كنت أقرأ مؤخرا عن التأصيل الفلسفي للماركسية، ولاحظت توازيا ملفتا بينها وبين بعض الأفكار الدينية، في المحتوى، وإن بدا أنهما متعارضتان في الظاهر..
المعروف أن ماركس من خلفية يهودية حاخامية، قام أبوه وأمه باعتناق المسيحية للحصول على فرص عملية أكبر بأوروبا..وفي محتوى نظريته، كما صاغها وكما أكملها رفاقه وأتباعه، توجد أفكار دينية كامنة، وإن تم التعبير عنها بشكل لاديني فلسفي سياسي اقتصادي..
1- هناك قوة عظمى وحيدة متحكمة في الوجود .. الله = المادية الديالكتيكية..
2- تلك القوة تقود العالم إلى مراحل حتمية مكتوبة.. القدر الإلهي = المادية التاريخية..
3- هناك جماعة مضطهدة مظلومة، يتكالب عليها الجميع..
اليهود، شعب الله المختار = البروليتاريا، الطبقة المختارة..
4- إلا أن القوة العظمى تحمل لصالحها بالنهاية..
5- العالم مقسم إلى جماعتين، خير وشر..
كفار ومؤمنين = برجوازية وبروليتاريا..
6- ثم إن قوى الشر والإستغلال هي التي تحكم العالم..
7- إلا أن النصر قادم حتما للجماعة المختارة..
8- علما بأن ذلك النصر سيأتي من خلال العنف والحروب والثورات..
القيامة = الثورات الشيوعية..
9- وفي النهاية ستكون النتيجة هي سيادة الطبقة المختارة على الجميع، وفناء الأشرار، ونعيش في عالم مثالي إلى الأبد..
الجنة = المجتمع الشيوعي الأخير..
التوازي بين الماركسية والدين كامن في النظرة الحتمية إلى الوجود، حيث لا تأثير حقيقي لدور الفرد، إلا لخدمة القوة الوجودية الكبرى التي تحرك العالم إلى مصير محدد مسبقا.. وهنا ينتقل إلى تقسيم العالم إلى أبيض وأسود، فريق استغلالي ضد التقدم (كفار، برجوازية)، وفريق مظلوم ثوري تقدمي (مؤمنين، بروليتاريا).. ورغم أن ظاهر الأمور يبرز تفوق قوى الشر، إلا أن القوة المسيطرة على الوجود (الله، المادية) تعمل لصالح نصرة الخير، بشكل مطلق حتمي لا راد لقضائه.. وما علينا سوى الإنتظار ورفع الوعي استعدادا للحظة التحول الكبرى، والتي سيليها جنة مثالية لا ظلم فيها ولا تعب ولا استغلال ولا طبقية ولا دولة.. مع ملاحظة أن ذلك النصر لا يمكن أن يأتي بالإصلاح أو بالمصالحة التدريجية، وإنما سيأتي عن طريق واحد هو الحرب الداخلية، الثورات المسلحة العنيفة..
ومن يقرأ تنبؤات ماركس عن الرأسمالية، وتوقعه لانهيارها عالميا بشكل مدوي، لا يملك إلا أن ينظر إلى تلك اللحية الكثة، ويتصور نفسه أمام إحدى نبوءات الخراب في العهد القديم، والتي كان يلقيها أنبياء ناقمون على كل مظاهر الحضارة في بابل أو مصر فينتظرون سقوطها بكل شوق وغل حاقد..
هذا التشابه الفكري يخلق أنماط سلوكية متشابهة، فنرى التنظيمات الشيوعية المتطرفة والإرهابية أحيانا، ونرى الدكتاتوريات السلطوية تحكم بإسم تلك الشعارات البراقة، وتذبح الملايين قربانا على مذبحها، كما نرى نفس التمسك الجامد بالأفكار وعدم القدرة على رؤية متغيرات الأمور، والأسوأ من ذلك هو عدم القدرة على التعايش مع المختلفين، بل الإصرار على أن الصراع هو الأصل، وأن العالم ليس سوى ساحة حرب كبيرة، نحن فيها مضطهدون حتى يأتي النصر، وهو قادم لا محالة..
ويمكن ملاحظة التشابه العملي بين الشيوعية والدين في كيفية التعامل مع بعض القادة، تم ذلك في الإتحاد السوفيتي والصين وكوريا الشمالية وحتى في البلاد العربية التي جنحت في زمن ما نحو الإشتراكية، مثل مصر الناصرية وسوريا والعراق البعثيين، حيث تم تمجيدهم بشكل جنوني، بالتعارض مع التنظير الشيوعي الذي يدعي أنه لا يعبأ بدور الفرد.. وسنكتفي بمثال واحد هو ستالين، ذلك اللص السابق الذي حكم البلاد، وكان يتم التعامل معه كإله حي، بكل ما تحمل الكلمة من معاني..
نقلا عن صفحة خاصة عن هذا الموضوع في ويكيبيديا، فقد كانت صور ستالين في كل مكان، ويتم الحديث عنه وكأنه يعلم كل شيء وقادر على كل شيء، وكان يوصف في الخطابات والإعلام بأنه "عظيم"، "محبوب"، "شجاع"، "حكيم" ، "ملهم"، "عبقري" وبأنه "نجمنا الهادي"..إلخ.. وفي الإحتفالات كان يتم إظهاره مع الأطفال، مع لافتات من قبيل "نشكرك على أنك قدمت لنا طفولة سعيدة"، وقد ألصق به لقب "الأب"، الأمر الذي يذكرنا بالألقاب المسيحية الدينية، حتى أطلق عليه "أبو الأمم" و "باني الإشتراكية" و"مهندس الشيوعية" و"قائد الإنسانية التقدمية" وغيرها، حتى يمكن القول أنه لم تبق سمة من سمات التمجيد الديني لم يحظ بها القائد اللاديني الشيوعي، بما في ذلك التماثيل العملاقة التي تشبه تماثيل الفراعنة، وإطلاق اسمه على أسماء المدن والقرى والميادين والشوارع..
على الجانب الآخر فقد كان من المحرم نقد الزعيم بكلمة، وعلى سبيل المثال حين قام العالم والأديب الروسي والمجند الشجاع الحاصل على الأوسمة والشيوعي المخلص للدولة ألكسندر سولجنيتسين بانتقاد ستالين في بعض كتاباته الخاصة، تحولت حياته إلى جحيم، وقضى سنوات طويلة في الغولاغ المخيف..
وإحدى النصوص المذكورة بالصفحة هي "أنشودة لستالين" جاء فيها "أشكرك ستالين، أشكرك لأنني سعيد، أشكرك لأنني بخير، لا يهم كم بلغت من العمر، فلن أنسى أبدا كم استقبلنا ستالين منذ يومين، ستمر القرون وستنظر إلينا الأجيال كأسعد الكائنات، وكأوفر الرجال حظا، لأنها عشنا في قرن القرون، لأننها حظينا بشرف رؤية ستالين، زعيمنا الملهم.. كل شيء ملك لك، زعيم بلدنا العظيم، وحين تلد محبوبتي طفلا، فإن أول كلمة ستخرج من فمه ستكون: ستالين"..
ورغم أن موقف ستالين من ذلك التقديس كان غامضا، فأحيانا يبدي علامات اعتراض، وأحيانا يبدي الرضا، إلا أن ذلك التقديس الديني قد استمر بقوة، ولم ينته إلا مع موت ستالين وحكم خلفه الذي قلب المائدة وكشف الكثير من مساوئ النظام قبله.. ولكن من المؤكد أن ذلك التقديس لم يكن جنوحا استثنائيا، وإنما رأيناه في كل بلد حكمته الشيوعية.. وهي إحدى السمات الدينية الكامنة في الشيوعية، وليست الوحيدة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق