الجمعة، 1 مارس 2019

نسيان الوحي




(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة 106..
هنا نلاحظ القرآن يتكلم عن وسيلتين لتبديل الآيات: النسخ، أي التبديل.. والنسيان، أي أن يقوم محمد بنسيان الآية..
وهذا ما نقرأه في التفاسير، فمن تفسير الطبري نقرأ أن النسخ يعني تبديل الأحكام وتغيير الحلال إلى حرام والعكس (يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة } إلَى غَيْره , فَنُبَدِّلهُ وَنُغَيِّرهُ . وَذَلِك أَنْ يُحَوِّل الْحَلَال حَرَامًا وَالْحَرَام حَلَالًا , وَالْمُبَاح مَحْظُورًا وَالْمَحْظُور مُبَاحًا).. وأنها تتضمن تبديل الآية (عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : {مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة } يَقُول : مَا نُبَدِّل مِنْ آيَة).. وفي تفسير القرطبي نقرأ عن معنى النسخ هنا، وهو (الإبطال والإزالة) سواء بالتبديل، أو بالإزالة التامة..
وقيل أن هذا التبديل يتضمن نسيان محمد للآيات.. نقرأ (عَنْ قَتَادَة قَوْله : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا أَوْ مِثْلهَا } كَانَ يَنْسَخ الْآيَة بِالْآيَةِ بَعْدهَا , وَيَقْرَأ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَة أَوْ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ تُنْسَى وَتُرْفَع)..(عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { مَا نَنْسَخ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا } قَالَ : كَانَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره يُنْسِي نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ وَيَنْسَخ مَا شَاءَ)..(عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله : { أَوْ نُنْسِهَا } قَالَ : إنَّ نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُقْرِئَ قُرْآنًا , ثُمَّ نَسِيَهُ)..
فالمعنى أن محمدا كان ينسى بعض الآيات، فنزلت الآية لتقول بأن ما ينساه محمد يعتبر منسوخا لا داعي للعمل به أو تسجيله في المصحف..
وفي تفسير ابن كثير نقرأ نموذجا لكيف كان يحدث النسيان (عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرءان بها ، فقاما ذات ليلة يصليان ، فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها مما نسخ وأنسي ، فالهوا عنها).. أي أن بعض الصحابة سألوا محمدا عن آيات قرآنية، فقال أنها مما أنسي، فالهوا عنها.. بتلك البساطة..
وفي الحديث الصحيح (البخاري (5038) ومسلم (788)) نقرأ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي سُورَةٍ بِاللَّيْلِ فَقَالَ : يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا)..
وفي تفسير ابن كثير أيضا نقرأ (عن ابن عباس ، قال : كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار)..
ويبدو أن النسيان لم يكن يقتصر على آيات قليلة، فنقرأ في تفسير القرطبي لنفس الآية (ومنه ما روي عن أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما أن سورة " الأحزاب " كانت تعدل سورة البقرة في الطول).. وهناك روايات كثيرة تتحدث عن آيات ضائعة أو منسية أو مفقودة من القرآن..
ويبدو أن ذلك النسيان المتكرر قد لفت نظر خصوم محمد، ولهذا نزلت الآية تبرر وتبرئ، مؤكدة أن كل ما تنساه يا محمد هو بأمر الله، وسيأتيك بما هو خير منه.. نقرأ ذلك في تفسير القرطبي للآية (وهذه آية عظمى في الأحكام . وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك ، وقالوا : إن محمدا يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه ، فما كان هذا القرآن إلا من جهته ، ولهذا يناقض بعضه بعضا، فأنزل الله : وإذا بدلنا آية مكان آية..إلخ)..

ويذكر الطبري أن الصحابة كانوا يقرأون الآية بشكل مختلف، فمنهم من يقرأها "ننسها" أي ننسيها لك، ومنهم من يقرأ "تنسها" أي تنساها، ومنهم من يقرأ "ننسكها" أي ننسيك إياها،ومنهم من يقرأ "ننسأها" أي نؤخرها.. فيبدو أن الكلمة نفسها تم "نسيان" قراءتها الصحيحة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق