحد الأميين محاولا بذل جهده في أن يحظى باعتراف أهل الكتاب بنبوته، مقابل وعد بأن ينصرهم كما كانوا يتمنون، فيعترف لهم بأن الله فضلهم على العالمين (الآية 47) ولكنه بنفس الوقت يتمرد على نظرتهم العنصرية الضيقة، حيث يذكرهم بخطاياهم ويؤكد لهم أن الجنة ليست لهم حصرا (كما نقرأ في الآيات 80 - 82 ، وأيضا 111-112)، وإنما الجنة لكل من يؤمن ويعمل صالحا، كما نقرأ في الآية 62 أن كل من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم..

----------------------------------------
5- ويتضح هنا التمازج بين الديني والسياسي، وهو أحد الأمور المشتركة والمميزة للديانة اليهودية وللإسلام لاحقا، حيث نسمع حديثا مشوقا من الآية 84: يذكر القرآن اليهود بأن الميثاق بين الله وبني إسرائيل يتضمن أن يتوقفوا عن سفك دمائهم وإخراج بعضهم البعض من ديارهم، ثم في الآيتين التاليتين (85 و86) يقرعهم بسبب مخالفتهم لذلك العهد حيث أنهم يقاتلون ويهجرون بعضهم البعض، حيث يتظاهر فريق منهم ضد الآخر، فيطردونهم ويتخذون منهم أسرى..

المعنى واضح: القرآن يتحدث عن حرب داخلية بين اليهود وبعضهم، ونجده يتعاطف مع فريق مظلوم ضد الآخر الظالم، ويطالبهم بنبذ تلك الحرب..

ولو انتقلنا إلى الآية 89 ، والتي تتحدث عن انتظار اليهود لنبي يقاتل معهم ضد الكفار، فسنجد المعنى أكثر وضوحا: محمد يطالب اليهود بالتحالف معه والقتال ضد الكفار، ويؤكد بأن الكتاب الذي بيده جاء إليهم، ومصدقا لما معهم..

وفي الآيتين 94 - 95 نجده يعاتب اليهود على تمسكهم بالحياة الدنيا، ولو ربطنا تلك الإشارة بالآيات السابقة التي تتحدث عن نكوص بعض اليهود عن اتباع النبي المقاتل الذي كانوا يستفتحون به ضد الكفار، رغم تعرضهم للأسر والتهجير من خصومهم، فقد يرسم لنا ذلك صورة عن محاولة محمد تحريض فئة مضطهدة من اليهود لكي يؤمنوا به ويتبعوه..
----------------------------------------
6- بداية من الآية 111 نجد دخول النصارى على ساحة السورة، وذلك لو استثنينا ذكرهم العابر في الآية 62 التي تجعل الجنة لكل من آمن بالله واليوم الآخر..

أما الآيات 113 -117 فهي تحكي لنا سيناريو مشوق آخر: يبدأ بتكفير ديني متبادل بين اليهود والنصارى، وبعدها يندد القرآن بظلم جهة ما قامت بمنع الناس من الصلاة في مساجد الله، بل وسعوا في تخريب تلك المساجد..

تلك الآية قد يتم تفسيرها في سياق القصة الرسمية، أن المقصود هو طرد المهاجرين من مكة، ولكن الحقيقة أن السياق قبلها وبعدها يتحدث عن صراع يهودي نصراني بحت..

التسلسل مهم: فبعد التكفير والطرد والتخريب نجد الآية التالية (115) تخاطب الناس قائلة أن لله المشرق والمغرب فيمكنكم أن تولوا وجوهكم أينما شئتم..

ثم الآيتين التاليتين (116-117) تنددان على ما يبدو بالعقيدة المسيحية وأنهم جعلوا لله ولدا..

يبدو لي هنا أن الحديث يدور حول قيام مسيحيين بطرد جماعات من اليهود من مساجد الله، وتخريب قبلتهم التي كانوا يصلون إليها، فيدين القرآن هذا الصراع ويعلن إمكانية الصلاة إلى أي قبلة أخرى..

فهل حدث ذلك في بيئة محمد؟

من يعرف قليلا عن تاريخ تلك الفترة لن يجد صعوبة في إيجاد المرشح المثالي لتلك الأحداث: هدم مشروع المعبد اليهودي الثالث بالقدس..

لنتذكر القصة: نعرف أن الرومان قاموا بهدم المعبد اليهودي بالقرن الأول للميلاد، ومنذ حينها واليهود تبكي قلوبهم حزنا وشوقا للعودة مرة إلى حكم القدس وإعادة بناء الهيكل السليماني، مما يرتبط بمجيء المسيح المنتظر الذي سيقاتل أعداء اليهود ويملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا، كما نعلم أن ذلك الحلم تبلور عدة مرات في شكل حروب وثورات بين اليهود والرومان، نتج عنها حظر اليهود من دخول مدينتهم المقدسة..

ولم ييأس شعب الله من إيجاد حليف جديد يساعدهم على استعادة مدينتهم وهيكلهم وحلمهم..

في أوائل القرن السابع، في نفس عام بدء الدعوة المحمدية حسب التاريخ الرسمي (610 للميلاد) نجح خصوم بيزنطة الأقوياء - الفرس الساسانيين- في غزو المنطقة ودخلوا فلسطين عام 614، تلك الواقعة التي سجلها القرآن في أول سورة الروم، في شكل نبوءة..

وكان بين صفوف الفرس جماعات يهودية مقاتلة، سرعان ما بدأوا في إعادة إحياء طقوس الذبح والأضاحي، وشرعوا في بناء هيكلهم من جديد..

ولكن التبدلات السياسية السريعة لم تمهلهم، فبعد شهور قليلة تم ترك العنان للسكان المسيحيين الذين انتفضوا بعنف ذابحين الآلاف من اليهود، وهادمين الهيكل اليهودي نصف المشيد، ومحولين الساحة إلى مزبلة للقمامة، ولاحقا قام الفرس بمذبحة مضادة للمسيحيين، وسينتهي السجال بعد نحو عشرة سنوات بانسحاب الفرس وعودة المنطقة إلى حكم بيزنطة بمعاهدة سلام..

هذه الأحداث - عن هزيمة اليهود وهدم معبدهم- سيسجلها القرآن مرة ثالثة في أول سورة الإسراء، حين يتحدث - في شكل نبوءة- عن هزيمة اليهود أمام العباد أولي البأس الشديد (الرومان) والذين سيدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة..
----------------------------------------

7- لنراجع الوضع إذن: لدينا محاولة (فاشلة) من قبل محمد لاستمالة اليهود والحصول على اعترافهم بنبوته، مع شد وجذب بين الجماعتين، ثم لدينا صراعات إقليمية بين اليهود والمسيحيين نتج عنها هزيمة ساحقة لليهود، وهدم للمعبد اليهودي الذي كانت جماعة محمد تصلي إليه..

وهنا - في منتصف السورة، منذ نحو الآية 120 التي تؤكد أنه لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم - سيحدث التحول الكبير في توجه محمد وجماعته: من التبعية لليهود إلى الإستقلال الديني والسياسي..

سيبرز - لأول مرة- اسم الأب المشترك لليهود والعرب: إبراهيم، وسيصبح من الآن هو بطل المرحلة، وسيتراجع ذكر البطل اليهودي موسى..

فبينما امتلأ ذكر الجزء الأول بموسى (نحو عشر مرات)، ولم نجد ذكرا واحدا لإبراهيم قبل الآية 124، إذا بإبراهيم يملأ السورة ويظهر اسمه في الآيات 124 و125 و126 و127 و130 و132 و133 و و135 و136 و140 وغيرها..

سنكتشف الآن لأول مرة أن الإمامة والعهد لإبراهيم وذريته عموما، ولأول مرة سيأتي الحديث عن "البيت" الذي بناه إبراهيم واسماعيل (أبو العرب) وطهراه من الأصنام، والذي دعا إبراهيم ربه أن يرزقه أهله بالخير ويرسل فيهم نبيا..

ونلاحظ علامة أخرى مميزة للسورة فيما يخص الكتابة، إذ نعرف أن الإسم التوراتي لإبراهيم هو إبراهام، فما الذي قلب الياء ألفا بالعربية؟

سورة البقرة تجيب: فإسم إبراهيم يكتب هنا بصيغة خاصة لا نجدها في سائر القرآن، بدون ياء، إذ تنطق ولا تكتب..

ولو تذكرنا أن النبرة بالقرآن قد تنطق ألف أيضا، فهذا قد يعني أن الإسم ربما كان إبراهام فعلا، لكن لأن ألف المد لا تكتب فقد أخطأ البعض وحسبوه ياءا، وهكذا أضيفت الياء لاحقا في السور المتأخرة - مع ملاحظة أن إحدى القراءات (ابن عامر بخلف عن ابن ذكوان) تقرأ الإسم: إبراهام، كما قيل أن أهل الشام كانوا يقرأونها كذلك بالألف، ثم تغيرت تدريجيا إلى الياء..

هذا يمكن اعتباره دليلا آخر على قدم السورة وأنها أكثر ارتباطا بالجذر العبري الذي خرج منه الإسلام..

أما بعد، فلم يعد محمد نبيا لليهود إذن وإنما للعرب، وصارت الجماعة مستقلة عن الجماعتين السابقتين، كما تصرح الآية 135 (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) والآية 140 (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ؟)..

وجاءت الخطوة الطبيعية التالية: تحويل القبلة (الآيات 142 - 150)..

لم تعد تجدي الصلاة إلى بيت متهدم يقدسه أولئك المعاندون المزعجون أصلا، طالما لدينا بيت العرب المنسوب لإبراهيم، الذي يجب إعادة إحياء ملته : الحنيفية..

ولن ينتهي الجدل مع اليهود ومع المشركين ومع المنافقين، ولكنه سيتخذ أرضية جديدة مختلفة، هي عقيدة إبراهيمية، وعربية، مستقلة..

وسيولد الإسلام من رحم اليهودية..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق